روسيا من التأثير إلى المبادرة في الشرق الأوسط

دورية روسية قرب الحسكة شمال شرقي سوريا (أ.ف.ب)
دورية روسية قرب الحسكة شمال شرقي سوريا (أ.ف.ب)
TT

روسيا من التأثير إلى المبادرة في الشرق الأوسط

دورية روسية قرب الحسكة شمال شرقي سوريا (أ.ف.ب)
دورية روسية قرب الحسكة شمال شرقي سوريا (أ.ف.ب)

صار الدور الروسي في منطقة الشرق الأوسط هو الأكثر وضوحاً في كل الأزمات. وصار فلاديمير بوتين ضيفاً شبه دائم على المؤتمرات والقمم التي تتعاطى مع هذه الأزمات. القواعد الروسية في سوريا محطة لزياراته، يذهب إليها، يتجول فيها، ثم يستدعي الحاكم المفترض لتلك الأرض، رئيسها بشار الأسد، للقائه في تلك القواعد، كأنها محميات خاصة تابعة للولاية الروسية. وفي الأزمة الليبية يحل بوتين ضيفاً على الحوارات التي تُبذل مساعٍ لترتيبها بين طرفي ذلك الصراع الدامي. هو في برلين إلى جانب ميركل وأردوغان، يتعاطى بيسر مع خليفة حفتر وفايز السراج، مثلما يتعاطى في سوريا مع النظام والمعارضة، وفي الصراع الفلسطيني - الإسرائيلي مع محمود عباس وبنيامين نتنياهو. ولا يتوقف نشاط بوتين عند حدود المنطقة العربية، وهي المنطقة التي كان جوارها الجغرافي لروسيا مصدر انشغال لقيادات موسكو منذ زمن القياصرة. هو حاضر، أو متهم بالحضور، في معارك الانتخابات الغربية. في واشنطن يبحثون عن دور له في دفع دونالد ترمب إلى البيت الأبيض. وفي لندن يبحثون عن دور له في توفير الانتصار لبوريس جونسون في معركة «بريكست». وفي دول الاتحاد الأوروبي يعيشون قلقاً مزمناً من نظرته المشككة إلى قوة الاتحاد ورغبته في الانقضاض عليه عند أول فرصة. وبوتين، الأطول عمراً في الكرملين منذ زمن جوزيف ستالين، يمهد الآن بهدوء لمرحلة «ما بعد بوتين»، عندما لا يعود رجل «الكا جي بي» السابق قادراً على البقاء في الحكم بعد سنة 2024. وفي موسكو يرى مقربون من الحكم ومعارضون أن الإجراءات الأخيرة التي دفعت بحليف بوتين وغريمه ميدفيديف إلى خارج رئاسة الحكومة، هي إحدى الخطوات التي تمهد لدور بوتين بعد 4 سنوات.
هنا في صفحة قضايا عرض لدور روسيا في المنطقة العربية، ومقارنة بالزمن السوفياتي الغابر، مع بحث في القرارات الروسية الأخيرة وانعكاساتها على مستقبل الحكم في الكرملين.

