نجم الراب البريطاني «ستورمزي» يحقق نجاحاً تلو آخر ويعكس مخاوف مجتمعه

مغني الراب البريطاني ستورمزي (رويترز)
مغني الراب البريطاني ستورمزي (رويترز)
TT

نجم الراب البريطاني «ستورمزي» يحقق نجاحاً تلو آخر ويعكس مخاوف مجتمعه

مغني الراب البريطاني ستورمزي (رويترز)
مغني الراب البريطاني ستورمزي (رويترز)

أثار ضجة كبيرة عندما وقف أمام 100 ألف من عشاقه في مهرجان «جلاستنبري» الشهير منتصف عام 2019، وقد ارتدى سترة واقية ضد الطعن من تصميم فنان الشوارع المعروف «بانكسي».
وبعيداً عن خشبة المسرح، يفضّل نجم موسيقى الراب الشاب «ستورمزي» (26 عاماً) أن يكون على طبيعته، حيث نراه في أحد الأيام الباردة في شهر ديسمبر (كانون الأول) داخل استوديو تسجيل بمنطقة «تشيزيك» في غرب لندن، وهو يرتدي نعلين مبطنين.
وفي حوار مع وكالة الأنباء الألمانية يقول ستورمزي ضاحكاً: «أوصي باستخدامها، فهي دافئة جداً». كما أن المحيطين به عادة ما يتأثرون بما يتمتع به من مزاج جيد وطبيعة تتسم بالود.
وتصدر الموسيقي الشاب المتحدر من لندن قوائم أفضل الأغنيات في بريطانيا مع إطلاقه أول ألبوماته الغنائية، الذي حمل اسم «جانج ساينز آند براير» في فبراير (شباط) من عام.2017 أما ثاني ألبوم له، الذي حمل اسم «هيفي إذ ذا هيد» والذي أطلقه في ديسمبر (كانون الأول) الماضي، فيلمح إلى ثقل حجمه الموسيقي بعدما فاز بالكثير من الجوائز، وحصل على كثير من الترشيحات.
ويقول الفنان الشاب: «أتعامل مع الأعباء التي أواجهها، وأواجه المهام (بقوة)»، ويضيف سريعاً أن هذه المهام «مخيفة... وشاقة وجارفة».
وفي الواقع، يعتبر ستورمزي، واسمه الحقيقي مايكل ايبينازر كوادجو أوماري أوو جونيور، نموذجاً يُحتذى به، وقد وصفته مجلة «تايم» الأميركية بأنه «قائد الجيل القادم».
ولكن ستورمزي يرحب أيضاً بهذه الجوائز، حيث يقول: «أنا في قمة السعادة... فأنا لم أصل لما وصلت إليه بين عشية وضحاها، ولكنني صليت واجتهدت من أجله».
وظهر ستورمزي في سترة أخرى واقية ضد الطعنات على غلاف ألبومه الثاني، ويوضح المغني الشهير أن ذلك بيان حول المشكلة الضخمة التي تعيشها بريطانيا، والمتمثلة في انتشار جرائم الطعن.
ويقول ستورمزي إن القضية متأصلة بعمق في المجتمع والأعراق والاقتصاد في بريطانيا.
ويضيف: «إنها مشكلة أعمق بكثير من وجود مغني راب يرتدي سترة واقية ضد الطعنات، ويلقي بياناً. الأمر أعمق بكثير من مجرد أغنية، وأعمق بكثير من نشر ألف شرطي في الشوارع... ليسد لدي إجابات».
والسؤال المطروح هو، هل تملك السياسة حلاً؟ وأعرب ستورمزي عن دعمه لحزب العمال قبيل الانتخابات المبكرة التي جرت في بريطانيا في ديسمبر (كانون الأول) 2019.
ويقول ستورمزي إن هناك «قائمة طويلة جدا» من المشاكل التي يجب معالجتها في البلاد، «وأنا شخصياً أرغب في أن أرى المحرومين يتمتعون بميزة أكبر قليلاً، وأن تحظى الشريحة الأضعف بقدرات أكبر قليلاً».
من ناحية أخرى، يوضح ستورمزي أنه ليس لديه كثير من الوقت لزعيم حزب المحافظين، بوريس جونسون، رغم ذلك، فهو يعتقد «أن ذلك لا يهم (جونسون) كثيراً». وكان ستورمزي هتف بالفعل أمام جمهوره في مهرجان «جلاستنبري» برأيه في رئيس الوزراء، قائلاً: «عليك اللعنة يا بوريس».
ولم يكن ذلك أول هجوم له على حزب المحافظين، فكان ستورمزي صاح أثناء مشاركته في حفل جوائز «بريت أووردز» في عام 2018. قائلاً: «أنت يا تيريزا ماي (رئيسة الوزراء البريطانية السابقة)، أين هي أموال غرينفيل؟»، وذلك في إشارة إلى 72 شخصاً لقوا حتفهم عندما اشتعلت النيران في مجموعة من الشقق السكنية التي كانت دون المواصفات في منتصف عام 2017، ولا يزال أقارب الضحايا ينتظرون التعويضات.
وأحياناً يرى ستورمزي، وهو الحائز على اثنتين من جوائز «بريت»، أنه من «القهر ومن المثبط للعزيمة» أن تقريباً كل ما يقوله أو يغنيه أو يغرد به على مواقع التواصل الاجتماعي، يحظى بكثير من الاهتمام.
وعلى النقيض من شخصية مغني الراب، التي يكون خلالها ستورمزي شأنه شأن الكثير من مغنيي الراب، يغني بصوت عالٍ مستخدماً كلمات كبيرة وجريئة، فهو أكثر تواضعا وتأملا عندما يكون بمفرده.
ويؤكد لنا الموسيقي الشاب، الذي قدم أغنية فردية تحمل اسم «أون إت» مع النجم البريطاني الشهير إد شيران (28 عاماً) في الألبوم الجديد، فلطالما سعى النجوم للاشتراك معه في أعمال فنية، أنه لا يريد أن يترك نفسه لتأخذه الشهرة إلا بأقل قدر ممكن.
ويقول بلهجة سكان لندن: «بقدر ما أحاول أن أكون موسيقياً رائعاً، أحاول أن أحافظ على الشخص نفسه الذي كنت عليه». ويبدو أنه نجح في ذلك، على الأقل حتى الآن.



