مأزق تركيا بين عقوبات أميركا ومناورات روسيا

الرئيسان الروسي فلاديمير بوتين والتركي رجب طيب إردوغان يتحدثان في مؤتمر صحافي بسوتشي حول المنطقة الآمنة في سوريا 22 أكتوبر (أ.ب)
الرئيسان الروسي فلاديمير بوتين والتركي رجب طيب إردوغان يتحدثان في مؤتمر صحافي بسوتشي حول المنطقة الآمنة في سوريا 22 أكتوبر (أ.ب)
TT

مأزق تركيا بين عقوبات أميركا ومناورات روسيا

الرئيسان الروسي فلاديمير بوتين والتركي رجب طيب إردوغان يتحدثان في مؤتمر صحافي بسوتشي حول المنطقة الآمنة في سوريا 22 أكتوبر (أ.ب)
الرئيسان الروسي فلاديمير بوتين والتركي رجب طيب إردوغان يتحدثان في مؤتمر صحافي بسوتشي حول المنطقة الآمنة في سوريا 22 أكتوبر (أ.ب)

وضعت تركيا رهانات سياستها الخارجية في السنوات الأخيرة على محاولة اللعب على التوازنات وتبديل التحالفات والتقارب مع روسيا، والصين أحياناً، من أجل إيجاد أوراق بديلة للتلويح بها في وجه الولايات المتحدة، التي خيم على العلاقات معها مناخ من التوتر في كثير من القضايا والملفات التي أدخلت العلاقات بين أنقرة وواشنطن مرحلة من الفتور الذي يتصاعد بين وقت وآخر إلى توتر يترك أول ما يترك بصمته على الاقتصاد التركي الذي تأثرت مؤشراته سلباً في 2018 و2019 بهذا المناخ.
أكبر ملفات التوتر وأبرزها منذ نهاية عام 2017 وحتى الآن، والمرشحة للتصعيد أيضاً خلال عام 2020؛ ملف اقتناء تركيا منظومة الصواريخ الروسية «إس 400» الذي اختلفت أنقرة وواشنطن في تقييمه، فتركيا تتذرع باحتياجها لتعزيز منظومة دفاعها الجوي وبعدم تجاوب الإدارة الأميركية السابقة برئاسة باراك أوباما مع الطلب التركي لاقتناء منظومة «باتريوت»، بينما واقع الأمر أن المنظومة كانت رمزاً للتقارب والانفتاح التركي على المعسكر الشرقي الذي أرادت به أنقرة أن تعلن بوضوح أنها لن تتوقف عن توجهها لتنويع محاور سياستها الخارجية والظهور على أنها قوة فاعلة تستطيع أن توازن بين ارتباطاتها مع القوى الكبرى في العالم بما يحقق مصالحها.
في المقابل، عدّت الولايات المتحدة الخطوة التركية والإصرار عليها محاولة روسية لإضعاف حلف شمال الأطلسي (ناتو) باستخدام تركيا كمخلب قط في هذه اللعبة الخطرة. ومن هنا ألقت تركيا بنفسها في مرمى العقوبات الأميركية التي ظلت لفترة تعتقد أنها لن تسقط في مصيدتها اعتماداً على الاعتقاد بأنه يمكن اللعب على التناقضات القائمة بين الكونغرس والإدارة الأميركية والتعويل على التفهم الذي أبداه الرئيس دونالد ترمب لخطأ سلفه أوباما عندما امتنع عن تزويد تركيا بمنظومة «باتريوت».
ورغم نجاح أنقرة في تأجيل سلسلة العقوبات التي تنتظرها على مدى ما يقرب من عامين، فإن الأسابيع الأخيرة من عام 2019 حملت معها عدداً من القرارات التي أكدت أنها لن تنجو من نيران العقوبات في الفترة المقبلة، منها قانون الاعتراف بإبادة الأرمن على يد الدولة العثمانية في 1915، ومشروع قانون العقوبات بسبب «إس 400»، ومشروع السيل التركي «تورك ستريم» لنقل الغاز الروسي إلى أوروبا عبر أراضي تركيا، وعملية «نبع السلام» العسكرية التي استهدفت الحلفاء الأكراد لأميركا في شمال شرقي سوريا والتي تدخلت واشنطن لوقفها بعد انطلاقها في 9 أكتوبر (تشرين الأول) الماضي بثمانية أيام فقط، ورفع الحظر على السلاح لقبرص.
ولم يتوقف الأمر عند هذا الحد، بل عارضت أميركا التفاهمات التركية مع حكومة السراج في ليبيا بشأن التعاون العسكري والأمني وتحديد مناطق السيادة في البحر المتوسط، وعدّتها «استفزازية» و«مقلقة جداً».
