السعودية تؤسس حواضن للإبداع الثقافي في برنامج الإقامة الفنية

يستضيفها «رباط الخنجي» في جدة التاريخية

«رباط الخنجي» الصامد لأكثر من 200 عام (تصوير: محمد المانع)
«رباط الخنجي» الصامد لأكثر من 200 عام (تصوير: محمد المانع)
TT

السعودية تؤسس حواضن للإبداع الثقافي في برنامج الإقامة الفنية

«رباط الخنجي» الصامد لأكثر من 200 عام (تصوير: محمد المانع)
«رباط الخنجي» الصامد لأكثر من 200 عام (تصوير: محمد المانع)

لدى المبدعين صوتهم الداخلي الذي يحتاج منهم الإصغاء، ولطالما عرف عن الكتّاب هربهم للعزلة للانطلاق في رحاب الإبداع، ومحاولة كشف كنوزه الكامنة في الأعماق، إلّا أنّ الفن يجمع الفنانين بمعزل لتأسيس ذائقة فنية تنطلق من هوية محددة لمكان يزيح الستار عن المواهب الدفينة فيهم.
وتنشط برامج الإقامات الفنية حول العالم من أماكن لها القدرة على إلهام المبدعين، وقد قررت وزارة الثقافة أن يكون «رباط الخنجي» التاريخي هو نقطة انطلاق برنامج الإقامة الفنية الأولى فيها.
جاء اختيار وزارة الثقافة للمرة الأولى على «رباط الخنجي» الصامد لأكثر من 200 عام الذي لطالما عرف عنه كرمه التاريخي الإنساني، وبعد أن هجره سكانه كعمل فني قبل عامين ضمن أسبوع الفن السعودي، ووقع الاختيار عليه للمرة الثانية ليكون مقر برنامج «الإقامة الفنية» المنظم من الوزارة، ومكاناً لاستضافة المحافل الثقافية بعد أن أجرت عليه وزارة الثقافة عدة تحسينات.
ويهدف برنامج الإقامات الفنية إلى نزع صفة «المركزية» عن الإنتاج الثقافي من خلال نقله من المراكز الحضرية الرئيسية إلى التجمعات السكانية التاريخية غالباً، ويسعى إلى توجيه الاستثمار الثقافي والفكري إلى هذه المناطق، من أجل غرس بذور التغيير الثقافي في المجتمع، وتعتبر برامج الإقامة الفنية فرصة للفنانين والفاعلين الثقافيين في مجالات الموسيقى والأدب والفنون البصرية والتصميم ووسائط الإعلام التفاعلية والمسرح والرقص المعاصر، وهو فرصة للحصول على نظرة واسعة عن المشهد الثقافي في مكان ما، والعمل في بيئة مختلفة لمدة يحددها البرنامج، بالإضافة إلى أنّه يمكن الفنانين وصنّاع المحتوى من تطوير أفكارهم ومفاهيمهم وتحويلها إلى أعمال فنية فعلية، ويدعم البرنامج المشاركين لتطوير محتوى حول المواضيع والمفاهيم التي يتم العمل عليها ضمن خطة المشروع الاستراتيجية.
ويهدف برنامج «الإقامة الفنية» إلى نشر الوعي حيال الفنون والثقافة السعودية لدى الجمهور المحلي والإقليمي والدولي، والتوعية المجتمعية من خلال البرامج العامة التي تسهم في تقدير الفن المعاصر وفهمه وسد الفجوات بينه وبين المجتمع المحلي، إضافة إلى تأسيس منصة تبادل معرفي بين مجتمع الفنون المحلي والدولي، وتقديم ممارسات فنية محلية وعالمية للجمهور السعودي.
وقال الفنان التشكيلي والأكاديمي راشد الشعشعي لـ«الشرق الأوسط»: «إن الإقامات الفنية هي الناقل الأول للفنون المعاصرة، وذلك بسبب التغيير المستمر في الفنون المعاصر، ولا يوجد هناك دور أو أكاديميات لنقل المشاهد الفنية، وهي بالتالي حالة تعايش لحظية للمشهد الثقافي في المنطقة المقام فيها، فالنقل الشفهي للتاريخ لا يقارن بعيش اللحظة ومخالطة الثقافة والفن المحلي، وبالتالي نقله للعالم بأعين فنانين عاشوا حقيقة هذه الثقافة».
وبينت الفنانة لولوة الحمود متحدثة لـ«الشرق الأوسط» أن البرنامج يعتبر من أهم البرامج الفنية العالمية التي تختصر الزمن والجهد لنقل الثقافات العالمية، وتداولها بشكل فني يبرز حضارة المنطقة، ويؤهل البرنامج الفنانين، ويجذبهم من كل العالم للتنافس لنقل صورة حقيقية عن المملكة التي بقيت لسنوات طويلة بمعزل عن العالم الخارجي. وأكدت الحمود أنّ الدعم المؤسسي والحكومي هو ما يضيف لهذا البرنامج قوته ويساعد في نجاحه وظهوره للعالم بالشكل اللائق.
وأطلقت وزارة الثقافة برنامج «الإقامة الفنية» في السعودية، ضمن مبادرات جودة الحياة أحد برامج تحقيق «رؤية المملكة 2030»، وتستضيف الوزارة خلاله الفنانين والنقاد السعوديين والعالميين في أماكن إقامة داخل المملكة، وفي فترات محددة بهدف خلق بيئة مناسبة للحوار الثقافي، وتبادل المعارف والخبرات، وذلك في سياق التزامها برعاية وتطوير المواهب الفنية في مختلف مجالات الإبداع.
وتأتي انطلاقة البرنامج بعنوان «إقامة فنية: البلد»، حيث ستستضيف منطقة البلد في جدة التاريخية دورات البرنامج (مدة كل دورة ستة أسابيع)، سيتم التركيز فيها على التوعية الاجتماعية والتطوير المهني والتفكير النقدي، وستكون المشاركة فيها متاحة أمام الفنانين ومقيمي الأعمال الفنية والنقاد السعوديين والدوليين.



