بمجموعة هندسية... عزة فهمي تدخل عصر المماليك

عادة ما تحمل مجموعات الحلي والمجوهرات التي تطلقها الفنانة عزة فهمي، هوية خاصة تبحث في فلسفة إنسانية تتخطى المفهوم الوظيفي للزينة لتصل إلى مستويات جمالية تعكس التناغم بين الروح والجسد. وقد سبق أن دخلت المصممة في تجارب ناجحة لتوظيف الخط العربي وأشعار إيليا أبو ماضي، وأحمد رامي، وفدوى طوقان. واليوم تعود إلى تقديم مجموعة جديدة من الحلي تحمل اسم «مملوك»، مستوحاة كما يشي عنوانها من عصر المماليك الذين حكموا مصر ما بين أعوام 1250 – 1517، وتركوا آثارهم في بعض المباني في أحياء القاهرة القديمة التي لا تزال تكتنز بالكثير من الملامح الفنية في القباب، والمآذن، ونقوش الرخام الملون، والجص المذهب، والحجر المنحوت، والخشب المرصع بالأحجار الذي يشبه تيجان العرائس، حيث يقف خلف هذا الجمال أيادٍ ماهرة. جاء شغف المصممة بهذه الفترة التاريخية بعد أن فُتحت لها أبواب بعض هذه المعالم الخفية بشكل حصري من قبل صديقة لها تعمل في متحف «فكتوريا أند ألبرت» بلندن. والنتيجة، جاءت المجموعة حصيلة تراكمات زمنية ومعرفية وعاطفية نضجت وظهرت بصيغة استثنائية تُمسك بالماضي بيد قوية.
- ورشة أسطى رمضان
تقول عزة فهمي، إنها وجدت في عناصر عمارة من العصر المملوكي منجماً غنياً، استلهمت منه الكثير في مجموعتها الجديدة. بدأت العمل عليها في ورشة أسطى رمضان الذي تعود علاقتها به إلى أوائل السبعينات من القرن الماضي. ففي هذا التاريخ بدأت أول خيوط الحكاية في غرفة صغيرة، تقع في الطابق الثاني من إحدى البنايات في حي خان الخليلي. وكانت الشابة اليافعة يومذاك هي الوحيدة التي تتدرب في هذه الورشة التي كانت قصراً على الرجال. وقد طلب منها الأسطى يومها أن تجلس قبالة النافذة المطلة على شارع الصاغة، وحين رفعت رأسها اتجه بصرها نحو منطقة النحّاسين (صانعو النحاس) ووقعت عيناها على قبة كبيرة مزينة بنقش بالخط الكوفي في مجمع السلطان المنصور قلاوون الذي يضم أيضاً مستشفى برمستان الشهير. وقد أثار هذا المنظر السؤال الحاسم الذي قادها بعد ذلك إلى ما صممته من حلي ومجوهرات، وهو: لماذا لا أستخدم الخط العربي في الحلي كما استخدمه المماليك في تزيين عمارتهم؟
- جولات في القاهرة القديمة
وتواصل المصممة عزة استدعاء ذاكرتها وتتحدث عن الوقت الثمين الذي قضته في التدريب في ورشة الأسطى رمضان، وعن رحلاتها وجولاتها في الحي القديم وداخل البيوت القديمة والسرادق والمساجد، والتقاط هذه الملامح وتوثيقها بالتصوير والرسم، ثم أرشفتها وحفظها بعد العودة إلى البيت والاستعانة بها بعد ذلك عند وضع الخطوط الأولية للحلي. وعندما نضجت التجربة جاء الوقت لإطلاق علامة تجارية خاصة بها ولم تجد أفضل من «الرنك» المملوكي لتستلهم منه الشعار وهو الختم أو الشارة الخاصة بالملوك والأمراء سواء تلك التي اشتهروا بها بشكل شخصي مثل رنك الأسد أو الفهد الذي عرف به السلطان المملوكي الظاهر بيبرس، أو التي وضعوها على مبانيهم وأضرحتهم، وعلى الأعمال الفنية التي أنتجت في فترة حكمهم. وبذلك تبنت المصممة هذا الشعار الذي يحمل اسمها مع اسم القاهرة وعبارة «صُنع في مصر».
