تفاقم الانقسام الديني والطائفي حول {قانون المواطنة} في الهند

الديمقراطية الشعبية تهدد بالقضاء على تراث التعددية الاستقلالي

تفاقم الانقسام الديني والطائفي حول {قانون المواطنة} في الهند
TT

تفاقم الانقسام الديني والطائفي حول {قانون المواطنة} في الهند

تفاقم الانقسام الديني والطائفي حول {قانون المواطنة} في الهند

أسفرت الاضطرابات المدنية وأعمال العنف التي شهدتها الهند خلال الأسابيع الخمسة الماضية ضد قانون الجنسية الجديد والسجل الوطني للسكان عن انقسام البلاد إلى شطرين: شطر يعارض بشدة ويعتبر القانون والسجل خطوة تستهدف المسلمين بصفة رئيسية والذين يشكلون 14 في المائة من إجمالي سكان الهند، وشطر آخر مؤيد غالبيته من الهندوس وطوائف صغيرة يشكلون معاَ نحو 80 في المائة من السكان. ويمهد قانون المواطنة المعدّل – الذي أثار موجات واسعة من أعمال العنف – الطريق للحصول على الجنسية الهندية للطوائف التي فرت من القمع والاضطهاد في باكستان وبنغلاديش وأفغانستان، وتمكنت من الدخول إلى الهند قبل تاريخ 31 ديسمبر (كانون الأول) 2014. وتحديدا، ينسحب القانون على الأفراد الذين ينتمون إلى طوائف الهندوس والسيخ والبوذيين والجاين والبارسيين والطوائف المسيحية، مقابل استبعاد المسلمين تماماً. ومع أن الحكومة الاتحادية حاولت تصوير القانون الجديد أمام المجتمع الدولي بأنه «وسيلة من وسائل إغاثة طوائف الأقليات الهاربة من القمع والاضطهاد في الدول المسلمة المجاورة»، فإن تحديد الديانة كشرط أساسي مؤهل للحصول على الجنسية الهندية يثير إزعاج معظم مسلمي الهند وسخطهم، وكذلك العديد من الهندوس الليبراليين.

يزعم منتقدو رئيس الوزراء الهندي ناريندرا مودي أن تحديد الديانة كشرط تأهيل الحصول على الجنسية الهندية يجعل من القانون الجديد أكثر إثارة للتوتر والقلق الطائفي في البلاد، إذ يحوّل الهند إلى نسخة من دولة إسرائيل الدينية النزعة والتوجه... ومن ثم لا يمكن أبدا استخلاص فكرة الدولة القومية كفكرة مطلقة في الداخل الهندي.
قبل الانتخابات العامة الهندية الأخيرة، التي أجريت عام 2019. أصدر حزب بهاراتيا جاناتا الهندوسي الحاكم بزعامة مودي، رئيس الوزراء، بيانه الانتخابي الذي أكّد فيه على التزام الحزب بسن تشريع جديد «يتيح حصول الأقليات الدينية الهاربة من الاضطهاد والقمع في البلدان المجاورة على الجنسية الهندية».
وخلال بضعة شهور من إعادة انتخاب الحزب، قدّمت الحكومة القومية اليمينية قانون المواطنة المعدل إلى البرلمان الاتحادي. وزعمت الحكومة أن الدساتير المعمول بها في كل من باكستان وبنغلاديش وأفغانستان تنصّ على اعتبار الإسلام ديناً رسمياً لهذه البلدان، وبالتالي، يعاني أفراد الطوائف الدينية فيها من القمع والاضطهاد الديني «ما أدى إلى فرار كثيرين منهم ولجوئهم إلى الهند». ومن ثم، أرادت الحكومة الهندية سنّ القانون الجديد الذي يسمح لهؤلاء المهاجرين من الدول الثلاث - الذين تصفهم بـ«اللاجئين الدينيين» وتقدّر عددهم بنحو 31 ألف نسمة - بالحياة والعمل في الهند.
الجدير بالذكر في هذا الصدد أن فلسفة المهاتما موهانداس غاندي، ثم الحكومات الهندية السابقة تحت رئاسة حزب المؤتمر الهندي (المعارض اليوم)، كانت قد أكدت على أحقية الطوائف الدينية المضطهدة في الدول المجاورة في الحصول على الجنسية الهندية إذا ما رغب أفرادها في ذلك. وحقاً، لدى الهند تاريخ طويل من استضافة ضحايا القمع والاضطهاد من البلدان المجاورة. فقبل قرون، قصد شبه القارة الهندية اليهود والبارسيون المضطهدون، ثم فتحت الهند ذراعيها مرحبة بالبوذيين التبت، وكذلك التاميل ومنحتهم حق الإقامة والجنسية. ومنحت الجنسية الهندية للهندوس المضطهدين الفارين من أوغندا بشرق أفريقيا. وللعلم، حدّدت الحكومة الحالية الجدول الزمني الخاص بممارسات السجل الوطني للسكان لاستكمالها على نحو تام بحلول 30 سبتمبر (أيلول) من عام 2020 الجاري.

