سوريا بقعة سوداء للعمل الصحافي... و39 حالة انتهاك في شمال شرقي البلاد

الصحافيون في مرمى نيران المعارك العسكرية

الإعلامي هيبار عثمان مراسل قناة «الحرة» في إحدى جبهات القتال ضد تنظيم «داعش» الإرهابي
الإعلامي هيبار عثمان مراسل قناة «الحرة» في إحدى جبهات القتال ضد تنظيم «داعش» الإرهابي
TT

سوريا بقعة سوداء للعمل الصحافي... و39 حالة انتهاك في شمال شرقي البلاد

الإعلامي هيبار عثمان مراسل قناة «الحرة» في إحدى جبهات القتال ضد تنظيم «داعش» الإرهابي
الإعلامي هيبار عثمان مراسل قناة «الحرة» في إحدى جبهات القتال ضد تنظيم «داعش» الإرهابي

سوريا؛ بقعة سوداء على خريطة التصنيف العالمي لحرية الصحافة، بحسب منظمة «مراسلون بلا حدود». تعددت الانتهاكات، والمحصلة إسكات عدسة صوت الحق. منهم من قضى نحبه وهو يحاول التقاط صورة أو نقل ما يجري على أرض الواقع، والبعض اختُطف أو اختفى قسراً، ولا يزال مصيره منذ سنوات غير معروف، وكثيرون مَن هم بالسجن ينتظرون العدالة، وهناك آخرون منعوا من مزاولة المهنة، أو كسرت معداتهم، وفي أحسن الأحوال أُجبروا على النفي وترك بلدهم.
ولتسليط الضوء على واقع الإعلاميين العاملين في مهنة أشبه بحقل ألغام، أصدر «اتحاد الصحافيين الكُرد السوريين» تقريره السنوي بداية الشهر الحالي، ورصد عبر جداوله 39 حالة انتهاك، توزعت على أربع حالات قتل، بعد استهداف الصحافيين من طيران الجيش التركي وقصف مدفعيته، مع سقوط 14 جريحاً، و4 حالات تعرضت للتهديد أو الاعتداء بالضرب، وهناك حالتان تم منعهما من العمل، مع ثلاث حالات اعتقال. ولا يزال مصير الصحافي الكردي فرهاد حمو، مراسل قناة «رووداو» الكردية غير معروف. وهي الحالة الوحيدة للاختفاء القسري، والمستمرة منذ ست سنوات. وهناك 10 حالات اعتداء على منازل وممتلكات الصحافيين.
«اتحاد الصحافيين الكُرد» مؤسسة إعلامية كردية مستقلة، تضم إعلاميين وصحافيين من أكراد سوريا، تأسست في شهر مارس (آذار) 2013، في مدينة القامشلي الواقعة أقصى شمال شرقي سوريا.
وعن آليات التوثيق ومنهجية العمل، يقول الصحافي علي نمر، مدير مكتب الانتهاكات بالاتحاد: «نعتمد على أعضاء الاتحاد الذين يعملون على الأرض، بالإضافة للبلاغات التي تردنا من الزملاء ومطابقتها للمعاير الدولية، وبعد التأكد من صحتها وتدقيقها، توثق في جداول الانتهاك».
وبقيت منطقة شرق الفرات الأكثر أمناً لعمل الصحافيين، حتى التوغل التركي في أكتوبر (تشرين الأول) العام الماضي، بمشاركة فصائل سورية مسلحة موالية؛ استهدفت المراسلين الصحافيين: «بغية تخويفهم ومنعهم من رصد وتصوير وتوثيق انتهاكاتهم، معلنين حرباً مفتوحة ضد رُسل الحقيقة» بحسب الصحافي علي نمر.
ويقوم الاتحاد بإرسال نسخة من التقارير والبيانات إلى منظمة «مراسلون بلا حدود»، والجهات الصحافية السورية والدولية الشريكة.
وأضاف: «نحاول التواصل مع مختلف الجهات المختصة في رصد الانتهاكات التي تطال الإعلاميين، لنقل الصورة الصحيحة بكل حيادية ومهنية».
ويروي ثلاثة صحافيين يوميات الحرب الدائرة في شمال شرقي سوريا. فعلى الرغم من المخاطر التي تهدد سلامتهم؛ نقلوا للعالم أحداثاً وروايات وصوراً عما جرى في مسقط رأسهم.
