«خونة» للمخرج شون جوليت حول الشباب المغربي الذي لا يهدأ

فيلمه المقبل «طنجة» أسندت بطولته إلى النجمة كريستين سكوت توماس وجيرمي إيرونز

من فيلم «الخونة»
من فيلم «الخونة»
TT

«خونة» للمخرج شون جوليت حول الشباب المغربي الذي لا يهدأ

من فيلم «الخونة»
من فيلم «الخونة»

المعجبون بأفلام المخرج دارين أرونوفسكي سوف يعرفون شون جوليت بوصفه الكاتب المشارك والممثل الأول في فيلم الإثارة النفسية الهندي لعام 1998 «باي». ورغم أدائه كثيرا من الأدوار الداعمة منذ ذلك الحين، بما في ذلك فيلم «قداس الحلم» لأرونوفسكي في عام 2000، قال جوليت إنه بوصفه ممثلا سرعان ما بدأ في «التلاشي والغموض». وفي هذه الأيام، يظل تركيز جوليت الأول خلف الكاميرا.
وجاء فيلمه الروائي الأول بعنوان «الخونة» في عام 2013. الذي جرى تصويره في المغرب، وبصورة غير اعتيادية لمخرج ناطق بالإنجليزية أن يخرج الفيلم باللهجة العامية المغربية، ليجتاز دورات المهرجانات السينمائية، بما في دورة مهرجان كان، ويحظى بإيماءات ترحيب قوية. وكان عرضه الأول خلال الشهر الماضي في المملكة المتحدة في مهرجان «سفر» السينمائي بلندن. وهناك تقابلت صحيفة «الشرق الأوسط» مع المخرج المولود في مدينة بوسطن الأميركية، في الوقت الذي كان يطلب فيه طبقا من الحمص في البار.
انتقل جوليت للحياة في المغرب «من أجل الحب»، منذ 7 أعوام، ويعيش حاليا في مدينة طنجة مع زوجته، وهي فنانة مغربية من أصل فرنسي تدعى ييتو بارادا، برفقة اثنين من بناتهما الصغيرات، ويُعتبر حاليا من المغاربة المحنكين.
يستكشف فيلم «خونة» لجوليت خريج هارفارد مشهد الشباب المغربي، وتأثير المخدرات كالحشيش، من خلال مآثر شخصية الفيلم الرئيسة «مليكة»، وهي فتاة عادية من طنجة ومغنية أولى في فرقة من الفتيات لموسيقى الروك. ويعترف جوليت بأن الشخصية قد تكون أقرب إلى «الخيال العلمي التام أحيانا، ولكن في الوقت ذاته تعبر عن شخص ما يعيش حياة مزدوجة.. وهو أمر على أكثر تقدير مألوف لدى الأطفال».
يقول جوليت إن استخدام موسيقى الروك كمحرك لرواية القصة كان «من قبيل فرض القيم الثقافية الغربية بالكامل على العالم العربي»، معترفا بأن موسيقى الراب أكثر انتشارا في المغرب من حيث محتواها الثقافي، كتعبير عن المظالم الاجتماعية. ولكن الرخصة الفنية كانت عبارة عن إيماءة لتجاربه الشخصية من حيث النشأة في بوسطن خلال فترة الثمانينات، حيث يقول: «كنت أتجول في سيارتي (هوندا) القديمة، أستمع إلى فريق (ذا كلاش)، ومن ثم أصبحت فتى مراهقا مسيسا من خلال التعامل مع مجموعة من قدامى المحاربين في حرب فيتنام، من بين أشياء أخرى».
أما مليكة، الفتاة المسترجلة التي تسرح شعرها على غرار الشخصيات الكرتونية، فإنها تتناقض مع الصورة المعتادة للمرأة المغربية في الفيلم. ولكن كلمات أغاني فرقتها الموسيقية، كما يقول جوليت، «تواجه التساؤلات التي تشغل بال جميع من ينتمون إلى الطبقة العاملة، التي يواجهها أيضا كل من ينتمي للعالم الثالث، من حيث الفساد، والنظام الأبوي، والاحترام، والمستقبل، وما الذي يجعل من المنزل منزلا، وما الذي يجب التخلي عنه».
