الأبعاد الجيوسياسية للصراع على الغاز والنفط في شرق المتوسط

وليد خدوري
وليد خدوري
TT

الأبعاد الجيوسياسية للصراع على الغاز والنفط في شرق المتوسط

وليد خدوري
وليد خدوري

تحول الصراع على ثروات النفط والغاز في البحر المتوسط إلى مادة ملتهبة، تزيد من أسباب النزاعات والخلافات على المصالح. من الصراع المائي والنفطي قديم العهد بين لبنان وإسرائيل إلى الصراع المنفجر حديثاً بين تركيا من جانب، وكل من اليونان وجمهورية قبرص من الجانب الآخر، إذ تجاهلت تركيا، في طريقها للتوسع السياسي للوصول إلى الشواطئ الليبية، أن شواطئ جزيرة كريت هي أراضٍ يونانية، وصولاً إلى الصراع الثالث، حديث العهد، القائم بين تركيا ومصر؛ الدولتين الكبريين في منطقة شرق المتوسط، نظراً إلى ارتفاع عدد السكان في كل منهما من جهة، وإلى تقدمهما الصناعي من جهة أخرى، ما يتطلب استهلاكاً عالياً من الطاقة لتغذية هذه الصناعات.

تشكل تركيا نقطة عبور مهمة لنفط وغاز روسيا ودول بحر قزوين إلى أوروبا. إلا أنها تفتقد الاحتياطات البترولية وهي بحاجة إلى زيادة وارداتها السنوية البترولية، نظراً لضخامة وتطور صناعاتها. ولهذا انتهز الرئيس التركي رجب طيب إردوغان فرصة التنقيب عن النفط في شرق المتوسط للمشاركة في ثروات المنطقة.
وهكذا دخول الجانب التركي على خط المواجهة في الإقليم من البوابة الليبية سبب مباشر في تأجيج الصراع، ودخوله مرحلة جديدة على المستوى السياسي والعسكري معاً، ما دفع دول المنطقة إلى إنشاء «منتدى غاز المتوسط» (مقره القاهرة)، ويضم مصر واليونان وقبرص وإيطاليا والأردن وفلسطين وإسرائيل، فيما استبعدت منه تركيا لحسابات سياسية واستراتيجية.
هنا عرض لجوانب الصراع على الثروات بين الدول المحاذية للبحر المتوسط، شارك فيه الخبير الاقتصادي وليد خدوري والدكتور طارق فهمي المتخصص في العلاقات الدولية.

شاركت العوامل الاقتصادية والجيوسياسية في اكتشاف البترول (النفط والغاز) بمعظم الأقطار المنتجة. ازداد الصراع الجيوسياسي في بعض الأحيان ليشمل منافسات حادة بين الشركات الدولية، اشتدت النزاعات أحياناً للحصول على شروط مفضلة لتتطور وتشمل نزاعاً بين دول الشركات المتنافسة (الدول الصناعية الكبرى).
امتدّت أوجه النزاعات هذه طوال القرن العشرين لتبرز مؤخراً في الصناعة الغازية الفتية في شرق البحر الأبيض المتوسط؛ إذ شجع اكتشاف الغاز في المياه المصرية شمال ميناءي الإسكندرية وبورسعيد، الدول والمناطق المطلّة على شرق المتوسط (فلسطين، وإسرائيل، وقبرص، ولبنان، وسوريا، وتركيا) التي تشكو من شح مصادر الثروة البترولية في أراضيها، على محاولة الاستفادة من الاكتشافات المصرية لبدء المسوحات الزلزالية في مناطقها الاقتصادية الخالصة في البحر المتوسط، للتعرف على جيولوجية مناطقها البحرية، وإمكانية اكتشاف حقول بترولية فيها.
الصراع العربي ـ الإسرائيلي

