مأزق تركيا بين عقوبات أميركا ومناورات روسيا

الرئيسان الروسي فلاديمير بوتين والتركي رجب طيب إردوغان يتحدثان في مؤتمر صحافي بسوتشي حول المنطقة الآمنة في سوريا 22 أكتوبر (أ.ب)
الرئيسان الروسي فلاديمير بوتين والتركي رجب طيب إردوغان يتحدثان في مؤتمر صحافي بسوتشي حول المنطقة الآمنة في سوريا 22 أكتوبر (أ.ب)
TT

مأزق تركيا بين عقوبات أميركا ومناورات روسيا

الرئيسان الروسي فلاديمير بوتين والتركي رجب طيب إردوغان يتحدثان في مؤتمر صحافي بسوتشي حول المنطقة الآمنة في سوريا 22 أكتوبر (أ.ب)
الرئيسان الروسي فلاديمير بوتين والتركي رجب طيب إردوغان يتحدثان في مؤتمر صحافي بسوتشي حول المنطقة الآمنة في سوريا 22 أكتوبر (أ.ب)

وضعت تركيا رهانات سياستها الخارجية في السنوات الأخيرة على محاولة اللعب على التوازنات وتبديل التحالفات والتقارب مع روسيا، والصين أحياناً، من أجل إيجاد أوراق بديلة للتلويح بها في وجه الولايات المتحدة، التي خيم على العلاقات معها مناخ من التوتر في كثير من القضايا والملفات التي أدخلت العلاقات بين أنقرة وواشنطن مرحلة من الفتور الذي يتصاعد بين وقت وآخر إلى توتر يترك أول ما يترك بصمته على الاقتصاد التركي الذي تأثرت مؤشراته سلباً في 2018 و2019 بهذا المناخ.
أكبر ملفات التوتر وأبرزها منذ نهاية عام 2017 وحتى الآن، والمرشحة للتصعيد أيضاً خلال عام 2020؛ ملف اقتناء تركيا منظومة الصواريخ الروسية «إس 400» الذي اختلفت أنقرة وواشنطن في تقييمه، فتركيا تتذرع باحتياجها لتعزيز منظومة دفاعها الجوي وبعدم تجاوب الإدارة الأميركية السابقة برئاسة باراك أوباما مع الطلب التركي لاقتناء منظومة «باتريوت»، بينما واقع الأمر أن المنظومة كانت رمزاً للتقارب والانفتاح التركي على المعسكر الشرقي الذي أرادت به أنقرة أن تعلن بوضوح أنها لن تتوقف عن توجهها لتنويع محاور سياستها الخارجية والظهور على أنها قوة فاعلة تستطيع أن توازن بين ارتباطاتها مع القوى الكبرى في العالم بما يحقق مصالحها.
في المقابل، عدّت الولايات المتحدة الخطوة التركية والإصرار عليها محاولة روسية لإضعاف حلف شمال الأطلسي (ناتو) باستخدام تركيا كمخلب قط في هذه اللعبة الخطرة. ومن هنا ألقت تركيا بنفسها في مرمى العقوبات الأميركية التي ظلت لفترة تعتقد أنها لن تسقط في مصيدتها اعتماداً على الاعتقاد بأنه يمكن اللعب على التناقضات القائمة بين الكونغرس والإدارة الأميركية والتعويل على التفهم الذي أبداه الرئيس دونالد ترمب لخطأ سلفه أوباما عندما امتنع عن تزويد تركيا بمنظومة «باتريوت».
ورغم نجاح أنقرة في تأجيل سلسلة العقوبات التي تنتظرها على مدى ما يقرب من عامين، فإن الأسابيع الأخيرة من عام 2019 حملت معها عدداً من القرارات التي أكدت أنها لن تنجو من نيران العقوبات في الفترة المقبلة، منها قانون الاعتراف بإبادة الأرمن على يد الدولة العثمانية في 1915، ومشروع قانون العقوبات بسبب «إس 400»، ومشروع السيل التركي «تورك ستريم» لنقل الغاز الروسي إلى أوروبا عبر أراضي تركيا، وعملية «نبع السلام» العسكرية التي استهدفت الحلفاء الأكراد لأميركا في شمال شرقي سوريا والتي تدخلت واشنطن لوقفها بعد انطلاقها في 9 أكتوبر (تشرين الأول) الماضي بثمانية أيام فقط، ورفع الحظر على السلاح لقبرص.
ولم يتوقف الأمر عند هذا الحد، بل عارضت أميركا التفاهمات التركية مع حكومة السراج في ليبيا بشأن التعاون العسكري والأمني وتحديد مناطق السيادة في البحر المتوسط، وعدّتها «استفزازية» و«مقلقة جداً».