100 عامٍ من عاصي الرحباني

عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)
عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)
TT

100 عامٍ من عاصي الرحباني

عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)
عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)

في الرابع من شهر الخِصب وبراعم اللوز والورد، وُلد عاصي الرحباني. كانت البلادُ فكرةً فَتيّة لم تبلغ بعد عامها الثالث. وكانت أنطلياس، مسقط الرأس، قريةً لبنانيةً ساحليّة تتعطّر بزهر الليمون، وتَطربُ لارتطام الموج بصخور شاطئها.
لو قُدّر له أن يبلغ عامه المائة اليوم، لأَبصر عاصي التحوّلات التي أصابت البلاد وقُراها. تلاشت الأحلام، لكنّ «الرحباني الكبير» ثابتٌ كحقيقةٍ مُطلَقة وعَصي على الغياب؛ مقيمٌ في الأمس، متجذّر في الحاضر وممتدّةٌ جذوره إلى كل الآتي من الزمان.


عاصي الرحباني خلال جلسة تمرين ويبدو شقيقه الياس على البيانو (أرشيف Rahbani Productions)

«مهما قلنا عن عاصي قليل، ومهما فعلت الدولة لتكريمه قليل، وهذا يشمل كذلك منصور وفيروز»، يقول المؤلّف والمنتج الموسيقي أسامة الرحباني لـ«الشرق الأوسط» بمناسبة مئويّة عمّه. أما الصحافي والباحث محمود الزيباوي، الذي تعمّق كثيراً في إرث الرحابنة، فيرى أن التكريم الحقيقي يكون بتأليف لجنة تصنّف ما لم يُنشر من لوحاته الغنائية الموجودة في إذاعتَي دمشق ولبنان، وتعمل على نشره.
يقرّ أسامة الرحباني بتقصير العائلة تجاه «الريبرتوار الرحباني الضخم الذي يحتاج إلى تضافر جهود من أجل جَمعه»، متأسفاً على «الأعمال الكثيرة التي راحت في إذاعة الشرق الأدنى». غير أنّ ما انتشر من أغانٍ ومسرحيات وأفلام، على مدى أربعة عقود من عمل الثلاثي الرحباني عاصي ومنصور وفيروز، أصبح ذخيرةً للقرون المقبلة، وليس للقرن الرحباني الأول فحسب.