- الدين والهوية
في مفارقات واضحة، تشهد الهند راهناً تباينات مختلفة للغاية – فنجد المسلمين يهتفون «الله أكبر» و«لا إله إلا الله» في مظاهرات الاحتجاج العارمة ضد قانون الجنسية الهندي الجديد، مقابل الهندوس الذين يرفعون الشعارات الدينية في مسيرات التأييد الحاشدة له. وهذا، في الهند، التي تمثل عالمياً أحد أبرز وأنجح الأمثلة القائمة في تاريخ إدارة تحديات الوحدة الوطنية من خلال صيغ دينامية وحيوية لتقاسم السلطة وبث التوافق الوطني على كل المستويات.
ويكمن هذا النجاح في ثلاث سمات أساسية تميز الهيكل الدستوري للهند، وهي: الديمقراطية، والفيدرالية، والعلمانية. وفي البلاد التي يمثل الهندوس نسبة 80 في المائة من سكانها، كان الرئيس الأسبق عبد الكلام مسلماً، ورئيس وزرائه مانموهان سينغ من طائفة السيخ، وكانت القوة الحقيقية وراء إدارة البلاد سونيا غاندي المهاجرة المسيحية الكاثوليكية ذات الأصول الإيطالية. ومع هذا، فإن التأكيد على الهوية الإسلامية من جانب المحتجين والمتظاهرين لم تسر على ما يرام لدى العديد من المسلمين والهندوس في البلاد. وفي معرض الانتقاد كتبت الصحافية المسلمة الهندية حياة فاطمة تقول: «عندما نرفع في المظاهرات شهادة لا إله إلا الله، وهي العمود الفقري للعقيدة الإسلامية، فإننا ندفع في آلية تلقائية بإقصاء كل الذين لا يؤمنون بهذه العقيدة. ومع أن هذه الشهادة لا تشكل في ذاتها تهديداً للتعددية والتنوع الطائفي في الهند، فإنها تستبعد الطوائف الهندية الأخرى الذين يصطفون مع المسلمين في معارضتهم للحكومة الهندية الحالية. صارت الاحتجاجات التي نظمها مسلمون وهيمنت على الجامعات ذات الغالبية المسلمة في البلاد أشبه ما تكون بالحركة الوطنية. وهي بلا شك حركة جبهوية مسلمة، لكن لا يجوز أبدا أن تتحول إلى حركة إسلاموية كاملة». وتتابع «يستهدف قانون المواطنة المعدل الجديد المسلمين الهنود، ولكي يحافظ المواطن الهندي المسلم على هويته الهندية عليه وصم القانون الجديد بمخالفة الدستور، وهكذا يحوّل المسألة برمّتها إلى أزمة على الصعيد الوطني بأسره، لأن الدستور الهندي يحمي حقوق مواطني البلاد كافة. ومن ثم، لا يصح قصر حركة الاعتراض والاحتجاج الراهنة على المسلمين الهنود وحدهم. سنتمكن من استعادة التعددية الهندية الحقيقية عندما تتحد أصوات المسلمين والسيخ والمسيحيين الهنود في معارضة هذا القانون الجديد الجائر».

- الانقسام الهندوسي - الإسلامي
يرجع الانقسام على أساس ديني في الهند إلى أيام التقسيم العنيف في نهاية حقبة الحكم البريطاني لشبه القارة الهندية. ففي عام 1947، وهو تاريخ إعلان الاستقلال، قسمت شبه القارة الهندية على أساس ديني، ونشأت باكستان كدولة إسلامية بينما قاومت الهند فكرة التقسيم. وجرى تشريد وقتل الملايين من المواطنين في عدد لا يحصى من أعمال العنف الطائفية التي شاعت في ربوع البلاد خلال فترة التقسيم. ولكن ظل العديد من المسلمين داخل الهند، ولم يتمكن الملايين من الهندوس الفقراء في مناطق السند وبلوشستان الباكستانية من العبور إلى الجانب الهندي من الحدود فظلوا حيث هم.
وعام 1950، وقعت كل من الهند وباكستان على ميثاق نهرو - لياقات، الساعي إلى ضمان حقوق الأقليات الدينية في البلدين، الأمر الذي أسفر عن وقف تحوّل السكان من باكستان إلى الهند. وزُعم حينذاك أنه بينما حافظت الهند على مبادئها العلمانية والتزامها المستمر بحماية الأقليات، قصّرت باكستان في المحافظة على الاتفاق المذكور.
وعام 1971، اندلع الصراع بين قسمي باكستان الشرقي والغربي، وانتهى بقيام دولة بنغلاديش في القسم الشرقي، وواصل كثيرون من الهندوس البنغاليون العيش في الدولة الجديدة.
وعلى نحو مماثل، وخلال حكم حركة طالبان في أفغانستان – بين 1996 و2001 – جرى إقصاء واستبعاد وتهميش الطوائف الدينية المخالفة لعقيدة طالبان، مثل الهندوس والسيخ وغيرهم من الأقليات الدينية الأخرى إثر تعرضهم لعمليات قمع عنيف.
في ضوء هذا الواقع، اضطرت بعض الأقليات إلى الهجرة صوب الهند بين الحين والآخر بحثاً عن وطن جديد وآمن. وثم الكثير من السجلات والوثائق التي تثبت هذه الحقيقة. ويتذرّع مشروع «قانون المواطنة المعدّل» أنه يقر تدابير إنسانية تهدف إلى معالجة مخاوف ومخاطر هذه الأقليات المضطهدة. غير أن مشروع «القانون» هذا عمّق الهوة بين المسلمين والهندوس إذ صوّت 67 في المائة من الهندوس لمصلحته في حين صوّت 71 في المائة من المسلمين ضده.
مع هذا، جاء في استطلاع للرأي أجرته إحدى الصحف الهندية، أن غالبية الناس لا يعتقدون أن مشروع «القانون» موجّه ضد المسلمين. لكن الاستطلاع بيّن أيضاً، أن 63 في المائة من المسلمين يعارضونه، مقابل 35 في المائة منهم يؤيدونه. وفي الجانب الهندوسي، يؤيده 67 في المائة مقابل 32 في المائة يعارضونه تماماً.