الصحافية رنكين شرو، تعمل مراسلة لقناة «رووداو» الكردية، وهيبار عثمان مراسل قناة «الحرة» الأميركية، ومحمد حسن مراسل قناة «روسيا اليوم»، عايشوا لحظات الحرب، وقدموا قصصاً وتقارير مرئية عن الفظائع والجرائم التي ارتكبتها الجهات المعتدية على تراب بلدهم منذ تسع سنوات.
تقول رنكين إن الظروف هي التي تفرض اختيار الشخصية المناسبة لتجسيد القصة الإخبارية: «أنا شخصياً أتبع البساطة والعفوية في عملي، ولا أرتب أو أملي ما يقدمه الضيف في التقرير، بهدف إيصال الفكرة عبر صورة مبسطة إلى المشاهد تكون قريبة من هذه البيئة».
واعتبر هيبار منطقة شرق الفرات ليست استثناءً من محيطها السوري، فالإعلاميون يتعرضون إلى انتهاكات من جميع الأطراف المتصارعة في هذه الجغرافيا: «بدءاً من القوات الأمنية التابعة للإدارة الذاتية، والأجهزة الأمنية المرتبطة بالنظام السوري، والفصائل السورية الموالية لأنقرة».
بينما نقل محمد أن عمله يعتمد بالدرجة الأولى على أسلوب «الكاميرا تتحدث»، وقال: «أذهب إلى الموقع، ثم أشاهد ما تراه عيني، بعدها أجري لقاءات عشوائية، وأخُرج تقريري حسبما يقوله الضيوف المدنيون. وهم بالعادة أكثر صدقاً من كبار قادة السياسة».
تحتاج النساء العاملات في المجال الإعلامي إلى إرادة قوية، لمواجهة نيران المعارك الصديقة والمعادية في هذا القطاع. تقول المراسلة الميدانية رنكين شرو: «مفتاح العمل الصحافي في كل بقعة جغرافية، فهم خريطة وتوزع الجهات العسكرية. فالتغطية الحربية بحد ذاتها خطرة، وتحتاج إلى جرأة ودعم المؤسسة والأهل»، دون أن تخفي مصاعب العمل الصحافي في منطقة يتحدر منها الصحافي. وتابعت رنكين قائلة: «عندما يرتبط الحدث بشكل مباشر بأهلك ومنطقتك، يصعب العمل بشكل مستقل وموضوعي، فالصحافي ابن هذا الحدث الذي ينقله، وطبيعي أن يتأثر به».
وتتعرض مناطق شمال شرقي سوريا منذ تسع سنوات لهجمات من فصائل «الجيش السوري الحر»، وتنظيم «داعش»، وآخرها التوغل التركي. وغطى الصحافي هيبار عثمان ميدانياً هذه الحروب المستعرة في مسقط رأسه. ولدى حديثه ذكر أن: «عملنا أشبه بالمشي في حقل ألغام. فقدنا 8 إعلاميين كانوا زملاء، أتذكرهم جميعاً. ولا يزال مصير فرهاد حمو مراسل قناة (رووداو) مجهولاً منذ ما يزيد عن 5 سنوات».
وأشار إلى أن «قوات سوريا الديمقراطية» خسرت 12 إعلامياً عسكرياً كانت مهمتهم حماية الصحافيين العاملين في المناطق الخاضعة لسيطرتها.
وبعد انتشار الجيش السوري برعاية روسية في مناطق كثيرة بالحسكة والرقة، يساور الصحافيين هواجس عددية، أبرزها الملاحقة الأمنية من قبل النظام الحاكم. ويضيف هيبار: «الاعتقال، ومنع السفر، والحرمان من الحقوق المدنية، مخاوف نعايشها يومياً؛ لأننا مراسلون لقنوات خارجية تصفها الحكومة السورية بالمعادية».
أما الصحافي محمد حسن، فقد غطى أكثر الجبهات سخونة، إذ كان على الخطوط الأمامية في معركة الباغوز، شهر مارس 2019، عند القضاء على تنظيم «داعش» الإرهابي وخلافته المزعومة، واليوم يغطي الهجوم التركي على منطقته. يتذكر المشاهد القاسية عند فرار سكان مدينة رأس العين، أو «سري كانيه» بحسب تسميتها الكردية، الواقعة أقصى شمال شرقي سوريا، ويقول: «كنت مع زملائي في آخر يوم لخروج آلاف السكان. كان يشبه يوم الحشر. أطفال ونسوة ورجال طاعنون بالسن، الكل كان يهرب هرعاً من القصف التركي». يومها بقي الطيران الحربي في السماء، مع قصف المدينة، وكانت قذائف «الهاون» تنهال كزخات المطر. ويزيد محمد: «قوافل المدنيين الفارِّين وصلت مدخل المدينة الجنوبي حتى آخر نقطة شمالاً. أتذكر رجلاً عربياً كان يمسك حبلاً ملفوفاً على رأس بقرته، يهذي قائلاً: العثمانيون قادمون، المجرمون قادمون».