كان التدخل الروسي في سوريا في 30 سبتمبر (أيلول) 2015 إيذاناً بتغير نوعي في الدور الروسي في منطقة الشرق الأوسط، وانتقاله من مجرد التأثير على التطورات والأحداث التي تقودها قوى دولية أخرى، إلى الأخذ بزمام المبادرة والقيادة، لا سيما في الملف السوري. فقد استطاعت موسكو إحداث تغير جذري في المعادلة السورية كان له تأثير واسع النطاق على سوريا والمنطقة بأسرها. وجاءت التطورات الأخيرة في الملف الليبي، لتؤكد هذا التوجه حيث قدمت روسيا، بالتفاهم مع تركيا، مبادرة لوقف إطلاق النار في ليبيا يوم 12 يناير (كانون الثاني)، أعقبها في اليوم التالي استضافة موسكو المحادثات بين رئيس «حكومة الوفاق» الليبية فايز السراج، وقائد «الجيش الوطني» المشير خليفة حفتر لتدخل روسيا بقوة في المعادلة الليبية، ليس كطرف دولي مؤثر فقط ولكن كطرف قائد ومبادر. أكد ذلك دورها المحوري في الإعداد لمؤتمر برلين الذي حضره الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، في سابقة لم تشهدها المؤتمرات السابقة بشأن ليبيا.
في هذا السياق، تبرز مجموعة من الملاحظات حول أبعاد الدور الروسي في منطقة الشرق الأوسط ودوافعه وحدوده.
أولى الملاحظات، أن اهتمام روسيا بهذه المنطقة طبيعي وتاريخي، فلم تكن روسيا بعيدة أبداً عن منطقة الشرق الأوسط، التي تمثل حزامها الجنوبي الغربي، وجواراً شبه مباشر لها. وقد انطلق تقاربها من المنطقة دوماً، منذ العهد القيصري وعلى مدى قرون، من منظور تعاوني وليس استعمارياً مهيمناً كحال قوى كبرى أخرى. وهناك انفتاح روسي على كل دول المنطقة، وتسعى موسكو إلى تطوير شراكات استراتيجية بعيداً عن المحاور والاستقطابات، ومن دون خلط الأوراق ببعضها. فهناك شراكة استراتيجية بين روسيا وكل من إيران، والمملكة العربية السعودية، ومصر، وتركيا، والجزائر، والمغرب، وهي تؤكد على احترام الحقوق المشروعة للشعب الفلسطيني وحل الدولتين، مع الاحتفاظ بعلاقات جيدة مع إسرائيل، ولا ترى موسكو في ذلك تعارضاً باعتبارها تنطلق من التوازن في علاقاتها بالأطراف المختلفة، وضرورة تسوية الخلافات الإقليمية ودعم التفاهمات والاستقرار الإقليمي.
ثانيتها، أن ارتباط الأمن القومي الروسي بمفهومه الشامل وجناحيه الاقتصادي والأمني بالمنطقة أعطى الأخيرة ثقلاً استراتيجياً متزايداً في الأولويات الروسية، فموسكو ترى أن أمنها القومي يرتبط عضوياً بأمن واستقرار المنطقة، وأن القضاء على الإرهاب داخلها يبدأ من سوريا وليبيا والمنطقة بأسرها. كما أن ضمان أسعار مرضية للنفط الذي تمثل عوائده عصب الاقتصاد الروسي، يظل رهناً بصياغة تفاهمات مع المملكة العربية السعودية، باعتبار الدولتين أكبر منتجي ومصدري النفط في العالم.
ثالثة الملاحظات، أن حالة الارتباك في السياسة الأميركية تجاه المنطقة منذ وصول دونالد ترمب إلى السلطة، وما بدا من تفاهمات بينه وبين الرئيس بوتين، ترفضها المؤسسات الأميركية الأخرى، أتاحت مساحة للتحرك الروسي بقوة في المنطقة، خصوصاً أنها تزامنت مع ارتباك أشد في الدوائر الأوروبية نتيجة «بريكست» البريطاني والخلافات الأوروبية حول سياسات الهجرة واللاجئين وغيرها. الأمر الذي أوجد فراغاً نسبياً نتيجة انشغال القوى صاحبة النفوذ التقليدي في المنطقة، ما سمح لموسكو بالتقاط زمام المبادرة في عدد من ملفات المنطقة. ولا يعني هذا أن روسيا تسعى لمزاحمة الولايات المتحدة أو أي قوة أخرى، لكنها فقط تقتنص الفرص المتاحة لحماية وتحقيق مصالحها برؤية ووفق أجندة وطنية روسية، مع الأخذ في الاعتبار مصالح دول المنطقة.
رابعتها، ستظل سوريا هي محور الارتكاز الاستراتيجي الروسي في المنطقة، حيث القواعد الروسية الوحيدة خارج الفضاء السوفياتي، قاعدتا حميميم الجوية وطرطوس البحرية، وما تتيحه من وجود دائم وقوي لروسيا في البحر المتوسط ذي الأهمية الاستراتيجية لروسيا منذ العهد القيصري. ويعد الدور الروسي هو الأبرز في قيادة مسار التسوية السلمية في سوريا، بعد أن نجحت الضربات العسكرية الروسية في تغيير توازنات القوى على الأرض السورية، إلى جانب التوافقات التي تمت مع أنقرة وما مثلته من تغيير جوهري في معادلة القوى الخاصة بالقضية السورية.
ورغم المصالح الروسية في ليبيا، حيث تعد الأخيرة سوقاً رئيسية للسلاح الروسي منذ العهد السوفياتي، ومثلت الأسلحة روسية الصنع 90 في المائة من إجمالي معدات القوات المسلحة الليبية، وكانت هناك العديد من المشروعات الواعدة بين البلدين في مجال الطاقة تم الاتفاق عليها في زمن القذافي؛ أبرزها مشروع أنبوب الغاز بين ليبيا وإيطاليا بمشاركة الشركات الروسية، إلى جانب مدى آخر واسع من مشروعات البنية الأساسية، فإن الموقف الروسي من ليبيا يظل حذراً.
إن ليبيا ليست سوريا، ولن تغامر موسكو بالتورط العسكري المباشر في ليبيا على غرار سوريا، لعدة عوامل موضوعية. فمن ناحية، سيكون ذلك على حساب قدرتها على التركيز في سوريا، خصوصاً أنها لم تصل بعد إلى حسم نهائي للمعارك فيها، ولم تقضِ تماماً على التنظيمات والعناصر الإرهابية، الذي يظل الأولوية الحاكمة لحركة روسيا في منطقة الشرق الأوسط برمتها، ولما سيمثله ذلك من ضغط وعبء على الاقتصاد الروسي الذي يمر بصعوبات واضحة نتيجة التراجع الحاد في أسعار النفط من ناحية أخرى. فضلاً عن أن خريطة القوى الفاعلة في ليبيا معقدة للغاية، والتورط فيها يمكن أن يعيد شبح المأساة الأفغانية، خصوصاً مع رفض المجتمع القبلي الليبي التدخل الأجنبي بكل صوره، وتربص الغرب بروسيا ورغبته في إنهاكها عسكرياً واقتصادياً. يضاف إلى هذا بعد قانوني، وهو أن روسيا لا تتدخل عسكرياً إلا في إطار مظلة شرعية، وهو الأمر الذي يتحقق في حال طلبت الحكومة الليبية من روسيا التدخل، وهذا أمر غير وارد باعتبار الأخيرة مدعومة وموالية للغرب بالأساس، أو باستصدار قرار أممي من مجلس الأمن يخول روسيا هذا الحق، وهو أيضاً أمر غير وارد، ولا يمكن تصور أن تسمح به الدول الغربية، ومن ثم يعتمد الدور الروسي في ليبيا على دعم المشير حفتر الذي استقبل مرات عدة في موسكو؛ كان آخرها لقاؤه المهم مع الرئيس بوتين في أول يونيو (حزيران) الماضي.
لقد أمسكت روسيا زمام المبادرة في عدد من قضايا المنطقة، ولكنها تتحرك بحسابات دقيقة جداً، ووفق رؤية حاكمة لمصالحها وأولوياتها، وكذلك حدود ما تسمح به قدراتها والتوازنات المختلفة في المنطقة.