- «الرابطة» وغاندي
الصحافي أصغر علي مهندس في صحيفة «المسلمون الهنود» يشرح قائلاً «كان تأسيس رابطة الاتحاد الإسلامي الهندي كحزب سياسي عام 1906 من الخطوات الرئيسية الأولى على مسار الحركة الانفصالية بين المسلمين الهنود. وكانت حركة الخلافة، التي تحولت هي الأخرى إلى حزب سياسي في الهند ضمن الحركة القومية الإسلامية في البلاد، قد تركت انطباعاً راسخاً في الوجدان النفسي للمسلمين الهنود، وألحقت أضرارا لا حصر لها في جهود القادة الكبار أمثال المهاتما غاندي الذين كانوا يناضلون من أجل التوحّد العلماني والديمقراطي للمسلمين ضمن التيار الهندي الوطني الرئيسي في المجتمع بأسره. وشكل هذا الأمر نواة التفكك وانهيار الثقة بين الهندوس والمسلمين في البلاد منذ ذلك الحين».
ويوضح المحلل السياسي هاريش راماسوامي، من جانبه، قائلاً «كان تعريف المهاتما غاندي للأمة الهندية باعتبارها مجتمعاً أخوياً أو كونفدرالية طائفية من مختلف الجاليات تحت مظلة التعدّدية العلمانية الهندية يتعارض بصورة مباشرة مع فكرة إنهاض مجتمع هندوسي يحكم بالغالبية. لكن على المسلمين ومَن يناصرونهم أن يحذروا من التيار الإسلامي غير المتناغم الذي يعتبر لحظات الانقسام الراهنة من الفرص الكبرى السانحة لحشد المؤيدين وتجنيد الكوادر والأتباع. إن بين جموع المعارضين عناصر إسلاموية متطرفة لا تثق في أي نظام علماني ديمقراطي وتصمه بالكفر والزندقة».

- علمانية على المحك
وبالفعل، يرى بعض غلاة القومية الهندية الهندوس أن «العلمانية ليست إلا فكرة احتيالية صاغها أنصار جواهر لال نهرو، أول رئيس لوزراء البلاد، وورثته الذين تعاقبوا على حكم الهند ممن يطلقون عليهم مسمى «الغانديين»، وذلك لاسترضاء الأقليات من المسلمين وتأمين قاعدة التصويت الانتخابية الدائمة لديهم». مقابل هؤلاء يقف أبناء الأقليات وسكان الأقاليم المختلفة، وحفنة من الهندوس العلمانيين ذوي التوجهات اليسارية والليبرالية، الذين يزدرون التعصّب الشوفيني القومي – الديني.
البروفسور خينفراج جانغيد، أستاذ العلوم السياسية في جامعة جيندال الهندية، يرى أن صعود مودي إثر النصر الانتخابي الساحق الذي حققه عام 2014 ثم عام 2019 يعد تتويجا لهذه الرؤية المتعصبة الشوفينية. إذ أسفرت أعمال العنف التي أعقبت المصادقة على «قانون المواطنة المعدّل» في مختلف الجامعات، وتصدّر العديد من الجماعات الإسلامية الاحتجاجات، عن ترسيخ تأييد الغالبية الهندوسية الصامتة لحزب مودي الحاكم. ما كان لأحد توقع كيف ستكون ردود فعل قاعدة الناخبين الهندوسية غير المرئية – بما في ذلك الهندوس المعتدلون السابقون – على أعمال العنف الغاضبة التي شاعت في عموم الهند. ومن شأن المنافسة المحتدمة بين الجانبين أن تقرر وحدها مستقبل السياسات الداخلية الهندية على مدى السنوات العشر المقبلة على أقل تقدير.
وجاء في تقرير إخباري نشره موقع «سكرول»، في هذا السياق، «تعد الاحتجاجات التي تعم البلاد راهنا نضالاً مؤجلاً ضد العملية المستمرة منذ حين لإنشاء الأمة الهندوسية الخالصة. حتى الأمس القريب، بدا الأمر وكأنه مفروغ منه تماماً. أما اليوم، فلسنا متأكدين من شيء البتة. إذ يعتقد الحزب الهندوسي الحاكم وأنصاره أن الاحتجاجات الراهنة لا تملك الزخم الحقيقي الذي تعلن عنه، وأن مسيرة نصف مليون مواطن يومياً ليست إلا نسبة هامشية لا تثير القلق من أصل 1.3 مليار مواطن يشكلون إجمالي تعداد البلاد من الهندوس الموالين لحكومة البلاد. كما يعتقد الحزب الهندوسي الحاكم وأنصاره أنهم يستطيعون تجاهل الإجماع العلماني، وربما الدستور الذي يجمع النسيج الهندي معا، لمواصلة العمل لبناء الدولة الهندوسية الخالصة التي تتشكل بأدوات الخوف والسطوة والقوة».

