«الشرق الأوسط» في موسم الجوائز(4): ثلاثة أحداث تواءمت معاً هذا الأسبوع

مهرجان ناعس وأرقام ضخمة وترشيحات المخرجين

المخرجة ألما هارِل  -  مشهد من الفيلم اللبناني «1982»  -  الجزء الجديد من «ستار وورز»
المخرجة ألما هارِل - مشهد من الفيلم اللبناني «1982» - الجزء الجديد من «ستار وورز»
TT

«الشرق الأوسط» في موسم الجوائز(4): ثلاثة أحداث تواءمت معاً هذا الأسبوع

المخرجة ألما هارِل  -  مشهد من الفيلم اللبناني «1982»  -  الجزء الجديد من «ستار وورز»
المخرجة ألما هارِل - مشهد من الفيلم اللبناني «1982» - الجزء الجديد من «ستار وورز»

تتلاحق الأحداث في هوليوود وجوارها بحيث يصبح من الصعب الإحاطة بكل منها في شكل منفصل. بعضها قد لا يتطلب إلّا رصداً محدود المساحة. بعضها الآخر قد يأتي في ركاب أحداث أكبر بحيث يصبح من غير الممكن تبرير التوازن أو عدمه.
التالي، إذن، ثلاثة أحداث تتواكب معاً خلال هذه الأيام من تلك التي من الأفضل دمج نشاطاتها وفحواها معاً. هي محطات متقاربة في التوقيت لكن كل منها يختلف، في الوقت ذاته، عن الآخر.
- المحطة الأولى: بالم سبرينغز فيلم فستيفال
أمس، كان اليوم الأخير من مهرجان بالم سبرينغز السينمائي الدولي في دورته الحادية والثلاثين.
انطلق في الثاني من هذا الشهر في تلك المدينة الناعسة شرق لوس أنجليس، انتهى قبل عشرة أيام فقط من بداية مهرجان كبير آخر في شمال القارة الأميركية هو صندانس الدولي. وإذا ما كان روبرت ردفورد هو من أعاد تأسيس صندانس بعد بضع سنوات من بدايته الفعلية، وهو الممثل والمخرج المعروف، فإنّ بالم سبرينغز من تأسيس المغني الراحل صوني بونو و- زوجته آنذاك - الممثلة شِر. كلاهما بذلك من تأسيس فنانين امتلكوا النيّة والطموح لإقامة مهرجان سينمائي يضع المدينة على الخريطة ويضع الحدث ذاته على خريطة موازية.
كل من هذين المهرجانين يختلف تبعاً لهويته الفنية وبرامجه. «صندانس» (الذي يقام في مدينة بارك سيتي في مرتفعات الجبال الشمالية لولاية يوتا) معني بالسينما المستقلة داخل الولايات المتحدة وخارجها، ويحتل المكانة الأولى في هذا النوع من السينما حول العالم. تقصده الأفلام التي تبحث عن موزعين والتي يحققها مخرجون ما زالوا في أول الطريق أو ربما قبل ذلك.
لكن كلمة «مستقل» باتت متعددة الصفات وارتحلت إلى تفسيرات كثيرة، فالكثير من أفلام صندانس قد تكون مستقلة الإنتاج لكنها مصنوعة اليوم على النحو الذي يعجب خاطر شركات التوزيع الأميركية الكبرى.
في المقابل هناك أفلام مستقلة إنتاجاً وفناً ولا تميل لخيانة فحوى الكلمة وهي مثل الدرر التي ينهل عليها النقاد في ذلك المهرجان. كل سنة يكتشفون شيئا هناك سواء أوجد من يرعاه من شركات التوزيع أو لم يجد.
«بالم سبرينغز» يختلف في أنّه مهرجان دولي بسمات أي مهرجان دولي آخر: لا تعرف أفلامه التمييز بين نوع وآخر بل هو مقبل عليها جميعاً، شأنه في ذلك شأن تورونتو ولندن وأي من المهرجانات الكبيرة الثلاث (برلين، كان، فنيسيا) مع اختلاف الحجم وأهمية الجوائز الممنوحة فيها.
لكن مع نحو ألوف السينمائيين وعشرات ألوف المشاهدين (أكثر من 135 ألف تذكرة مبيعة في العام الماضي) فإن لبالم سبرينغز حضوراً جيداً يزداد أهمية سنة بعد سنة على النطاقين المحلي والعالمي.
