خالد المالك: موت الصحافة الورقية هو موت للأدوات لا المحتوى

معنينو حذر من تجاهل الصحافة الورقية بمجرد وصول «العفريت الرقمي»

جانب من اللقاء
جانب من اللقاء
TT

خالد المالك: موت الصحافة الورقية هو موت للأدوات لا المحتوى

جانب من اللقاء
جانب من اللقاء

قال خالد المالك، رئيس مجلس إدارة هيئة الصحافيين السعوديين ورئيس اتحاد الصحافة الخليجية، إن استمرار الصحافة الورقية يعتمد على إعادة النظر في محتواها بما يتماشى مع التحول الرقمي وقدرته على الوصول إلى الفيديو والصوت، مؤكداً أن القول بأفول الصحافة الورقية وانقراضها «غير دقيق».
وأضاف المالك الذي حل ضيفاً على اللقاء الثالث من «ملتقى إيسيسكو الثقافي»، مساء أول من أمس، بالرباط، حول «مستقبل الإعلام: من الصحافة الورقية إلى الصحافة الرقمية»، أننا أمام «حالة متفردة لصناعة المحتوى وتطوره على مستوى الصحافة كاملة».
وشدد المتحدث ذاته على أن تقنيات وتطبيقات الإعلام تتغير وفق التحول التكنولوجي الذي يشهده العالم، معتبراً أن «موت الصحافة الورقية هو موت للأدوات لا المحتوى»، متوقعاً استمرار الصحافة الورقية في العالم نظراً إلى استمرار الكثير من الصحف العالمية في الصدور إلى اليوم.
وأفاد رئيس اتحاد الصحافة الخليجية بأن الصحف الإلكترونية تعتمد فيما تنشره على «سرعتها ولا تعطي اهتماماً للتثبت من صحة الخبر حتى أصبحنا أمام صيغة جديدة من الإعلام أصبح فيها الكل مراسلاً وصحافياً».
وزاد المالك موضحاً أن الشخص العادي أصبح له «دور حيوي لا يمكن تجاهله في صناعة المحتوى الإعلامي»، لافتاً إلى أن «الحركية السريعة التي يشهدها الجانب التقني هي ما يحدد شكل الإعلام ولسنا فيه سوى ممارسين للتقنية». وقال: «الآن نحن أمام مشهد إعلامي غير عادي أظهرت التحولات التقنية أن الحكومات لم يكون بمقدورها مراقبة ما يُنشر والتحكم فيه، ولن يكون المحتوى صنيعة مؤسسات تابعة لها، ولن يرتبط بقيود ولا بقوانين أو متابعة كل ما يُنشر ومحاسبة أصحابه».
وأشار المالك، الذي يشغل أيضاً منصب رئيس تحرير صحيفة «الجزيرة» السعودية منذ أربعين عاماً، إلى أن هناك حاجة لدى الصحافة الإلكترونية لتعلم الأساليب والصيغ التي تقدم من خلالها الأخبار للجمهور، وأكد أنه على الإعلام الجديد الاعتماد على «مؤسسات صحافية متخصصة، لا على هواة».
من جهته، قال محمد الصديق معنينو، الكاتب والإعلامي المغربي، ووكيل وزارة الإعلام الأسبق: «إننا نعيش اليوم حرباً إعلامية مفتوحة وعنيفة»، وأكد أن الصحافة الورقية «لا يمكن تجاهلها بمجرد وصول هذا العفريت الرقمي»، مبرزاً أنها تعيش معركة وجود.
وأضاف معنينو في مداخلة ألقاها بالمناسبة، أن الصحافة الورقية والحزبية قامت بأدوار رئيسية مطلع القرن الماضي، لافتاً إلى أن المواطن المغربي عندما كان يشتري جريدة في عهد الحماية الفرنسية، كان يعد ذلك «عملاً وطنياً ودعماً للحركة الوطنية لتحرير البلاد»، مبرزاً أنها تعيش اندحاراً كبيراً في الآونة الأخيرة.