- أصوات قلقة
تتردد أصوات مماثلة مشوبة بالقلق والتوتر عبر مناطق وأحياء المسلمين في الهند منذ شروع حكومة مودي في تمرير «قانون المواطنة المعدّل» في البرلمان. وقال أحد المواطنين المسلمين، في إشارة إلى حكومة مودي الحالية «إنهم يرغبون في رحيلنا عن ديارنا، لكننا لن نغادر أبداً»، وقال آخر «هذا وطننا. لقد ولدنا هنا، ولسوف نعيش ونموت هنا». لكن عالم الإنسانيات طلال أسعد يناقش قائلاً «تقوم الدولة بوظيفة تحديد الوجه العام المقبول من الدين في البلاد. ولكن عندما يتعلّق الأمر بالهوية الدينية للمسلمين، يتوجب على المسلمين إما استيعاب القيم الليبرالية – والليبراليون أنفسهم يعتبرون ذلك انتهاكا مباشرا لقيم الإسلام بطبيعتها – أو الإقصاء الكامل عن التصوّر السياسي للدولة القومية».
في هذه الأثناء، يدّعي وزير الداخلية الهندي آميت شاه، أن حكومته «لا تسلب أي مواطن حقوقه الأصيلة، وإنما تمنح حقوقاً أخرى لأناس معوزين. وعليه لا يوجد ما يستوجب الاعتراض بشأن القانون الجديد». ويوضح الوزير أن حكومته تسعى إلى «حماية الأقليات الهاربة من البلدان الأخرى بطريقة تتشابه مع جهودها لحماية ودعم الأقليات الموجودة داخل الهند نفسها. إلا أن الكاتبة الصحافية آبارنا بريادارشاني، ترى أنه «مع صعود سياسات «هندوتفا» (أي الكيانية القومية الهندوسية) فإن العلمانية التي يحميها الدستور الهندي تتعرض لتهديد كبير وواضح من قبل الجماعات القومية الهندوسية التي غالبا ما تصف المهاجرين المسلمين بأنهم متسللون أو مخترقون يهددون المحافظة على أمن وسلامة الأمة الهندوسية...».
كذلك يقول الناشط الاجتماعي الهندي يوغندرا ياداف، الذي يؤيد بقوة المسلمين المعارضين للقانون الجديد: «قانون المواطنة المعدل الجديد عبارة عن أداة للتمييز تماماً كمثل المواطنة في دولة إسرائيل القائمة على الهوية الدينية في المقام الأول. وبدلا من بث روح المواطنة المتساوية في البلاد، فإننا صرنا نتحرك على مسار تصنيف المواطنين تحت فئات مختلفة، الأمر الذي ينتهك وبكل وضوح مبادئ النضال الهندية الأصيلة من أجل الحرية».
في المقابل يقول فيجاي روباني، الوزير الأول في ولاية غُجارات (المعقل السياسي لمودي): «في حين أنه يمكن للمسلمين الهنود الاختيار من بين أكثر من 150 دولة إسلامية للعيش والإقامة فيها، فإن الهند هي الدولة الوحيدة حول العالم بالنسبة للهندوس... كان هناك 22 في المائة من الهندوس في باكستان إبان التقسيم عام 1947. والآن، وبسبب أعمال القمع والعنف والاضطهاد والتعذيب، انخفضت النسبة إلى 3 في المائة فقط من تعداد السكان هناك. ولهذا السبب يرغب الهندوس في باكستان بالعودة إلى الهند. ونحن نقوم بما كان ينبغي على حزب المؤتمر الوطني القيام به في مساعدة هؤلاء الهندوس المعذبين». وتابع الزعيم القومي الهندوسي كلامه «من بين 200 ألف هندوسي وسيخي كانوا يقيمون بأفغانستان منذ بضعة عقود ماضية، لم يتبق منهم سوى 500 مواطن فقط اليوم. يمكن للمسلمين الانطلاق والإقامة في أي دولة إسلامية من 150 دولة حول العالم، ولكن ليست هناك إلا دولة واحدة فقط في العالم للهندوس، وهي الهند. فما هي المشكلة التي تتعلق برغبة هؤلاء الهندوس في العودة إلى وطنهم؟».

- عبر السنوات... القوميات واللغات ترسم حدود الولايات وهوياتها
يُعد الحنين إلى فرعيات القومية اللغوية والثقافية والاجتماعية في الهند من ظواهر ما بعد الاستقلال. وفي معظم الأحيان، كانت القومية اللغوية الفرعية تقوم مقام ورقة التوت الساترة لدعوات الانفصال، إذ أنشئت الولايات الهندية الـ28 والمقاطعات الاتحادية الـ9 على أسس اللغة والثقافة الإثنية.
عام 1953 أسست ولاية أندرا براديش لتكون أول ولاية تنشأ على أساس لغوي للناطقين بلغة التيلوغو بجنوب الهند. وأجبرت الحكومة على فصل المناطق الناطقة بلغة التيلوغو عن ولاية مدراس (تاميل نادو حالياً) في مواجهة حالات التحريض المستمرة. وبعد ذلك توالت مطالب مماثلة لإنشاء المزيد من المناطق والولايات حتى اليوم. وهكذا، عام 1960، قسّمت ولاية بومباي لتنشأ من تقسيمها ولايتا غُجارات وماهاراشترا. وعام 1963 أنشئت ولاية ناغالاند لتغدو وطن شعب الناغا الهندية ليرتفع العدد الإجمالي للولايات الهندية إلى 16 ولاية.
بعدها، عام 1966. مرّر «قانون إعادة تنظيم البنجاب» في البرلمان.
وفي أعقاب ذلك ضمت المناطق الناطقة باللغة البنجابية إلى ولاية هاريانا في حين ألحقت المناطق الجبلية إلى إقليم اتحاد هيماتشال براديش. وتمثل مدينة شانديغار، التي انضمت لإقليم الاتحاد المذكور، العاصمة المشتركة لولايتي البنجاب وهاريانا. وعلى نحو متزامن، جرى تشكيل الولايات الهندية الأخرى على نفس المنوال.