شكّل الصراع العربي - الإسرائيلي أول الخلافات الجيوسياسية لغاز شرق المتوسط، حين منحت السلطة الفلسطينية في 1999 عقداً للاكتشاف والإنتاج في بحر غزة لشركة «بريتش غاز» وشركائها، شركة اتحاد المقاولين المًوجودة في أثينا، وذات الملكية الفلسطينية، وصندوق الاستثمار الفلسطيني التابع للسلطة الوطنية الفلسطينية. اكتشفت «بريتش غاز» في 2000 حقل «غزة مارين» باحتياطي غازي محدود بنحو 1.4 تريليون قدم مكعب. ورغم مرور عقدين من الزمن، لا يزال هذا الحقل الفلسطيني البحري دون تطوير، وذلك بسبب رفض إسرائيل المستمر لتطويره. وقد اشترت مؤخراً شركة «رويال دتش شل» أصول شركة «بريتش غاز»، ومن ضمنها حقل «غزة مارين». لكن ارتأت «شل» عدم تطوير الحقل والإنتاج منه، وبادرت بعرض حصتها في «غزة مارين» للبيع. ويعمل الشريكان العربيان، شركة اتحاد المقاولين وصندوق الاستثمار الفلسطيني، على إيجاد شركة نفطية للعمل معهما في الحقل، وإيجاد الطرق المناسبة لاستغلال ثروته الغازية.
احتكرت إسرائيل تزويد الضفة الغربية بالوقود وبالأسعار وبالكميات التي تحددها. كما هيمنت إسرائيل على تزويد غزة بالوقود، مع إتاحة نافذة صغيرة لمصر للمساهمة أيضاً.
شكّل إيقاف تطوير الحقل وقطع الإمدادات عن الضفة وغزة في الوقت الذي ترتئيه إسرائيل أول نزاع بترولي في شرق المتوسط.
عدم رسم الحدود البحرية قبل الاهتمام بالاكتشافات البترولية

أما النزاع الثاني، فهو يشمل مشكلة عدم رسم الحدود البحرية للمناطق الاقتصادية الخالصة ما بين الدول المجاورة قبل الاهتمام بالثروة البترولية، لاحتمال تداخل هذه المناطق القريبة من بعضها. وبالإضافة إلى الصراع العربي - الإسرائيلي فقد توصل لبنان وقبرص في 2007 إلى رسم الخط الوسطي بين البلدين. لكن لم يتم تحديد النقطة الجنوبية أو الشمالية لهذا الخط. إذ كان يتطلب تحديد النقطة الجنوبية عقد اجتماع ثلاثي بين قبرص ولبنان وإسرائيل. لكن، بما أن لبنان في حال حرب مع إسرائيل، فلا يمكن عقد اجتماع كهذا. أما بالنسبة للنقطة الشمالية، فترفض سوريا التفاوض لرسم الحدود البحرية مع لبنان، ومن ثم تحديد النقطة الشمالية بين لبنان وسوريا وقبرص.
اضطر لبنان إلى رسم هاتين النقطتين على بعد قليل من النقاط المفروضة للمضي قدماً في رسم الخط الوسطي مع قبرص. وأودع مذكرة دبلوماسية وخرائط لحدوده البحرية مع الأمين العام للأمم المتحدة بغض النظر عن النقطتين الشمالية والجنوبية.
من جانبها، أكدت الاتفاقية البحرية الحدودية بين قبرص ولبنان عدم قيام أي من الطرفين بالاتفاق مع طرف ثالث دون العودة إلى الطرف الثاني للحصول على موافقته المسبقة. كان هذا الحل هو الخيار الوحيد المتوفر للبنان في رسم الخط الوسطي مع قبرص. لكن بادرت نيقوسيا لاحقاً إلى الاتفاق مع إسرائيل ثنائياً، والإعلان عن رسم حدود منطقتها الاقتصادية الخالصة مع إسرائيل دون إعلام الجانب اللبناني، الأمر الذي أدى إلى وضع يد إسرائيل على مناطق مهمة وموعودة بترولياً في أقصى المياه الجنوبية اللبنانية. حاولت الولايات المتحدة لعب دور الوسيط لحل الخلاف، لكن دون جدوى؛ إذ طالب المفاوض الأميركي شروطاً سياسية على لبنان تقديمها، الأمر الذي أدى إلى تعثر المفاوضات وعدم التوصل إلى نتائج إيجابية لرفض لبنان المطالب الأميركية.
من المتوقع أن تثير مشكلة وضع إسرائيل اليد على جزء مهم من المياه الجنوبية اللبنانية تحديات للشركات العاملة في الجنوب اللبناني في القريب العاجل، رغم إمكانية هذه الشركات بالتنقيب عن الغاز على بُعد عدة كيلومترات شمال المناطق المتنازع عليها.