وسجل معنينو أن الإعلام الرقمي «فتح المجال أمام المواطنين للتعبير والاحتجاج، لأن الدولة استولت على الإعلام العمومي وطوّعته لصالحها، في وقت سمحت فيه التكنولوجيا الحديثة بنشر أنباء كاذبة وأخرى تهم السب والشتم والقذف، من طرف مستخدمين غير مهنيين لا تشملهم أخلاقيات المهنة». وأوضح الإعلامي المغربي أن الهواتف الذكية التي وصفها بـ«اللعينة» تجاوزت نطاق السب والقذف الذي تعجّ به وسائل التواصل الاجتماعي وأضحت «آلة سياسية مكّنت من إسقاط أنظمة وزعزعة أخرى، وجعلت بعض الدول تقوم بقطع التيار من أجل إخماد جذوة الاحتجاجات».
وأبرز معنينو أن التراجع الكبير الذي تعيشه الصحافة الورقية بالمغرب من خلال التراجع الهائل في عدد مبيعاتها، يطرح سؤالاً هو: «هل ما زلنا فعلا بحاجة إلى أحزاب تصدر جرائد تُباع منها عشرات الأعداد، خصوصاً مع دعم الدولة المقدر بـ5 مليارات درهم (نحو 500 مليون دولار سنوياً)؟».
ودعا معنينو إلى الوقوف عند هذه التحديات والصعوبات التي تواجه الصحافة الورقية بالبلاد، مشدداً على ضرورة توفير «إرادة سياسية قوية لدى الحكومة من أحل مراجعة هذا الموضوع»، مسجلاً في الآن ذاته، أن الصحافة الورقية «أمامها بعض الوقت لتحسين وضعيتها، من خلال تغيير أسلوبها وطباعتها لإيجاد طريقة تمكّنها من مواكبة الانفتاح الرقمي، وبث أخلاقيات ومبادئ معينة». وزاد معنينو موضحاً: «الدولة مدعوّة لإيجاد طريقة لمواكبة هذا الانفتاح الرقمي، وبث بعض الأخلاقيات حتى لا تنحرف الأمور وتتحول الصحافة الرقمية إلى مصدر للإزعاج وعدم الاستقرار»، منتقداً في الآن ذاته، التردي الذي تعيشه الصحافة الحزبية التي قال إنها «لم تعد صحافة مهنية تعالج القضايا وهموم المجتمع وتحولت من الممانعة إلى منشورات تمجد الزعيم وحزبه».
وأفاد الإعلامي المغربي بأن هناك «تسونامي» لهذه الوسائل الرقمية الجديدة، بحيث إنها «أصبحت تسيطر باستمرار على المجال الإعلامي وتثير إشكالات وتحديات كبرى»، معبّراً عن أمله في ألا تلجأ الدولة لمحاربة المخالفين بـ«السجن والمتابعات في حق بعض الشباب المندفع بسبب ما ينشره وقد يجد نفسه في متاهة المحاكمات والمتابعات».
يُذكر أن ملتقى «إيسيسكو الثقافي» عرف حضور عدد من المثقفين المغاربة والأجانب، وشهد نقاشاً حول الموضوع الذي أجمعوا على أنه يكتسي صبغة الآنية ويستدعي المزيد من تعميق النقاش بشأنه من أجل بلورة رؤى وتصورات تسهم في إيجاد الصيغة المناسبة لمواكبة الثورة الرقمية والتحديات التي تطرحها، من دون التخلي عن الإعلام الورقي الذي أسدى خدمات كبرى إلى الدول في تعميق الحريات وحماية الحقوق وتعزيز الديمقراطية والتحرر.