وقُتلت السياسية الكردية هفرين خلف، على أيدي «الجيش الوطني السوري» المدعوم من قبل تركيا، أثناء عملية «نبع السلام» العسكرية التركية في شمال شرقي سوريا، نهاية العام الفائت. يومها كانت الصحافية رنكين شرو في تلك المنطقة تغطي الحدث. تتذكر تلك اللحظات وكأنها حدثت قبل قليل، وكيف ذهبت لمدينة تل أبيض التي كانت خاوية على عروشها بسبب القصف المدفعي: «قررنا العودة من طريق (m4) لكن عناصر (الأسايش) طلبوا تغيير الطريق لوجود مسلحين مدعومين من تركيا، وفعلاً اتجهنا إلى الرقة، وبعد وصولنا عرفت أن هفرين قُتلت على يد المسلحين».
ونقل المراسل الميداني محمد حسن الذي يعمل منذ 2016 مع قناة «روسيا اليوم» أنه كان من بين الطواقم الطبية والإعلامية التي تمكنت من الوصول إلى مكان مقتل السياسية الكردية هفرين خلف. وقال: «وصلنا إلى موقع الاغتيال، وكانت يومها الطريق السريعة غير مؤمنة. نقلنا جثتها إلى مشفى بلدة تل تمر المجاورة. وصادف مجيء أكثر من عشرين جنازة لمدنيين. كانت مشاهد مروعة ارتكبها الجيش التركي بحق أبناء رأس العين»، وأضاف: «في أحد الأيام ضربت مقاتلة تركية أطراف مخيم عين عيسى أمامي. نجوت بحياتي، وبعد وصولي للمنزل كانت نشرات الأخبار تنقل خبر هروب 700 من عائلات وأسر تنظيم (داعش) هربوا إلى تركيا». وتعرف أول مرة على تنظيم «داعش» الإرهابي عندما قام بتغطية فرار آلاف اللاجئين الإيزيديين عبر الحدود السورية من جبال شنكال، التي تعد موطن الأقلية الكردية الأصلي. وقال محمد: «آنذاك، لم تتسع عدسة الكاميرا لنقل مأساة هؤلاء الفارين».
وذكر الصحافي الحربي هيبار عثمان الذي يعمل مع قناة «الحرة» منذ 2017، أن التوغل التركي على شرق الفرات تسبب في مقتل «4 إعلاميين، وأصيب 14 آخرون بجروح بليغة، بعد تعرض قافلة مدنية مشكلة من فرق صحافية وطواقم طبية لقصف من الطيران الحربي. كما صادرت فصائل المعارضة منازل وممتلكات 10 صحافيين يتحدرون من المدينة»، ويصعب عليه نسيان المقابلات مع الشهود الذين عايشوا ظروف الحرب. يسرد قصة سيدة نازحة بالمخيم كانت تقف في حيرة من أمرها لإطعام أطفالها الصغار: «أتذكر تفاصيل وجهها. كانت تسعى لتأمين كاسة شاي أو رغيف خبز لإشباع أطفالها الصغار». وتتكرر على مسامعه شهادة شاب يتحدر من الرقة، فقد زوجته وأبناءه جراء قصف الطيران الحربي. ويزيد: «أحمد المحمود أصبح مقعداً بعدما قُطعت كلتا قدميه جراء القصف. هذه الشخصيات باتت جزءاً من حياتي، وأتساءل: كيف وضعهم اليوم؟».
ونقلت رنكين التي تعمل مع شبكة «رووداو» الكردية منذ 2013، أن ظروف الحرب تستوجب معاينة القتل والنزوح، ومشاهدة الطيران الحربي، وقذائف «الهاون» من قنابل الدبابات. ولفتت إلى أن «هذه المشاهد أصبحت ملازمة للتاريخ والحاضر الكردي، فالأزمة السورية هي الأسوأ على الإطلاق بالنسبة للصحافيين. تعرضتُ في فترة عملي القصيرة نسبياً هنا إلى مواقف صعبة وخطرة جداً، سأتذكرها ما حييت». وقالت في ختام حديثها: «حرصي في بعض الأحيان، وربما الحظ في أحيان كثيرة، كان سبباً في نجاتي والحمد لله. فالحقيقة ضريبتها كبيرة، قد تفقد حياتك في سبيلها».