النزاع التركي ـ المصري ومحاولات أنقرة للتوسع

الصراع الثالث، حديث العهد، يتعلق بالدولتين الأكبر في منطقة شرق المتوسط (تركيا ومصر)، نظراً إلى ارتفاع عدد السكان في كل منهما من جهة، وإلى تقدمهما الصناعي، مما يتطلب استهلاكاً عالياً من الطاقة لتغذية هذه الصناعات.
تشكل تركيا نقطة عبور مهمة جداً لنفط وغاز روسيا ودول بحر قزوين إلى أوروبا. إلا أن تركيا تفتقد الاحتياطات البترولية وهي بحاجة إلى زيادة وارداتها السنوية البترولية نظراً لضخامة وتطور صناعاتها.
تبنى الرئيس رجب طيب إردوغان سياسة ذات هدفين: التوسع في المناطق المجاورة، وتأييد الحركات الإسلامية. انتهز فرصة التنقيب البترولي في شرق المتوسط للمشاركة في ثروات المنطقة. كما يؤيد إردوغان سياسات جماعة «الإخوان المسلمين»، لكن رغم ذلك يُسمح بالتصدير عبر ميناء جيهان التركي إلى ميناء عسقلان الإسرائيلي مئات الآلاف من براميل النفط يومياً من نفط إقليم كردستان العراق إلى إسرائيل.
في الوقت ذاته، يتطلب أن تبذل مصر جهوداً مستمرة للعثور على احتياطات بترولية جديدة لتلبية ازدياد الاستهلاك السنوي للنفط، في حين أن احتياطاتها النفطية لا تزال محدودة نسبياً. وكذلك العمل السنوي لزيادة احتياطات الغاز، وهي وإن ازدادت مؤخرا، خصوصاً بعد اكتشاف شركة «إيني» لحقل «ظهر» العملاق في 2015، الذي يُعتبر أضخم حقل غاز في البحر المتوسط، فإن زيادة الاستهلاك الداخلي، واعتماد نحو 85 في المائة من توليد الطاقة الكهربائية المصرية حالياً على الغاز، بالإضافة إلى محاولة مصر الاستفادة القصوى من منشآتها الغازية من أنابيب الغاز الدولية ومحطات تسييل الغاز لأجل التصدير، تدفعها إلى زيادة الاكتشافات للعثور على حقول جديدة سنويّاً، منها المحاولات الحالية للاستكشاف والإنتاج من المناطق الغربية في المتوسط القريبة من المياه الليبية، التي ستتأثر سلباً بالاتفاق الحدودي التركي - الليبي.
تُعتبر مصر دولة نفطية وغازية في الوقت ذاته، مما يجعلها في وضع أفضل من تركيا التي تفتقد الاحتياطات البترولية، إلا أن مشكلة مصر أنها تعاني عجزاً في الإنتاج النفطي مقارنة باستهلاكها الداخلي. وبالنسبة للغاز الطبيعي، فقد تم تزويد معظم المحطات الكهربائية بالغاز، مما يعني استهلاكاً داخلياً عالياً ومتزايداً سنوياً للغاز، الأمر الذي يدعو إلى ضرورة اكتشاف حقول غاز جديدة لتعويض ما يتم استهلاكه، ولتلبية زيادة الاستهلاك السنوي.