يقول جوليت إنه عند اختيار مليكة «ذلك المخلوق الذي خرج عن خيالي المراهق»، كان ذلك تحديا. ولكنه عثر على سيدته الأولى، وهي الممثلة السابقة غير المعروفة شيماء بن آشا، من خلال إشارة أدلى بها إليه عارض الأفلام في فريقه. ورغم أن بن آشا فتاة شديدة الاستقامة، كما يقول، فإنه كان يعلم أنها تصلح لمثل ذلك الدور في لمح البصر. وقال: «هناك فتاة في فصل التمثيل عندي.. وكنا فعلا نقوم ببعض الترتيبات بحلول نهاية اختبارها».
يقول جوليت إن تصوير فيلم «الخونة» بدأ فيلما قصيرا في عام 2010، ومن ثم تحول لاحقا إلى فيلم روائي طويل: «إثر رغبة داخلية في رؤية مليكة في دور كبير، ولنرى كذلك ما الذي سوف تصنعه عندما تواجه خصما كبيرا، مثل حفنة الأشرار هناك».
في فيلم «الخونة»، يشاهد أحد المنتجين فرقة مليكة الموسيقية، ويعرض عليهم تسجيل ألبومهم وترتيب جولة موسيقية، بشرط أن يعملوا على توفير التمويل الأساسي. وتبين أن مليكة، التي أقيلت أخيرا من وظيفة في أحد مراكز الاتصالات، تحتاج للمال كذلك لتساعد والديها المثقلين بالأعمال والمحبطين للغاية، وهما على شفا الطرد من منزلهم لعدم سداد الكثير من الفواتير.
ويشير المعنى الضمني للفيلم إلى الإحباطات الاجتماعية المغربية الكبيرة، وكذلك إلى التناقضات غير العادلة في بعض الأحيان فيما بين الجنسين، حيث تعمل والدة مليكة في وظيفة إضافية، وتحمل وحدها، وفي سرية، الجانب الأكبر من الأعباء المالية للأسرة، بينما لا يزال لدى والدها ما يكفي من الوقت للعب الطاولة في المقاهي التي تهيمن عليها الذكورية المغربية.
عقب مقابلتها مع تاجر مخدرات محلي في مرأب والدها، خضعت مليكة لمحاولاته في إقناعها لكي تهرب الحشيش إلى الجبال، وتعود مقابل مكافأة مالية ضخمة. يقول جوليت: «وهنا عندما تصبح الأمور أكثر تعقيدا»، حيث تلتقي مليكة مع آمال، وهي شخصية مختلفة تماما عن مليكة، وتقوم بدورها الممثلة صوفيا إسامي، التي يقول عنها كما يقول جوليت، «شخصية مرحة ولها ثقافتها الخاصة.. تحمل درجة الدكتوراه من مدرسة الحياة الصعبة».
تم التصوير على جبال الريف، حيث يُزرع نصف نبات القنب الذاهب إلى أوروبا، ويؤكد جوليت أن «نقطة عبور كل هذا الحشيش ليست يسيرة. إنه مكان لا يمكن لأحد تصويره.. إلا إذا كنت على معرفة بالأشخاص المناسبين». ولحسن الحظ بالنسبة له ولفريق الإنتاج المرافق له، فقد كانوا يعرفون أحدهم. وعلى غير العادة، حصلوا على «ترحيب رائع ودافئ في جبال الريف المغربية».
يقول جوليت إنه باعتباره مخرجا أميركيا «لم يشعر في أول الأمر بأنه مستعد» لتقديم فيلم يدور حول شخصيات مغربية. ولكن من خلال مركز طنجة السينمائي التابع لزوجته، وهو مركز ثقافي سينمائي غير هادف للربح في طنجة، ومن خلال مشاركاته في دعم «مجتمع 212»، وهي أداة صغيرة لتمويل المشروعات، تعرف على الطبقة العاملة في طنجة.