مقالات ذات صلة

«حالة من الصمت» يحصد «جائزة الشرق الوثائقية»

يوميات الشرق الفيلم يتناول مخاطرة صحافيين بحياتهم لتغطية «سياسات المخدّرات» في المكسيك (الشرق الأوسط)

«حالة من الصمت» يحصد «جائزة الشرق الوثائقية»

فاز الفيلم الوثائقي «حالة من الصمت» للمخرج سانتياغو مازا بالنسخة الثانية من جائزة «الشرق الوثائقية».

«الشرق الأوسط» (جدة)
رياضة عربية المهندس خالد عبد العزيز رئيس المجلس الأعلى للإعلام في مصر (صفحة المجلس على «فيسبوك»)

مصر: قرارات جديدة لمواجهة «فوضى الإعلام الرياضي»

أصدر المجلس الأعلى لتنظيم الإعلام في مصر، برئاسة المهندس خالد عبد العزيز مجموعة قرارات، اعتماداً لتوصيات لجنة ضبط أداء الإعلام الرياضي.

محمد الكفراوي (القاهرة)
أوروبا مراسلات يتحدثن أمام الكاميرات خلال تغطية صحافية في البرازيل (رويترز)

ثلثهم على أيدي الجيش الإسرائيلي... مقتل 54 صحافياً في عام 2024

قُتل 54 صحافياً حول العالم أثناء قيامهم بعملهم أو بسبب مهنتهم في عام 2024، ثلثهم على أيدي القوات الإسرائيلية، وفق ما أظهر تقرير سنوي.

«الشرق الأوسط» (باريس)
يوميات الشرق الصحافي سامح اللبودي والزميلة بيسان الشيخ من «الشرق الأوسط»

«الشرق الأوسط» تفوز ببرونزية «أريج» للصحافة الاستقصائية

فازت «الشرق الأوسط» بالجائزة البرونزية للصحافة الاستقصائية العربية التي تمنحها مؤسسة «أريج»، عن تحقيق: قصة الإبحار الأخير لـ«مركب ملح» سيئ السمعة.