تركيا وقبرص
انتهزت أنقرة الاكتشافات الغازية في شرق المتوسط لمحاولة بسط نفوذها. وكانت الخطوة الأولى الضغوط والتهديدات لمحاولات الاكتشاف القبرصية. ادعت أنقرة أن المنطقة الاقتصادية الخالصة القبرصية تابعة للمياه التركية. وأرسلت طائراتها الحربية لتحلق على مستوى منخفض فوق الحفارات العاملة في المياه القبرصية، إلا أن قبرص، العضو في الاتحاد الأوروبي، استمرت في استكشافاتها، رغم التهديدات التركية. كما رفضت نيقوسيا، ومعها الشركات النفطية الدولية، تهديداً تركياً ثانياً، وهو مقاطعة أي شركة تعمل بإذن من السلطات القبرصية. وبادرت أنقرة فعلاً بتهديد شركة «إيني» بإيقاف أعمالها في تركيا، لكن رفض الاتحاد الأوروبي هذا التهديد، ومعه شركة «إيني». ثم تحدت تركيا الاتفاقات الحدودية البحرية بين مصر وجمهورية قبرص، الأمر الذي استدعى من وزارة الخارجية المصرية إصدار مذكرة شديدة اللهجة تهدد بردود فعل قوية، في حال تدخل تركيا بالاتفاق الحدودي القبرصي - المصري.
بادرت مصر في منتصف يناير (كانون الثاني) 2019 إلى عقد اجتماع في القاهرة لوزراء الطاقة في الدول المنتجة والمستهلكة والعابرة في شرق المتوسط (مصر، وفلسطين، والأردن، وإسرائيل، وقبرص، واليونان، وإيطاليا) لتأسيس منتدى غاز شرق المتوسط. ساندت الولايات المتحدة تأسيس المنتدى الذي يُلاحَظ عدم دعوة تركيا وروسيا للمشاركة فيه.
أبدى المنتدى ترحيبه بمشروعين قيد التنفيذ. الأول التصدير المشترك للغاز المسال المصري والقبرصي والإسرائيلي من محطات تسييل الغاز المصرية. وهذا التصدير المشترك يعمل لمصلحة الدول الثلاث، حيث إن الكميات المكتشفة من الغاز في قبرص وإسرائيل لا تزال محدودة، ولا تُعتبر اقتصادية بما فيه الكفاية للتصدير. إلا أنه بالتصدير المشترك للغاز المسال يمكن تلبية الإمدادات لسوق كبيرة، كالسوق الأوروبية.
كما رحّب المنتدى في الوقت ذاته بتشييد خط أنابيب بحري للغاز يبدأ من حيفا، فقبرص، واليونان، وحتى إيطاليا مستقبلاً. ويتم من خلال هذا المشروع دمج الغاز الإسرائيلي بالقبرصي وتصديرهما في مشروع منفصل إلى السوق الأوروبية. ودعمت السوق الأوروبية دراسات المشروع الذي تبلغ تكلفته نحو سبعة مليارات دولار. ووقّع رؤساء الدول المعنية مؤخراً على اتفاقية المشروع. إلا أن هناك ثغرة كبيرة؛ إذ لم يتم حتى الآن توقيع عقد بيع وشراء مع أي شركة أوروبية لشراء الغاز. وهذا يثير الاستغراب، إذ في العادة يتم الحصول على عقد بيع وشراء للغاز من قبل الشركة المستهلكة قبل تشييد مصانع التسييل أو أنابيب التصدير التي تكلف عادة مليارات الدولارات.
من الواضح أن المنتدى أرسى خريطة طريق لصادرات غاز شرق المتوسط تستبعد منها تركيا كما أرسى دور مصر المركزي لصناعة غاز شرق المتوسط. ومما وفر لمصر هذا الدور الريادي هو الاكتشافات الضخمة للغاز في مياهها.
ردَّت تركيا على هذه المشروعات بزيادة ضغوطها حول شرعية الدول المجاورة في التنقيب عن الغاز في «مياهها»، ثم أعلنت عن رسم حدود بحرية جديدة غير مسبوقة بينها وبين ليبيا. استنكرت اليونان التي تمر هذه الحدود بالقرب من مياهها المحاذية لجزيرة كريت اليونانية، وتنتهي في الغرب من ليبيا، ليس بعيداً عن الحدود المصرية، حيث تعمل مصر حالياً على اكتشاف البترول في المياه المجاورة. استنكرت مصر الإعلان عن الحدود البحرية الجديدة ما بين تركيا وليبيا، رغم أن الدولتين غير متجاورتين.
أثار الإعلان المشترك لغطاً واسعاً في ليبيا نفسها نظراً للخلافات بين طرابلس وبنغازي، حول صلاحية رئيس الحكومة للتوقيع على اتفاقية دولية دون مشاركة جميع أعضاء مجلس الوزراء على التوقيع أيضاً. واستنكر وعارض رئيس مجلس النواب الاتفاق الذي ينص على إمكانية إرسال تركيا مستشارين عسكريين إلى ليبيا نظراً إلى خطورة الوضع الأمني المضطرب في البلاد. ولا يُستبعد حصول اشتباكات بين القوات المصرية والتركية مستقبلاً؛ إذ أعلنت مصر أن الوجود العسكري التركي في ليبيا يشكّل خطراً على أمنها القومي.