ستيف بركات لـ«الشرق الأوسط»: أصولي اللبنانية تتردّد أبداً في صدى موسيقاي

عازف البيانو ستيف بركات ينسج موسيقاه من جذوره اللبنانية     -   ستيف بركات يؤمن بالموسيقى لغة عالمية توحّد الشعوب (الشرق الأوسط)
عازف البيانو ستيف بركات ينسج موسيقاه من جذوره اللبنانية - ستيف بركات يؤمن بالموسيقى لغة عالمية توحّد الشعوب (الشرق الأوسط)
TT

ستيف بركات لـ«الشرق الأوسط»: أصولي اللبنانية تتردّد أبداً في صدى موسيقاي

عازف البيانو ستيف بركات ينسج موسيقاه من جذوره اللبنانية     -   ستيف بركات يؤمن بالموسيقى لغة عالمية توحّد الشعوب (الشرق الأوسط)
عازف البيانو ستيف بركات ينسج موسيقاه من جذوره اللبنانية - ستيف بركات يؤمن بالموسيقى لغة عالمية توحّد الشعوب (الشرق الأوسط)

ستيف بركات عازف بيانو كندي من أصل لبناني، ينتج ويغنّي ويلحّن. لفحه حنين للجذور جرّه إلى إصدار مقطوعة «أرض الأجداد» (Motherland) أخيراً. فهو اكتشف لبنان في وقت لاحق من حياته، وينسب حبّه له إلى «خيارات مدروسة وواعية» متجذرة في رحلته. من اكتسابه فهماً متيناً لهويته وتعبيره عن الامتنان لما منحه إياه الإرث من عمق يتردّد صداه كل يوم، تحاوره «الشرق الأوسط» في أصله الإنساني المنساب على النوتة، وما أضفاه إحساسه الدفين بالصلة مع أسلافه من فرادة فنية.
غرست عائلته في داخله مجموعة قيم غنية استقتها من جذورها، رغم أنه مولود في كندا: «شكلت هذه القيم جزءاً من حياتي منذ الطفولة، ولو لم أدركها بوعي في سنّ مبكرة. خلال زيارتي الأولى إلى لبنان في عام 2008. شعرتُ بلهفة الانتماء وبمدى ارتباطي بجذوري. عندها أدركتُ تماماً أنّ جوانب عدة من شخصيتي تأثرت بأصولي اللبنانية».
بين كوبنهاغن وسيول وبلغراد، وصولاً إلى قاعة «كارنيغي» الشهيرة في نيويورك التي قدّم فيها حفلاً للمرة الأولى، يخوض ستيف بركات جولة عالمية طوال العام الحالي، تشمل أيضاً إسبانيا والصين والبرتغال وكوريا الجنوبية واليابان... يتحدث عن «طبيعة الأداء الفردي (Solo) التي تتيح حرية التكيّف مع كل حفل موسيقي وتشكيله بخصوصية. فالجولات تفسح المجال للتواصل مع أشخاص من ثقافات متنوعة والغوص في حضارة البلدان المضيفة وتعلّم إدراك جوهرها، مما يؤثر في المقاربة الموسيقية والفلسفية لكل أمسية».
يتوقف عند ما يمثله العزف على آلات البيانو المختلفة في قاعات العالم من تحدٍ مثير: «أكرّس اهتماماً كبيراً لأن تلائم طريقة عزفي ضمانَ أفضل تجربة فنية ممكنة للجمهور. للقدرة على التكيّف والاستجابة ضمن البيئات المتنوّعة دور حيوي في إنشاء تجربة موسيقية خاصة لا تُنسى. إنني ممتنّ لخيار الجمهور حضور حفلاتي، وهذا امتياز حقيقي لكل فنان. فهم يمنحونني بعضاً من وقتهم الثمين رغم تعدّد ملاهي الحياة».
