قبل أيام من حلول نهاية عام 2019، واجه الرئيس فلاديمير بوتين سؤالاً حول العلاقات الدولية لبلاده، ورد بثقة أن بلاده نجحت في «كسر الأحادية القطبية، وإطلاق عملية بلورة ملامح نظام دولي جديد متعدد الأقطاب».
تلك العبارة كررتها روسيا كثيراً في السنوات الماضية، لكن الجديد فيها أن سيد الكرملين أعقب جملته بتأكيد أن «العالم متعدد الأقطاب غدا واقعاً لا يمكن إنكاره»، رغم محاولة بعض القوى إظهار هيمنتها على السياسة العالمية.
تنطلق روسيا وهي تودع عاماً ثقيلاً معقداً، على صعيد سياساتها الداخلية والخارجية، من قناعة بأنها نجحت خلال 2019 في استكمال عملية تطويق محاولات تهميش دورها، وعزلها سياسياً واقتصادياً، وبأن حضورها على المشهد الدولي بات راسخاً، و«لا يمكن التعامل مع أي ملف إقليمي أو عالمي من دون أخذ وجهة نظر موسكو بعين الاعتبار».
ومع أن التعقيدات التي تواجه الكرملين داخلياً زادت خلال هذا العام، فإنه حتى خصومه يقرون بأنه نجح على الصعيد الخارجي في تكريس الواقع الجديد.
وعلى الصعيد الإقليمي في الفضاء السوفياتي السابق، لم تقتصر نجاحات الكرملين على تهميش أدوار القوى التي كانت تشكل رأس الحربة لمواجهة تطلعات روسيا في محيطها، إذ تمكن من تفتيت محاولات إقامة جبهة تضم أوكرانيا وجورجيا ومولدافيا، وهي البلدان التي تطلعت بشكل أو بآخر للتخلص من الهيمنة الروسية، وإقامة علاقات بديلة مع حلف شمال الأطلسي والاتحاد الأوروبي.
وفي أوكرانيا، أسفرت خسارة الخصم اللدود للرئيس فلاديمير بوتين مقعد الرئاسة، في انتخابات وصفت بأنها كانت «انتقامية» من طبقة الأوليغارشية الحاكمة في البلاد، عن سعي كييف في ظل السلطة الجديدة لإعادة ترتيب أولوياتها لمواجهة الأزمات المستعصية. وفور تسلم الرئيس فلاديمير زيلينسكي الذي يفتقر إلى الخبرة السياسية مقاليد السلطة، وجد نفسه أمام استحقاقات مواجهة الوضع الاقتصادي المتفاقم، والفوضى الإدارية والفساد، فضلاً عن مشكلة الأقاليم الانفصالية في شرق وجنوب البلاد. ورغم أنه حصل على وعود كثيرة من جانب الغرب لتعزيز موقفه في مواجهة سياسات الكرملين، فإن هذه الوعود ظلت شفهية، فيما تحتاج أوكرانيا لنحو 20 مليار دولار بشكل عاجل لمعالجة مشكلاتها. على هذه الخلفية، لم يعد الحديث عن القرم «المحتل» من جانب روسيا إلا جزءاً من أدبيات النخبة السياسية الأوكرانية، بينما اضطرت كييف للقيام بخطوات لتأكيد التزامها باتفاقات مينسك للتهدئة، مما جعلها تواجه خطر انفجار ثورة جديدة في الشارع، بعدما اتهمت بأنها «تحاول الاستسلام أمام بوتين».
لم تقل «انتصارات» بوتين أهمية في جورجيا ومولدافيا، وسط تناحر القوى الداخلية وانشغالها بمشكلاتها. أما على صعيد الجمهوريات السوفياتية السابقة الأخرى، فشكلت عنصر قوة بيد الكرملين، من خلال إعلان تأييدها الكامل لسياسات موسكو الخارجية، وتضامنها الكلي في ملف العقوبات الغربية المفروضة على موسكو.
وحملت سياسة روسيا الأوروبية ملامح مماثلة أثارت ارتياحاً أوسع لدى الكرملين الذي كان (ولا يزال) متهماً في سنوات سابقة بأنه يقف وراء تشجيع نزعات الشوفينية والقوى الأكثر تشدداً في أوروبا، وبأنه يعمل على تقسيم القارة الأوروبية، إذ لعبت التطورات الداخلية في أوروبا، لجهة تزايد استياء بلدان أوروبية مثل فرنسا وألمانيا من الضغوط الأميركية المتزايدة على القطاع الاقتصادي وقطاع إمدادات النفط والغاز من روسيا، لصالح الكرملين. بعدما تزايد الشعور الأوروبي بأن خسائر بلدان الاتحاد من التضييقات المتواصلة على موسكو تزداد، وأن أوروبا تدفع عملياً ثمن المواجهة التي تفرضها أطراف في الإدارة الأميركية، وبعض الأطراف الأوروبية التي تحولت إلى «رأس حربة» في تنفيذ السياسات الأميركية ضد روسيا في القارة الأوروبية، مثل بولندا ورومانيا. لذلك قابلت موسكو بارتياح مبادرات الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون لفتح الحوار مع موسكو، وهو أمر لقي دعماً من جانب المستشارة الألمانية أنجيلا ميركل.