- أستاذة العلوم السياسية بجامعة القاهرة



الليبرالية في الألفيّة الثالثة

يمر ركاب بجوار صورة لمؤسس الاتحاد السوفياتي فلاديمير لينين في محطة مترو بموسكو في نوفمبر 2023 (أ.ف.ب)
يمر ركاب بجوار صورة لمؤسس الاتحاد السوفياتي فلاديمير لينين في محطة مترو بموسكو في نوفمبر 2023 (أ.ف.ب)
TT

الليبرالية في الألفيّة الثالثة

يمر ركاب بجوار صورة لمؤسس الاتحاد السوفياتي فلاديمير لينين في محطة مترو بموسكو في نوفمبر 2023 (أ.ف.ب)
يمر ركاب بجوار صورة لمؤسس الاتحاد السوفياتي فلاديمير لينين في محطة مترو بموسكو في نوفمبر 2023 (أ.ف.ب)

تابعت طيلة سنوات إرهاصات التيّار السياسي والعقائدي الراسخ في أوساط اليسار والوسط واليمين، الذي يشكّك في قدرة الحرية وسيلةً تساعد على حل المشكلات الكثيرة التي يعزونها إلى «النيوليبرالية»، أو «الفكر الأوحد» كما درج على تسميتها فقهاء العلوم الاجتماعية والسياسية، وجعلوا منها كبش محرقة يحمّلونه كل المصائب الحاضرة والسابقة على مر التاريخ.

