لم تصمد طويلاً مقولة إن اغتيال قائد «فيلق القدس» قاسم سليماني أعاد اصطفاف الشارع الإيراني وراء قيادته الحالية. ذلك أن أسبوعاً واحداً فصل بين التشييع الذي حشد له النظام حشوداً كبيرة في مختلف المدن، وبين اندلاع مظاهرات حاشدة في طهران احتجاجاً على إسقاط طائرة مدنية أوكرانية بصاروخ أطلقه «الحرس الثوري» عليها قرب مطار العاصمة.
مظاهرات السبت 11 يناير (كانون الثاني) تكتسب أهميتها من وقوعها بعد شهرين ونيف فقط من الاحتجاجات الواسعة التي شهدتها البلاد في نوفمبر (تشرين الثاني) والتي قابلتها السلطات بقمع دموي، أسفر عن سقوط مئات الإيرانيين قتلى.
وتراوحت التقديرات لأعداد ضحايا حملة البطش الرسمي تلك بين 300 و1500 قتيل، بحسب أرقام منظمات حقوق الإنسان ووكالات الأنباء الأجنبية، إضافة إلى آلاف الجرحى والمعتقلين. يتعين الانتباه أن عودة المحتجين إلى الشارع على الرغم من القتل المتعمد الذي مارسته أجهزة الأمن يقول إن عنصر الخوف الذي راهن النظام عليه قد انهار، وإن شجاعة المتظاهرين الذين يهتفون ضد «الديكتاتور» ويرفضون تدخل إيران في شؤون الآخرين - ولو من باب الاعتراض على تمويل منظمات مسلحة غير إيرانية - يغذيهما (الشجاعة والرفض) افتقار حكم المرشد إلى خطة لوقف تداعيات العقوبات الأميركية الخانقة على الاقتصاد كله، والتي وصلت أضرارها إلى المواطن العادي.
فالنظام يرفض إعادة النظر في طريقة إنفاقه لموارد البلاد التي شحت بسبب الحظر النفطي، حيث ما زال الفساد وسيطرة «الحرس الثوري» على القطاعات الاقتصادية المربحة «خصوصاً الاتصالات والمقاولات» يعيقان توزيع أعباء الأزمة توزيعاً عادلاً على شرائح السكان. وأظهر رفع أسعار الوقود الذي تسبب باحتجاجات نوفمبر أن السلطة لا تمانع في تحميل الطبقتين الفقيرة والمتوسطة الجزء الأكبر من الأعباء، في حين تحافظ الطبقة الغنية المرتبطة بالنظام على كل امتيازاتها ونمط عيشها المرفه. ولم يعد في وسع السلطة الإيرانية أن تعمد إلى توزيع المال مباشرة على الحشود لشراء الصمت والولاء، على النحو الذي فعله الرئيس السابق محمود أحمدي نجاد، في وقت كانت أسعار النفط تشهد فيه ارتفاعات قياسية، والعقوبات على إيران أضعف من تلك المفروضة اليوم عليها.
من جهة ثانية، كشفت سرعة عودة المظاهرات، بالإضافة إلى انكسار حاجز الخوف، أن قدرة الإيرانيين على تحمل شظف العيش في ظل نظام يعتمد الكذب والخداع سياسةً يومية قد تضاءلت تضاؤلاً ملموساً. ذاك أن الأكثرية الساحقة من ضحايا الطائرة الأوكرانية هم من الإيرانيين وممن يحملون جنسية مزدوجة؛ خصوصاً الجنسية الكندية، بحيث شكل مقتلهم صفعة لفكرة النجاة الفردية عن طريق الهجرة إلى الغرب وبناء حياة كريمة هناك.
لقد وجّه إسقاط الطائرة ضربة معنوية قاسية لكل الإيرانيين الذين اكتشفوا زيف ادعاءات القوة والمنعة التي تروجها أجهزة الحكم، بل إن طريق خلاصهم من خلال الهجرة تسده دولة عديمة الكفاءة ومشكوك في شرعية نظامها. أما الشعور القومي الإيراني الشهير الذي يجمع مواطني ذلك البلد على رغم تباين انتماءاتهم السياسية، فقد تعرض للإهانة بسبب هزال الرد الإيراني على اغتيال سليماني، والذي لم يؤد إلى مقتل جندي أميركي واحد، بل أزهق أرواح عشرات الإيرانيين أثناء تشييع سليماني ثم في إسقاط الطائرة الأوكرانية.
نقطة إضافية تستحق الانتباه، هي اقتراب الاحتجاجات من بعضها زمنياً. فالمظاهرات السابقة كانت، كما سلفت الإشارة، في نوفمبر، وفصل بينها وبين الاحتجاجات التي بدأت في مشهد نهاية 2017 وبداية 2018 أكثر من سنة ونصف السنة. وبين هذه الأخيرة وبين «الثورة الخضراء» التي اندلعت تنديداً بتزوير السلطة لنتائج انتخابات 2009 الرئاسية، نحو 9 أعوام. بكلمات ثانية، تصاعد وتيرة المظاهرات واقترابها زمنياً بعضها من بعض، يعلن تصاعد أزمة النظام وإخفاقه في طرح حلول مقبولة، وأن خطته السابقة بترويج الانتصارات الخارجية، ووهم بناء إمبراطورية جديدة، كان يقود مشروعها سليماني، ثمناً لضيق العيش الذي تعاني الأكثرية منه والفقر المتفاقم، قد انهارت بمقتل سليماني بتلك الطريقة الاستعراضية التي قُتِل بها، وعدم فاعلية الرد العسكري وظهور نوع من التفاهم الضمني بين طهران وواشنطن على تجنب التصعيد.
إذن، لم يعد أمام الإيرانيين سوى نظام بوليسي قمعي وأزمة اقتصادية خانقة، يتعايشون معهما في غياب حد أدنى من حرية التعبير أو الاعتراض. هل يعني ما تقدم أن النظام الإيراني فقد نهائياً قاعدته الشعبية، وأنه يسير نحو نهايته؟ لعل من التسرع إطلاق أحكام جازمة في هذا الشأن، لكن العزلة الدولية ومحاولة روسيا السريعة وراثة الدور الإيراني في سوريا على سبيل المثال، تقولان إن مستقبل نظام المرشد علي خامنئي ليس مشرقاً.
الإيرانيون ينزلون إلى الشارع رفضاً للقمع والأزمة الاقتصادية
الإيرانيون ينزلون إلى الشارع رفضاً للقمع والأزمة الاقتصادية
لم تشترك بعد
انشئ حساباً خاصاً بك لتحصل على أخبار مخصصة لك ولتتمتع بخاصية حفظ المقالات وتتلقى نشراتنا البريدية المتنوعة