وقابلت تركيا هذه الخطوات بالتهديد بطرد القوات الأميركية من قاعدة إنجيرليك الجوية في أضنة، جنوب البلاد، وإغلاق قاعدة كورجيك للرادار التي يستخدمها حلف الناتو في مالاطيا (شرق).
ولعبت قاعدة إنجيرليك دوراً محورياً وكبيراً خلال الحرب الباردة، إذ كانت طائرات التجسس الأميركية تنطلق منها لتحلق فوق أجواء الاتحاد السوفياتي السابق، وكانت تضم 150 رأساً نووياً نشرتها الولايات المتحدة في القاعدة، فيما تتحدث تقارير عن تخزين 50 رأساً نووياً في القاعدة حالياً.
وبنظرة فاحصة إلى النهج التركي في محاولة اللعب بورقة العلاقات مع روسيا كنقطة قوة في العلاقات مع أميركا، يبدو أن تركيا أدخلت نفسها في مأزق ووضعت نفسها تحت ضغط مزدوج، فقد أبدت تركيا انفتاحاً كبيراً على روسيا من أجل تحقيق مصالح اقتصادية، خصوصاً في مسعاها لأن تصبح ممراً للطاقة إلى أوروبا، فضلاً عن التنسيق في الملف السوري من أجل تحقيق أهدافها في إقامة منطقة آمنة في شمال سوريا تبعد الأكراد عن حدودها الجنوبية.
وحتى في هذا الملف حاولت أنقرة أن تكسب من الطرفين باللعب على التوازنات، لكن بدا أن ما يتحقق لها لا يلبي أياً من طموحاتها، وأهمها إقامة المنطقة الآمنة وسحب قوات وحدات حماية الشعب الكردية بعيداً عن الحدود الجنوبية لتركيا إلى عمق 30 كيلومتراً.
وبنظر كثير من المراقبين، أجهضت واشنطن وموسكو معاً طموحات تركيا ووضعت لها سقفاً منخفضاً جداً، وأسهمتا معاً في إنهاء عملية «نبع السلام» العسكرية التركية في شرق الفرات دون أن تحقق أهدافها، وهو ما أكدته وزارة الدفاع الروسية منذ أيام، حيث اعتبرت أن دخول قوات الأسد إلى مناطق في شرق الفرات ومحاصرة العملية التركية هو الحدث المحوري الأهم في سوريا عام 2019. رغم التنسيق التركي - الروسي في كل خطوة.
وقال قائد مجموعة القوات الروسية في سوريا، ألكسندر تشايكو، خلال اجتماع في مقر وزارة الدفاع يوم الجمعة الماضي: «يتمثل الحدث المحوري عام 2019 بمساعدة الحكومة السورية في بسط السيطرة على أراضٍ واقعة في شرق الفرات... هذا الإنجاز المهم يشمل أيضاً محاصرة منطقة تنفيذ عملية (نبع السلام) التركية العسكرية مع تسيير دوريات روسية - تركية مشتركة، إضافة إلى تنفيذ مهمات خاصة بالدوريات الجوية والبرية». وأشاد بإنجاز قواته الذي سمح لقوات النظام السوري بضم مزيد من الأراضي إلى مناطق سيطرته.
ودخلت قوات الأسد للمرة الأولى إلى قرى وبلدات في شمال شرقي سوريا منذ عام 2012 بعد عملية نبع السلام التركية التي أطلقتها تركيا في 9 أكتوبر الماضي ضد الوحدات الكردية في المنطقة، وتفاهمات النظام السوري مع تحالف قوات سوريا الديمقراطية (قسد) برعاية روسية عقب اتفاق سوتشي مع تركيا في 22 من الشهر ذاته.
ولم تخفِ أنقرة امتعاضها من الموقف الروسي في الأيام الأخيرة وتكررت الانتقادات الصادرة عنها بشأن الهجوم الواسع للنظام في إدلب الذي يقترب من نقاط المراقبة التركية في منطقة خفض التصعيد هناك، وكذلك لعدم الالتزام الروسي - الأميركي بشأن انسحاب الوحدات الكردية من شرق الفرات. وكان من النادر في السنوات الثلاث الأخيرة صدور مثل هذه الانتقادات لروسيا بأي شكل من الأشكال، وهو ما يدل، في نظر مراقبين، على عمق المأزق الذي تجد تركيا نفسها فيه بين الضغوط والعقوبات الأميركية والمناورات الروسية.