وليس مستغرباً أن هذا التيّار الذي يتبنّاه باحثون جهابذة من جامعات مرموقة مثل باريس، وهارفارد وأكسفورد، ويجهدون ليبيّنوا أن حرية السوق لا تؤدي سوى إلى مضاعفة ثروات الأغنياء ودفع الفقراء إلى مزيد من الفقر، وأن العولمة لا تؤتي نفعاً سوى للشركات الكبرى وتتيح لها استغلال الدول النامية وتدمير بيئتها بلا رادع أو حساب، أصبح أيضاً تيّاراً منتشراً على نطاق شعبي واسع يعتبر أن النيوليبرالية هي العدو الحقيقي للإنسان، وسبب كل الشرور التي يعاني منها، وما يصيبه من عذاب وفقر وتمييز وسوء معاملة وانتهاك للحقوق الأساسية. لكن هذه ليست المرة الأولى في التاريخ التي نشهد فيها كيف أن نظرية مفبركة لخدمة مصالح معيّنة - اطلق عليها كارل ماركس Fetiche – تترسّخ وتؤدي إلى حدوث اضطرابات واسعة.

أنا ليبرالي، وأعرف الكثير من الليبراليين، وأكثر منهم غير ليبراليين. لكن على مر سنوات أصبحت اليوم طويلة، لم أتعرّف بعد على نيوليبرالي واحد. ما هو هذا النيوليبرالي؟ ما الذي يدافع عنه ويناضل من اجله؟ الليبرالية، بخلاف الماركسية أو الفاشية، لا تبني صرحاً عقائدياً مغلقاً ومكتفياً بذاته من الأجوبة الجاهزة لمعالجة كل المشاكل الاجتماعية، بل هي معتقد يقوم على مجموعة محدودة نسبياً وواضحة من المبادئ الأساسية المبنية حول فكرة الدفاع عن الحرية السياسية والاقتصادية، أي الديمقراطية والسوق الحرة، ويتسع لعدد كبير من التيارات والاتجاهات.

لكن ما لم يقبله الفكر الليبرالي أبداً، ولن يقبله في المستقبل، هو هذا المسخ الذي ابتدعه أعداؤه تحت اسم «النيوليبرالية». «نيو» هو أن تكون شيئاً من غير أن تكونه، أن تكون داخل شيء وخارجه في الوقت نفسه، أن تكون على هامش فكرة أو مبدأ أو عقيدة من دون أن تتبناها كلياً. الهدف من هذا المصطلح ليس التعبير عن مفهوم قائم، بل هو استخدام الدلالة اللفظية لتشويه العقيدة التي ترمز، افضل من أي عقيدة أخرى، إلى الإنجازات الاستثنائية التي حققتها الحرية على مر تاريخ الحضارة البشرية.

هذا ما يجب علينا نحن الليبراليين أن نحتفي به بهدوء وابتهاج، وإدراك واضح لأهمية ما تمّ إنجازه، وأن ما يتبقّى علينا إنجازه أكثر أهمية. وبما أن دوام الحال من المحال، فإن الإنجازات التي تحققت خلال العقود المنصرمة في ثقافة الحرية هي عُرضة للمخاطر، وعلينا الدفاع عنها في وجه أعداء الديمقراطية اللدودين الذين خلفوا الفكر الشيوعي، مثل الشعبوية القومية والأصوليات الدينية.

بالنسبة إلى الليبراليين، كان الإنجاز الأهم خلال القرن الماضي الذي شهد الهجمات الاستبدادية الكبرى ضد ثقافة الحرية، هو أن العالم طوى صفحة الفاشية والشيوعية بعد فاصل مظلم من العنف والجرائم المشينة ضد حقوق الإنسان والحريات، وليس من مؤشر على نهوض هذه الأنظمة من رمادها في القريب المنظور.

المجتمعات المفتوحة والاقتصاد الحر قادران على مواجهة «الغطرسة العقائدية» (أ.ف.ب)

مخلفات الأرخبيل الماركسي

لا شك في أنه ما زالت توجد بقايا من الفكر الفاشي، نجدها عند بعض الأحزاب اليمينية المتطرفة في أوروبا التي تستقطب تأييداً متزايداً في الانتخابات، لكن هذه الفلول الفاشية ومخلفات الأرخبيل الماركسي الشاسع التي تجسدها اليوم كوبا وكوريا الشمالية، لم تعد تشكّل بديلاً يعتدّ به للديمقراطية أو تهديداً لها.

أنظمة الاستبداد ما زالت موجودة على نطاق واسع، لكن بخلاف الإمبراطوريات التوتاليتارية، تفتقر هذه الأنظمة إلى الهالة والطموحات المسكونية، لا، بل إن بعضها، مثل الصين، تسعى منذ فترة إلى التوفيق بين أحادية الحزب الواحد واقتصاد السوق والمؤسسة الخاصة. وفي مناطق واسعة من أفريقيا وآسيا، خصوصاً في المجتمعات الإسلامية، ظهرت دكتاتوريات أصولية تسببت في انتكاسات خطيرة على صعيد حقوق المرأة والتعليم والحريات الأساسية. لكن رغم الفظائع التي نشهدها في بلدان مثل أفغانستان والسودان وليبيا وايران، لم تعد هذه الدول تشكّل تحديات جدية لثقافة الحرية، وبات محكوماً عليها أن تبقى متخلفة عن ركب الحداثة التي قطعت فيه الدول الحرة شوطاً بعيداً.