كيف يستعد ستيف بركات لحفلاته؟ هل يقسو عليه القلق ويصيبه التوتر بإرباك؟ يجيب: «أولويتي هي أن يشعر الحاضر باحتضان دافئ ضمن العالم الموسيقي الذي أقدّمه. أسعى إلى خلق جو تفاعلي بحيث لا يكون مجرد متفرج بل ضيف عزيز. بالإضافة إلى الجانب الموسيقي، أعمل بحرص على تنمية الشعور بالصداقة الحميمة بين الفنان والمتلقي. يستحق الناس أن يلمسوا إحساساً حقيقياً بالضيافة والاستقبال». ويعلّق أهمية على إدارة مستويات التوتّر لديه وضمان الحصول على قسط كافٍ من الراحة: «أراعي ضرورة أن أكون مستعداً تماماً ولائقاً بدنياً من أجل المسرح. في النهاية، الحفلات الموسيقية هي تجارب تتطلب مجهوداً جسدياً وعاطفياً لا تكتمل من دونه».
عزف أناشيد نالت مكانة، منها نشيد «اليونيسف» الذي أُطلق من محطة الفضاء الدولية عام 2009 ونال جائزة. ولأنه ملحّن، يتمسّك بالقوة الهائلة للموسيقى لغة عالمية تنقل الرسائل والقيم. لذا حظيت مسيرته بفرص إنشاء مشروعات موسيقية لعلامات تجارية ومؤسسات ومدن؛ ومعاينة تأثير الموسيقى في محاكاة الجمهور على مستوى عاطفي عميق. يصف تأليف نشيد «اليونيسف» بـ«النقطة البارزة في رحلتي»، ويتابع: «التجربة عزّزت رغبتي في التفاني والاستفادة من الموسيقى وسيلة للتواصل ومتابعة الطريق».
تبلغ شراكته مع «يونيفرسال ميوزيك مينا» أوجها بنجاحات وأرقام مشاهدة عالية. هل يؤمن بركات بأن النجاح وليد تربة صالحة مكوّنة من جميع عناصرها، وأنّ الفنان لا يحلّق وحده؟ برأيه: «يمتد جوهر الموسيقى إلى ما وراء الألحان والتناغم، ليكمن في القدرة على تكوين روابط. فالنغمات تمتلك طاقة مذهلة تقرّب الثقافات وتوحّد البشر». ويدرك أيضاً أنّ تنفيذ المشاريع والمشاركة فيها قد يكونان بمثابة وسيلة قوية لتعزيز الروابط السلمية بين الأفراد والدول: «فالثقة والاهتمام الحقيقي بمصالح الآخرين يشكلان أسس العلاقات الدائمة، كما يوفر الانخراط في مشاريع تعاونية خطوات نحو عالم أفضل يسود فيه الانسجام والتفاهم».
بحماسة أطفال عشية الأعياد، يكشف عن حضوره إلى المنطقة العربية خلال نوفمبر (تشرين الثاني) المقبل: «يسعدني الوجود في منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا كجزء من جولة (Néoréalité) العالمية. إنني في مرحلة وضع اللمسات الأخيرة على التفاصيل والتواريخ لنعلن عنها قريباً. تملؤني غبطة تقديم موسيقاي في هذا الحيّز النابض بالحياة والغني ثقافياً، وأتحرّق شوقاً لمشاركة شغفي وفني مع ناسه وإقامة روابط قوامها لغة الموسيقى العالمية».
منذ إطلاق ألبومه «أرض الأجداد»، وهو يراقب جمهوراً متنوعاً من الشرق الأوسط يتفاعل مع فنه. ومن ملاحظته تزايُد الاهتمام العربي بالبيانو وتعلّق المواهب به في رحلاتهم الموسيقية، يُراكم بركات إلهاماً يقوده نحو الامتنان لـ«إتاحة الفرصة لي للمساهمة في المشهد الموسيقي المزدهر في الشرق الأوسط وخارجه».
تشغله هالة الثقافات والتجارب، وهو يجلس أمام 88 مفتاحاً بالأبيض والأسود على المسارح: «إنها تولّد إحساساً بالعودة إلى الوطن، مما يوفر ألفة مريحة تسمح لي بتكثيف مشاعري والتواصل بعمق مع الموسيقى التي أهديها إلى العالم».