مخططات إسرائيل لتصدير النفط والغاز
وجهت إسرائيل أنظارها منذ بدء اكتشافاتها الغازية في العقد الأول من الألفية الثانية إلى استغلال الغاز داخلياً، ومن ثم التوجه نحو التصدير. وتم الاتفاق على الحفاظ على 60 في المائة من الاحتياطي الغازي للسوق المحلية و40 في المائة للتصدير. وبدأت إسرائيل في الاعتماد على الغاز لتغذية محطات الكهرباء.
أما بالنسبة للتصدير، فكان الاهتمام الأولي لإسرائيل التصدير للسوق الأوروبية الضخمة والقريبة نسبياً، مقارنة بالسوق الآسيوية. فاتجهت الأنظار في السنوات الأولى بعد الاكتشافات في حقلي «تامار» و«لفيتان» للتصدير إلى أوروبا. ونظراً إلى التكاليف الباهظة لتطوير الحقلين (نحو 20 مليار دولار)، وجهت إسرائيل اهتمامها للتصدير إلى الدول العربية المجاورة التي عقدت معاهدات سلام معها. وحاز الأمر على اهتمام الشركات المنتجة أيضاً نظراً لقصر مسافة الأنابيب، ومن ثم تقليص تكاليف التشييد. لذا اتجهت إسرائيل، بدعم من الولايات المتحدة، إلى تبني مشروعات تصديرية للأردن ومصر، وهناك مفاوضات لتصدير الغاز من حقل «غزة مارين» للضفة الغربية وقطاع غزة، إلا أن هذه المفاوضات لا تزال في مراحلها الأولية.
* كاتب عراقي متخصص
في شؤون الطاقة



الحقيقة بين حَربَيْن: يوليو 2006 - أكتوبر 2023

رئيس الحكومة الأسبق فؤاد السنيورة (غيتي)
رئيس الحكومة الأسبق فؤاد السنيورة (غيتي)
TT

الحقيقة بين حَربَيْن: يوليو 2006 - أكتوبر 2023

رئيس الحكومة الأسبق فؤاد السنيورة (غيتي)
رئيس الحكومة الأسبق فؤاد السنيورة (غيتي)

المحنة الخطيرة التي تعرّض لها لبنان في عام 2006، بالمقارنة مع المحنة التي لا يزال يتعرّض لها منذ الثامن من أكتوبر (تشرين الأول) الماضي وحتى الآن، تبينان أن هناك أوجه شبه متعددة في جذورهما، كما أن هناك فروقات شاسعة بينهما، لا سيما بسبب تغير الظروف والأحوال.

منذ اللحظة التي قام بها العدو الإسرائيلي بعدوانه على لبنان في شهر يوليو (تموز) 2006، بحجة العملية العسكرية لـ«حزب الله» واختطافه عنصرين من الجيش الإسرائيلي، دعوتُ مجلس الوزراء للانعقاد والبحث في مخاطر هذا العدوان وتداعياته، واتخاذ التدابير، لحماية الأمن الوطني وحماية أمن اللبنانيين وسلامتهم، في المناطق التي أصبح يستهدفها، وللحؤول دون إفراغ الجنوب اللبناني من أهله.

لقد طرحتُ الأمر على مجلس الوزراء، وقلتُ بوضوح، إننا كحكومة فوجئنا ولم نكن على علم مسبّق بهذه العملية، وإننا لا نتبناها، ونستنكر عدوان إسرائيل على لبنان، وعلى سيادته وعلى الشعب اللبناني، وعلينا تقديم شكوى عاجلة إلى مجلس الأمن، والمطالبة بوقف إطلاق النار.