إلى جانب ذلك، شهدت العقود الماضية تقدماً كاسحاً لثقافة الحرية في مناطق شاسعة من أوروبا الوسطى والشرقية، وبلدان جنوب شرقي آسيا وأميركا اللاتينية، حيث وصلت إلى السلطة حكومات مدنية منتخبة، باستثناء كوبا وفنزويلا، تطبّق سياسات أقرب إلى الاقتصاد الحر منها إلى البرامج التدخلية التي كانت سائدة في السابق.

ورغم وجود بعض الأصوات الماضية في عوائها ضد «النيوليبرالية»، نلاحظ أن معظم هذه البلدان لم تجد مفراً من اعتناق سياسات الخصخصة، وفتح الأسواق، وتحرير الأسعار والسعي إلى إدماج اقتصاداتها في الأسواق الدولية، بعد أن أدركت أن السير بعكس هذا التيار هو ضرب من الانتحار.

وليس أدلّ على ذلك من جنوح قسم كبير من اليسار في أميركا اللاتينية إلى تبنّي الموقف الصائب الذي اتخذه فاكلاف هافل عندما قال: «رغم أن فؤادي يميل إلى اليسار، لكني كنت دوماً على يقين من أن السوق هي النظام الاقتصادي الوحيد الذي يؤدي إلى الرفاه؛ لأنه النظام الوحيد الذي يعكس طبيعة الحياة».

هذه التطورات لها أهميتها وتضفي مصداقية تاريخية على الفكر الليبرالي، لكنها ليست على الإطلاق سبباً للتقاعس؛ لأن الليبرالية تقوم على مبدأ أساسي يعتبر أن التاريخ هو صنيعة الفعل البشري، وأن الإنسان الذي يصيب في اتخاذ القرارات التي تدفعه في المسار الصحيح، يمكن أيضاً أن يخطئ وتدفعه نحو الفوضى والفقر والظلام والبربرية. إن أفكارنا، وأصواتنا التي نختار بها من يصل إلى الحكم، هي التي تحدد مصير الإنجازات التي تحققت في ثقافة الحرية والديمقراطية.

إن معركة الليبراليين من أجل الحرية على مر التاريخ، هي معركة أفكار. انتصر الحلفاء في الحرب على المحور، لكن ذلك النصر أكّد تفوّق رؤية التعددية والتسامح والديمقراطية على الرؤية العنصرية الضيقة. وانهيار الاتحاد السوفياتي أمام الغرب الديمقراطي «الذي كان مكتوف الأيدي، لا، بل غارقاً في شعور بالدونيّة بسبب قلّة جاذبية المنبر الديمقراطي مقارنة بوهج المجتمع اللاطبقي الموعود»، أظهر صواب أفكار آدم سميث وتوكفيل وبوبر وبرلين حول المجتمعات المفتوحة والاقتصاد الحر في مواجهة الغطرسة العقائدية لماركس ولينين وماو تسي تونغ.

مع انهيار الاتحاد السوفياتي أمام الغرب تأكد تفوق «التعددية والتسامح» (أ.ف.ب)

معركة ضد المسخ

قد تكون معركة اليوم أقل صعوبة بالنسبة لليبراليين من تلك التي خاضها معلمونا في المجتمعات الديمقراطية خلال حقبة أنظمة الاستبداد والحزب الواحد التي كانت تمدّ أنصارها بكل وسائل الدعم. معركتنا اليوم ليست ضد كبار المفكرين مثل ماركس، أو الاشتراكيين الديمقراطيين اللامعين مثل كينز، بل هي معركة ضد الأفكار النمطية والصور المشوهة عن هذا المسخ المسمّى نيوليبرالية، التي تهدف إلى بث الشكوك والالتباس في المعسكر الديمقراطي، أو ضد المفكرين التشكيكيين الذين ينكرون الثقافة الديمقراطية ويعتبرون أنها ليست سوى ستارة تخفي وراءها الاستبداد والاستغلال.

