قبل أن يُسدل الستار على عام 2019، حدث تطوران لافتان في ملف العلاقة بين حرية الرأي والتعبير واحترام العقائد والأديان؛ وهما تطوران فجرا جدلاً كبيراً، يمكن استخلاص عدد من الدروس منه.
فقد أعلنت شبكة «نتفليكس» عن إطلاق فيلم، لمناسبة الاحتفال بأعياد الميلاد، عنوانه «الإغواء الأول للمسيح»، في محاولة لمحاكاة الشريط الشهير «الإغواء الأخير للمسيح»، للمخرج العالمي مارتن سكورسيزي، الذي أُنتج في عام 1988.
ينسب فيلم «نتفليكس» للسيد المسيح، وللسيدة العذراء صفات شائنة، تذرعاً بحرية الرأي والتعبير، وهو الأمر الذي أثار غضباً واسعاً؛ إذ وقّع نحو مليوني شخص عريضة تطالب المنصة الشهيرة بسحب الفيلم والاعتذار عنه، كما ألغى مشتركون اشتراكاتهم فيها.
ومن أبرز التعليقات التي وردت على الفيلم، المُنتج بواسطة شركة برازيلية، ما كتبه إدواردو بولسونارو، نجل الرئيس البرازيلي على «تويتر»؛ إذ قال: «نحن نحترم حرية الرأي والتعبير، لكن هل يستحق هذا مهاجمة معتقد نحو 86 في المائة من الشعب؟».
لم يمر كثير من الوقت على هذه الواقعة المؤثرة، إلا وظهر تطور جديد في الملف ذاته، حين أعلن النائب الهولندي خيرت فيلدرز (المعروف بعدائه للإسلام) عن مسابقة دولية لرسومات كاريكاتورية حول الرسول محمد (صلى الله عليه وسلم)، في محاولة لإعادة الروح إلى «الرسوم المسيئة»، التي استنفرت غضب مسلمين، وكان من أبرز تداعياتها الهجوم المسلح على مجلة «شارلي إيبدو»، في فرنسا.
يخطئ من يظن أن معالجة مثل تلك القضايا يمكن أن تتم من زاوية واحدة؛ إذ تحتاج مقاربتها إلى تقصٍ دقيق للخيط الرفيع الذي يفصل بين حرية الرأي والتعبير من جهة وازدراء الأديان من جهة أخرى.
وبالتالي، فإن الحديث عن ضرورة إطلاق حرية الرأي والتعبير إلى حدها الأقصى، من دون أي قيود أو حدود هو حديث محل نظر، طالما أنه قد يتعارض مع حق أصيل آخر يتمثل في احترام معتقدات البشر.
هناك تنظيم لمسألة مقاربة العقائد في المجتمعات الغربية، وهو تنظيم لا يعاقب على الرأي بعقوبات مادية حادة في أغلب الأحيان، ولا يترك الحبل على الغارب بشكل يمكن أن يشكل انتهاكاً لحق المعتقدين أنفسهم في حماية مقدساتهم واحترامها، أو يفتح الباب للفتن والتمييز والكراهية بين أبناء المجتمع.
في الولايات المتحدة مثلاً، يعد «التعديل الأول» الذي طرأ على الدستور الأميركي عنصراً حاكماً يؤطر الممارسة الإعلامية وغيرها من الممارسات المتصلة بحرية الرأي والتعبير، حيث يحظر هذا التعديل سن أي قانون يحد من حرية الكلام، لكنه ينطوي أيضاً على فكرة عدم سن قوانين من شأنها الحض على ممارسة شعائر دين معين، أو الامتناع عن ممارسة شعائر دين معين.
سيقودنا هذا إلى إيجاد تفسير لبعض «التناقضات» بين مفهومي الانفتاح وحرية الرأي من جانب، والإجراءات التقييدية التي تتخذ بحق بعض «المعبرين عن آرائهم» من جانب آخر، في المجتمعات الغربية.
فكيف سنفهم مثلاً أن الدستور في ألمانيا ينص على «الحرية المطلقة للضمير»، لكن البيئة التشريعية تحظر حظراً تاماً أي دعوة لشن حرب وأي «تشكيك في المحرقة»؟
وكيف سنفهم أيضاً ما تفعله فرنسا، التي تفرض عقوبات صارمة على «معاداة السامية»، إلى حد أن إحدى محاكمها أصدرت يوماً حكماً بالسجن ضد مفكر مثل غارودي، بسبب «رأي كتبه في كتاب»؟
يبدو أن لكل مجتمع من المجتمعات خطوطاً حمراء يريد أن يحافظ عليها من دون خرق أو تجاوز، وتلك الخطوط تتفاوت من مجتمع إلى آخر، كما تتفاوت الإجراءات الرادعة المستخدمة في كل دولة من دول العالم، بحسب عوامل متعددة.
فحرية الرأي قد تكون قيمة حيوية في مجتمع ما بأكثر من قيمة احترام العقائد، والعكس صحيح، كما أن مكانة كل من القيمتين يمكن أن تتبدل داخل المجتمع الواحد بتبدل الأوقات والظروف.
لا أحبذ بالطبع حجب أي رأي أو قمع أي تعبير، ولا أريد لعقوبة الحبس أن تكون جزاءً لكلام يقال، رغم أن هذا يحدث في بلدان كثيرة من العالم.
ومن جانب آخر، فإن مقاربة «القيم الحيوية» لأي أمة يجب أن تكون من خلال جهد علمي أو فني جاد ومدروس، وأن تأتي في شكل لائق ومتزن، وأن تنأى تماماً عن أي تحقير أو استخفاف، وأن تستهدف التنوير والمصلحة العامة، وليس تكريس الصراعات وخلق الفتن.
فهل يمكن ممارسة حرية الرأي والتعبير، وتقديم الآراء والانتقادات الجادة واللائقة بحق أي طرح، من دون إهانة مقدسات وعقائد يؤمن بها مئات الملايين؟
«الرسوم المسيئة»... و«إغواء المسيح»
«الرسوم المسيئة»... و«إغواء المسيح»
لم تشترك بعد
انشئ حساباً خاصاً بك لتحصل على أخبار مخصصة لك ولتتمتع بخاصية حفظ المقالات وتتلقى نشراتنا البريدية المتنوعة