لسنوات قريبة كان «بالم سبرينغز» يبدو كما لو أنّه ترف للهواة الممعنين في حب حضور كل المهرجانات ومشاهدة كل الأفلام. كان صغيراً ولمثل ذلك الحجم مفضلوه، فالحركة أسهل والإلمام بكل ما يعرض فعل محتمل ولقاء السينمائيين بعضهم ببعض أو بالنقاد والصحافيين لم يتطلب الكثير من الجهد. لكن لا أحد يستطيع الامتناع عن التقدم في العمر والنمو في الحجم عاماً بعد عام إلى سنوات النضج كما الحال هنا.
سابقاً، على سبيل المثال، لم تكن لتجد في عروض هذا المهرجان أفلاماً عربية. الآن تتكاثر الأفلام العربية كما لو أنّها اكتشفت نبعاً وسط الصحراء. الفيلم اللبناني «1982» لوليد مؤنس موجود هنا، كذلك عناوين معهودة لأفلام سبق أن شوهد معظمها في مهرجانات أخرى مثل «آدم» (المغرب)، و«بابيشا» (الجزائر)، و«ولد» (تونس)، و«سوف تموت في العشرين» (الجزائر).
ما شوهد هنا حتى الآن 22 فيلماً جديداً علماً بأن المهرجان ليس في وارد الإصرار على ألا تكون الأفلام المشتركة فيه خاصة به باستثناء فيلمي الافتتاح والختام وقليل من الأفلام التي ترعاها شركات تساهم في تمويل هذا المهرجان.
على عكس المتوقع، بسبب ما كُتب عنه سابقاً، يأتي فيلم «1982» أقل أهمية مما يجب سواء على صعيد الموضوع أو صعيد المعالجة. بطله (محمد دالي) صبي في مدرسة مسيحية في ربوع لبنان يتمرّن على عبارة «جوانا، أنا بحبك». وهو يريد البوح بذلك للفتاة الصغيرة (كلاهما دون الخامسة عشرة) التي ملكت قلبه. كلما فكّر وسام في التعبير عن حبه تعترضه مشكلة تؤخر إعلانه. بما أنّ الفيلم يرصد العام الذي غزت فيه إسرائيل لبنان، فإنّ أهم هذه المشكلات هو ذلك الحدث. لكن «1982» لا يدور عنه لا كافياً ولا جيداً. ما يهم المخرج هو المكوث في إطار تلك المدرسة البعيدة عن الجنوب والنائية عن بيروت.
نسمع الأخبار كما يسمعها من في الفيلم، وهو اختيار كان يمكن أن يعوّض تغييب الحدث المعني لو أن ما يدور في رحى الحكاية مهم لأكثر من الشّخصيات التي يتعرض لها الفيلم. حتى تكون مهمّة لنا، كان على السيناريو أن يخط لها معالم مختلفة وأن يحتوي على أحداث حادة عوض تلك الناعسة التي تتخلل الفيلم وتحوّل اهتماماته إلى سرد روتيني.
جل ما يحدث أنّ في يوم الامتحانات الأخيرة ترتفع أصوات الانفجارات المحيطة. هناك تحركات عسكرية وطيران وهذا يولّد بعض التوتر الغائب في البداية. أهالي بعض الطّلاب قلقون لكنّ المدرسة متمثلة بأستاذين نجيبين هما رودريغ سليمان ونادين لبكي (في أول ظهور لها في فيلم بعد دورها في «كفرناحوم» الذي أخرجته كذلك) ترمي للتأكيد على أنّ كل شيء على ما يرام.
- المحطة الثانية: إيرادات العالم ارتفعت
أُعلن، منذ أيام، عن النشرة الصحية لسينما العام 2019. إنّه إعلان سنوي يتضمن مسح كل إيرادات الأفلام التي عرضت في أميركا وحول العالم والنظر إلى الرقم الإجمالي المسجل ومعاينته.
الخبر السعيد أنّ السينما لم تشهد نجاحاً تجارياً كالذي شهدته في السنة الماضية. فهي سجلت 42 مليارا و500 مليون دولار من العائدات من الأسواق العالمية في القارات الخمس.
الخبر الذي لم يحل برداً وسلاماً على أصحاب الشركات الهوليوودية (تلك التي تنتج معظم ما هو ناجح من أفلام حول العالم) هو أنّ إيرادات الصالات الأميركية والكندية شهدت تراجعاً مقداره 4 في المائة مما جاءت به إيرادات العام الأسبق 2018. إذ بلغت في السنة الماضية 11 ملياراً و400 مليون دولار. في المقابل سجل العام الأسبق 11 مليارا و800 مليون دولار من العائدات في أميركا الشمالية.
