«أصدقاء القاهرة التاريخية» ينشرون الوعي الأثري

عبر جولات ميدانية وورشات فنية وثقافية

جولات لطلاب المدارس في منطقة القاهرة التاريخية ضمن البرنامج (وزارة السياحة والآثار)
جولات لطلاب المدارس في منطقة القاهرة التاريخية ضمن البرنامج (وزارة السياحة والآثار)
TT

«أصدقاء القاهرة التاريخية» ينشرون الوعي الأثري

جولات لطلاب المدارس في منطقة القاهرة التاريخية ضمن البرنامج (وزارة السياحة والآثار)
جولات لطلاب المدارس في منطقة القاهرة التاريخية ضمن البرنامج (وزارة السياحة والآثار)

«إذا كان الأجداد قد أبدعوا، أليس من حقهم علينا أن نحافظ لهم على هذا الإبداع، وأن نتلمسه ونستلهمه؟»، كلمات بسيطة تلخص ما يسعى إلى تحقيقه برنامج «أصدقاء القاهرة التاريخية» الذي أطلقته إدارة الوعي الأثري بالقاهرة التاريخية، التابعة لوزارة السياحة والآثار المصرية، ويضم شباباً متطوعين لنشر الوعي الأثري والثقافي والتاريخي بين المواطنين وخاصة الأجيال الجديدة، وتعميق الصلة بين الأثر والإنسان، لتتحول ساحات المساجد التاريخية والبنايات الأثرية إلى نقطة التقاء يتفاعل فيها الماضي والحاضر أملاً في رسم ملامح مستقبل أفضل.
بدأت مبادرة الوعي الأثري بالقاهرة التاريخية استقبال دفعة جديدة من البرنامج الذي انطلقت مرحلته الأولى، يوليو (تموز) الماضي، وضم أكثر من 40 شاباً وفتاة من خريجي وطلاب الجامعات وخصوصاً كليات الآثار والسياحة، يتولون مهمة نشر الوعي الأثري عقب اجتيازهم ورشات عمل ودورات تدريبية مكثفة، تركز على تاريخ المعالم الأثرية بالقاهرة التاريخية وفنون العمارة.
ويتولى الشباب المتطوعون إدارة البرنامج بأنفسهم من خلال قائد عام، وقادة مجموعات فرعية للإشراف على الأنشطة والفعاليات المختلفة بهدف نشر الوعي الأثري بين الأجيال الجديدة عبر الجولات والرحلات التي يتم تنظيمها للشباب والأطفال بالمناطق الأثرية والمعالم السياحية بالقاهرة التاريخية، حيث يقوم أعضاء البرنامج بشرح تاريخ البنايات الأثرية وسماتها المعمارية وقصص وحكايات أصحابها.
الدكتورة هبة عبد العزيز، مفتشة الآثار بإدارة الوعي الأثري بالقاهرة التاريخية تقول لـ«الشرق الأوسط»، إن «البرنامج يهدف إلى نشر الوعي الأثري بين جميع فئات المجتمع وخاصة الأجيال الجديدة، من خلال الجولات الميدانية التي ننظمها في آثار القاهرة كافة، ويُخضع الشباب المتطوعين الجدد لدورات تدريبية مكثفة تتضمن ورشات فنية وجولات ومحاضرات في التاريخ والعمارة والآثار تؤهلهم لتولي شرح جميع المعلومات التاريخية عندما يقودون الجولات الميدانية التي ينظمها البرنامج لكل فئات المجتمع».
ويشارك أعضاء «أصدقاء القاهرة التاريخية» في الجولات الميدانية كافة، الخاصة بنشر الوعي الأثري، بينما تتولى مجموعات فرعية لكل منها قائد، الإشراف على عدد من المبادرات الرئيسية التي تنفذها إدارة الوعي الأثري بالقاهرة التاريخية، ومنها مبادرة «اعرف أثرك في محيط مدرستك»، حيث يتم اصطحاب تلاميذ المدارس الابتدائية والإعدادية في جولات ميدانية لزيارة المعالم الأثرية والبنايات التراثية المحيطة بمدارسهم للتعرف على تاريخها، ومبادرة «مواطن الغد» التي تتضمن جولات عامة في جميع آثار القاهرة يشارك فيها طلاب المدارس من جميع المراحل الدراسية، فيما تتوجه مبادرة «طوف وشوف» إلى فئات المجتمع كافة، دون ارتباط بالعمر أو الدراسة، حيث يتم اصطحاب المشاركين في جولات إلى المواقع الأثرية كافة.
وتقوم إدارة الوعي الأثري بالقاهرة التاريخية بتنظيم العديد من الأنشطة بالمواقع الأثرية المختلفة، والتي تسعى إلى إشراك جميع فئات المجتمع في تحمل مسؤولية الحفاظ على التراث من خلال الورشات الفنية والمعارض ومسابقات التصوير الفوتوغرافي والفنون التشكيلية، والتي تحاول تحفيز المصورين والفنانين التشكيليين والأدباء على استلهام أعمالهم من المعالم الأثرية والبنايات التراثية.
مصطفى محمود، 32 سنة، قاد برنامج «أصدقاء القاهرة التاريخية» يقول لـ«الشرق الأوسط» إن «أهم شروط الانضمام للبرنامج أن يكون المتقدم مهتماً بالآثار ولديه شغف بمعرفة تاريخها، لأننا لا نكتفي بالجولات الرسمية التي نقوم بتنظيمها لفئات متنوعة من المجتمع، بل يقوم معظمنا بمهمة نشر الوعي الأثري بوسائل عديدة في محيطه الاجتماعي، فنخوض نقاشات مع الأصدقاء والمعارف حول ضرورة معرفة تاريخنا وتراثنا والحفاظ عليه، وأقوم بتنظيم رحلات خاصة خارج البرنامج للأصدقاء والمعارف لمساعدتهم على معرفة أهم المعالم الأثرية».
ويضيف محمود: «بدأت علاقتي بالآثار منذ اشتراكي في مسابقة تصوير للمعالم الأثرية نظمتها وزارة الآثار عام 2017، ومن وقتها أقوم بجولات لتصوير المواقع الأثرية، وعندما بدأ برنامج (أصدقاء القاهرة التاريخية) سارعت بالتقدم للانضمام إليه، وبجانب دوري مع زملائي أقوم أيضاً بتصوير الجولات وتوثيق الأماكن الأثرية التي نزورها، ونحن نقوم بدور المرشد السياحي خلال الجولات، ونشرح جميع المعلومات عن الأثر بطريقة بسيطة، ونركز خلال جولات تلاميذ المرحلة الابتدائية على تاريخ المكان الذي نزوره وقصص أصحابه، بينما نقوم في الجولات التي يشارك فيها شباب أكبر سناً بالتطرق لفنون العمارة ومعلومات أخرى تناسب أعمارهم».