«الشرق الأوسط» (لندن)
يوميات الشرق صورة تذكارية لعدد من أعضاء مجلس الإدارة (الشركة المتحدة)

​مصر: هيكلة جديدة لـ«المتحدة للخدمات الإعلامية»

تسود حالة من الترقب في الأوساط الإعلامية بمصر بعد إعلان «الشركة المتحدة للخدمات الإعلامية» إعادة تشكيل مجلس إدارتها بالتزامن مع قرارات دمج جديدة للكيان.

«الشرق الأوسط» (القاهرة )

كيف يؤطّر الإعلام المعارك ويتلاعب بسردياتها؟

دخان يتصاعد خلال عملية عسكرية إسرائيلية على مخيم «نور شمس» للاجئين قرب مدينة طولكرم في الضفة الغربية (إ ب أ)
دخان يتصاعد خلال عملية عسكرية إسرائيلية على مخيم «نور شمس» للاجئين قرب مدينة طولكرم في الضفة الغربية (إ ب أ)
TT

كيف يؤطّر الإعلام المعارك ويتلاعب بسردياتها؟

دخان يتصاعد خلال عملية عسكرية إسرائيلية على مخيم «نور شمس» للاجئين قرب مدينة طولكرم في الضفة الغربية (إ ب أ)
دخان يتصاعد خلال عملية عسكرية إسرائيلية على مخيم «نور شمس» للاجئين قرب مدينة طولكرم في الضفة الغربية (إ ب أ)

سواء في الحرب الروسية - الأوكرانية، أو الحروب المشتعلة في الشرق الأوسط راهناً، لعب الإعلام دوراً مثيراً للجدل، وسط اتهامات بتأطير مخاتل للصراعات، وصناعة سرديات وهمية.

هذا الدور ليس بجديد على الإعلام، حيث وثَّقته ورصدته دراسات دولية عدة، «فلطالما كانت لوسائل الإعلام علاقة خاصة بالحروب والصراعات، ويرجع ذلك إلى ما تكتسبه تلك الحروب من قيمة إخبارية بسبب آثارها الأمنية على الجمهور»، حسب دراسة نشرتها جامعة كولومبيا الأميركية عام 2000.

الدراسة أوضحت أن «الصراع بمثابة الأدرينالين في وسائل الإعلام. ويتم تدريب الصحافيين على البحث عن الخلافات والعثور على الحرب التي لا تقاوم. وإذا صادفت وكانت الحرب مرتبطة بهم، يزداد الحماس لتغطيتها».

لكنَّ الأمر لا يتعلق فقط بدور وسائل الإعلام في نقل ما يدور من أحداث على الأرض، بل بترويج وسائل الإعلام لروايات بعضها مضلِّل، مما «قد يؤثر في مجريات الحروب والصراعات ويربك صانع القرار والمقاتلين والجمهور والمراقبين»، حسب خبراء وإعلاميين تحدثوا مع «الشرق الأوسط»، وأشاروا إلى أن «الإعلام في زمن الحروب يتخندق لصالح جهات معينة، ويحاول صناعة رموز والترويج لانتصارات وهمية».

يوشنا إكو

حقاً «تلعب وسائل الإعلام دوراً في الصراعات والحروب»، وفق الباحث الإعلامي الأميركي، رئيس ومؤسس «مركز الإعلام ومبادرات السلام» في نيويورك، يوشنا إكو، الذي قال إن «القلم أقوى من السيف، مما يعني أن السرد حول الحروب يمكن أن يحدد النتيجة».

وأشار إلى أن قوة الإعلام هي الدافع وراء الاستثمار في حرب المعلومات والدعاية»، ضارباً المثل بـ«الغزو الأميركي للعراق الذي استطاعت إدارة الرئيس الأسبق جورج بوش تسويقه للرأي العام الأميركي باستخدام وسائل الإعلام».