100 عامٍ من عاصي الرحباني

عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)
عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)
TT

100 عامٍ من عاصي الرحباني

عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)
عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)

في الرابع من شهر الخِصب وبراعم اللوز والورد، وُلد عاصي الرحباني. كانت البلادُ فكرةً فَتيّة لم تبلغ بعد عامها الثالث. وكانت أنطلياس، مسقط الرأس، قريةً لبنانيةً ساحليّة تتعطّر بزهر الليمون، وتَطربُ لارتطام الموج بصخور شاطئها.
لو قُدّر له أن يبلغ عامه المائة اليوم، لأَبصر عاصي التحوّلات التي أصابت البلاد وقُراها. تلاشت الأحلام، لكنّ «الرحباني الكبير» ثابتٌ كحقيقةٍ مُطلَقة وعَصي على الغياب؛ مقيمٌ في الأمس، متجذّر في الحاضر وممتدّةٌ جذوره إلى كل الآتي من الزمان.


عاصي الرحباني خلال جلسة تمرين ويبدو شقيقه الياس على البيانو (أرشيف Rahbani Productions)

«مهما قلنا عن عاصي قليل، ومهما فعلت الدولة لتكريمه قليل، وهذا يشمل كذلك منصور وفيروز»، يقول المؤلّف والمنتج الموسيقي أسامة الرحباني لـ«الشرق الأوسط» بمناسبة مئويّة عمّه. أما الصحافي والباحث محمود الزيباوي، الذي تعمّق كثيراً في إرث الرحابنة، فيرى أن التكريم الحقيقي يكون بتأليف لجنة تصنّف ما لم يُنشر من لوحاته الغنائية الموجودة في إذاعتَي دمشق ولبنان، وتعمل على نشره.
يقرّ أسامة الرحباني بتقصير العائلة تجاه «الريبرتوار الرحباني الضخم الذي يحتاج إلى تضافر جهود من أجل جَمعه»، متأسفاً على «الأعمال الكثيرة التي راحت في إذاعة الشرق الأدنى». غير أنّ ما انتشر من أغانٍ ومسرحيات وأفلام، على مدى أربعة عقود من عمل الثلاثي الرحباني عاصي ومنصور وفيروز، أصبح ذخيرةً للقرون المقبلة، وليس للقرن الرحباني الأول فحسب.

«فوتي احفظي، قومي سجّلي»
«كان بركاناً يغلي بالعمل... يكتب بسرعة ولا يتوقف عند هاجس صناعة ما هو أجمل، بل يترك السرد يمشي كي لا ينقطع الدفق»، هكذا يتذكّر أسامة عمّه عاصي. وفي بال الزيباوي كذلك، «عاصي هو تجسيدٌ للشغف وللإنسان المهووس بعمله». لم يكن مستغرباً أن يرنّ الهاتف عند أحد أصدقائه الساعة الثالثة فجراً، ليخرج صوت عاصي من السمّاعة قارئاً له ما كتب أو آخذاً رأيه في لحنٍ أنهاه للتوّ.
ووفق ما سمعه الزيباوي، فإن «بعض تمارين السيدة فيروز وتسجيلاتها كان من الممكن أن يمتدّ لـ40 ساعة متواصلة. يعيد التسجيل إذا لم يعجبه تفصيل، وهذا كان يرهقها»، رغم أنه الزوج وأب الأولاد الأربعة، إلا أن «عاصي بقي الأستاذ الذي تزوّج تلميذته»، على حدّ وصف الزيباوي. ومن أكثر الجمل التي تتذكّرها التلميذة عن أستاذها: «فوتي احفظي، قومي سَجّلي». أضنى الأمر فيروز وغالباً ما اعترفت به في الحوارات معها قبل أن تُطلقَ تنهيدةً صامتة: «كان ديكتاتوراً ومتطلّباً وقاسياً ومش سهل الرِضا أبداً... كان صعب كتير بالفن. لمّا يقرر شي يمشي فيه، ما يهمّه مواقفي».


عاصي وفيروز (تويتر)
نعم، كان عاصي الرحباني ديكتاتوراً في الفن وفق كل مَن عاصروه وعملوا معه. «كل العباقرة ديكتاتوريين، وهذا ضروري في الفن»، يقول أسامة الرحباني. ثم إن تلك القسوة لم تأتِ من عدم، فعاصي ومنصور ابنا الوَعر والحرمان.
أثقلت كتفَي عاصي منذ الصغر همومٌ أكبر من سنّه، فتحمّلَ وأخوه مسؤولية العائلة بعد وفاة الوالد. كان السند المعنوي والمادّي لأهل بيته. كمعطفٍ ردّ البردَ عنهم، كما في تلك الليلة العاصفة التي استقل فيها دراجة هوائية وقادها تحت حبال المطر من أنطلياس إلى الدورة، بحثاً عن منصور الذي تأخّر بالعودة من الوظيفة في بيروت. يروي أسامة الرحباني أنها «كانت لحظة مؤثرة جداً بين الأخوين، أبصرا خلالها وضعهما المادي المُذري... لم ينسيا ذلك المشهد أبداً، ومن مواقفَ كتلك استمدّا قوّتهما».
وكما في الصِبا كذلك في الطفولة، عندما كانت تمطر فتدخل المياه إلى المدرسة، كان يظنّ منصور أن الطوفان المذكور في الكتاب المقدّس قد بدأ. يُصاب بالهلَع ويصرخ مطالباً المدرّسين بالذهاب إلى أخيه، فيلاقيه عاصي ويحتضنه مهدّئاً من رَوعه.

«سهرة حبّ»... بالدَين
تعاقبت مواسم العزّ على سنوات عاصي الرحباني. فبعد بدايةٍ متعثّرة وحربٍ شرسة ضد أسلوبه الموسيقي الثائر على القديم، سلك دروب المجد. متسلّحاً بخياله المطرّز بحكايا جدّته غيتا و«عنتريّات» الوالد حنّا عاصي، اخترع قصصاً خفتت بفعلِ سحرِها الأصواتُ المُعترضة. أما لحناً، فابتدعَ نغمات غير مطابقة للنظريات السائدة، و«أوجد تركيبة جديدة لتوزيع الموسيقى العربية»، على ما يشرح أسامة الرحباني.