100 عامٍ من عاصي الرحباني

عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)
عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)
TT

100 عامٍ من عاصي الرحباني

عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)
عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)

في الرابع من شهر الخِصب وبراعم اللوز والورد، وُلد عاصي الرحباني. كانت البلادُ فكرةً فَتيّة لم تبلغ بعد عامها الثالث. وكانت أنطلياس، مسقط الرأس، قريةً لبنانيةً ساحليّة تتعطّر بزهر الليمون، وتَطربُ لارتطام الموج بصخور شاطئها.
لو قُدّر له أن يبلغ عامه المائة اليوم، لأَبصر عاصي التحوّلات التي أصابت البلاد وقُراها. تلاشت الأحلام، لكنّ «الرحباني الكبير» ثابتٌ كحقيقةٍ مُطلَقة وعَصي على الغياب؛ مقيمٌ في الأمس، متجذّر في الحاضر وممتدّةٌ جذوره إلى كل الآتي من الزمان.


عاصي الرحباني خلال جلسة تمرين ويبدو شقيقه الياس على البيانو (أرشيف Rahbani Productions)

«مهما قلنا عن عاصي قليل، ومهما فعلت الدولة لتكريمه قليل، وهذا يشمل كذلك منصور وفيروز»، يقول المؤلّف والمنتج الموسيقي أسامة الرحباني لـ«الشرق الأوسط» بمناسبة مئويّة عمّه. أما الصحافي والباحث محمود الزيباوي، الذي تعمّق كثيراً في إرث الرحابنة، فيرى أن التكريم الحقيقي يكون بتأليف لجنة تصنّف ما لم يُنشر من لوحاته الغنائية الموجودة في إذاعتَي دمشق ولبنان، وتعمل على نشره.
يقرّ أسامة الرحباني بتقصير العائلة تجاه «الريبرتوار الرحباني الضخم الذي يحتاج إلى تضافر جهود من أجل جَمعه»، متأسفاً على «الأعمال الكثيرة التي راحت في إذاعة الشرق الأدنى». غير أنّ ما انتشر من أغانٍ ومسرحيات وأفلام، على مدى أربعة عقود من عمل الثلاثي الرحباني عاصي ومنصور وفيروز، أصبح ذخيرةً للقرون المقبلة، وليس للقرن الرحباني الأول فحسب.