ولم توفر موسكو أي وسيلة لتعميق الانقسام حول هذا الموضوع في البيت الأوروبي، ووجدت في ملف الأمن الاستراتيجي قوة دفع أساسية في هذا الاتجاه، بالتوازي مع ملف العلاقات الاقتصادية وإمدادات الطاقة، إذ وفر تقويض معاهدة الصواريخ المتوسطة والقصيرة المدى، والتلويح باحتمال عدم تمديد معاهدة «ستارت» لتقليص الأسلحة الاستراتيجية، عنواناً أساسياً للحديث عن أن «المواجهة إذا حصلت، فسوف تكون في المدن الأوروبية». وذهبت أبعد من ذلك، عبر إعلانات وزارة الدفاع المتتالية عن توجيه القوة الصاروخية الضاربة نحو مواقع في مدن في أوروبا قد تنشر فيها واشنطن أسلحة كانت حتى الأمس القريب محظورة بموجب المعاهدة المنتهية.
صحيح أن الكرملين ما زال متهماً في أوروبا، خصوصاً في بريطانيا، بأنه يعمل على إثارة المشكلات الداخلية، والتدخل في الانتخابات، وملاحقة خصومه ومحاولة قتلهم في العواصم الأوروبية، لكن المحصلة التي أسفر عنها عام 2019 أن الدعوات إلى فتح الحوار مع موسكو باتت أكثر قوة ووضوحاً، مقارنة بالسنوات الثلاث الماضية.
ومع حلول نهاية العام، يقوم الرهان في موسكو على أن مساعي «بعض الأطراف الأميركية» لتكريس هاجس «العدو الروسي» لم تعد تجد قبولاً في كثير من البلدان. ومع أن موسكو تشعر بخيبة أمل لأن الرئيس الأميركي دونالد ترمب فشل في تحقيق الجزء الأكبر من وعوده الانتخابية، بفتح الحوار وتطبيع العلاقات مع موسكو، فإن أوساطاً روسية لا تخفي الثقة بأن ترمب سوف يخرج منتصراً من معركة عزله، وسوف يكون قادراً على تثبيت سياسته تجاه موسكو خلال ولايته الرئاسية الثانية.
ومع هذا التفاؤل بنجاحات الكرملين في كسر العزلة الدولية، والانطلاق نحو تطبيع العلاقات تدريجياً مع أطراف عدة، فإن موسكو تضع بين خياراتها «السيناريو الأسوأ»، المتمثل في نجاح الصقور في الولايات المتحدة وبعض بلدان القارة الأوروبية في تعزيز مسار استكمال تطويق روسيا عسكرياً. ويرى خبراء أن نتائج القمة الأطلسية الأخيرة حملت إشارات سلبية في هذا الاتجاه. لذلك تواصل موسكو التلويح بقدراتها العسكرية في مواجهة الضغوط الخارجية. وجاء الإعلان قبل أسابيع من حلول نهاية العام عن تطوير شبكة رصد وإنذار مبكر سيتم نشرها على طول الحدود الروسية ليشكل عنصر ضغط إضافي يوضح حجم الاستعدادات الروسية لمواجهة التطورات في محيطها.
لكن الوجه الثاني المهم في هذا الإعلان أن موسكو ستعمل لمساعدة الصين على تطوير شبكة مماثلة. ووفقاً للرئيس الروسي، فإن «الصين قادرة لوحدها على إنشاء شبكة رصد شاملة، لكن التعاون الروسي - الصيني هنا يعكس مستوى الحرص لدى البلدين على مواجهة التحديات المشتركة».
والعلاقة مع الصين التي احتلت هذا العام مكان الاتحاد الأوروبي، كشريك تجاري أول لموسكو، بحجم تبادل بلغ 100 مليار دولار، لم تعد منذ وقت طويل تقتصر على العلاقة الاقتصادية والتجارية من وجهة نظر صناع القرار الروس، بل تعدت ذلك إلى شراكة استراتيجية شاملة، تنطلق من تطابق المواقف حيال رسم ملامح النظام الدولي إلى التوافق على آليات التعامل مع المشكلات الإقليمية والدولية المختلفة، وصولاً إلى العنصر المهم الذي وفرته «سياسة العقوبات الأميركية» التي طالت الطرفين، لتؤسس لإطلاق آليات مشتركة لمواجهتها.
ورغم أن موسكو تعلن أنها لا تسعى لتأسيس «تحالف عسكري» مع الصين، فإنها تربط تحركاتها مع بكين بتطور الموقف على الجهة المقابلة، لذلك كان لإعلان بوتين أن بلاده «تراقب بناء تحالف يضم الولايات المتحدة واليابان وكوريا الجنوبية» أهمية خاصة في تأكيد أن موسكو وبكين تنطلقان من مواقف مشتركة لمواجهة التحركات الأميركية في شرق آسيا.