المسافة بين الدولة و«الحزب»

بذلك نجحت الحكومة آنذاك في إيجاد مسافة واضحة بين الدولة اللبنانية و«حزب الله»، وهو ما أفسح المجال أمامها في مخاطبة المجتمعين العربي والدولي، والتواصل معهما من أجل مساعدة لبنان وتعزيز صموده. وهذا أيضاً ما أهّلها ومكّنها بعد ذلك، وفي ظل عنف الجرائم التي باتت ترتكبها إسرائيل إلى أن تكتسب دور الضحية الذي حاولت إسرائيل أن تلبس رداءه منذ صباح الثاني عشر من يوليو (تموز).

حرصت منذ ذلك الوقت على أن تكون الدولة اللبنانية بكل مكوناتها وإمكاناتها هي المسؤولة عن كل ما يجري، وعن معالجة نتائج ما حصل وما سيحصل، وأنها ستتحمل مسؤولياتها باتخاذ كل القرارات والإجراءات التي تحمي لبنان واللبنانيين، وتوفير مقومات صمودهم والاهتمام بالنازحين اللبنانيين.

منذ ذلك اليوم، تحوّل السراي الحكومي إلى ورشة عمل وطنية لا تهدأ، كما تحول أعضاء الحكومة إلى فريق عمل واحد للدفاع عن لبنان، والعمل على استنهاض الجهود في كل إدارات الدولة ومرافقها وإمكاناتها من أجل توفير مقومات الحياة للبنانيين، كما استنهاض المجتمع المدني للقيام بدورهم بواجب الدفاع عن لبنان.

على المستوى الخارجي، تكثّفت الاتصالات اليومية وبالتعاون مع وزير الخارجية اللبناني بكبار المسؤولين في العالم، من الأمين العام للأمم المتحدة، ومروراً برؤساء الدول العربية الشقيقة، وكذلك الدول الصديقة ممن يملكون القرار، ولهم القوة والنفوذ والتأثير الدولي، وكان مطلبنا الأساسي والأول من مجلس الأمن الدولي وقف إطلاق النار.

في ذلك الوقت، استمرّ العدو الإسرائيلي في شن الحرب على لبنان، وفي استهداف المنشآت والمرافق، وتدمير الجسور والطرقات والمدارس والأبنية في القرى والبلدات، بينما جهدت الحكومة من أجل استنهاض العالم والمنظمات الدولية لإدانة ووقف ما يعانيه لبنان، وما يتعرّض له من مخاطر.

مهجرون في حرب تموز 2006 يعودون إلى مناطقهم بعد وقف إطلاق النار (غيتي)

خطة النقاط السبع

في ذلك الوقت، بادرت مع مجلس الوزراء، وبحضور رئيس الجمهورية ومشاركته الفعالة إلى بلورة صيغ الحلول للبنان، ووضعها بمتناول رؤساء دول العالم ومجلس الأمن من أجل وقف الحرب على لبنان ولإنهاء العدوان الإسرائيلي، حيث أقرت الحكومة خطة النقاط السبع التي عرضْتُها في مؤتمر روما، والتي اعتمدها مجلس الأمن من ضمن بناءاته في إصدار القرار الدولي بوقف إطلاق النار.

صدر القرار رقم 1701 عن مجلس الأمن، وتوقفت الحرب، وعاد النازحون إلى ديارهم وقراهم ابتداء من يوم 14 أغسطس (آب) 2006، وأنجزت ورشة البناء والإعمار للبنى التحتية وللأبنية المدمرة والمتضررة على أعلى درجات الكفاءة والصدقية والفاعلية والسرعة، وبفضل المساعدات الكريمة التي قدمتها الدول العربية، لا سيما دول الخليج، والدول الصديقة، والتي استند لبنان في الحصول عليها على الثقة التي رسختها الحكومة اللبنانية في علاقاتها مع جميع الأشقاء والأصدقاء. وبناء على ذلك، فقد عاد لبنان من جديد إلى نهوضه وازدهاره، ولممارسة دوره الطبيعي عربياً وعالمياً، وحيث استطاع لبنان خلال السنوات من 2007 إلى 2010 أن يحقق أعلى نسبة نمو في تاريخه الحديث لـ4 سنوات متوالية، وأن يحقق فائضاً سنوياً كبيراً في ميزان المدفوعات، وكذلك فائضاً إيجابياً كبيراً في مجموع الاحتياط من العملات الأجنبية لدى المصرف المركزي، وخفضاً نسبياً كبيراً في نسبة الدين العام اللبناني إلى ناتجه المحلي.