وتصل المصممة في ذكرياتها إلى منتصف التسعينات عندما كانت تجلس في منزلها في حي الدقي بالجيزة ترتشف الشاي الساخن في هدأة البيت، وتبدأ رحلتها في متابعة برنامج الكاتب جمال الغيطاني «تجليات مصرية» الذي كرس قلبه وروحه للتعريف بحي يضم بين جنباته آثار عمارة عصر المماليك عبر جولات في حي الدرب الأحمر، الذي يبدأ من القلعة وينتهي عند باب زويلة (البوابة الجنوبية للقاهرة)، أو بوابة المتولي كما يطلقون عليها وهو أحد أبواب القاهرة القديمة، أحد الشهود على قوة المماليك وتعاظم نفوذهم، وأيضاً نهايتهم عندما أعدم عند هذا الباب آخر سلاطينهم (طومان باي) بعد دخول السلطان العثماني سليم الأول وضم مصر إلى الدولة العثمانية. وقد نجح الغيطاني في نقل أجواء القاهرة التاريخية بتفاصيلها اليومية وبطريقة مشوقة وسرد ممتع؛ وهذا ما جعلها تتأثر بهذا البرنامج وتقوم بجولات في الشوارع والحواري القديمة، وتنظر إلى كل التفاصيل بمنظور مختلف وعلاقة أكثر عمقاً.
- استدعاء الذاكرة
وتتوقف المصممة في سرد حكايتها عند زياراتها للسفارة المصرية في لندن لحضور حفل استقبال لمجموعة من السيدات المصريات احتفالاً بإنجازاتهن البارزة. في هذا الحفل اقتربت منها أمنية عبد البر، الحاصلة على الدكتوراه في العمارة المملوكية والتي تعمل في متحف فيكتوريا وألبرت اللندني، وسألتها عن إمكانية المشاركة في مشروع إنقاذ منبر المملوك في القاهرة. كما دعتها لتصميم قطعة مستوحاة من المنبر، وهنا تداعى إلى ذاكرتها كل ما اختزنته من معرفة وحب وشغف بهذا العصر، وشعرت بأن هذا الطلب هو رسالة مهمة شجعتها على بدء العمل في مجموعة «مملوك» وكأنها تقول لها لقد حان الوقت. في اليوم التالي كانت في متحف V&A وقادتها أمنية عبر صالات العرض والقاعات، ثم ذهبتا إلى غرفة الدراسة لاستكشاف المزيد من عجائب الفن الإسلامي. وكان كنزاً لم تتخيل وجوده من قبل ومنذ تلك اللحظة، بدأت رحلة عمل جادة مع مجموعة «مملوك» من خلال فريق عمل يملأوه الحماس وبدأوا برحلاتهم لزيارة القاهرة التاريخية، وهي الأوقات التي تعتبرها الأكثر متعة في حياتها التي كانت محطة مهمة في رحلة تصميم هذه المجموعة.
- إذا دخلتم القلوب فأحسنوا سكناها
استغرق إنجاز هذه المجموعة بعض الوقت. منذ أن قررت عزة فهمي البدء فيها وحتى إطلاقها في المتاجر، وهي تفخر بالبحث المطول الذي استغرقه تصميم كل قطعة، بدءاً من زيارتها للآثار المملوكية في القاهرة القديمة ثم مرحلة الرسوم والتصميم وصناعة نماذج أولية إلى الانتهاء من التصميم والصياغة وإطلاق المجموعة الضاجة بالمعادن النفيسة، مثل الذهب، والفضة الإسترليني، والأحجار الكريمة كاللازورد، والزمرد، والياقوت، والجمشت، والتوباز مع نقوش دقيقة من الفسيفساء، والأبنوس، والعاج.
وقد حملت بعضها عبارات من وحي الثقافتين العربية والإسلامية ومنها كلمات الكاتب الغيطاني المنقوشة على سوار من الذهب والفضة، جاء فيها «فلم يكن رحيلي إلا بحثاً عني ولم تكن هجرتي إلا مني وفي وإلى العارف بالقاهرة»، في حين نقشت على خاتم من الذهب والفضة عبارة «مودة ورحمة».
كما استخدمت المصممة كلمات شمس الدين التبريزي «سلاماً على الذين يزهرون القلوب إذا ما نزلوا فيها» ونقشتها على سوار مستوحى من محراب ضريح السلطان المنصور قلاوون. قلادة أخرى من الذهب الأبيض عيار 18 قيراط ومزيّنة بأحجار الجمشت الأخضر ومزيج من اللازورد واللؤلؤ والعقيق الأسود حملت عبارة «وإذا دخلتم القلوب فأحسنوا سكناها».