وعن طريق سيارته «رينج روفر» البالية تعرف جوليت على كثير من عمال إصلاح السيارات، وقال: «بدأت في تفهم الثقافة.. ونما لدي تقدير عميق لها وشغف كبير بها»، يشيد المخرج بالمغرب كثيرا، ويصفه بأنه «بلد الابتسامة المفتوحة واليد الممدودة»، وخصوصا بلدته، «أهل طنجة مثل الأطفال في محياهم، وفي انفتاحهم وتجاوبهم مع الحوار»، على حد وصف جوليت، الذي أضاف أن تصوير الفيلم في تلك المنطقة كان في وقت لاحق «بيئة رائعة.. إنهم ودودون للغاية في طنجة، وإذا سألت أحدهم: هل يمكنني تمديد الكابل الكهربائي من خلال نافذتكم الأمامية، فإنهم يقولون: بالطبع، بكل تأكيد، هل تريد بعض الشاي؟».
وقال إن «واحدة من أكبر العواقب غير المقصودة» لمركز طنجة السينمائي، كانت المقهى السينمائي. «المقاهي، في كثير من المدن بالعالم العربي ليست متاحة للجميع، وخصوصا النساء، والشباب التقدمي، والأطفال الشواذ.. صارت المقاهي مليئة بالمراهقين، ونوع من الأطفال الرائعين من طنجة. يا لها من بلدة صغيرة لديها الكثير لتقدمه من الطرح الثقافي. في واقع الأمر لقد هجرتها الثقافة».
لاحظ جوليت أيضا شيئا آخر حول ذلك التجمع الاجتماعي: «كان هناك أطفال يرتدون سترات الجينز، ويدخنون السجائر، ويتصفحون الإنترنت، ويمسكون بأيدي بعضهم البعض أسفل المناضد. وفي تلك البلاد التي كانت أحوج ما تكون للتغيير الاجتماعي.. هناك كل شيء لدى الناس ليتحركوا، ليشعروا بالاستياء، ليسأموا من حياتهم، ولينفجروا، وليخافوا، أليس كذلك؟»، أقول الحقيقة من منطلق القوة. ولكن، كما يضيف: «بدلا من ذلك، فإن أولئك الأطفال كانوا يتحركون جنبا إلى جنب في حياتهم النائمة».
يشعر جوليت بالإيجابية حيال المشهد السينمائي الداخلي الحالي في المغرب، حيث يقول: «إنه يبدأ في الحدوث شيئا فشيئا»، مشيدا على وجه الخصوص بنبيل عيوش («جياد الرب» 2012) وشقيقه هشام عيوش، لأجل صناعة «أفلام غير تقليدية يملأها التحدي». ورغم التقدم الذي تشهده ساحة الأفلام المغربية، مع ذلك، لا تزال هناك صعوبة في وصول الممثلين إلى أوروبا لحضور مهرجانات الأفلام. يقول جوليت مشتكيا: «إن بعضا من دول اتفاقية (الشنغن) ليست بالمرونة التي يجب أن تكون عليها فيما يتعلق بسفر الممثلين المغاربة. في مدينة كان، أوقفوا بعضا من طاقم فيلم (الخونة) في المطار، رغم حصولهم على التأشيرة».
تم إنتاج فيلم «الخونة» بميزانية صغيرة، وكانت لها إيجابياتها وسلبياتها، كما يقول جوليت: «إننا نصور في العالم الحقيقي.. يسخر منك الواقع بكافة صور الصعوبات والمعوقات، ثم يمنحك الجوائز غير المتوقعة. إننا نعشق العمل بتلك الطريقة»، كما قال جوليت.
فيلمه المقبل «طنجة»، لا يزال في مرحلة التمويل واختيار الممثلين وقد أوليت أدواره إلى النجمة كريستين سكوت توماس وجيرمي إيرونز، وسوف يكون «كائنا شديد الاختلاف»، على حد قوله. وفيلم الإثارة الدولي ذو المضمون السياسي لعام 2004 «يتطلب الكثير من التحكم بين الأطر في بعض الحالات». ورغم ذلك أضاف المخرج: «سوف أتذكر دروس السينما الواقعية بصرف النظر عن الحجم الذي قد أكون محظوظا للعمل من خلاله. هناك أشياء سوف يكون من الغباء الشديد عدم الاحتفاظ بها».