وبينما من نافل القول إن سينما المسلسلات مسؤولة عن النجاح الكوكبي الحاصل، فإنه من المهم كذلك ملاحظة أنّها ليست الوحيدة التي أنجزت نجاحات كبيرة.
أحد هذه الأفلام هو «ذات مرّة في هوليوود» الذي أنجز أكثر من 370 مليون دولار في عروضه العالمية (في أميركا وخارجها) وهو فيلم ينأى بنفسه عن إنتاجات ديزني وجوارها، إذ يؤم موضوعاً لا يمكن استخلاص جزء آخر منه. فيلم كونتن تارنتينو يمت لتارنتينو نفسه بأسلوب عمله، بطروحات موضوعه وبرغبته سرد لوحات درامية حول هوليوود الستينات ومطلع السبعينات.
في المقابل لدينا كل ما تزخر به الإنتاجات التقليدية. هنا ما زالت شركة ديزني تتربع على قمة الإيرادات. فيلمها «ستار وورز: ثورة سكايووكر» جلب للآن 952 مليون دولار والعدّاد ما زال يشتغل. أنجزه ج ج إبرامز بكل ما لديه من حنكة ومعرفة بتاريخ المسلسل ومتطلباته في هذه الآونة، حيث تطوّرت حبكاته وشخصياته مبتعدة عما كانت عليه في السنوات الأربعين الماضية.
أفلام أخرى لديزني أنجزت نجاحات كبيرة: «ذا ليون كينغ» (مليار و660 مليون دولار)، «فروزن 2» (مليار و330 مليون دولار)، «كابتن مارڤل» (مليار و120 مليون دولار)، و«توي ستوري 4» (مليار و70 مليون دولار).
- المحطة الثالثة: جمعية المخرجين تعلن ترشيحاتها
عشرة مخرجين أميركيين وغير أميركيين يقفزون إلى موسم الجوائز (مجدداً بالنسبة لبعضهم)، وذلك مع إعلان ترشيحات «جمعية المخرجين الأميركية» قائمتها من المخرجين المتنافسين على جائزتها السنوية.
إنّها السنة الـ72 التي تطلق فيها هذه الجمعية جوائزها، وكما الحال مع «جمعية مديري التصوير» التي أوردنا ترشيحاتها هنا منذ أيام قليلة، فإنّ أعضاء الجمعية من المخرجين هم، على نحو عام، أعضاء في أكاديمية العلوم والفنون السينمائية المانحة للأوسكار.
بالتالي سنلحظ ورود أسماء خمسة من هؤلاء المرشحين في جدول سباق الأوسكار المقبل.
تنقسم القائمة إلى قسمين: الأولى لمخرجي الأفلام التي عرضت في الصالات أو لصانعيها تجارب سابقة في هذا الشأن، والثانية لمخرجين أقدموا، في السنة الفائتة، على تحقيق أفلامهم الأولى.
في القسم الأول نجد أسماءً معهودة ذُكرت في محافل ومقالات كثيرة حتى الآن:
بونغ جون هو عن «طفيلي»
سام منديز عن «1917»
مارتن سكورسيزي عن «الآيرلندي»
كونتن تارنتينو عن «ذات مرّة في هوليوود»
تايكا وايتيتي عن «جوجو رابت».
يعتلي القسم الثاني خمسة مخرجين جدد هم:
ماتي ديوب عن «أتلانتيكس»
ألما هارِل عن «هوني بوي».
ميلينا ماتسوكاس عن «كوين وسلِم»
تايلر نلسون ومايكل شوارتز عن The Peanut Butter Falcon
جو تالبوت عن «آخر رجل أسود في سان فرانسيسكو».
هناك ملاحظات مهمة لا بد من ذكرها:
ثلاثة من هذه الأفلام من إنتاج مؤسسات البث المباشر. تحديداً «نتفلكس» منتجة «الآيرلندي» و«أتلانتيكس» و«أمازون» منتجة «هوني بوي».
كذلك هناك ثلاث مخرجات في القسم الثاني بينما يحتل المخرجون الرجال القسم الأول بكامله.
هنا يلاحظ أنّ المخرجة غريتا غرويغ، المحتفى نقدياً بفيلمها «نساء صغيرات» على نحو لا يخلو من المغالاة لم تنل ما يكفي من الأصوات لتدخل عرين الأسماء الكبيرة الأخرى.