يقول روبرت كابلان في أحد بحوثه: «إن الديمقراطية التي نشجّع على إرسائها في الكثير من المجتمعات الفقيرة في العالم ليست سوئ جزء لا يتجزأ من التحول نحو أنماط جديدة من الاستبداد، والديمقراطية في الولايات المتحدة هي اليوم في خطر أكثر من أي وقت مضى، لأسباب غامضة أو مخفية، وأن أنظمة كثيرة في المستقبل، والنظام الأميركي بشكل خاص، قد ينتهي بها الأمر على غرار الأنظمة الأوليغارشية التي كانت سائدة في أثينا وإسبرطة».

على مر سنوات أصبحت اليوم طويلة، لم أتعرّف بعد على نيوليبرالي واحد. ما هو هذا النيوليبرالي؟

هذا تحليل متشائم جداً بالنسبة لاحتمالات ترسّخ الديمقراطية في مجتمعات العالم الثالث. وهو يعتبر أن كل المحاولات الغربية لفرض النظام الديمقراطي في البلدان التي تفتقر إلى التقاليد الديمقراطية قد باءت بفشل ذريع وباهظ التكلفة كما حصل في كمبوديا، وتسببت بالفوضى والحروب الأهلية والإرهاب والتطهير العرقي وإبادة الأقليات الدينية في بلدان مثل السودان، والبوسنة، وأفغانستان، وسيراليون، والكونغو، ومالي، والبانيا وهاييتي وغيرها.

السيد كابلان لا يضيّع وقته باللعب على حبال الكلام، ويقول بوضوح إن الديمقراطية والعالم الثالث على طرفي نقيض «الاستقرار الاجتماعي ينشأ من إقامة طبقة متوسطة. وليست هي الأنظمة الديمقراطية، بل تلك التسلطية، بما فيها الملكية، هي التي تقيم الطبقات الوسطى». هذه الطبقات، عندما تبلغ درجة معينة من الرفاه والثقة، تتمرد على الأنظمة التي وفَّرت لها هذا الرفاه. ويضرب على ذلك أمثلة من الحوض الهادئ في آسيا مسلطاً الضوء بشكل خاص على سنغافورة لي كوان يو، وتشيلي بينوتشيه وإسبانيا فرنكو. ويعتبر كابلان أن الخيار المطروح أمام العالم الثالث ليس بين «الطغاة والديمقراطيين»، بل هو مفاضلة بين «طغاة أشرار وآخرين أقل شراً»، ويرى «أن روسيا فشلت لأنها ديمقراطية، بينما الصين تفلح جزئياً لأنها ليست ديمقراطية».

توقفت عند هذا الطرح لأن السيد كابلان يقول صراحة ما يضمره كثيرون غيره. إن تشاؤمه حيال العالم الثالث كبير، لكنه ليس بأقلّ منه حيال العالم الأول. فهو يعتبر أن البلدان الفقيرة التي، حسب نظريته، تنشأ فيها الطبقات المتوسطة بفضل أنظمة الاستبداد الفاعلة، تريد اعتناق النظام الديمقراطي على الطراز الغربي، لن يكون ذلك سوى سراب وضرب من الخيال، تتحكم بحكوماتها الشركات العالمية الكبرى الناشطة في القارات الخمس، وتفرض عليها القرارات الأساسية، تنفّذها من غير محاسبة أو مساءلة. ولا ينسى السيد كابلان تذكيرنا بأن أكبر مائة اقتصاد في العالم نصفها من الشركات وليس من الدول، وأن أقوى 500 مؤسسة تسيطر وحدها على 70 في المائة من حركة التجارة العالمية.

أكبر مائة اقتصاد في العالم نصفها من الشركات وليس من الدول (أ.ب)

حرية على مشارف الاحتضار

هذه النظريات تشكّل نقطة انطلاق مناسبة لمقارنتها بالرؤية الليبرالية للمشهد العالمي؛ لأنها لو صحّت، تكون الحرية على مشارف الاحتضار بعد أن كانت مصدر إنجازات استثنائية في مجالات العلوم وحقوق الإنسان والتطور التقني ومكافحة الاستبداد والاستغلال، رغم الاضطرابات الكثيرة التي تسببت بها. لو كان صحيحاً ما يقوله كابلان أن الأنظمة الدكتاتورية هي التي تقيم الطبقات الوسطى، لما كانت جنّة هذه الطبقات في الولايات المتحدة، وأوروبا الغربية، وكندا، وأستراليا ونيوزيلندا، بل المكسيك، وبوليفيا والبارغواي التي تعاقبت عليها أنظمة الاستبداد العسكرية والمدنية.