100 عامٍ من عاصي الرحباني

عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)
عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)
TT

100 عامٍ من عاصي الرحباني

عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)
عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)

في الرابع من شهر الخِصب وبراعم اللوز والورد، وُلد عاصي الرحباني. كانت البلادُ فكرةً فَتيّة لم تبلغ بعد عامها الثالث. وكانت أنطلياس، مسقط الرأس، قريةً لبنانيةً ساحليّة تتعطّر بزهر الليمون، وتَطربُ لارتطام الموج بصخور شاطئها.
لو قُدّر له أن يبلغ عامه المائة اليوم، لأَبصر عاصي التحوّلات التي أصابت البلاد وقُراها. تلاشت الأحلام، لكنّ «الرحباني الكبير» ثابتٌ كحقيقةٍ مُطلَقة وعَصي على الغياب؛ مقيمٌ في الأمس، متجذّر في الحاضر وممتدّةٌ جذوره إلى كل الآتي من الزمان.


عاصي الرحباني خلال جلسة تمرين ويبدو شقيقه الياس على البيانو (أرشيف Rahbani Productions)

«مهما قلنا عن عاصي قليل، ومهما فعلت الدولة لتكريمه قليل، وهذا يشمل كذلك منصور وفيروز»، يقول المؤلّف والمنتج الموسيقي أسامة الرحباني لـ«الشرق الأوسط» بمناسبة مئويّة عمّه. أما الصحافي والباحث محمود الزيباوي، الذي تعمّق كثيراً في إرث الرحابنة، فيرى أن التكريم الحقيقي يكون بتأليف لجنة تصنّف ما لم يُنشر من لوحاته الغنائية الموجودة في إذاعتَي دمشق ولبنان، وتعمل على نشره.
يقرّ أسامة الرحباني بتقصير العائلة تجاه «الريبرتوار الرحباني الضخم الذي يحتاج إلى تضافر جهود من أجل جَمعه»، متأسفاً على «الأعمال الكثيرة التي راحت في إذاعة الشرق الأدنى». غير أنّ ما انتشر من أغانٍ ومسرحيات وأفلام، على مدى أربعة عقود من عمل الثلاثي الرحباني عاصي ومنصور وفيروز، أصبح ذخيرةً للقرون المقبلة، وليس للقرن الرحباني الأول فحسب.

«فوتي احفظي، قومي سجّلي»
«كان بركاناً يغلي بالعمل... يكتب بسرعة ولا يتوقف عند هاجس صناعة ما هو أجمل، بل يترك السرد يمشي كي لا ينقطع الدفق»، هكذا يتذكّر أسامة عمّه عاصي. وفي بال الزيباوي كذلك، «عاصي هو تجسيدٌ للشغف وللإنسان المهووس بعمله». لم يكن مستغرباً أن يرنّ الهاتف عند أحد أصدقائه الساعة الثالثة فجراً، ليخرج صوت عاصي من السمّاعة قارئاً له ما كتب أو آخذاً رأيه في لحنٍ أنهاه للتوّ.
ووفق ما سمعه الزيباوي، فإن «بعض تمارين السيدة فيروز وتسجيلاتها كان من الممكن أن يمتدّ لـ40 ساعة متواصلة. يعيد التسجيل إذا لم يعجبه تفصيل، وهذا كان يرهقها»، رغم أنه الزوج وأب الأولاد الأربعة، إلا أن «عاصي بقي الأستاذ الذي تزوّج تلميذته»، على حدّ وصف الزيباوي. ومن أكثر الجمل التي تتذكّرها التلميذة عن أستاذها: «فوتي احفظي، قومي سَجّلي». أضنى الأمر فيروز وغالباً ما اعترفت به في الحوارات معها قبل أن تُطلقَ تنهيدةً صامتة: «كان ديكتاتوراً ومتطلّباً وقاسياً ومش سهل الرِضا أبداً... كان صعب كتير بالفن. لمّا يقرر شي يمشي فيه، ما يهمّه مواقفي».


عاصي وفيروز (تويتر)
نعم، كان عاصي الرحباني ديكتاتوراً في الفن وفق كل مَن عاصروه وعملوا معه. «كل العباقرة ديكتاتوريين، وهذا ضروري في الفن»، يقول أسامة الرحباني. ثم إن تلك القسوة لم تأتِ من عدم، فعاصي ومنصور ابنا الوَعر والحرمان.
أثقلت كتفَي عاصي منذ الصغر همومٌ أكبر من سنّه، فتحمّلَ وأخوه مسؤولية العائلة بعد وفاة الوالد. كان السند المعنوي والمادّي لأهل بيته. كمعطفٍ ردّ البردَ عنهم، كما في تلك الليلة العاصفة التي استقل فيها دراجة هوائية وقادها تحت حبال المطر من أنطلياس إلى الدورة، بحثاً عن منصور الذي تأخّر بالعودة من الوظيفة في بيروت. يروي أسامة الرحباني أنها «كانت لحظة مؤثرة جداً بين الأخوين، أبصرا خلالها وضعهما المادي المُذري... لم ينسيا ذلك المشهد أبداً، ومن مواقفَ كتلك استمدّا قوّتهما».
وكما في الصِبا كذلك في الطفولة، عندما كانت تمطر فتدخل المياه إلى المدرسة، كان يظنّ منصور أن الطوفان المذكور في الكتاب المقدّس قد بدأ. يُصاب بالهلَع ويصرخ مطالباً المدرّسين بالذهاب إلى أخيه، فيلاقيه عاصي ويحتضنه مهدّئاً من رَوعه.

«سهرة حبّ»... بالدَين
تعاقبت مواسم العزّ على سنوات عاصي الرحباني. فبعد بدايةٍ متعثّرة وحربٍ شرسة ضد أسلوبه الموسيقي الثائر على القديم، سلك دروب المجد. متسلّحاً بخياله المطرّز بحكايا جدّته غيتا و«عنتريّات» الوالد حنّا عاصي، اخترع قصصاً خفتت بفعلِ سحرِها الأصواتُ المُعترضة. أما لحناً، فابتدعَ نغمات غير مطابقة للنظريات السائدة، و«أوجد تركيبة جديدة لتوزيع الموسيقى العربية»، على ما يشرح أسامة الرحباني.