وقابلت تركيا هذه الخطوات بالتهديد بطرد القوات الأميركية من قاعدة إنجيرليك الجوية في أضنة، جنوب البلاد، وإغلاق قاعدة كورجيك للرادار التي يستخدمها حلف الناتو في مالاطيا (شرق).
ولعبت قاعدة إنجيرليك دوراً محورياً وكبيراً خلال الحرب الباردة، إذ كانت طائرات التجسس الأميركية تنطلق منها لتحلق فوق أجواء الاتحاد السوفياتي السابق، وكانت تضم 150 رأساً نووياً نشرتها الولايات المتحدة في القاعدة، فيما تتحدث تقارير عن تخزين 50 رأساً نووياً في القاعدة حالياً.
وبنظرة فاحصة إلى النهج التركي في محاولة اللعب بورقة العلاقات مع روسيا كنقطة قوة في العلاقات مع أميركا، يبدو أن تركيا أدخلت نفسها في مأزق ووضعت نفسها تحت ضغط مزدوج، فقد أبدت تركيا انفتاحاً كبيراً على روسيا من أجل تحقيق مصالح اقتصادية، خصوصاً في مسعاها لأن تصبح ممراً للطاقة إلى أوروبا، فضلاً عن التنسيق في الملف السوري من أجل تحقيق أهدافها في إقامة منطقة آمنة في شمال سوريا تبعد الأكراد عن حدودها الجنوبية.
وحتى في هذا الملف حاولت أنقرة أن تكسب من الطرفين باللعب على التوازنات، لكن بدا أن ما يتحقق لها لا يلبي أياً من طموحاتها، وأهمها إقامة المنطقة الآمنة وسحب قوات وحدات حماية الشعب الكردية بعيداً عن الحدود الجنوبية لتركيا إلى عمق 30 كيلومتراً.
وبنظر كثير من المراقبين، أجهضت واشنطن وموسكو معاً طموحات تركيا ووضعت لها سقفاً منخفضاً جداً، وأسهمتا معاً في إنهاء عملية «نبع السلام» العسكرية التركية في شرق الفرات دون أن تحقق أهدافها، وهو ما أكدته وزارة الدفاع الروسية منذ أيام، حيث اعتبرت أن دخول قوات الأسد إلى مناطق في شرق الفرات ومحاصرة العملية التركية هو الحدث المحوري الأهم في سوريا عام 2019. رغم التنسيق التركي - الروسي في كل خطوة.
وقال قائد مجموعة القوات الروسية في سوريا، ألكسندر تشايكو، خلال اجتماع في مقر وزارة الدفاع يوم الجمعة الماضي: «يتمثل الحدث المحوري عام 2019 بمساعدة الحكومة السورية في بسط السيطرة على أراضٍ واقعة في شرق الفرات... هذا الإنجاز المهم يشمل أيضاً محاصرة منطقة تنفيذ عملية (نبع السلام) التركية العسكرية مع تسيير دوريات روسية - تركية مشتركة، إضافة إلى تنفيذ مهمات خاصة بالدوريات الجوية والبرية». وأشاد بإنجاز قواته الذي سمح لقوات النظام السوري بضم مزيد من الأراضي إلى مناطق سيطرته.
ودخلت قوات الأسد للمرة الأولى إلى قرى وبلدات في شمال شرقي سوريا منذ عام 2012 بعد عملية نبع السلام التركية التي أطلقتها تركيا في 9 أكتوبر الماضي ضد الوحدات الكردية في المنطقة، وتفاهمات النظام السوري مع تحالف قوات سوريا الديمقراطية (قسد) برعاية روسية عقب اتفاق سوتشي مع تركيا في 22 من الشهر ذاته.
ولم تخفِ أنقرة امتعاضها من الموقف الروسي في الأيام الأخيرة وتكررت الانتقادات الصادرة عنها بشأن الهجوم الواسع للنظام في إدلب الذي يقترب من نقاط المراقبة التركية في منطقة خفض التصعيد هناك، وكذلك لعدم الالتزام الروسي - الأميركي بشأن انسحاب الوحدات الكردية من شرق الفرات. وكان من النادر في السنوات الثلاث الأخيرة صدور مثل هذه الانتقادات لروسيا بأي شكل من الأشكال، وهو ما يدل، في نظر مراقبين، على عمق المأزق الذي تجد تركيا نفسها فيه بين الضغوط والعقوبات الأميركية والمناورات الروسية.