مقالات ذات صلة

بطلة «سنو وايت»: الفيلم يُنصف قِصار القامة ويواجه التنمر

يوميات الشرق مريم شريف في لقطة من فيلم «سنو وايت» (الشركة المنتجة)

بطلة «سنو وايت»: الفيلم يُنصف قِصار القامة ويواجه التنمر

رغم وقوفها أمام عدسات السينما ممثلة للمرة الأولى؛ فإن المصرية مريم شريف تفوّقت على ممثلات محترفات شاركن في مسابقة الأفلام الطويلة بـ«مهرجان البحر الأحمر».

انتصار دردير (القاهرة )
يوميات الشرق وجوه من فيلم «السادسة صباحاً» (غيتي)

من طهران إلى كابل... حكايات نساء يتحدّيْن الظلم في «البحر الأحمر»

«السادسة صباحاً» و«أغنية سيما» أكثر من مجرّد فيلمين تنافسيَّيْن؛ هما دعوة إلى التأمُّل في الكفاح المستمرّ للنساء من أجل الحرّية والمساواة.

أسماء الغابري (جدة)
يوميات الشرق جوني ديب لفت الأنظار بحضوره في المهرجان (تصوير: بشير صالح)

اختتام «البحر الأحمر السينمائي» بحفل استثنائي

بحفل استثنائي في قلب جدة التاريخية ، اختم مهرجان «البحر الأحمر السينمائي الدولي» فعاليات دورته الرابعة، حيث أُعلن عن الفائزين بجوائز «اليُسر». وشهد الحفل تكريمَ

أسماء الغابري (جدة)
يوميات الشرق ياسمين عبد العزيز في كواليس أحدث أفلامها «زوجة رجل مش مهم» (إنستغرام)

«زوجة رجل مش مهم» يُعيد ياسمين عبد العزيز إلى السينما

تعود الفنانة المصرية ياسمين عبد العزيز للسينما بعد غياب 6 سنوات عبر الفيلم الكوميدي «زوجة رجل مش مهم».