لقاء رئيس الحكومة الاسبق فؤاد السنيورة بالمستشارة الألمانية أنجيلا ميركل للاتفاق على مشاركة ألمانيا في قوات "يونيفيل" في 2006 (غيتي)

وحدة ساحات بلا مقوّمات

بالمقارنة، فإنَّ ما حصل في 8 أكتوبر عام 2023، نتيجة مبادرة «حزب الله» مستنداً إلى نظريته بوحدة الساحات، وهو قد قام بذلك منفرداً وعلى مسؤوليته، ومن دون اطلاع أو معرفة السلطات الشرعية في لبنان إلى إشعال الجبهة على حدود لبنان الجنوبية مع فلسطين المحتلة، وأيضاً دون الأخذ بالحسبان الظروف شديدة الصعوبة التي بات يعاني منها لبنان آنذاك، ولا يزال.

صباح اليوم التالي، في 8 أكتوبر 2023، أصدرتُ بياناً شدّدت فيه على أن لبنان لا يستطيع، ولا يمكن أن يُزجَّ به في هذه المعركة العسكرية، وعددت 5 أسباب أساسية فحواها الأزمة الوطنية والسياسية لعدم انتخاب رئيس للجمهورية، وعدم تأليف حكومة مسؤولة، والضائقة الاقتصادية الخانقة، وأزمة النازحين السوريين، وانحسار الصلات الوثيقة مع دول الاحتضان العربي، وعدم توفر شبكة الأمان العربية والدولية التي حمته في عام 2006، وكذلك عدم وجود عطف أو تأييد لدى غالبية اللبنانيين لدعم مثل هذا التدخل العسكري.

الآن، ولأنّ القرار 1701 لم يطبق كما يجب، ولأنَّ الأمم المتحدة ومجلس الأمن الدولي لم يلعبا دورهما في السهر على تطبيق جميع القرارات الدولية ذات الصلة بلبنان وبالقضية الفلسطينية كما يجب، وحيث أثبتت إسرائيل أنها لا تسعى لتحقيق السلام العادل والدائم في المنطقة، ولا تعترف بالقانون الدولي، ولا بالشرعية الدولية، ولا بالحقوق الإنسانية، وتمعن في جرائم الإبادة والقتل والتدمير في غزة والضفة الغربية، وترتد اليوم على لبنان لتعود وتقتل المدنيين وتهجر الآمنين وتدمر المنازل والمنشآت، وتَستعْمِل وسائل التكنولوجيا الحديثة واصطياد الناس الآمنين.

دور وطني يبحث عن أبطال

الآن، وقد أصبحنا على ما نحن عليه، من إرغامات ومن عوائق، وكذلك من نوافد يمكن الولوج منها نحو إخراج لبنان من نير هذا العدوان الإسرائيلي، فإنّه باعتقادي أن في لبنان الآن دوراً وطنياً كبيراً، يبحث عن أبطاله وفي غياب رئيس للجمهورية، وهما بنظري الرئيس نبيه بري بكونه رئيس السلطة التشريعية، والرئيس نجيب ميقاتي بكونه رئيس حكومة تصريف الأعمال، وعليهما أن يكتسبا بجهودهما وتفانيهما، شرف وأجر هذا الدور وهذه البطولة، وعلى جميع المسؤولين والحريصين على إنقاذ لبنان، أن يبادروا إلى مساعدتهما عبر تبني النقاط الست الآتية:

أولاً: إنَّ الواجب الوطني يقتضي من جميع اللبنانيين التضامن والتماسك والتصرف على قاعدة الوحدة والأخوة الوطنية الواحدة، وأن الشعب اللبناني بِرُمَّته يشجب ويدين هذا العدوان الإسرائيلي الغاشم الذي يستهدف لبنان كله والصيغة اللبنانية، بتآلف عناصرها وتفاعلها، والتي لا تحتمل غالباً أو مغلوباً.