في الأرجنتين على سبيل المثال، قضى الدكتاتور بيرون على الطبقة الوسطى التي كانت، حتى وصوله إلى السلطة، عريضة ومزدهرة ونجحت في تنمية البلاد بوتيرة أسرع من معظم الدول الأوروبية. وفي كوبا فشلت الديكتاتورية بعد ستة عقود في تحقيق أدنى مستويات الرفاه، وأجبرت الكوبيين على توسل المساعدات الدولية واستجداء فتات سياح الرأسمالية لمكافحة الجوع وضيق العيش. وكلنا يعرف اليوم المصير الذي آلت إليه معظم «النمور الآسيوية» بعد الطفرة الأولى السريعة، عندما اضطرت إلى الاستغاثة على أبواب صندوق النقد والبنك الدوليين، والولايات المتحدة، واليابان وأوروبا الغربية.

نحن الليبراليين، بعكس السيد كابلان، لا نؤمن بأن القضاء على الشعبوية الاقتصادية يحقق نمواً أقل للمجتمع، إذا ترافق مع تحرير الأسعار وخفض الإنفاق وخصخصة القطاع العمومي، في الوقت الذي يعاني المواطن انعدام الأمن وقمع الحريات والتعرّض للتعذيب ومحاصرة السلطة القضائية التي يلجأ اليها طلباً للانتصاف.

التطور، بالمفهوم الليبرالي، يجب أن يكون اقتصادياً وسياسياً وثقافياً في آن معاً، أو لا يكون؛ وذلك لسبب أخلاقي، وأيضاً عملي: أن المجتمعات المنفتحة، التي يسودها القانون وتحترم حرية الرأي، محصّنة أكثر من غيرها في وجه الأزمات والاضطرابات.

كم هو عدد أنظمة الاستبداد الفاعلة التي شهدها العالم منذ أواسط القرن الفائت إلى اليوم؟ وكم هي تلك التي أغرقت بلدانها في العنف والتوحش والدمار؟ هذه الأخيرة تشكل الأغلبية الساحقة، أما الأولى فهي الاستثناء. أليس من التهوّر الرهان على وصفة الاستبداد وأن يكون المستبد صالحاً وعابراً؟ ألا توجد سبل أخرى أقل خطورة وقسوة لتحقيق التنمية؟ قطعاً توجد، لكن السيد كابلان يرفض أن يراها.

ليس صحيحاً القول إن «ثقافة الحرية» اقتضت نَفساً طويلاً في البلدان التي ازدهرت فيها الديمقراطية، كما حصل في جميع الأنظمة الديمقراطية الحالية التي اعتنقت هذه الثقافة وراحت تطورها لتبلغ بها المستويات التي وصلت اليوم إليها. الضغوط والمساعدة الدولية يمكن أن تشكل عاملاً أساسياً يدفع مجتمعاً معيناً لاعتناق الديمقراطية، كما تبيّن من حالتي ألمانيا واليابان اللتين انضمتا إلى ركب الدول الديمقراطية الأكثر تطوراً في العالم بعد الحرب. ما الذي يمنع دول العالم الثالث، أو روسيا، من اعتناق ثقافة الحرية على غرار ألمانيا واليابان؟

حتى معظم «النمور الآسيوية» اضطرت إلى الاستغاثة على أبواب صندوق النقد والبنك الدوليين (إ.ب.أ)

التسامح والتعددية والقانون

إن العولمة، خلافاً لاستنتاجات السيد كابلان المتشائمة، هي فرصة سانحة أمام الدول الديمقراطية في العالم، خصوصاً تلك الأكثر تطوراً في أميركا وأوروبا، كي تساهم في توسيع دائرة ثقافة الحرية المرادفة للتسامح والتعددية والقانون، إلى الدول التي لا تزال رهينة التقاليد الاستبدادية التي، لا ننسى، أن أحداً لم يسلم منها على مر تاريخ البشرية. لذلك؛ لا بد من شرطين أساسيين:

1 - الإيمان الراسخ بتفوق هذه الثقافة على تلك التي تبيح التعصب والعنصرية والتمييز الديني أو العرقي أو السياسي أو الجنسي.