مقالات ذات صلة

لبنان يواجه تحدّيات مصيرية في زمن التحوّلات

حصاد الأسبوع جريمة اغتيال رفيق الحريري (غيتي)

لبنان يواجه تحدّيات مصيرية في زمن التحوّلات

يواجه لبنان جملة من التحديات السياسية والعسكرية والأمنية والاقتصادية، خصوصاً في مرحلة التحوّلات الكبرى التي تشهدها المنطقة وترخي بثقلها على واقعه الصعب

يوسف دياب (بيروت)
حصاد الأسبوع تحت ضغط الفضائح والخلافات انخفضت شعبية يون، وقبل أقل من شهر أظهر استطلاع للرأي أن شعبيته انخفضت إلى 19 % فقط

يون سوك ــ يول... رئيس كوريا الجنوبية أثار زوبعة دعت لعزله في تصويت برلماني

تشهد كوريا الجنوبية، منذ نحو أسبوعين، تطورات متلاحقة لا تلوح لها نهاية حقيقية، شهدت اهتزاز موقع رئيس الجمهورية يون سوك - يول بعد إعلانه في بيان تلفزيوني

براكريتي غوبتا (نيودلهي (الهند))
حصاد الأسبوع تشون دو - هوان (رويترز)

تاريخ مظلم للقيادات في كوريا الجنوبية

إلى جانب يون سوك - يول، فإن أربعة من رؤساء كوريا الجنوبية السبعة إما قد عُزلوا أو سُجنوا بتهمة الفساد منذ انتقال البلاد إلى الديمقراطية في أواخر الثمانينات.

«الشرق الأوسط» (نيودلهي)
حصاد الأسبوع الشرق السودان دخل دوامة الحروب السودانية المتمددة (رويترز)

شرق السودان... نار تحت الرماد

لا يبعد إقليم شرق السودان كثيراً عن تماسّات صراع إقليمي معلن، فالجارة الشرقية إريتريا، عينها على خصمها «اللدود» إثيوبيا، وتتربص كل منهما بالأخرى. كذلك، شرق

أحمد يونس (كمبالا (أوغندا))
الولايات المتحدة​ الرئيس الأميركي المنتخب دونالد ترمب (أ.ب)

"تايم "تختار دونالد ترمب شخصية العام 2024

اختارت مجلة تايم الأميركية دونالد ترمب الذي انتخب لولاية ثانية على رأس الولايات المتحدة شخصية العام 2024.