داليا ماهر (القاهرة )
يوميات الشرق رئيسة «مؤسّسة البحر الأحمر السينمائي» جمانا الراشد فخورة بما يتحقّق (غيتي)

ختام استثنائي لـ«البحر الأحمر»... وفيولا ديفيس وبريانكا شوبرا مُكرَّمتان

يتطلّع مهرجان «البحر الأحمر السينمائي» لمواصلة رحلته في دعم الأصوات الإبداعية وإبراز المملكة وجهةً سينمائيةً عالميةً. بهذا الإصرار، ختم فعالياته.

أسماء الغابري (جدة)

رحيل إيلي شويري عاشق لبنان و«أبو الأناشيد الوطنية»

عرف الراحل إيلي شويري بـ«أبو الأناشيد الوطنية»
عرف الراحل إيلي شويري بـ«أبو الأناشيد الوطنية»
TT

رحيل إيلي شويري عاشق لبنان و«أبو الأناشيد الوطنية»

عرف الراحل إيلي شويري بـ«أبو الأناشيد الوطنية»
عرف الراحل إيلي شويري بـ«أبو الأناشيد الوطنية»

إنه «فضلو» في «بياع الخواتم»، و«أبو الأناشيد الوطنية» في مشواره الفني، وأحد عباقرة لبنان الموسيقيين، الذي رحل أول من أمس (الأربعاء) عن عمر ناهز 84 عاماً.
فبعد تعرضه لأزمة صحية نقل على إثرها إلى المستشفى، ودّع الموسيقي إيلي شويري الحياة. وفي حديث لـ«الشرق الأوسط» أكدت ابنته كارول أنها تفاجأت بانتشار الخبر عبر وسائل التواصل الاجتماعي قبل أن تعلم به عائلته. وتتابع: «كنت في المستشفى معه عندما وافاه الأجل. وتوجهت إلى منزلي في ساعة متأخرة لأبدأ بالتدابير اللازمة ومراسم وداعه. وكان الخبر قد ذاع قبل أن أصدر بياناً رسمياً أعلن فيه وفاته».
آخر تكريم رسمي حظي به شويري كان في عام 2017، حين قلده رئيس الجمهورية يومها ميشال عون وسام الأرز الوطني. وكانت له كلمة بالمناسبة أكد فيها أن حياته وعطاءاته ومواهبه الفنية بأجمعها هي كرمى لهذا الوطن.
ولد إيلي شويري عام 1939 في بيروت، وبالتحديد في أحد أحياء منطقة الأشرفية. والده نقولا كان يحضنه وهو يدندن أغنية لمحمد عبد الوهاب. ووالدته تلبسه ثياب المدرسة على صوت الفونوغراف الذي تنساب منه أغاني أم كلثوم مع بزوغ الفجر. أما أقرباؤه وأبناء الجيران والحي الذي يعيش فيه، فكانوا من متذوقي الفن الأصيل، ولذلك اكتمل المشوار، حتى قبل أن تطأ خطواته أول طريق الفن.
- عاشق لبنان