«فوتي احفظي، قومي سجّلي»
«كان بركاناً يغلي بالعمل... يكتب بسرعة ولا يتوقف عند هاجس صناعة ما هو أجمل، بل يترك السرد يمشي كي لا ينقطع الدفق»، هكذا يتذكّر أسامة عمّه عاصي. وفي بال الزيباوي كذلك، «عاصي هو تجسيدٌ للشغف وللإنسان المهووس بعمله». لم يكن مستغرباً أن يرنّ الهاتف عند أحد أصدقائه الساعة الثالثة فجراً، ليخرج صوت عاصي من السمّاعة قارئاً له ما كتب أو آخذاً رأيه في لحنٍ أنهاه للتوّ.
ووفق ما سمعه الزيباوي، فإن «بعض تمارين السيدة فيروز وتسجيلاتها كان من الممكن أن يمتدّ لـ40 ساعة متواصلة. يعيد التسجيل إذا لم يعجبه تفصيل، وهذا كان يرهقها»، رغم أنه الزوج وأب الأولاد الأربعة، إلا أن «عاصي بقي الأستاذ الذي تزوّج تلميذته»، على حدّ وصف الزيباوي. ومن أكثر الجمل التي تتذكّرها التلميذة عن أستاذها: «فوتي احفظي، قومي سَجّلي». أضنى الأمر فيروز وغالباً ما اعترفت به في الحوارات معها قبل أن تُطلقَ تنهيدةً صامتة: «كان ديكتاتوراً ومتطلّباً وقاسياً ومش سهل الرِضا أبداً... كان صعب كتير بالفن. لمّا يقرر شي يمشي فيه، ما يهمّه مواقفي».


عاصي وفيروز (تويتر)
نعم، كان عاصي الرحباني ديكتاتوراً في الفن وفق كل مَن عاصروه وعملوا معه. «كل العباقرة ديكتاتوريين، وهذا ضروري في الفن»، يقول أسامة الرحباني. ثم إن تلك القسوة لم تأتِ من عدم، فعاصي ومنصور ابنا الوَعر والحرمان.
أثقلت كتفَي عاصي منذ الصغر همومٌ أكبر من سنّه، فتحمّلَ وأخوه مسؤولية العائلة بعد وفاة الوالد. كان السند المعنوي والمادّي لأهل بيته. كمعطفٍ ردّ البردَ عنهم، كما في تلك الليلة العاصفة التي استقل فيها دراجة هوائية وقادها تحت حبال المطر من أنطلياس إلى الدورة، بحثاً عن منصور الذي تأخّر بالعودة من الوظيفة في بيروت. يروي أسامة الرحباني أنها «كانت لحظة مؤثرة جداً بين الأخوين، أبصرا خلالها وضعهما المادي المُذري... لم ينسيا ذلك المشهد أبداً، ومن مواقفَ كتلك استمدّا قوّتهما».
وكما في الصِبا كذلك في الطفولة، عندما كانت تمطر فتدخل المياه إلى المدرسة، كان يظنّ منصور أن الطوفان المذكور في الكتاب المقدّس قد بدأ. يُصاب بالهلَع ويصرخ مطالباً المدرّسين بالذهاب إلى أخيه، فيلاقيه عاصي ويحتضنه مهدّئاً من رَوعه.

«سهرة حبّ»... بالدَين
تعاقبت مواسم العزّ على سنوات عاصي الرحباني. فبعد بدايةٍ متعثّرة وحربٍ شرسة ضد أسلوبه الموسيقي الثائر على القديم، سلك دروب المجد. متسلّحاً بخياله المطرّز بحكايا جدّته غيتا و«عنتريّات» الوالد حنّا عاصي، اخترع قصصاً خفتت بفعلِ سحرِها الأصواتُ المُعترضة. أما لحناً، فابتدعَ نغمات غير مطابقة للنظريات السائدة، و«أوجد تركيبة جديدة لتوزيع الموسيقى العربية»، على ما يشرح أسامة الرحباني.