مقالات ذات صلة

لبنان يواجه تحدّيات مصيرية في زمن التحوّلات

حصاد الأسبوع جريمة اغتيال رفيق الحريري (غيتي)

لبنان يواجه تحدّيات مصيرية في زمن التحوّلات

يواجه لبنان جملة من التحديات السياسية والعسكرية والأمنية والاقتصادية، خصوصاً في مرحلة التحوّلات الكبرى التي تشهدها المنطقة وترخي بثقلها على واقعه الصعب

يوسف دياب (بيروت)
حصاد الأسبوع تحت ضغط الفضائح والخلافات انخفضت شعبية يون، وقبل أقل من شهر أظهر استطلاع للرأي أن شعبيته انخفضت إلى 19 % فقط

يون سوك ــ يول... رئيس كوريا الجنوبية أثار زوبعة دعت لعزله في تصويت برلماني

تشهد كوريا الجنوبية، منذ نحو أسبوعين، تطورات متلاحقة لا تلوح لها نهاية حقيقية، شهدت اهتزاز موقع رئيس الجمهورية يون سوك - يول بعد إعلانه في بيان تلفزيوني

براكريتي غوبتا (نيودلهي (الهند))
حصاد الأسبوع تشون دو - هوان (رويترز)

تاريخ مظلم للقيادات في كوريا الجنوبية

إلى جانب يون سوك - يول، فإن أربعة من رؤساء كوريا الجنوبية السبعة إما قد عُزلوا أو سُجنوا بتهمة الفساد منذ انتقال البلاد إلى الديمقراطية في أواخر الثمانينات.

«الشرق الأوسط» (نيودلهي)
حصاد الأسبوع الشرق السودان دخل دوامة الحروب السودانية المتمددة (رويترز)

شرق السودان... نار تحت الرماد

لا يبعد إقليم شرق السودان كثيراً عن تماسّات صراع إقليمي معلن، فالجارة الشرقية إريتريا، عينها على خصمها «اللدود» إثيوبيا، وتتربص كل منهما بالأخرى. كذلك، شرق

أحمد يونس (كمبالا (أوغندا))
الولايات المتحدة​ الرئيس الأميركي المنتخب دونالد ترمب (أ.ب)

"تايم "تختار دونالد ترمب شخصية العام 2024

اختارت مجلة تايم الأميركية دونالد ترمب الذي انتخب لولاية ثانية على رأس الولايات المتحدة شخصية العام 2024.

