بالاحتفالات وأمنيات الفرح... يستقبل أهل غزّة السنة الجديدة

شبّان يجهزون احتفالات العام الجديد في غزة (الشرق الأوسط)
شبّان يجهزون احتفالات العام الجديد في غزة (الشرق الأوسط)
TT

بالاحتفالات وأمنيات الفرح... يستقبل أهل غزّة السنة الجديدة

شبّان يجهزون احتفالات العام الجديد في غزة (الشرق الأوسط)
شبّان يجهزون احتفالات العام الجديد في غزة (الشرق الأوسط)

بعد تفكيرٍ طويل وحيرة حدّدت أخيراً السيدة أماني وادي (37 عاماً) التي تسكن جنوب قطاع غزة، المكان الذي ستحتفل فيه برفقة عائلتها المكونة من أربعة أفراد برأس السنة الجديدة. فقد اعتادت منذ أكثر من 12 سنة على حضور الاحتفالات الفنية التي تقام في أماكن القطاع المتنوعة للاحتفاء بهذه المناسبة، وتسرد لـ«الشرق الأوسط»، أنّ هذه السنة قد تكون مختلفة على معظم الناس هنا، فأحوال الجميع باتت سيئة، لكنّهم وعلى الرغم من ذلك يتمنون أنّ يكون العام المقبل مليئاً بالفرح.
ولا يكاد يخلو أي مكانٍ عام سواء كان مطعماً أو فندقاً في قطاع غزّة، من الاحتفالات الخاصة برأس السنة الجديدة، حين يتجمع مئات الأشخاص لقضاء أمسية على وقع الأغاني والموسيقى ووسط أجواءٍ خاصّة تملأها الزينة والألوان، يحتفلون بقدوم العام الجديد، الذي يبدأ عند الساعة الثانية منتصف ليل آخر يوم من ديسمبر (كانون الأول).
يقول أبو نادر، وهو صاحب أحد المطاعم في القطاع التي قررت الاحتفال بالعام الجديد يوم 31 ديسمبر، في حديثٍ لـ«الشرق الأوسط»: «هذه الأوقات مليئة بالبهجة، والمواطنون يحبّون قضاءها خارج منازلهم، كغيرهم من سكان كلّ العالم»، مبيّناً أنّ الأوضاع العامة مليئة بالفقر والبؤس، لكنّ أهل غزة بعادتهم يتجاوزون كلّ ذلك، بما يمتلكونه من روح مُحبّة للحياة وراغبة بالأفضل.
ويذكر أبو نادر أنّه بدأ التجهيز للاحتفال برأس السنة في مطعمه من خلال الدعايات على مواقع التواصل الاجتماعي، ثمّ من خلال نشر الزينة التي تحمل رقم العام الجديد، مشيراً إلى أنّ فاتورة الشخص الواحد المالية، كانت في الوقت السابق في مثل هذه المناسبة تصل لأكثر من 40 دولاراً، أمّا اليوم وبسبب سوء الحال، فهم مضطرون للتخفيض، ليصل الحجز للفرد في الليلة إلى نحو 15 دولاراً. وفي السابق كان أكثر من 2000 شخص يزورون مطعمه يوم الاحتفال برأس السنة، واليوم لا يصل العدد إلى 1000 فرد.
وبالنسبة إلى الأسواق في القطاع، فهي تشهد انتعاشاً غير مسبوق على أثر تلك الاحتفالات التي يحرص فيها المواطنون على شراء الهدايا والزينة، ويندفع أصحاب المحال التجارية لنشر الفرح والألوان في الشوارع المواجهة لمتاجرهم، لأجل لفت أنظار الناس وحثّهم على شراء بضائعهم التي تتنوع بين مجسمات «بابا نويل» وعربته، وباقات الورود وأنواع الشوكولاته والحلوى المختلفة والعطور والملابس والقطع التذكارية.
ويوضح إياد أبو هزاع، وهو تاجر يمتلك محلاً في منطقة وسط غزة، لـ«الشرق الأوسط» أنّ إقبال الناس في هذه الأوقات على الشراء، يكون مضاعفاً بشكلٍ كبير، وهم كتجار يستثمرون ذلك لتعويض جزءاً من خسارتهم التي يتكبدونها خلال العام، كما أنّهم يطلقون العروض التجارية، وبعضهم يقدم هدايا من خلال السحوبات لتشجيع الناس على الشراء أكثر، متابعاً: «الأسعار منخفضة نسبياً وتتراوح بين 5 و10 دولارات للهدية الواحدة الجيدة، وسبب ذلك الانخفاض يعود لضعف القدرة الشرائية لدى معظم سكان القطاع».
منذ خمس سنوات داومت الشابّة نهى عياد (27 سنة) على حضور احتفالات رأس السنة في غزة، بعد أن كانت في الأعوام الماضية تحضرها في العاصمة المصرية القاهرة، حيث كانت تقطن مع عائلاتها، وتروي لـ«الشرق الأوسط» أنّ ما يميز الاحتفالات في غزة بساطتها والروح الجميلة لأهلها، وتفاؤلهم الدائم بأنّ الأيام المقبلة ستكون أفضل عليهم، منوهةً إلى أنّها تتجمع في اليوم الأخير للسنة برفقة عدد من صديقاتها ويتجولن حتّى منتصف الليل في شوارع غزة ويرصدن بعيونهن مظاهر الاحتفالات التي تبدو واضحة في كلّ مكان.
وكغيرها من مدن العالم، لا تخلو الدقائق الأولى من العام الجديد في غزة من إطلاق الألعاب النارية الملونة في السماء، فكثيرون هم من ينتظرون تلك اللحظات ليراقبوا تلك المشاهد، ويشير الشاب أيمن شاهين (19 سنة) لـ«الشرق الأوسط» إلى أنّه جهّز مسبقاً وأصدقاؤه الذين يسكنون مخيم جباليا شمال القطاع، الألعاب النارية التي اشتروها بعدما وفّروا على مدار أيامٍ طويلة من مصروفهم الجامعي، لإطلاقها عند منتصف الليل تماماً، لافتاً إلى أنّه يتمنى أن تحمل السنة الجديدة فرجاً لهمومه والناس جميعاً، لأنّهم ملّوا كلّ الألم والمعاناة التي صارت تتعلق بكلّ التفاصيل الحياتية اليومية.