«الشرق الأوسط» (نيويورك)

ألمانيا... الحزب الديمقراطي الحر «شريك الحكم» شبه الدائم

شيل
شيل
TT

ألمانيا... الحزب الديمقراطي الحر «شريك الحكم» شبه الدائم

شيل
شيل

مع أن «الحزب الديمقراطي الحر»، الذي يعرف في ألمانيا بـ«الحزب الليبرالي»، حزب صغير نسبياً، مقارنةً بالقطبين الكبيرين «الاتحاد الديمقراطي المسيحي» (المحافظ) و«الحزب الديمقراطي الاجتماعي» (الاشتراكي)، فإنه كان غالباً «الشريك» المطلوب لتشكيل الحكومات الائتلافية المتعاقبة.

النظام الانتخابي في ألمانيا يساعد على ذلك، فهو بفضل «التمثيل النسبي» يصعّب على أي من الحزبين الكبيرين الفوز بغالبية مطلقة تسمح له بالحكم منفرداً. والحال أنه منذ نهاية الحرب العالمية الثانية، تحكم ألمانيا حكومات ائتلافية يقودها الحزب الفائز وبجانبه حزب أو أحزاب أخرى صغيرة. ومنذ تأسيس «الحزب الديمقراطي الحر»، عام 1948، شارك في 5 حكومات من بينها الحكومة الحالية، قادها أحد من الحزبين الأساسيين، وكان جزءاً من حكومات المستشارين كونراد أديناور وهيلموت كول وأنجيلا ميركل.

يتمتع الحزب بشيء من الليونة في سياسته التي تُعد «وسطية»، تسمح له بالدخول في ائتلافات يسارية أو يمينية، مع أنه قد يكون أقرب لليمين. وتتمحور سياسات

الحزب حول أفكار ليبرالية، بتركيز على الأسواق التي يؤمن بأنها يجب أن تكون حرة من دون تدخل الدولة باستثناء تحديد سياسات تنظيمية لخلق أطر العمل. وهدف الحزب الأساسي خلق وظائف ومناخ إيجابي للأعمال وتقليل البيروقراطية والقيود التنظيمية وتخفيض الضرائب والالتزام بعدم زيادة الدين العام.

غينشر

من جهة أخرى، يصف الحزب نفسه بأنه أوروبي التوجه، مؤيد للاتحاد الأوروبي ويدعو لسياسات أوروبية خارجية موحدة. وهو يُعد منفتحاً في سياسات الهجرة التي تفيد الأعمال، وقد أيد تحديث «قانون المواطنة» الذي أدخلته الحكومة وعدداً من القوانين الأخرى التي تسهل دخول اليد العاملة الماهرة التي يحتاج إليها الاقتصاد الألماني. لكنه عارض سياسات المستشارة السابقة أنجيلا ميركل المتعلقة بالهجرة وسماحها لمئات آلاف اللاجئين السوريين بالدخول، فهو مع أنه لا يعارض استقبال اللاجئين من حيث المبدأ، يدعو لتوزيعهم «بشكل عادل» على دول الاتحاد الأوروبي.

من أبرز قادة الحزب، فالتر شيل، الذي قاد الليبراليين من عام 1968 حتى عام 1974، وخدم في عدد من المناصب المهمة، وكان رئيساً لألمانيا الغربية بين عامي 1974 و1979. وقبل ذلك كان وزيراً للخارجية في حكومة فيلي براندت بين عامي 1969 و1974. وخلال فترة رئاسته للخارجية، كان مسؤولاً عن قيادة فترة التقارب مع ألمانيا الديمقراطية الشرقية.

هانس ديتريش غينشر زعيم آخر لليبراليين ترك تأثيراً كبيراً، وقاد الحزب بين عامي 1974 و1985، وكان وزيراً للخارجية ونائب المستشار بين عامي 1974 و1992، ما جعله وزير الخارجية الذي أمضى أطول فترة في المنصب في ألمانيا. ويعتبر غينشر دبلوماسياً بارعاً، استحق عن جدارة لقب «مهندس الوحدة الألمانية».