«الشرق الأوسط» (نيويورك)

كريستيان ليندنر... الزعيم الليبرالي الذي أسقط عزله الحكومة الألمانية

ليندنر اختلف مع سياسة ميركل المتعلقة بالهجرة وفتحها أبواب ألمانيا أمام مئات آلاف اللاجئين السوريين
ليندنر اختلف مع سياسة ميركل المتعلقة بالهجرة وفتحها أبواب ألمانيا أمام مئات آلاف اللاجئين السوريين
TT

كريستيان ليندنر... الزعيم الليبرالي الذي أسقط عزله الحكومة الألمانية

ليندنر اختلف مع سياسة ميركل المتعلقة بالهجرة وفتحها أبواب ألمانيا أمام مئات آلاف اللاجئين السوريين
ليندنر اختلف مع سياسة ميركل المتعلقة بالهجرة وفتحها أبواب ألمانيا أمام مئات آلاف اللاجئين السوريين

رجل واحد حمله المستشار الألماني أولاف شولتس مسؤولية انهيار حكومته، وما نتج عن ذلك من فوضى سياسية دخلت فيها ألمانيا بينما هي بأمس الحاجة للاستقرار وتهدئة اقتصادها المتدهور. رجل وصفه المستشار بأنه «أناني»، وشن عليه هجوماً شخصياً نادراً ما يصدر عن شولتس المعروف بتحفظه وهدوئه. ذلك الرجل كان وزير ماليته كريستيان ليندنر، زعيم «الحزب الديمقراطي الحر» الذي كان شريكاً في الحكومة الائتلافية الثلاثية منذ عام 2021، برئاسة «الحزب الديمقراطي الاجتماعي» (الاشتراكي)، ومشاركة حزب «الخضر». ولقد طرده شولتس من الحكومة بعد خلافات حول ميزانية سنة 2025، ما تسبب بخروج الوزراء المتبقين من «الحزب الديمقراطي الحر»، ليبقى المستشار يقود حكومة أقلية حتى إجراء الانتخابات المبكرة في 23 فبراير المقبل. ثم إن شولتس تعرض لانتقادات كثيرة لهجومه الشخصي على ليندنر، خاصة من المستشارة السابقة أنجيلا ميركل التي وصفته بأنه كان «خارجاً عن السيطرة». لكن مع ذلك، فإن الصورة التي رسمها المستشار عن وزيره قد تحمل شيئاً من الواقع؛ إذ خرجت انتقادات من أوساط الديمقراطيين الأحرار لليندنر و«تصرفه بشكل أحادي» في دفع المستشار لإقالته. وقبل ذلك طالته انتقادات بعدما أصبح «الوجه الأوحد» لـ«الحزب الديمقراطي الحر» إبان الانتخابات الماضية عام 2021 وقبلها عام 2017. ولعل الحزب تسامح مع تصرفات ليندنر «الأنانية» تلك لنجاحه بإعادة الحزب إلى الخارطة السياسية بعد انهياره تقريباً عام 2013 وفشله بدخول البرلمان للمرة الأولى في تاريخه. إلا أن مستقبل الرجل الذي أعاد حزبه إلى الحياة... هو نفسه في خطر. فهل يستمر ليندنر بالبناء على تاريخه حتى اليوم للنهوض مجدداً؟

قد يكون كريستيان ليندنر أصغر زعيم انتُخب ليرأس حزبه «الديمقراطي الحر»، عن عمر 34 سنة فقط عام 2013، بيد أنه لم يكن ناجحاً على الدوام. وبعكس حياته السياسية وصعوده السريع إلى القمة، فشل ليندنر في مشاريع أعمال أطلقها عندما كانت السياسة ما زالت هواية بالنسبة إليه. واعترف لاحقاً بإخفاقاته تلك، مستعيناً بعبارة «المشاكل هي مجرد فرص شائكة» لكي يدفع نفسه إلى الأمام.

وبين عامَي 1997 و2001 أسس شركات خاصة مع أصدقاء له، انتهت بالفشل آخرها شركة «موماكس» التي انهارت وأفلست بعد أقل من سنة على إطلاقها.