بري متوسطاً ميقاتي وجنبلاط في لقاء عين التينة الأربعاء (إ.ب.أ)

ثانياً: إنَّ الحلول للبنان لن تكون ويجب ألا تكون إلا عبر الحلول الوطنية الجامعة، التي تركّز على التمسك بحسن واستكمال تطبيق اتفاق الطائف والدستور اللبناني، وبالدولة اللبنانية وسلطتها الواحدة والحصرية، وبقرارها الحر ودورها المسؤول في حماية الوطن والسيادة الوطنية، ومسؤوليتها الكاملة تُجاه شعبها وأمنه واستقراره.

ثالثاً: بما أنّ العدوان يطال كل لبنان ويصيب كل اللبنانيين، وليس من أحد منهم يتوسَّل العدوان الإسرائيلي، لكي يستفيد أو يدعم موقفه السياسي، فإنّ التفكير والبحث يجب أن ينصبَّ على ضرورة أن تعود الدولة اللبنانية لتأخذ على عاتقها زمام الأمور والمسؤولية، وما يقتضيه ذلك من موقف وطني جامع، بحيث يحتضن اللبنانيون بعضهم بعضاً ويكون همهم الوحيد إنقاذ لبنان وإخراجه من أتون هذه الأزْمة المستفحلة والخطيرة، التي تهدّد كيان الوطن ووحدة اللبنانيين وتماسكهم ومصيرهم.

رابعاً: مطالبة مجلس الأمن الدولي بإصدار قرارٍ بوقفٍ فوري لإطلاق النار في لبنان، وتَحَمُّلِ مسؤولياته في الحفاظ على السلم والأمن الدوليين، عبر التزام جميع الأطراف بالتطبيق الكامل والفوري للقرار الدولي 1701 بمندرجاته كافة، واحترام جميع القرارات الدولية ذات الصلة.

خامساً: مبادرة رئيس المجلس النيابي بدعوة المجلس إلى الانعقاد لمناقشة المخاطر التي تتربص بالدولة اللبنانية وبالشعب اللبناني بما يحفظ الكيان اللبناني، ويحترم الدستور اللبناني، ويحافظ على وحدة لبنان وسلامة أراضيه. كما الدعوة لانتخاب رئيس جديد للجمهورية دون أي إبطاء. رئيس يستطيع أن يجمع اللبنانيين، وبالتالي لتشكيل حكومة مسؤولة تتولى التنفيذ الكامل للقرار 1701، وتعمل لاستعادة العافية والسيادة اللبنانية وتعزيز دور الدولة اللبنانية الكامل في الحفاظ على استقلال وسيادة، وحرية لبنان، واستعادة نهوضه، واستقراره.

سادساً: السعي مع جميع الأشقاء العرب وجامعة الدول العربية بكونهم أشقاء الدم والهوية، وكذلك مع جميع الدول الصديقة والمؤسسات الدولية الإنسانية لتقديم كلّ المساعدات اللازمة والعاجلة لصيانة كرامة النازحين المنتزعين من بلداتهم وقراهم والحفاظ على كرامة اللبنانيين، وكذلك لتأمين العودة العاجلة والفورية لعودة النازحين إلى بلداتهم وقراهم ووضع الآليات ورصد المبالغ اللازمة لإعادة إعمار ما تهدم وما تضرر.

لقد أثبتت هذه المحنة الجديدة أن لبنان لم يستفِد من تجربة ودروس عام 2006، وأنه بات مكشوفاً بتفاصيله أمام العدو الإسرائيلي الذي استثمر تفوقه الناري والجوي والتكنولوجي والاستخباراتي والدعم الدولي اللامحدود له بالترخيص بالقتل والتدمير، وهو الذي لا يزال يُراهن على التسبب بالانقسام، والفتنة بين اللبنانيين، التي لا ولن تحصل بإذن الله، وهو لذلك لم يتورع عن ارتكاب المجازر والاغتيالات، التي كان آخرها اغتيال الأمين العام لـ«حزب الله» السيد حسن نصر الله.

اليوم لبنان والعالم كله أمام الامتحان، فهل تقف الأمم المتحدة ومجلس الأمن لمناصرة الحق، وهل يبادر اللبنانيون بكل قواهم، للدفاع عن حق لبنان واللبنانيين في الوجود الكريم والآمن، وتلقين إسرائيل درساً في معنى الحق والإنسانية واحترام حقوق الإنسان؟!