2 - اعتماد سياسات اقتصادية وخارجية تشجع التوجهات الديمقراطية في بلدان العالم الثالث، وتعاقب الأنظمة التي تتبنى المبادئ الليبرالية في الاقتصاد والدكتاتورية في السياسة. لكن من أسف، وبعكس ما ينادي به كابلان، هذا التمييز الإيجابي لصالح الديمقراطية الذي حقق منافع جمّة في بلدان مثل ألمانيا واليابان وإيطاليا بعد الحرب العالمية الثانية، لا تطبقه الدول الديمقراطية اليوم مع بقية البلدان، أو تمارسه بنفاق واستنسابية.

لكن لعل الظروف الراهنة تشكّل حافزاً أكبر للدول الديمقراطية كي تتصرف بمزيد من الحزم لدعم ثقافة الحرية، إذ يقف العالم على شفا تحقق توقعات السيد كابلان بقيام حكومة عالمية غير ديمقراطية تديرها الشركات الكبرى من غير رادع في جهات الدنيا الأربع، وهي توقعات تشكل خطراً حقيقياً لا مفرّ من إدراكه والتعامل ومعه. إن انتفاء الحدود الاقتصادية وتكاثر الأسواق العالمية يحفزان الاندماج والتحالفات بين الشركات لزيادة القدرة التنافسية في جميع مجالات الإنتاج، وقيام مؤسسات عملاقة لا يشكّل بحد ذاته خطراً على الديمقراطية، طالما توجد قوانين عادلة وحكومات قوية «ليس شرطها أن تكون كبيرة، بل صغيرة وفاعلة» تضمن تطبيقها.

الاقتصاد الحر، المنفتح على المنافسة، يستفيد فيه المستهلك من الشركات الكبرى؛ لأن ضخامتها تتيح لها خفض الأسعار ومضاعفة الخدمات التي يحصل عليها. والخطر لا يكمن في حجم الشركة، بل في الاحتكار الذي هو دائماً مصدر للفساد وانعدام الكفاءة. وما دامت توجد حكومات ديمقراطية تسهر على إنفاذ القوانين، أياً كان مخالفوها، وتمنع الاحتكار وتحافظ على الأسواق مفتوحة على المنافسة، تبقى الشركات الكبرى هي الرائدة في التطور العلمي والتكنولوجي لفائدة المستهلك ومصلحته.

 

 

يقف العالم على شفا حكومة عالمية غير ديمقراطية تديرها شركات كبرى من غير رادع في جهات الدنيا الأربع

من هذا الواقع يستخلص كابلان الاستنتاج المتشائم التالي: الديمقراطية ذاهبة إلى مستقبل قاتم؛ لأن الشركات الكبرى في هذه الألفية الثالثة سوف تتصرف في الولايات المتحدة وأوروبا الغربية على غرار ما كانت تفعل في بلدان العالم الثالث، أي بلا روادع أو محاسبة.

لكن هذا الاستنتاج لا يستند إلى أي حجة تاريخية تسوّغه. وما نراه، نحن الليبراليين، هو أن بلدان العالم الثالث التي تخضع اليوم لأنظمة استبدادية، لا بد أن ترتقي نحو الديمقراطية، وتكرّس سيادة القانون والحريات التي تلزم الشركات الكبرى التي تنشط على أراضيها باحترام قواعد العدالة والاستقامة التي تلتزم بها في الديمقراطيات المتطورة. العولمة الاقتصادية يمكن أن تتحول خطراً يهدد مستقبل الحضارة، والبيئة العالمية، إذا لم تخضع لقواعد العولمة القانونية. ومن واجب الدول الكبرى تشجيع العمليات الديمقراطية في بلدان العالم الثالث لأسباب مبدئية وأخلاقية، ولأن انتفاء الحدود يقتضي أن تخضع الحياة الاقتصادية لقواعد الحرية والمنافسة التي تعود بالمنفعة على جميع المواطنين، وأن تخضع للمحفزات والروادع نفسها التي يفرضها عليها المجتمع الديمقراطي.

أعرف جيداً أنه ليس سهلاً تحقيق كل ذلك. لكن بالنسبة إلينا بصفتنا ليبراليين هذا هدف ممكن، وفكرة العالم متحداً حول ثقافة الحرية ليست مجرد سراب أو حلم، بل هي واقع يستحق كل الجهد لتحقيقه، وكما قال كارل بوبر أحد أفضل أساتذتنا: «التفاؤل واجب. والمستقبل ليس مكتوباً، ولا أحد بوسعه أن يتنبأ به سوى من باب الصدفة. جميعنا نساهم بأفعالنا في تشكيل معالمه، وبالتالي كلنا مسؤولون عمّا سيحدث».