صورة تجمع عاصي ومنصور الرحباني وفيروز بالموسيقار محمد عبد الوهاب وفريد الأطرش، بحضور بديعة مصابني وفيلمون وهبي ونجيب حنكش (أرشيف Rahbani Productions)
كان عاصي مستعداً للخسارة المادية من أجل الربح الفني. يحكي محمود الزيباوي أنه، ولشدّة مثاليته، «سجّل مسرحية (سهرة حب) مرتَين ولم تعجبه النتيجة، فاقترض مبلغاً من المال ليسجّلها مرة ثالثة». ويضيف أن «أساطير كثيرة نُسجت حول الرحابنة، لكن الأسطورة الحقيقية الوحيدة هي جمال عملهم».
ما كانت لتكتمل أسطورة عاصي، لولا صوت تلك الصبية التي دخلت قفصَه الذهبي نهاد حدّاد، وطارت منه «فيروز».
«أدهشته»، يؤكّد الزيباوي؛ ويستطرد: «لكنّ أحداً منهما لم يعرف كيف يميّز بين نهاد حداد وفيروز»... «هي طبعاً المُلهِمة»، يقول أسامة الرحباني؛ «لمح فيها الشخصية التي لطالما أراد رسمَها، ورأى امرأةً تتجاوب مع تلك الشخصية»، ويضيف أن «عاصي دفع بصوت فيروز إلى الأعلى، فهو في الفن كان عنيفاً ويؤمن بالعصَب. كان يكره الارتخاء الموسيقي ويربط النجاح بالطبع الفني القوي، وهذا موجود عند فيروز».


زفاف عاصي الرحباني ونهاد حداد (فيروز) عام 1955 (تويتر)

دماغٌ بحجم وطن
من عزّ المجد، سرقت جلطة دماغيّة عاصي الرحباني عام 1972. «أكثر ما يثير الحزن أن عاصي مرض وهو في ذروة عطائه وإبداعه، وقد زادت الحرب اللبنانية من مرضه وصعّبت العمل كثيراً»، وفق الزيباوي. لم يكن القلق من الغد الغامض غريباً عليه. فهو ومنذ أودى انفجارٌ في إحدى الكسّارات بحياة زوج خالته يوسف الزيناتي، الذي كان يعتبره صياداً خارقاً واستوحى منه شخصيات لمسرحه، سكنته الأسئلة الحائرة حول الموت وما بعدَه.
الدماغ الذي وصفه الطبيب الفرنسي المعالج بأنه من أكبر ما رأى، عاد ليضيء كقمرٍ ليالي الحصّادين والعاشقين والوطن المشلّع. نهض عاصي ورجع إلى البزُق الذي ورثه عن والده، وإلى نُبله وكرمه الذي يسرد أسامة الرحباني عنهما الكثير.
بعد المرض، لانت قسوة عاصي في العمل وتَضاعفَ كرَمُه المعهود. يقول أسامة الرحباني إن «أقصى لحظات فرحه كانت لحظة العطاء». أعطى من ماله ومن فِكرِه، وعُرف بيدِه الموضوعة دائماً في جيبِه استعداداً لتوزيع النقود على المحتاجين في الشارع. أما داخل البيت، فتجسّد الكرَم عاداتٍ لطيفة وطريفة، كأن يشتري 20 كنزة متشابهة ويوزّعها على رجال العائلة وشبّانها.
خلال سنواته الأخيرة ومع احتدام الحرب، زاد قلق عاصي الرحباني على أفراد العائلة. ما كان يوفّر مزحة أو حكاية ليهدّئ بها خوف الأطفال، كما في ذلك اليوم من صيف 1975 الذي استُهدفت فيه بلدة بكفيا، مصيَف العائلة. يذكر أسامة الرحباني كيف دخل عاصي إلى الغرفة التي تجمّع فيها أولاد العائلة مرتعدين، فبدأ يقلّد الممثلين الأميركيين وهم يُطلقون النار في الأفلام الإيطالية، ليُنسيَهم ما في الخارج من أزيز رصاص حقيقي. وسط الدمار، بنى لهم وطناً من خيالٍ جميل، تماماً كما فعل وما زال يفعل في عامِه المائة، مع اللبنانيين.


عاصي الرحباني (غيتي)