مقالات ذات صلة

لبنان يواجه تحدّيات مصيرية في زمن التحوّلات

حصاد الأسبوع جريمة اغتيال رفيق الحريري (غيتي)

لبنان يواجه تحدّيات مصيرية في زمن التحوّلات

يواجه لبنان جملة من التحديات السياسية والعسكرية والأمنية والاقتصادية، خصوصاً في مرحلة التحوّلات الكبرى التي تشهدها المنطقة وترخي بثقلها على واقعه الصعب

يوسف دياب (بيروت)
حصاد الأسبوع تحت ضغط الفضائح والخلافات انخفضت شعبية يون، وقبل أقل من شهر أظهر استطلاع للرأي أن شعبيته انخفضت إلى 19 % فقط

يون سوك ــ يول... رئيس كوريا الجنوبية أثار زوبعة دعت لعزله في تصويت برلماني

تشهد كوريا الجنوبية، منذ نحو أسبوعين، تطورات متلاحقة لا تلوح لها نهاية حقيقية، شهدت اهتزاز موقع رئيس الجمهورية يون سوك - يول بعد إعلانه في بيان تلفزيوني

براكريتي غوبتا (نيودلهي (الهند))
حصاد الأسبوع تشون دو - هوان (رويترز)

تاريخ مظلم للقيادات في كوريا الجنوبية

إلى جانب يون سوك - يول، فإن أربعة من رؤساء كوريا الجنوبية السبعة إما قد عُزلوا أو سُجنوا بتهمة الفساد منذ انتقال البلاد إلى الديمقراطية في أواخر الثمانينات.

«الشرق الأوسط» (نيودلهي)
حصاد الأسبوع الشرق السودان دخل دوامة الحروب السودانية المتمددة (رويترز)

شرق السودان... نار تحت الرماد

لا يبعد إقليم شرق السودان كثيراً عن تماسّات صراع إقليمي معلن، فالجارة الشرقية إريتريا، عينها على خصمها «اللدود» إثيوبيا، وتتربص كل منهما بالأخرى. كذلك، شرق

أحمد يونس (كمبالا (أوغندا))
الولايات المتحدة​ الرئيس الأميركي المنتخب دونالد ترمب (أ.ب)

"تايم "تختار دونالد ترمب شخصية العام 2024

اختارت مجلة تايم الأميركية دونالد ترمب الذي انتخب لولاية ثانية على رأس الولايات المتحدة شخصية العام 2024.

«الشرق الأوسط» (نيويورك)

لبنان يواجه تحدّيات مصيرية في زمن التحوّلات

جريمة اغتيال رفيق الحريري (غيتي)
جريمة اغتيال رفيق الحريري (غيتي)
TT

لبنان يواجه تحدّيات مصيرية في زمن التحوّلات

جريمة اغتيال رفيق الحريري (غيتي)
جريمة اغتيال رفيق الحريري (غيتي)

يواجه لبنان جملة من التحديات السياسية والعسكرية والأمنية والاقتصادية، خصوصاً في مرحلة التحوّلات الكبرى التي تشهدها المنطقة وترخي بثقلها على واقعه الصعب والمعقّد. ولا شك أن أهم هذه التحوّلات سقوط نظام بشّار الأسد في سوريا، وتراجع النفوذ الإيراني الذي كان له الأثر المباشر في الأزمات التي عاشها لبنان خلال السنوات الأخيرة، وهذا فضلاً عن تداعيات الحرب الإسرائيلية وآثارها التدميرية الناشئة عن «جبهة إسناد» لم تخفف من مأساة غزّة والشعب الفلسطيني من جهة، ولم تجنّب لبنان ويلات الخراب من جهة ثانية.

إذا كانت الحرب الإسرائيلية على لبنان قد انتهت إلى اتفاق لوقف إطلاق النار برعاية دولية، وإشراف أميركي ـ فرنسي على تطبيق القرار 1701، فإن مشهد ما بعد رحيل الأسد وحلول سلطة بديلة لم يتكوّن بعد.

وربما سيحتاج الأمر إلى بضعة أشهر لتلمُّس التحدّيات الكبرى، التي تبدأ بالتحدّيات السياسية والتي من المفترض أن تشكّل أولوية لدى أي سلطة جديدة في لبنان. وهنا يرى النائب السابق فارس سُعَيد، رئيس «لقاء سيّدة الجبل»، أنه «مع انهيار الوضعية الإيرانية في لبنان وتراجع وظيفة (حزب الله) الإقليمية والسقوط المدوّي لحكم البعث في دمشق، وهذا إضافة إلى الشغور في رئاسة الجمهورية، يبقى التحدّي الأول في لبنان هو ملء ثغرات الدولة من أجل استقامة المؤسسات الدستورية».