«فوتي احفظي، قومي سجّلي»
«كان بركاناً يغلي بالعمل... يكتب بسرعة ولا يتوقف عند هاجس صناعة ما هو أجمل، بل يترك السرد يمشي كي لا ينقطع الدفق»، هكذا يتذكّر أسامة عمّه عاصي. وفي بال الزيباوي كذلك، «عاصي هو تجسيدٌ للشغف وللإنسان المهووس بعمله». لم يكن مستغرباً أن يرنّ الهاتف عند أحد أصدقائه الساعة الثالثة فجراً، ليخرج صوت عاصي من السمّاعة قارئاً له ما كتب أو آخذاً رأيه في لحنٍ أنهاه للتوّ.
ووفق ما سمعه الزيباوي، فإن «بعض تمارين السيدة فيروز وتسجيلاتها كان من الممكن أن يمتدّ لـ40 ساعة متواصلة. يعيد التسجيل إذا لم يعجبه تفصيل، وهذا كان يرهقها»، رغم أنه الزوج وأب الأولاد الأربعة، إلا أن «عاصي بقي الأستاذ الذي تزوّج تلميذته»، على حدّ وصف الزيباوي. ومن أكثر الجمل التي تتذكّرها التلميذة عن أستاذها: «فوتي احفظي، قومي سَجّلي». أضنى الأمر فيروز وغالباً ما اعترفت به في الحوارات معها قبل أن تُطلقَ تنهيدةً صامتة: «كان ديكتاتوراً ومتطلّباً وقاسياً ومش سهل الرِضا أبداً... كان صعب كتير بالفن. لمّا يقرر شي يمشي فيه، ما يهمّه مواقفي».


عاصي وفيروز (تويتر)
نعم، كان عاصي الرحباني ديكتاتوراً في الفن وفق كل مَن عاصروه وعملوا معه. «كل العباقرة ديكتاتوريين، وهذا ضروري في الفن»، يقول أسامة الرحباني. ثم إن تلك القسوة لم تأتِ من عدم، فعاصي ومنصور ابنا الوَعر والحرمان.
أثقلت كتفَي عاصي منذ الصغر همومٌ أكبر من سنّه، فتحمّلَ وأخوه مسؤولية العائلة بعد وفاة الوالد. كان السند المعنوي والمادّي لأهل بيته. كمعطفٍ ردّ البردَ عنهم، كما في تلك الليلة العاصفة التي استقل فيها دراجة هوائية وقادها تحت حبال المطر من أنطلياس إلى الدورة، بحثاً عن منصور الذي تأخّر بالعودة من الوظيفة في بيروت. يروي أسامة الرحباني أنها «كانت لحظة مؤثرة جداً بين الأخوين، أبصرا خلالها وضعهما المادي المُذري... لم ينسيا ذلك المشهد أبداً، ومن مواقفَ كتلك استمدّا قوّتهما».
وكما في الصِبا كذلك في الطفولة، عندما كانت تمطر فتدخل المياه إلى المدرسة، كان يظنّ منصور أن الطوفان المذكور في الكتاب المقدّس قد بدأ. يُصاب بالهلَع ويصرخ مطالباً المدرّسين بالذهاب إلى أخيه، فيلاقيه عاصي ويحتضنه مهدّئاً من رَوعه.

«سهرة حبّ»... بالدَين
تعاقبت مواسم العزّ على سنوات عاصي الرحباني. فبعد بدايةٍ متعثّرة وحربٍ شرسة ضد أسلوبه الموسيقي الثائر على القديم، سلك دروب المجد. متسلّحاً بخياله المطرّز بحكايا جدّته غيتا و«عنتريّات» الوالد حنّا عاصي، اخترع قصصاً خفتت بفعلِ سحرِها الأصواتُ المُعترضة. أما لحناً، فابتدعَ نغمات غير مطابقة للنظريات السائدة، و«أوجد تركيبة جديدة لتوزيع الموسيقى العربية»، على ما يشرح أسامة الرحباني.