100 عامٍ من عاصي الرحباني

عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)
عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)
TT

100 عامٍ من عاصي الرحباني

عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)
عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)

في الرابع من شهر الخِصب وبراعم اللوز والورد، وُلد عاصي الرحباني. كانت البلادُ فكرةً فَتيّة لم تبلغ بعد عامها الثالث. وكانت أنطلياس، مسقط الرأس، قريةً لبنانيةً ساحليّة تتعطّر بزهر الليمون، وتَطربُ لارتطام الموج بصخور شاطئها.
لو قُدّر له أن يبلغ عامه المائة اليوم، لأَبصر عاصي التحوّلات التي أصابت البلاد وقُراها. تلاشت الأحلام، لكنّ «الرحباني الكبير» ثابتٌ كحقيقةٍ مُطلَقة وعَصي على الغياب؛ مقيمٌ في الأمس، متجذّر في الحاضر وممتدّةٌ جذوره إلى كل الآتي من الزمان.


عاصي الرحباني خلال جلسة تمرين ويبدو شقيقه الياس على البيانو (أرشيف Rahbani Productions)

«مهما قلنا عن عاصي قليل، ومهما فعلت الدولة لتكريمه قليل، وهذا يشمل كذلك منصور وفيروز»، يقول المؤلّف والمنتج الموسيقي أسامة الرحباني لـ«الشرق الأوسط» بمناسبة مئويّة عمّه. أما الصحافي والباحث محمود الزيباوي، الذي تعمّق كثيراً في إرث الرحابنة، فيرى أن التكريم الحقيقي يكون بتأليف لجنة تصنّف ما لم يُنشر من لوحاته الغنائية الموجودة في إذاعتَي دمشق ولبنان، وتعمل على نشره.
يقرّ أسامة الرحباني بتقصير العائلة تجاه «الريبرتوار الرحباني الضخم الذي يحتاج إلى تضافر جهود من أجل جَمعه»، متأسفاً على «الأعمال الكثيرة التي راحت في إذاعة الشرق الأدنى». غير أنّ ما انتشر من أغانٍ ومسرحيات وأفلام، على مدى أربعة عقود من عمل الثلاثي الرحباني عاصي ومنصور وفيروز، أصبح ذخيرةً للقرون المقبلة، وليس للقرن الرحباني الأول فحسب.