وأردف سُعَيد، في تصريح لـ«الشرق الأوسط»، إلى أنه «بعكس الحال في سوريا، يوجد في لبنان نصّ مرجعي اسمه الدستور اللبناني ووثيقة الوفاق الوطني، وهذا الدستور يجب أن يحترم بما يؤمّن بناء الدولة والانتقال من مرحلة إلى أخرى».

الدستور أولاً

الواقع أنه لا يمكن لمعطيات علاقة متداخلة بين لبنان وسوريا طالت لأكثر من 5 عقود، و«وصاية دمشق» على بيروت ما بين عامَي 1976 و2005 - وصفها بعض معارضي سوريا بـ«الاحتلال» - أن تتبدّل بين ليلة وضحايا على غرار التبدّل المفاجئ والصادم في دمشق. ثم إن حلفاء نظام دمشق الراحل في لبنان ما زالوا يملكون أوراق قوّة، بينها تعطيل الانتخابات الرئاسية منذ 26 شهراً وتقويض كل محاولات بناء الدولة وفتح ورشة الإصلاح.

غير أن المتغيّرات في سوريا، وفي المنطقة، لا بدّ أن تؤسس لواقع لبناني جديد. ووفق النائب السابق سُعَيد: «إذا كان شعارنا في عام 2005 لبنان أولاً، يجب أن يكون العنوان في عام 2024 هو الدستور أولاً»، لافتاً إلى أن «الفارق بين سوريا ولبنان هو أن سوريا لا تملك دستوراً وهي خاضعة فقط للقرار الدولي 2254. في حين بالتجربة اللبنانية يبقى الدستور اللبناني ووثيقة الوفاق الوطني المرجعَين الصالحَين لبناء الدولة، وهذا هو التحدي الأكبر في لبنان».

وشدّد، من ثم، على ضرورة «استكمال بناء المؤسسات الدستورية، خصوصاً في المرحلة الانتقالية التي تمرّ بها سوريا»، وتابع: «وفي حال دخلت سوريا، لا سمح الله، في مرحلة من الفوضى... فنحن لا نريد أن تنتقل هذه الفوضى إلى لبنان».

العودة للحضن العربي

من جهة ثانية، يحتاج لبنان في المرحلة المقبلة إلى مقاربة جديدة عمّا كان الوضع عليه في العقود السابقة. ولا يُخفي السياسي اللبناني الدكتور خلدون الشريف، في تصريح لـ«الشرق الأوسط»، أن لبنان «سيتأثّر بالتحوّلات الكبرى التي تشهدها المنطقة، وحتميّة انعكاس ما حصل في سوريا على لبنان». ويلفت إلى أن «ما حصل في سوريا أدّى إلى تغيير حقيقي في جيوبوليتيك المنطقة، وسيكون له انعكاسات حتمية، ليس على لبنان فحسب، بل على المشرق العربي والشرق الأوسط برمته أيضاً».

الاستحقاق الرئاسي

في سياق موازٍ، قبل 3 أسابيع من موعد جلسة انتخاب الرئيس التي دعا إليها رئيس مجلس النواب نبيه برّي في التاسع من يناير (كانون الثاني) المقبل، لم تتفق الكتل النيابية حتى الآن على اسم مرشّح واحد يحظى بأكثرية توصله إلى قصر بعبدا.

وهنا، يرى الشريف أنه بقدر أهمية عودة لبنان إلى موقعه الطبيعي في العالم العربي، ثمّة حاجة ماسّة لعودة العرب إلى لبنان، قائلاً: «إعادة لبنان إلى العرب مسألة مهمّة للغاية، شرط ألّا يعادي أي دولة إقليمية عربية... فلدى لبنان والعرب عدوّ واحد هو إسرائيل التي تعتدي على البشر والحجر». وبغض النظر عن حتميّة بناء علاقات سياسية صحيحة ومتكافئة مع سوريا الجديدة، يلفت الشريف إلى أهمية «الدفع للتعاطي معها بإيجابية وانفتاح وفتح حوار مباشر حول موضوع النازحين والشراكة الاقتصادية وتفعيل المصالح المشتركة... ويمكن للبلدين، إذا ما حَسُنت النيّات، أن يشكلّا نموذجاً مميزاً للتعاون والتنافس تحت سقف الشراكة».

يحتاج لبنان في المرحلة المقبلة إلى مقاربة جديدة

النهوض الاقتصادي

وحقاً، يمثّل الملفّ الاقتصادي عنواناً رئيساً للبنان الجديد؛ إذ إن بناء الاقتصاد القوي يبقى المعيار الأساس لبناء الدولة واستقرارها، وعودتها إلى دورها الطبيعي. وفي لقاء مع «الشرق الأوسط»، قال الوزير السابق محمد شقير، رئيس الهيئات الاقتصادية في لبنان، إن «النهوض الاقتصادي يتطلّب إقرار مجموعة من القوانين والتشريعات التي تستجلب الاستثمارات وتشجّع على استقطاب رؤوس الأموال، على أن يتصدّر الورشة التشريعية قانون الجمارك وقانون ضرائب عصري وقانون الضمان الاجتماعي».