غرق إيلي شويري منذ نعومة أظافره في حبه لوطنه وترجم عشقه لأرضه بأناشيد وطنية نثرها على جبين لبنان، ونبتت في نفوس مواطنيه الذين رددوها في كل زمان ومكان، فصارت لسان حالهم في أيام الحرب والسلم. «بكتب اسمك يا بلادي»، و«صف العسكر» و«تعلا وتتعمر يا دار» و«يا أهل الأرض»... جميعها أغنيات شكلت علامة فارقة في مسيرة شويري الفنية، فميزته عن سواه من أبناء جيله، وذاع صيته في لبنان والعالم العربي وصار مرجعاً معتمداً في قاموس الأغاني الوطنية. اختاره ملك المغرب وأمير قطر ورئيس جمهورية تونس وغيرهم من مختلف أقطار العالم العربي ليضع لهم أجمل معاني الوطن في قالب ملحن لا مثيل له. فإيلي شويري الذي عُرف بـ«أبي الأناشيد الوطنية» كان الفن بالنسبة إليه منذ صغره هَوَساً يعيشه وإحساساً يتلمسه في شكل غير مباشر.
عمل شويري مع الرحابنة لفترة من الزمن حصد منها صداقة وطيدة مع الراحل منصور الرحباني. فكان يسميه «أستاذي» ويستشيره في أي عمل يرغب في القيام به كي يدله على الصح من الخطأ.
حبه للوطن استحوذ على مجمل كتاباته الشعرية حتى لو تناول فيها العشق، «حتى لو رغبت في الكتابة عن أعز الناس عندي، أنطلق من وطني لبنان»، هكذا كان يقول. وإلى هذا الحد كان إيلي شويري عاشقاً للبنان، وهو الذي اعتبر حسه الوطني «قدري وجبلة التراب التي امتزج بها دمي منذ ولادتي».
تعاون مع إيلي شويري أهم نجوم الفن في لبنان، بدءاً بفيروز وسميرة توفيق والراحلين وديع الصافي وصباح، وصولاً إلى ماجدة الرومي. فكان يعدّها من الفنانين اللبنانيين القلائل الملتزمين بالفن الحقيقي. فكتب ولحن لها 9 أغنيات، من بينها «مين إلنا غيرك» و«قوم تحدى» و«كل يغني على ليلاه» و«سقط القناع» و«أنت وأنا» وغيرها. كما غنى له كل من نجوى كرم وراغب علامة وداليدا رحمة.
مشواره مع الأخوين الرحباني بدأ في عام 1962 في مهرجانات بعلبك. وكانت أول أدواره معهم صامتة بحيث يجلس على الدرج ولا ينطق إلا بكلمة واحدة. بعدها انتسب إلى كورس «إذاعة الشرق الأدنى» و«الإذاعة اللبنانية» وتعرّف إلى إلياس الرحباني الذي كان يعمل في الإذاعة، فعرّفه على أخوَيه عاصي ومنصور.