وأضاف إكو أن «وسائل الإعلام عادةً ما تُستخدم للتلاعب بسرديات الحروب والصراعات للتأثير في الرأي العام ودفعه لتبني آراء وتوجهات معينة»، مشيراً في هذا الصدد إلى «استخدام الرئيس الروسي فلاديمير بوتين وسائل الإعلام لتأطير الحرب ضد أوكرانيا، وتصويرها على أنها عملية عسكرية وليست حرباً».

لكنَّ «الصورة ليست قاتمة تماماً، ففي أحيان أخرى تلعب وسائل الإعلام دوراً مناقضاً»، حسب إكو، الذي يشير هنا إلى دور الإعلام «في تشويه سمعة الحرب الأميركية في فيتنام مما أجبر إدارة الرئيس الأسبق ريتشارد نيكسون على الاعتراف بالخسارة ووقف الحرب».

وبداية نوفمبر (تشرين الثاني) الماضي، عُقدت الحلقة الدراسية الإعلامية الدولية الثلاثية للأمم المتحدة حول السلام في الشرق الأوسط بجنيف، لبحث التحديات في متابعة «حرب غزة». وأشارت المناقشات إلى «تأطير الإعلام إسرائيل على أنها بطل للرواية، حيث تكون إسرائيل هي الأخيار وفلسطين وحماس الأشرار»، ولفتت المناقشات إلى أزمة مماثلة خلال تغطية الحرب الروسية - الأوكرانية. وقالت: «من شأن العناوين الرئيسية في التغطية الإعلامية أن تترك المرء مرتبكاً بشأن الوضع الحقيقي على الأرض، فلا سياق للأحداث».

ستيفن يونغبلود

وهنا، يشير مدير ومؤسس «مركز صحافة السلام العالمية» وأستاذ الإعلام ودراسات السلام في جامعة بارك، ستيفن يونغبلود، إلى أن «الصحافيين يُدفعون في أوقات الحروب إلى أقصى حدودهم المهنية والأخلاقية». وقال: «في هذه الأوقات، من المفيد أن يتراجع الصحافي قليلاً ويأخذ نفساً عميقاً ويتمعن في كيفية تغطية الأحداث، والعواقب المترتبة على ذلك»، لافتاً في هذا الصدد إلى «صحافة السلام بوصفها وسيلة قيمة للتأمل الذاتي». وأضاف أن «الإعلام يلعب دوراً في تأطير الحروب عبر اعتماد مصطلحات معينة لوصف الأحداث وإغفال أخرى، واستخدام صور وعناوين معينة تخدم في العادة أحد طرفي الصراع».

وتحدث يونغبلود عن «التباين الصارخ في التغطية بين وسائل الإعلام الغربية والروسية بشأن الحرب في أوكرانيا»، وقال إن «هذا التباين وحرص موسكو على نشر سرديتها على الأقل في الداخل هو ما يبرر تأييد نحو 58 في المائة من الروس للحرب».

أما على صعيد «حرب غزة»، فيشير يونغبلود إلى أن «أحد الأسئلة التي كانت مطروحة للنقاش الإعلامي في وقت من الأوقات كانت تتعلق بتسمية الصراع هل هو (حرب إسرائيل وغزة) أم (حرب إسرائيل وحماس)؟». وقال: «أعتقد أن الخيار الأخير أفضل وأكثر دقة».

ويعود جزء من السرديات التي تروجها وسائل الإعلام في زمن الحروب إلى ما تفرضه السلطات عليها من قيود. وهو ما رصدته مؤسسة «مراسلون بلا حدود»، في تقرير نشرته أكتوبر (تشرين الأول) الماضي، أشارت فيه إلى «ممارسة إسرائيل تعتيماً إعلامياً على قطاع غزة، عبر استهداف الصحافيين وتدمير غرف الأخبار، وقطع الإنترنت والكهرباء، وحظر الصحافة الأجنبية».