شقير يشدّد على أهمية «إعادة هيكلة القطاع المصرفي؛ إذ لا اقتصاد من دون قطاع مصرفي». ويشير إلى أهمية «ضبط التهريب على كل طول الحدود البحرية والبرّية، علماً بأن هذا الأمر بات أسهل مع سقوط النظام السوري، الذي طالما شكّل عائقاً رئيساً أمام كل محاولات إغلاق المعابر غير الشرعية ووقف التهريب، الذي تسبب بخسائر هائلة في ميزانية الدولة، بالإضافة إلى وضع حدّ للمؤسسات غير الشرعية التي تنافس المؤسسات الشرعية وتؤثر عليها».

نقطة جمارك المصنع اللبنانية على الحدود مع سوريا (آ ف ب)

لبنان ودول الخليج

يُذكر أن الفوضى في الأسواق اللبنانية أدت إلى تراجع قدرات الدولة، ما كان سبباً في الانهيار الاقتصادي والمالي، ولذا يجدد شقير دعوته إلى «وضع حدّ للقطاع الاقتصادي السوري الذي ينشط في لبنان بخلاف الأنظمة والقوانين، والذي أثّر سلباً على النمو، ولا مانع من قوننة ليعمل بطريقة شرعية ووفق القوانين اللبنانية المرعية الإجراء». لكنه يعبّر عن تفاؤله بمستقبل لبنان السياسي والاقتصادي، قائلاً: «لا يمكن للبنان أن ينهض من دون علاقات طيّبة وسليمة مع العالم العربي، خصوصاً دول الخليج... ويجب أن تكون المهمّة الأولى للحكومة الجديدة ترسيخ العلاقات الجيّدة مع دول الخليج العربي، ولا سيما المملكة العربية السعودية التي طالما أمّنت للبنان الدعم السياسي والاقتصادي والمالي».

ضبط السلاح

على صعيد آخر، تشكّل الملفات الأمنية والعسكرية سمة المرحلة المقبلة، بخاصةٍ بعد التزام لبنان فرض سلطة الدولة على كامل أراضيها تطبيقاً للدستور والقرارات الدولية. ويعتبر الخبير العسكري والأمني العميد الركن فادي داوود، في تصريح لـ«الشرق الأوسط»، أن «تنفيذ القرار 1701 ومراقبة تعاطيها مع مكوّنات المجتمع اللبناني التي تحمل السلاح، هو التحدّي الأكبر أمام المؤسسات العسكرية والأمنية». ويوضح أن «ضبط الحدود والمعابر البرية مع سوريا وإسرائيل مسألة بالغة الدقة، سيما في ظل المستجدات التي تشهدها سوريا، وعدم معرفة القوة التي ستمسك بالأمن على الجانب السوري».

مكافحة المخدِّرات

وبأهمية ضبط الحدود ومنع الاختراق الأمني عبرها، يظل الوضع الداخلي تحت المجهر في ظلّ انتشار السلاح لدى معظم الأحزاب والفئات والمناطق اللبنانية، وهنا يوضح داوود أن «تفلّت السلاح في الداخل يتطلّب خطة أمنية ينفّذها الجيش والأجهزة الأمنية كافة». ويشرح أن «وضع المخيمات الفلسطينية يجب أن يبقى تحت رقابة الدولة ومنع تسرّب السلاح خارجها، إلى حين الحلّ النهائي والدائم لانتشار السلاح والمسلحين في جميع المخيمات»، منبهاً إلى «معضلة أمنية أساسية تتمثّل بمكافحة المخدرات تصنيعاً وترويجاً وتصديراً، سيما وأن هناك مناطق معروفة كانت أشبه بمحميات أمنية لعصابات المخدرات».