صورة تجمع عاصي ومنصور الرحباني وفيروز بالموسيقار محمد عبد الوهاب وفريد الأطرش، بحضور بديعة مصابني وفيلمون وهبي ونجيب حنكش (أرشيف Rahbani Productions)
كان عاصي مستعداً للخسارة المادية من أجل الربح الفني. يحكي محمود الزيباوي أنه، ولشدّة مثاليته، «سجّل مسرحية (سهرة حب) مرتَين ولم تعجبه النتيجة، فاقترض مبلغاً من المال ليسجّلها مرة ثالثة». ويضيف أن «أساطير كثيرة نُسجت حول الرحابنة، لكن الأسطورة الحقيقية الوحيدة هي جمال عملهم».
ما كانت لتكتمل أسطورة عاصي، لولا صوت تلك الصبية التي دخلت قفصَه الذهبي نهاد حدّاد، وطارت منه «فيروز».
«أدهشته»، يؤكّد الزيباوي؛ ويستطرد: «لكنّ أحداً منهما لم يعرف كيف يميّز بين نهاد حداد وفيروز»... «هي طبعاً المُلهِمة»، يقول أسامة الرحباني؛ «لمح فيها الشخصية التي لطالما أراد رسمَها، ورأى امرأةً تتجاوب مع تلك الشخصية»، ويضيف أن «عاصي دفع بصوت فيروز إلى الأعلى، فهو في الفن كان عنيفاً ويؤمن بالعصَب. كان يكره الارتخاء الموسيقي ويربط النجاح بالطبع الفني القوي، وهذا موجود عند فيروز».


زفاف عاصي الرحباني ونهاد حداد (فيروز) عام 1955 (تويتر)

دماغٌ بحجم وطن
من عزّ المجد، سرقت جلطة دماغيّة عاصي الرحباني عام 1972. «أكثر ما يثير الحزن أن عاصي مرض وهو في ذروة عطائه وإبداعه، وقد زادت الحرب اللبنانية من مرضه وصعّبت العمل كثيراً»، وفق الزيباوي. لم يكن القلق من الغد الغامض غريباً عليه. فهو ومنذ أودى انفجارٌ في إحدى الكسّارات بحياة زوج خالته يوسف الزيناتي، الذي كان يعتبره صياداً خارقاً واستوحى منه شخصيات لمسرحه، سكنته الأسئلة الحائرة حول الموت وما بعدَه.
الدماغ الذي وصفه الطبيب الفرنسي المعالج بأنه من أكبر ما رأى، عاد ليضيء كقمرٍ ليالي الحصّادين والعاشقين والوطن المشلّع. نهض عاصي ورجع إلى البزُق الذي ورثه عن والده، وإلى نُبله وكرمه الذي يسرد أسامة الرحباني عنهما الكثير.
بعد المرض، لانت قسوة عاصي في العمل وتَضاعفَ كرَمُه المعهود. يقول أسامة الرحباني إن «أقصى لحظات فرحه كانت لحظة العطاء». أعطى من ماله ومن فِكرِه، وعُرف بيدِه الموضوعة دائماً في جيبِه استعداداً لتوزيع النقود على المحتاجين في الشارع. أما داخل البيت، فتجسّد الكرَم عاداتٍ لطيفة وطريفة، كأن يشتري 20 كنزة متشابهة ويوزّعها على رجال العائلة وشبّانها.
خلال سنواته الأخيرة ومع احتدام الحرب، زاد قلق عاصي الرحباني على أفراد العائلة. ما كان يوفّر مزحة أو حكاية ليهدّئ بها خوف الأطفال، كما في ذلك اليوم من صيف 1975 الذي استُهدفت فيه بلدة بكفيا، مصيَف العائلة. يذكر أسامة الرحباني كيف دخل عاصي إلى الغرفة التي تجمّع فيها أولاد العائلة مرتعدين، فبدأ يقلّد الممثلين الأميركيين وهم يُطلقون النار في الأفلام الإيطالية، ليُنسيَهم ما في الخارج من أزيز رصاص حقيقي. وسط الدمار، بنى لهم وطناً من خيالٍ جميل، تماماً كما فعل وما زال يفعل في عامِه المائة، مع اللبنانيين.


عاصي الرحباني (غيتي)