هذه «الإخفاقات» التي طبعت مغامراته التجارية وهو في مطلع العشرينات قد تكون دفعته للتوجه إلى السياسة بجدية أكبر. وبالفعل، نجح عام 2001 بدخول البرلمان المحلي في ولايته شمال الراين-وستفاليا وهو ابن 21 سنة ليغدو أصغر نائب يدخل برلمان الولاية. ولصغر سنه وقسمات وجهه الخجولة كسب ليندنر آنذاك لقب «بامبي» بين أعضاء الحزب نسبة للغزال الصغير عند «ديزني».

«بامبي» في «البوندستاغ»

في عام 2009، فاز ليندنر بمقعد في البرلمان الفيدرالي (البوندستاغ) ليعود عام 2012 إلى ولايته أميناً عاماً للحزب في الولاية ونائباً محلياً مرة أخرى.

وبعدها ساعدت إخفاقات الديمقراطيين الأحرار في الانتخابات العامة عام 2013 بتسليط الضوء على ليندنر، الشاب الكاريزماتي الطموح الذي وجد فرصة سانحة أمامه للصعود داخل الحزب. ويومذاك فشل الحزب بتخطي عتبة الـ5 في المائة من أصوات الناخبين التي يحددها القانون شرطاً لدخول «البوندتساغ». وعقد أعضاؤه اجتماعاً خاصاً لمناقشة النتائج الكارثية التي لم يسبق للحزب أن سجلها في تاريخه، وانتخب ليندنر، وهو في سن الـ34، زعيماً للحزب مكلفاً بتأهيله وإعادته للحياة... وبذلك بات أصغر زعيم ينتخب لـ«الحزب الديمقراطي الحر».

شاب أنيق وجذّاب

شكّل سن ليندنر وأناقته وشخصيته عاملاً جاذباً للناخبين الشباب خاصة. وقاد حملة مبنية على أساس جذب الشباب ونفض صورة الحزب القديم التقليدي عنه، كما ساعده حضوره على وسائل التواصل الاجتماعي في التواصل مع مستخدميها من الشباب وتقريبهم إلى الحزب.

وغالباً ما نُشرت له صور من حياته الشخصية على «إنستغرام»، منها صورة لإجازة مع فرانكا ليهفيلدت، زوجته الصحافية التي كانت تعمل في قناة «دي فيلت»، ولقد عقدا قرانهما وهو في الحكومة عام 2022 في حفل ضخم وباذخ بجزيرة سيلت حضره عدد كبير من السياسيين. وينتظر الزوجان مولودهما الأول في الربيع المقبل.

للعلم، كان ليندر متزوجاً قبل ذلك من صحافية أخرى كانت نائبة رئيس تحرير «دي فيلت» أيضاً، هي داغمار روزنفلت، التي تكبره سناً ولم ينجبا أطفالاً معاً. لكنهما ظلا متزوجين من 2011 وحتى 2018 عندما أعلن طلاقهما وكشف عن علاقته مع ليهفيلدت.

أيضاً، لا يخفي ليندنر حبه للسيارات السريعة، وكان قال غير مرة قبل دخوله الحكومة مع حزب «الخضر» بأنه يهوى السيارات القديمة ويملك سيارة بورشه قديمة ومعها يملك رخصة للسباقات. وبجانب هذه الهواية يحب اليخوت ويملك رخصة للإبحار الرياضي وأخرى للصيد.

صورة شبابية عصرية

هذه الصورة التي رسمها ليندنر لنفسه، صورة الرجل الأنيق الذي يهتم بمظهره (لدرجة أنه خضع لزرع شعر) ويمارس هوايات عصرية، ساعدته على اجتذاب ناخبين من الشباب خاصة، وجعلته ينجح بإعادة حزبه إلى البرلمان عام 2017 بحصوله على نسبة أصوات قاربت 11 في المائة.