«فوتي احفظي، قومي سجّلي»
«كان بركاناً يغلي بالعمل... يكتب بسرعة ولا يتوقف عند هاجس صناعة ما هو أجمل، بل يترك السرد يمشي كي لا ينقطع الدفق»، هكذا يتذكّر أسامة عمّه عاصي. وفي بال الزيباوي كذلك، «عاصي هو تجسيدٌ للشغف وللإنسان المهووس بعمله». لم يكن مستغرباً أن يرنّ الهاتف عند أحد أصدقائه الساعة الثالثة فجراً، ليخرج صوت عاصي من السمّاعة قارئاً له ما كتب أو آخذاً رأيه في لحنٍ أنهاه للتوّ.
ووفق ما سمعه الزيباوي، فإن «بعض تمارين السيدة فيروز وتسجيلاتها كان من الممكن أن يمتدّ لـ40 ساعة متواصلة. يعيد التسجيل إذا لم يعجبه تفصيل، وهذا كان يرهقها»، رغم أنه الزوج وأب الأولاد الأربعة، إلا أن «عاصي بقي الأستاذ الذي تزوّج تلميذته»، على حدّ وصف الزيباوي. ومن أكثر الجمل التي تتذكّرها التلميذة عن أستاذها: «فوتي احفظي، قومي سَجّلي». أضنى الأمر فيروز وغالباً ما اعترفت به في الحوارات معها قبل أن تُطلقَ تنهيدةً صامتة: «كان ديكتاتوراً ومتطلّباً وقاسياً ومش سهل الرِضا أبداً... كان صعب كتير بالفن. لمّا يقرر شي يمشي فيه، ما يهمّه مواقفي».


عاصي وفيروز (تويتر)
نعم، كان عاصي الرحباني ديكتاتوراً في الفن وفق كل مَن عاصروه وعملوا معه. «كل العباقرة ديكتاتوريين، وهذا ضروري في الفن»، يقول أسامة الرحباني. ثم إن تلك القسوة لم تأتِ من عدم، فعاصي ومنصور ابنا الوَعر والحرمان.
أثقلت كتفَي عاصي منذ الصغر همومٌ أكبر من سنّه، فتحمّلَ وأخوه مسؤولية العائلة بعد وفاة الوالد. كان السند المعنوي والمادّي لأهل بيته. كمعطفٍ ردّ البردَ عنهم، كما في تلك الليلة العاصفة التي استقل فيها دراجة هوائية وقادها تحت حبال المطر من أنطلياس إلى الدورة، بحثاً عن منصور الذي تأخّر بالعودة من الوظيفة في بيروت. يروي أسامة الرحباني أنها «كانت لحظة مؤثرة جداً بين الأخوين، أبصرا خلالها وضعهما المادي المُذري... لم ينسيا ذلك المشهد أبداً، ومن مواقفَ كتلك استمدّا قوّتهما».
وكما في الصِبا كذلك في الطفولة، عندما كانت تمطر فتدخل المياه إلى المدرسة، كان يظنّ منصور أن الطوفان المذكور في الكتاب المقدّس قد بدأ. يُصاب بالهلَع ويصرخ مطالباً المدرّسين بالذهاب إلى أخيه، فيلاقيه عاصي ويحتضنه مهدّئاً من رَوعه.

«سهرة حبّ»... بالدَين
تعاقبت مواسم العزّ على سنوات عاصي الرحباني. فبعد بدايةٍ متعثّرة وحربٍ شرسة ضد أسلوبه الموسيقي الثائر على القديم، سلك دروب المجد. متسلّحاً بخياله المطرّز بحكايا جدّته غيتا و«عنتريّات» الوالد حنّا عاصي، اخترع قصصاً خفتت بفعلِ سحرِها الأصواتُ المُعترضة. أما لحناً، فابتدعَ نغمات غير مطابقة للنظريات السائدة، و«أوجد تركيبة جديدة لتوزيع الموسيقى العربية»، على ما يشرح أسامة الرحباني.