حقائق

علاقات لبنان مع سوريا... نصف قرن من الهيمنة

شهدت العلاقات اللبنانية - السورية العديد من المحطات والاستحقاقات، صبّت بمعظمها في مصلحة النظام السوري ومكّنته من إحكام قبضته على كلّ شاردة وواردة. وإذا كان نفوذ دمشق تصاعد منذ دخول جيشها لبنان في عام 1976، فإن جريمة اغتيال الرئيس اللبناني المنتخب رينيه معوض في 22 نوفمبر (تشرين الثاني) 1989 - أي يوم عيد الاستقلال - شكّلت رسالة. واستهدفت الجريمة ليس فقط الرئيس الذي أطلق مرحلة الشروع في تطبيق «اتفاق الطائف»، وبسط سلطة الدولة على كامل أراضيها وحلّ كل الميليشيات المسلّحة وتسليم سلاحها للدولة، بل أيضاً كلّ من كان يحلم ببناء دولة ذات سيادة متحررة من الوصاية. ولكنْ ما إن وُضع «اتفاق الطائف» موضع التنفيذ، بدءاً بوحدانية قرار الدولة، أصرّ حافظ الأسد على استثناء سلاح «حزب الله» والتنظيمات الفلسطينية الموالية لدمشق، بوصفه «سلاح المقاومة لتحرير الأراضي اللبنانية المحتلّة» ولإبقائه عامل توتر يستخدمه عند الضرورة. ثم نسف الأسد «الأب» قرار مجلس الوزراء لعام 1996 القاضي بنشر الجيش اللبناني على الحدود مع إسرائيل، بذريعة رفضه «تحويل الجيش حارساً للحدود الإسرائيلية».بعدها استثمر نظام دمشق انسحاب الجيش الإسرائيلي من المناطق التي كان يحتلها في جنوب لبنان خلال مايو (أيار) 2000، و«جيّرها» لنفسه ليعزّز هيمنته على لبنان. غير أنه فوجئ ببيان مدوٍّ للمطارنة الموارنة برئاسة البطريرك الراحل نصر الله بطرس صفير في سبتمبر (أيلول) 2000، طالب فيه الجيش السوري بالانسحاب من لبنان؛ لأن «دوره انتفى مع جيش الاحتلال الإسرائيلي من جنوب لبنان».مع هذا، قبل شهر من انتهاء ولاية الرئيس إميل لحود، أعلن نظام بشار الأسد رغبته بالتمديد للحود ثلاث سنوات (نصف ولاية جديدة)، ورغم المعارضة النيابية الشديدة التي قادها رئيس الوزراء الراحل رفيق الحريري، مُدِّد للحود بالقوة على وقع تهديد الأسد «الابن» للحريري ووليد جنبلاط «بتحطيم لبنان فوق رأسيهما». وهذه المرة، صُدِم الأسد «الابن» بصدور القرار 1559 عن مجلس الأمن الدولي، الذي يقضي بانتخاب رئيس جديد للبنان، وانسحاب الجيش السوري فوراً، وحلّ كل الميليشيات وتسليم سلاحها للدولة اللبنانية. ولذا، عمل لإقصاء الحريري وقوى المعارضة اللبنانية عن السلطة، وتوِّج هذا الإقصاء بمحاولة اغتيال الوزير مروان حمادة في أكتوبر (تشرين الأول) 2004، ثمّ باغتيال رفيق الحريري يوم 14 فبراير (شباط) 2005، ما فجّر «ثورة الأرز» التي أدت إلى انسحاب الجيش السوري من لبنان يوم 26 أبريل (نيسان)، وتبع ذلك انتخابات نيابية خسرها حلفاء النظام السوري فريق «14 آذار» المناوئ لدمشق.تراجع نفوذ دمشق في لبنان استمر بعد انسحاب جيشها بضغط أميركي مباشر. وتجلّى ذلك في «الحوار الوطني اللبناني»، الذي أفضى إلى اتخاذ قرارات بينها «ترسيم الحدود» اللبنانية السورية، وبناء علاقات دبلوماسية مع سوريا وتبادل السفراء، الأمر الذي قبله بشار الأسد على مضض. وأكمل المسار بقرار إنشاء محكمة دولية لمحاكمة قتلة الحريري وتنظيم السلاح الفلسطيني خارج المخيمات - وطال أساساً التنظيمات المتحالفة مع دمشق وعلى رأسها «الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين - القيادة العامة» - وتحرير المعتقلين اللبنانيين في السجون السورية. حرب 6002مع هذا، بعد الحرب الإسرائيلية على لبنان في يوليو (تموز) 2006، التي أعلن «حزب الله» بعدها «الانتصار على إسرائيل»، استعاد النظام السوري بعض نفوذه. وتعزز ذلك بسلسلة اغتيالات طالت خصومه في لبنان من ساسة ومفكّرين وإعلاميين وأمنيين - جميعهم من فريق «14 آذار» - وتوّج بالانقلاب العسكري الذي نفذه «حزب الله» يوم 7 مايو 2008 محتلاً بيروت ومهاجماً الجبل. وأدى هذا التطور إلى «اتفاق الدوحة» الذي منح الحزب وحلفاء دمشق «الثلث المعطِّل» في الحكومة اللبنانية، فمكّنهم من الإمساك بالسلطة.يوم 25 مايو 2008 انتخب قائد الجيش اللبناني ميشال سليمان رئيساً للجمهورية، وفي 13 أغسطس (آب) من العام نفسه عُقدت قمة لبنانية ـ سورية في دمشق، وصدر عنها بيان مشترك، تضمّن بنوداً عدّة أهمها: «بحث مصير المفقودين اللبنانيين في سوريا، وترسيم الحدود، ومراجعة الاتفاقات وإنشاء علاقات دبلوماسية، وتبنّي المبادرة العربية للسلام». ولكن لم يتحقق من مضمون البيان، ومن «الحوار الوطني اللبناني» سوى إقامة سفارات وتبادل السفراء فقط.ختاماً، لم يقتنع النظام السوري في يوم من الأيام بالتعامل مع لبنان كدولة مستقلّة. وحتى في ذروة الحرب السورية، لم يكف عن تعقّب المعارضين السوريين الذي فرّوا إلى لبنان، فجنّد عصابات عملت على خطف العشرات منهم ونقلهم إلى سوريا. كذلك سخّر القضاء اللبناني (خصوصاً المحكمة العسكرية) للتشدد في محاكمة السوريين الذين كانوا في عداد «الجيش السوري الحرّ» والتعامل معهم كإرهابيين.أيضاً، كان للنظام السوري - عبر حلفائه اللبنانيين - الدور البارز في تعطيل الاستحقاقات الدستورية، لا سيما الانتخابات الرئاسية والنيابية وتشكيل الحكومات، بمجرد اكتشاف أن النتائج لن تكون لصالحهم. وعليه، قد يكون انتخاب الرئيس اللبناني في 9 يناير (كانون الثاني) المقبل، الاستحقاق الأول الذي يشهده لبنان من خارج تأثير نظام آل الأسد منذ نصف قرن.