في حينه دخل في مفاوضات لتشكيل حكومة ائتلافية مع المستشارة أنجيلا ميركل التي فاز حزبها بالانتخابات، وكانت تبحث عن شركاء للحكم إثر حصولها على 33 في المائة من الأصوات. وفعلاً، بدأت ميركل مفاوضات مع الديمقراطيين الأحرار و«الخضر»، لكن ليندنر انسحب فجأة من المفاوضات بعد 4 أسابيع، ليعلن: «أفضل عدم الحكم من الحكم بشكل خاطئ».

ليندنر كان يختلف آنذاك مع سياسة ميركل المتعلقة بالهجرة وفتحها أبواب ألمانيا أمام مئات آلاف اللاجئين السوريين قبل سنتين. ويومها واجه الانتقاد لتفويته على حزبه فرصة الحكم، وهي فرصة خشي بعض الحزبيين ألا تُتاح مُجدداً.

ائتلاف مع اليسار

غير أن الفرصة أتيحت مرة أخرى في الانتخابات التالية عام 2021 عندما حقق «الحزب الديمقراطي الحر» نتائج أفضل من الانتخابات السابقة، حاصلاً على نسبة 11.5 في المائة من الأصوات. ومع أن «الحزب الديمقراطي الحر» حزب وسطي ليبرالي يؤيد الحريات الاقتصادية، ويعدّ شريكاً طبيعياً لحزب «الاتحاد الديمقراطي المسيحي» (يمين معتدل)، قرر ليندنر عام 2021 الدخول في ائتلاف حاكم مع الاشتراكيين و«الخضر»؛ ذلك أن الأخير يعتبر نقيضاً فكرياً للديمقراطيين الأحرار الذين يرون سياساته البيئية مكلفة وكابحة للتقدم الاقتصادي.

وهكذا تسلم ليندنر إحدى أهم الوزرات؛ إذ عُيّن وزيراً للمالية وثاني نائب للمستشار. وحقق بذلك حلمه الذي غالباً ما كرره خلال الحملات الانتخابية بأنه يريد أن يصبح وزيراً للمالية، وحتى إنه عرّف نفسه في إحدى الحملات ممازحاً: «تعرّفوا على وزير ماليتكم المقبل!».

خلفيته العلمية والفكرية

اهتمام ليندنر بالسياسة الاقتصادية ينبع من اهتماماته منذ تخرّجه من الجامعة؛ حيث درس العلوم السياسية ثم القانون والفلسفة في جامعة بون المرموقة (واسمها الرسمي جامعة راينيشه فريدريش - فيلهامز).

ثم إنه لم ينضم فور مغادرته المدرسة للخدمة العسكرية التي كانت إجبارية آنذاك، وأجّلها للدراسة وإكمال مغامراته التجارية، لكنه عاد لاحقاً وانضم إلى جنود الاحتياط ووصل لرتبة رائد. ورغم فشل مغامراته التجارية، بقيت اهتماماته السياسية منصبّة على الجانب المالي، ومن هنا جاء طموحه بأن يصبح وزيراً للمالية في الحكومة الفيدرالية.

وفكرياً، يؤمن ليندنر وحزبه بتقليص الإنفاق العام وخفض الضرائب وفتح الأسواق أمام الشركات الخاصة. ودائماً عارض خططاً عدّها متطرفة يدعمها «الخضر» لاستثمارات أكبر في الطاقة النظيفة بحجة تكلفتها العالية وتأثيرها على الشركات والأعمال. وكانت المفارقة أنه تسلّم حكومة كانت مسؤولة عن تطبيق سياسات تروّج للطاقة البديلة وتزيد من النفقات الاجتماعية وترفع من الضرائب.