العبور من «البوابة السورية»
واصلت موسكو خلال عام 2019 حصد نتائج تدخلها المباشر في الحرب السورية في نهاية سبتمبر (أيلول) من عام 2015. ومع التأكيد أكثر من مرة على أن العمليات العسكرية الواسعة في سوريا قد انتهت، فإن تعقيدات الملف السوري ما زالت تمثل التحدي الأساسي بالنسبة إلى روسيا، إذ حملت مجريات العام تطورات واسعة ارتبطت بتناقض المواقف الأميركية حول موضوع الانسحاب من سوريا، وصولاً إلى تثبيت واشنطن وجوداً محدداً، لكنه مقلق بالنسبة إلى موسكو، في منطقة شرق الفرات. ووجدت موسكو نفسها أمام استحقاق أنها نجحت في إعادة الجزء الأكبر من الأراضي السورية إلى سيطرة دمشق، لكنها تبدو عاجزة عن التعامل مع مشكلة بقاء الجزء الذي يشتمل على غالبية الثروة السورية تحت السيطرة الأميركية، مما يعني عرقلة كل مشروعات روسيا لدفع ملف إعادة الأعمار، وإعادة اللاجئين، وتكريس المسار السياسي بشكل يوافق هوى الكرملين.
وبالتزامن مع هذه المشكلة، وجدت موسكو نفسها منخرطة في مواجهة طموحات الرئيس التركي رجب طيب إردوغان في الشمال السوري. وكان التوصل إلى اتفاق سوتشي في أكتوبر (تشرين الأول) الماضي إنجازاً مهماً للكرملين، لأنه ضمن عدم انزلاق الوضع نحو مواجهة شاملة، كما ضمن وقف التوغل التركي في الأراضي السورية، والاكتفاء بقبول سيطرة أنقرة على شريط يمتد من تل أبيض إلى رأس العين، مع تعهد تركي بالانسحاب من هذه المنطقة فور إنجاز التسوية السياسية.
في هذا الاتفاق، برزت الصعوبات الجدية لدى موسكو في التعامل مع ملف إدارة التوازنات بين الأطراف المختلفة، وهو أمر برز أيضاً في التعامل مع الضربات الإسرائيلية المتواصلة على الأرض السورية، ومع ملف الوجود الإيراني في سوريا. ورغم هذه التعقيدات، نشطت موسكو تحركاتها في سوريا خلال عام 2019 على محورين: الأول الحصول على أكبر قدر ممكن من العقود والاتفاقات المجزية للشركات الروسية، وفيه تم توسيع الحضور الروسي تجارياً واقتصادياً إلى مشروعات البنى التحتية والطرق والإنشاءات والصناعات، وصولاً إلى السيطرة على ميناء طرطوس، والبدء بالعمل على توسيعه وتحديثه لخدمة البضائع والتجارة عبر الشركات الروسية. كل هذا جرى على حساب التطلعات الإيرانية لشغل حصة أساسية في هذه المشروعات. العنصر الثاني تمثل في توسيع رقعة الوجود العسكري. ومع الانسحاب الأميركي من مناطق في الشمال، حلت القوات الروسية في عدد من القواعد الجوية المهمة، وبدأت بإجراء إصلاحات وتحديثات فيها توحي بنية موسكو الإقامة فيها طويلاً.
وفي الشق الآخر للوجود الروسي في سوريا، واصلت موسكو حصد النتائج على صعيد تعزيز علاقاتها وحضورها الإقليمي. وخلافاً لتوقعات سابقة بأن وجود موسكو العسكري قد يثير ضدها مشاعر استياء في العواصم العربية، فقد ساهم الوجود العسكري في سوريا بتعزيز مسار الانفتاح الإقليمي على موسكو، من خلال الفهم المتزايد للأطراف العربية المؤثرة بأنه لا بديل عن التفاهم مع موسكو على الترتيبات اللاحقة في سوريا والمنطقة. وكذلك في إطار القناعة بضرورة البحث مع موسكو عن سبل لمواجهة الطموحات الإقليمية الإيرانية.
وفي هذا الإطار، جاءت الزيارات واللقاءات على مستوى القمة التي عقدت خلال عام 2019 بين موسكو وعواصم عربية لتكرس الرؤية بأن الطرفين يعملان على تعزيز التعاون في كل المجالات. وبرز ذلك خلال زيارة الرئيس الروسي إلى كل من المملكة العربية السعودية ودولة الإمارات العربية المتحدة، كما برز من خلال تنظيم أول قمة روسية أفريقية، شارك فيها تقريباً كل زعماء القارة، وبينهم زعماء البلدان العربية الأفريقية. وشجعت هذه الأجواء موسكو على توسيع حضورها في ملفات مثل الأمن في منطقة الخليج، لذلك طرحت موسكو رؤية بديلة للطرح الأميركي حول آليات ضمان أمن الملاحة، وسبل تعزيز الوضع في المنطقة، عبر إطلاق حوار خليجي - إيراني. ورغم أن المبادرة الروسية لم تجد ارتياحاً واسعاً في المنطقة، لأنها تجاهلت سياسات طهران الإقليمية، والتدخل الإيراني في شؤون بلدان المنطقة، فإن موسكو ما زالت ترى فيها أساساً لإطلاق حوار بين الأطراف في المنطقة.