صورة تجمع عاصي ومنصور الرحباني وفيروز بالموسيقار محمد عبد الوهاب وفريد الأطرش، بحضور بديعة مصابني وفيلمون وهبي ونجيب حنكش (أرشيف Rahbani Productions)
كان عاصي مستعداً للخسارة المادية من أجل الربح الفني. يحكي محمود الزيباوي أنه، ولشدّة مثاليته، «سجّل مسرحية (سهرة حب) مرتَين ولم تعجبه النتيجة، فاقترض مبلغاً من المال ليسجّلها مرة ثالثة». ويضيف أن «أساطير كثيرة نُسجت حول الرحابنة، لكن الأسطورة الحقيقية الوحيدة هي جمال عملهم».
ما كانت لتكتمل أسطورة عاصي، لولا صوت تلك الصبية التي دخلت قفصَه الذهبي نهاد حدّاد، وطارت منه «فيروز».
«أدهشته»، يؤكّد الزيباوي؛ ويستطرد: «لكنّ أحداً منهما لم يعرف كيف يميّز بين نهاد حداد وفيروز»... «هي طبعاً المُلهِمة»، يقول أسامة الرحباني؛ «لمح فيها الشخصية التي لطالما أراد رسمَها، ورأى امرأةً تتجاوب مع تلك الشخصية»، ويضيف أن «عاصي دفع بصوت فيروز إلى الأعلى، فهو في الفن كان عنيفاً ويؤمن بالعصَب. كان يكره الارتخاء الموسيقي ويربط النجاح بالطبع الفني القوي، وهذا موجود عند فيروز».


زفاف عاصي الرحباني ونهاد حداد (فيروز) عام 1955 (تويتر)

دماغٌ بحجم وطن
من عزّ المجد، سرقت جلطة دماغيّة عاصي الرحباني عام 1972. «أكثر ما يثير الحزن أن عاصي مرض وهو في ذروة عطائه وإبداعه، وقد زادت الحرب اللبنانية من مرضه وصعّبت العمل كثيراً»، وفق الزيباوي. لم يكن القلق من الغد الغامض غريباً عليه. فهو ومنذ أودى انفجارٌ في إحدى الكسّارات بحياة زوج خالته يوسف الزيناتي، الذي كان يعتبره صياداً خارقاً واستوحى منه شخصيات لمسرحه، سكنته الأسئلة الحائرة حول الموت وما بعدَه.
الدماغ الذي وصفه الطبيب الفرنسي المعالج بأنه من أكبر ما رأى، عاد ليضيء كقمرٍ ليالي الحصّادين والعاشقين والوطن المشلّع. نهض عاصي ورجع إلى البزُق الذي ورثه عن والده، وإلى نُبله وكرمه الذي يسرد أسامة الرحباني عنهما الكثير.
بعد المرض، لانت قسوة عاصي في العمل وتَضاعفَ كرَمُه المعهود. يقول أسامة الرحباني إن «أقصى لحظات فرحه كانت لحظة العطاء». أعطى من ماله ومن فِكرِه، وعُرف بيدِه الموضوعة دائماً في جيبِه استعداداً لتوزيع النقود على المحتاجين في الشارع. أما داخل البيت، فتجسّد الكرَم عاداتٍ لطيفة وطريفة، كأن يشتري 20 كنزة متشابهة ويوزّعها على رجال العائلة وشبّانها.
خلال سنواته الأخيرة ومع احتدام الحرب، زاد قلق عاصي الرحباني على أفراد العائلة. ما كان يوفّر مزحة أو حكاية ليهدّئ بها خوف الأطفال، كما في ذلك اليوم من صيف 1975 الذي استُهدفت فيه بلدة بكفيا، مصيَف العائلة. يذكر أسامة الرحباني كيف دخل عاصي إلى الغرفة التي تجمّع فيها أولاد العائلة مرتعدين، فبدأ يقلّد الممثلين الأميركيين وهم يُطلقون النار في الأفلام الإيطالية، ليُنسيَهم ما في الخارج من أزيز رصاص حقيقي. وسط الدمار، بنى لهم وطناً من خيالٍ جميل، تماماً كما فعل وما زال يفعل في عامِه المائة، مع اللبنانيين.


عاصي الرحباني (غيتي)