مع أفراد عائلته عند تقلده وسام الأرز الوطني عام 2017

ويروي عن هذه المرحلة: «الدخول على عاصي ومنصور الرحباني يختلف عن كلّ الاختبارات التي يمكن أن تعيشها في حياتك. أذكر أن منصور جلس خلف البيانو وسألني ماذا تحفظ. فغنيت موالاً بيزنطياً. قال لي عاصي حينها؛ من اليوم ممنوع عليك الخروج من هنا. وهكذا كان».
أسندا إليه دور «فضلو» في مسرحية «بياع الخواتم» عام 1964. وفي الشريط السينمائي الذي وقّعه يوسف شاهين في العام التالي. وكرّت السبحة، فعمل في كلّ المسرحيات التي وقعها الرحابنة، من «دواليب الهوا» إلى «أيام فخر الدين»، و«هالة والملك»، و«الشخص»، وصولاً إلى «ميس الريم».
أغنية «بكتب اسمك يا بلادي» التي ألفها ولحنها تعد أنشودة الأناشيد الوطنية. ويقول شويري إنه كتب هذه الأغنية عندما كان في رحلة سفر مع الراحل نصري شمس الدين. «كانت الساعة تقارب الخامسة والنصف بعد الظهر فلفتني منظر الشمس التي بقيت ساطعة في عز وقت الغروب. وعرفت أن الشمس لا تغيب في السماء ولكننا نعتقد ذلك نحن الذين نراها على الأرض. فولدت كلمات الأغنية (بكتب اسمك يا بلادي عالشمس الما بتغيب)».
- مع جوزيف عازار
غنى «بكتب اسمك يا بلادي» المطرب المخضرم جوزيف عازار. ويخبر «الشرق الأوسط» عنها: «ولدت هذه الأغنية في عام 1974 وعند انتهائنا من تسجيلها توجهت وإيلي إلى وزارة الدفاع، وسلمناها كأمانة لمكتب التوجيه والتعاون»، وتابع: «وفوراً اتصلوا بنا من قناة 11 في تلفزيون لبنان، وتولى هذا الاتصال الراحل رياض شرارة، وسلمناه شريط الأغنية فحضروا لها كليباً مصوراً عن الجيش ومعداته، وعرضت في مناسبة عيد الاستقلال من العام نفسه».
يؤكد عازار أنه لا يستطيع اختصار سيرة حياة إيلي شويري ومشواره الفني معه بكلمات قليلة. ويتابع لـ«الشرق الأوسط»: «لقد خسر لبنان برحيله مبدعاً من بلادي كان رفيق درب وعمر بالنسبة لي. أتذكره بشوشاً وطريفاً ومحباً للناس وشفافاً، صادقاً إلى أبعد حدود. آخر مرة التقيته كان في حفل تكريم عبد الحليم كركلا في الجامعة العربية، بعدها انقطعنا عن الاتصال، إذ تدهورت صحته، وأجرى عملية قلب مفتوح. كما فقد نعمة البصر في إحدى عينيه من جراء ضربة تلقاها بالغلط من أحد أحفاده. فضعف نظره وتراجعت صحته، وما عاد يمارس عمله بالشكل الديناميكي المعروف به».
ويتذكر عازار الشهرة الواسعة التي حققتها أغنية «بكتب اسمك يا بلادي»: «كنت أقفل معها أي حفل أنظّمه في لبنان وخارجه. ذاع صيت هذه الأغنية، في بقاع الأرض، وترجمها البرازيليون إلى البرتغالية تحت عنوان (أومينا تيرا)، وأحتفظ بنصّها هذا عندي في المنزل».
- مع غسان صليبا
مع الفنان غسان صليبا أبدع شويري مرة جديدة على الساحة الفنية العربية. وكانت «يا أهل الأرض» واحدة من الأغاني الوطنية التي لا تزال تردد حتى الساعة. ويروي صليبا لـ«الشرق الأوسط»: «كان يعد هذه الأغنية لتصبح شارة لمسلسل فأصررت عليه أن آخذها. وهكذا صار، وحققت نجاحاً منقطع النظير. تعاونت معه في أكثر من عمل. من بينها (كل شيء تغير) و(من يوم ما حبيتك)». ويختم صليبا: «العمالقة كإيلي شويري يغادرونا فقط بالجسد. ولكن بصمتهم الفنية تبقى أبداً ودائماً. لقد كانت تجتمع عنده مواهب مختلفة كملحن وكاتب ومغنٍ وممثل. نادراً ما نشاهدها تحضر عند شخص واحد. مع رحيله خسر لبنان واحداً من عمالقة الفن ومبدعيه. إننا نخسرهم على التوالي، ولكننا واثقون من وجودهم بيننا بأعمالهم الفذة».
لكل أغنية كتبها ولحنها إيلي شويري قصة، إذ كان يستمد موضوعاتها من مواقف ومشاهد حقيقية يعيشها كما كان يردد. لاقت أعماله الانتقادية التي برزت في مسرحية «قاووش الأفراح» و«سهرة شرعية» وغيرهما نجاحاً كبيراً. وفي المقابل، كان يعدها من الأعمال التي ينفذها بقلق. «كنت أخاف أن تخدش الذوق العام بشكل أو بآخر. فكنت ألجأ إلى أستاذي ومعلمي منصور الرحباني كي يرشدني إلى الصح والخطأ فيها».
أما حلم شويري فكان تمنيه أن تحمل له السنوات الباقية من عمره الفرح. فهو كما كان يقول أمضى القسم الأول منها مليئة بالأحزان والدموع. «وبالقليل الذي تبقى لي من سنوات عمري أتمنى أن تحمل لي الابتسامة».