صورة تجمع عاصي ومنصور الرحباني وفيروز بالموسيقار محمد عبد الوهاب وفريد الأطرش، بحضور بديعة مصابني وفيلمون وهبي ونجيب حنكش (أرشيف Rahbani Productions)
كان عاصي مستعداً للخسارة المادية من أجل الربح الفني. يحكي محمود الزيباوي أنه، ولشدّة مثاليته، «سجّل مسرحية (سهرة حب) مرتَين ولم تعجبه النتيجة، فاقترض مبلغاً من المال ليسجّلها مرة ثالثة». ويضيف أن «أساطير كثيرة نُسجت حول الرحابنة، لكن الأسطورة الحقيقية الوحيدة هي جمال عملهم».
ما كانت لتكتمل أسطورة عاصي، لولا صوت تلك الصبية التي دخلت قفصَه الذهبي نهاد حدّاد، وطارت منه «فيروز».
«أدهشته»، يؤكّد الزيباوي؛ ويستطرد: «لكنّ أحداً منهما لم يعرف كيف يميّز بين نهاد حداد وفيروز»... «هي طبعاً المُلهِمة»، يقول أسامة الرحباني؛ «لمح فيها الشخصية التي لطالما أراد رسمَها، ورأى امرأةً تتجاوب مع تلك الشخصية»، ويضيف أن «عاصي دفع بصوت فيروز إلى الأعلى، فهو في الفن كان عنيفاً ويؤمن بالعصَب. كان يكره الارتخاء الموسيقي ويربط النجاح بالطبع الفني القوي، وهذا موجود عند فيروز».


زفاف عاصي الرحباني ونهاد حداد (فيروز) عام 1955 (تويتر)

دماغٌ بحجم وطن
من عزّ المجد، سرقت جلطة دماغيّة عاصي الرحباني عام 1972. «أكثر ما يثير الحزن أن عاصي مرض وهو في ذروة عطائه وإبداعه، وقد زادت الحرب اللبنانية من مرضه وصعّبت العمل كثيراً»، وفق الزيباوي. لم يكن القلق من الغد الغامض غريباً عليه. فهو ومنذ أودى انفجارٌ في إحدى الكسّارات بحياة زوج خالته يوسف الزيناتي، الذي كان يعتبره صياداً خارقاً واستوحى منه شخصيات لمسرحه، سكنته الأسئلة الحائرة حول الموت وما بعدَه.
الدماغ الذي وصفه الطبيب الفرنسي المعالج بأنه من أكبر ما رأى، عاد ليضيء كقمرٍ ليالي الحصّادين والعاشقين والوطن المشلّع. نهض عاصي ورجع إلى البزُق الذي ورثه عن والده، وإلى نُبله وكرمه الذي يسرد أسامة الرحباني عنهما الكثير.
بعد المرض، لانت قسوة عاصي في العمل وتَضاعفَ كرَمُه المعهود. يقول أسامة الرحباني إن «أقصى لحظات فرحه كانت لحظة العطاء». أعطى من ماله ومن فِكرِه، وعُرف بيدِه الموضوعة دائماً في جيبِه استعداداً لتوزيع النقود على المحتاجين في الشارع. أما داخل البيت، فتجسّد الكرَم عاداتٍ لطيفة وطريفة، كأن يشتري 20 كنزة متشابهة ويوزّعها على رجال العائلة وشبّانها.
خلال سنواته الأخيرة ومع احتدام الحرب، زاد قلق عاصي الرحباني على أفراد العائلة. ما كان يوفّر مزحة أو حكاية ليهدّئ بها خوف الأطفال، كما في ذلك اليوم من صيف 1975 الذي استُهدفت فيه بلدة بكفيا، مصيَف العائلة. يذكر أسامة الرحباني كيف دخل عاصي إلى الغرفة التي تجمّع فيها أولاد العائلة مرتعدين، فبدأ يقلّد الممثلين الأميركيين وهم يُطلقون النار في الأفلام الإيطالية، ليُنسيَهم ما في الخارج من أزيز رصاص حقيقي. وسط الدمار، بنى لهم وطناً من خيالٍ جميل، تماماً كما فعل وما زال يفعل في عامِه المائة، مع اللبنانيين.


عاصي الرحباني (غيتي)