صورة تجمع عاصي ومنصور الرحباني وفيروز بالموسيقار محمد عبد الوهاب وفريد الأطرش، بحضور بديعة مصابني وفيلمون وهبي ونجيب حنكش (أرشيف Rahbani Productions)
كان عاصي مستعداً للخسارة المادية من أجل الربح الفني. يحكي محمود الزيباوي أنه، ولشدّة مثاليته، «سجّل مسرحية (سهرة حب) مرتَين ولم تعجبه النتيجة، فاقترض مبلغاً من المال ليسجّلها مرة ثالثة». ويضيف أن «أساطير كثيرة نُسجت حول الرحابنة، لكن الأسطورة الحقيقية الوحيدة هي جمال عملهم».
ما كانت لتكتمل أسطورة عاصي، لولا صوت تلك الصبية التي دخلت قفصَه الذهبي نهاد حدّاد، وطارت منه «فيروز».
«أدهشته»، يؤكّد الزيباوي؛ ويستطرد: «لكنّ أحداً منهما لم يعرف كيف يميّز بين نهاد حداد وفيروز»... «هي طبعاً المُلهِمة»، يقول أسامة الرحباني؛ «لمح فيها الشخصية التي لطالما أراد رسمَها، ورأى امرأةً تتجاوب مع تلك الشخصية»، ويضيف أن «عاصي دفع بصوت فيروز إلى الأعلى، فهو في الفن كان عنيفاً ويؤمن بالعصَب. كان يكره الارتخاء الموسيقي ويربط النجاح بالطبع الفني القوي، وهذا موجود عند فيروز».


زفاف عاصي الرحباني ونهاد حداد (فيروز) عام 1955 (تويتر)

دماغٌ بحجم وطن
من عزّ المجد، سرقت جلطة دماغيّة عاصي الرحباني عام 1972. «أكثر ما يثير الحزن أن عاصي مرض وهو في ذروة عطائه وإبداعه، وقد زادت الحرب اللبنانية من مرضه وصعّبت العمل كثيراً»، وفق الزيباوي. لم يكن القلق من الغد الغامض غريباً عليه. فهو ومنذ أودى انفجارٌ في إحدى الكسّارات بحياة زوج خالته يوسف الزيناتي، الذي كان يعتبره صياداً خارقاً واستوحى منه شخصيات لمسرحه، سكنته الأسئلة الحائرة حول الموت وما بعدَه.
الدماغ الذي وصفه الطبيب الفرنسي المعالج بأنه من أكبر ما رأى، عاد ليضيء كقمرٍ ليالي الحصّادين والعاشقين والوطن المشلّع. نهض عاصي ورجع إلى البزُق الذي ورثه عن والده، وإلى نُبله وكرمه الذي يسرد أسامة الرحباني عنهما الكثير.
بعد المرض، لانت قسوة عاصي في العمل وتَضاعفَ كرَمُه المعهود. يقول أسامة الرحباني إن «أقصى لحظات فرحه كانت لحظة العطاء». أعطى من ماله ومن فِكرِه، وعُرف بيدِه الموضوعة دائماً في جيبِه استعداداً لتوزيع النقود على المحتاجين في الشارع. أما داخل البيت، فتجسّد الكرَم عاداتٍ لطيفة وطريفة، كأن يشتري 20 كنزة متشابهة ويوزّعها على رجال العائلة وشبّانها.
خلال سنواته الأخيرة ومع احتدام الحرب، زاد قلق عاصي الرحباني على أفراد العائلة. ما كان يوفّر مزحة أو حكاية ليهدّئ بها خوف الأطفال، كما في ذلك اليوم من صيف 1975 الذي استُهدفت فيه بلدة بكفيا، مصيَف العائلة. يذكر أسامة الرحباني كيف دخل عاصي إلى الغرفة التي تجمّع فيها أولاد العائلة مرتعدين، فبدأ يقلّد الممثلين الأميركيين وهم يُطلقون النار في الأفلام الإيطالية، ليُنسيَهم ما في الخارج من أزيز رصاص حقيقي. وسط الدمار، بنى لهم وطناً من خيالٍ جميل، تماماً كما فعل وما زال يفعل في عامِه المائة، مع اللبنانيين.


عاصي الرحباني (غيتي)