هذا الأمر كان صعباً عليه تقبّله. ورغم وجود اتفاق حكومي حدّدت الأحزاب الثلاثة على أساسه العمل خلال السنوات الأربع من عمرها، عانى عمل الحكومات من الخلافات منذ اليوم الأول. وطبعاً لم تساعد الحكومة الأزمات المتتالية التي اضطرت لمواجهتها وكانت لها تأثيرات مباشرة على الاقتصاد، بدءاً بجائحة كوفيد-19 إلى الحرب الأوكرانية.

ولذا كان شولتس غالباً ما يعقد خلوات مع ليندنر وزعيم «الخضر»، روبرت هابيك، ويطول النقاش لساعات بأمل التوصل لحلول وسط يمكن للحكومة أن تكمل فيها عملها. وفي النهاية، كان من أبرز نقاط الخلاف التي رفض ليندنر المساومة فيها هي ما يُعرف في ألمانيا بـ«مكابح الدَّين العام»؛ إذ يرفض الدستور الألماني الاستدانة إلا في حالات الطوارئ، ولقد استخدمت الحكومة كوفيد-19 كطارئ للتخلي عن «مكابح الدَّين العام»، وبالتالي، الاستدانة والإنفاق للمساعدة عجلة الاقتصاد.

وأراد شولتس تمديد العمل بحالة الطوارئ كي تتمكن حكومته من الاستدانة وتمويل الحرب في أوكرانيا من دون الاقتطاع من الخدمات العامة، لكن ليندنر رفض مقترحاً تخفيض الإنفاق العام في المقابل، الأمر الذي اعتبره شولتس «خطاً أحمر».

تهم وشكوك

وحقاً، اتُّهم ليندنر بعد طرده بأنه كان يخطط للانسحاب من الحكومة منذ فترة، وبأنه وضع خطة لذلك بعدما وجد أن حزبه منهار في استطلاعات الرأي وأن نسبة تأييده عادت لتنخفض إلى ما دون عتبة الـ5 في المائة.

أيضاً، كُشف بعد انهيار الحكومة عن «وثيقة داخلية» أعدّها ليندنر وتداولها مع نفر من المقرّبين منه داخل الحزب، تحضّر للانسحاب من الحكومة بانتظار الفرصة المناسبة. وقيل إنه بدأ يخشى البقاء في حكومة فقدت الكثير من شعبيتها بسبب المشاكل الاقتصادية وارتفاع التضخّم خلال السنوات الثلاث الماضية، ما أثر على القدرة الشرائية للألمان. وبناءً عليه، خطّط ليندنر للخروج منها قبل موعد الانتخابات واستخدام ذلك انتخابياً لإعادة رفع حظوظ حزبه الذي يبدو الأكثر تأثراً من الأحزاب المشاركة في الحكومة، بخسارة الأصوات. وطرحت «الوثيقة» التي كُشف عنها مشكلة أخرى بالنسبة لليندنر - داخل حزبه هذه المرة - فواجه اتهامات بالتفرّد بالقرارات وحتى دعوات لإقالته.

طامح لمواصلة القيادة

حتى الآن، يبدو كريستيان ليندنر مصراً على قيادة حزبه في انتخابات فبراير (شباط)، وما زال لم يفقد الأمل العودة حتى إلى الحكومة المقبلة وزيراً للمالية في حكومة يقودها زعيم الديمقراطيين المسيحيين، فريدريش ميرتز، الذي يتقدّم حزبه في استطلاعات الرأي ومن المرجح أن يتولى المستشارية. وللعلم، ميرتز نفسه أبدى انفتاحاً على ضم ليندنر إلى حكومته المحتملة، وشوهد الرجلان بعد أيام من إقالة ليندنر يتهامسان بتفاهم ظاهر داخل «البوندستاغ».

ولكن عودة ليندنر للحكومة ستتطلب منه بدايةً تخطي عقبتين: الأولى أن يبقى على رأس حزبه لقيادته للانتخابات. والثانية أن ينجح بإقناع الناخبين بمنح الحزب أصواتاً كافية لتخطي عتبة الـ5 في المائة الضرورية لدخول البرلمان.