خالد القضاة

الصحافي وعضو مجلس نقابة الصحافيين الأردنيين، خالد القضاة، يرى أن «الدول والمنظمات التي تسعى لفرض الإرادة بقوة السلاح، عادةً ما تبدأ حروبها بالإعلام». وأوضح أن «الإعلام يُستخدم لتبرير الخطوات المقبلة عبر تقديم سرديات إما مشوَّهة وإما مجتزَأة لمنح الشرعية للحرب».

وقال: «في كثير من الأحيان تُستخدم وسائل الإعلام للتلاعب بالحقائق والشخوص وشيطنة الطرف الآخر وإبعاده عن حاضنته الشعبية»، وأشار إلى أن ذلك «يكون من خلال تبني سرديات معينة والعبث بالمصطلحات باستخدام كلمة عنف بدلاً من مقاومة، وأرض متنازع عليها بدلاً من محتلة».

وأضاف القضاة أن «تأطير الأحداث يجري أيضاً من خلال إسباغ سمات من قبيل: إرهابي، وعدو الإنسانية، على أحد طرفَي الصراع، ووسم الآخر بـ: الإصلاحي، والمدافع عن الحرية، كل ذلك يترافق مع استخدام صور وعناوين معينة تُسهم في مزيد من التأطير»، موضحاً أن «هذا التلاعب والعبث بسرديات الحروب والصراعات من شأنه إرباك الجمهور والرأي العام وربما التأثير في قرارات المعارك ونتائجها».

ولفت إلى أنه «قياساً على الحرب في غزة، يبدو واضحاً أن هذا التأطير لتغليب السردية الإسرائيلية على نظيرتها في الإعلام الغربي». في الوقت نفسه أشار القضاة إلى «إقدام الإعلام على صناعة رموز والحديث عن انتصارات وهمية وزائفة في بعض الأحيان لخدمة سردية طرف معين، وبث روح الهزيمة في الطرف الآخر».

منازل ومبانٍ مدمَّرة في مخيم المغازي للاجئين خلال العملية العسكرية الإسرائيلية على قطاع غزة (إ.ب.أ)

كان «مركز الدراسات الدولية والاستراتيجية» قد أشار في تقرير نشره في ديسمبر (كانون الأول) 2023، إلى أن «اللغة التحريضية لتغطية وسائل الإعلام الأميركية للصراع الفلسطيني- الإسرائيلي تؤثر في تصور المجتمعات المختلفة بعضها لبعض ويمكن أن تكون سبباً لأعمال الكراهية». وأضاف: «هناك تحيز في وسائل الإعلام ومنصات التواصل الاجتماعي بهدف إثارة رد فعل عاطفي، بدلاً من تقديم رؤية حقيقية للأحداث».

حسن عماد مكاوي

عميد كلية الإعلام الأسبق بجامعة القاهرة، الدكتور حسن عماد مكاوي، يرى أن «توظيف الدول وأجهزة الاستخبارات لوسائل الإعلام أمر طبيعي ومتعارف عليه، لا سيما في زمن الحروب والصراعات». وقال إن «أحد أدوار الإعلام هو نقل المعلومات التي تؤثر في اتجاهات الجماهير لخدمة أهداف الأمن القومي والسياسة العليا». وأضاف أن «وسائل الإعلام تلعب هذا الدور بأشكال مختلفة في كل دول العالم، بغضّ النظر عن ملكيتها، وانضمت إليها حديثاً وسائل التواصل الاجتماعي، حيث يجري توظيف شخصيات تبدو مستقلة للعب نفس الدور ونقل رسائل الدولة أو الحكومة».

وأشار مكاوي إلى أن «هذه العملية لا تخلو من ترويج الشائعات ونشر أخبار مضللة، والتركيز على أمور وصرف النظر عن أخرى وفق أهداف محددة مخططة بالأساس». وضرب مثلاً بـ«حرب غزة» التي «تشهد تعتيماً إعلامياً من جانب إسرائيل لنقل رسائل رسمية فقط تستهدف تأطير الأحداث في سياق معين».