في باطن فيلمي «سيدة البحر» لشهد أمين و«ستموت في العشرين» لأمجد أبو العلا مسألة العلاقة بين الأب وابنته والأم وابنها وهي علاقة ربما كان فرويد، ولهواجس خاصّة به، أثارها في كتاباته وتفسيراته النفسية التي نشرت تحت عنوان «ترجمة الأحلام» سنة 1899 وحظيت باهتمام كبير، «عقدة أوديب»، كما سُمّيت منذ ذلك الحين، تبدأ ضمنياً في سنوات الطفولة وقبل البلوغ، ولا يعيها الآباء أو الأبناء، لكنّها حسب تلك التفسيرات التي ناقضها مفسرون آخرون، تترسخ في النفس من دون كثير من الوعي، أو من دون وعي على الإطلاق.
في «سيدة البحر» (2019) تنشأ حياة (بسمة حجار) منبوذة من المجتمع البدائي الذي تعيش فيه. هي في الثانية عشرة من العمر لا نرى والدتها إلّا لُماماً. والدها مجبر على التضحية بها لإرضاء حورية البحر حتى يرتفع منسوب صيد السمك لدى أهل القرية التي تستوطن (لسبب ما) جزيرة ساحلية لا شجر فيها ولا رمال بل هضاب صخرية تطل على ساحل القرية. لا يوجد ما يفسر من أين يأتي الماء الذي يشربونه ويستخدمونه في يومياتهم.
في هذا الكيان القاسي تعيش حياة منساقة بدوافعها الذاتية إلى رفض صامت للتقاليد. رفضها لا يعني أنّها ليست مجبرة بدورها، على قبول الأمر الواقع. عندما تفشل محاولات تقديمها كقربان تجد نفسها تمارس أعمال الذكور فيما يتعلق بالعمل فوق سفن الصيد كحياكة الشبكات وربط الحبال والصيد نفسه. بذلك يومئ الفيلم لا إلى التقاليد الاجتماعية المتوارثة وإجحافها بحق المرأة فقط، بل إنّ طريقة المرأة الوحيدة المتاح لها للتغلب على تلك الحياة والتحوّل إلى فاعل اجتماعي مساوٍ هو القيام بأعمال الذكور.
اختيار المخرجة، التي كتبت السيناريو بنفسها، أن تواجه بطلتها حياة، فيمن تواجهه، أبيها المليء بعقد الذنب حيالها يفيد الفيلم على أكثر من وجه، لكنّه لا يزال اختياراً لرصف العلاقة النفسية بين الفتاة وأبيها. هي علاقة بريئة تماماً لا تخرج عن أي طور سوى أنّها تذكر بالعقدة الأوديبية المذكورة. أمر كان سيختلف لو أنّ الأم هي التي حلّت مكان الأب في محاولة درء الخطر عن ابنتها.
- خيوط متشابكة
في «ستموت في العشرين» لأمجد أبو العلا (2019)، هناك تقليد آخر معمول به في قرية سودانية: وقت ولادة طفل، حسبما يوضح الفيلم، يأتون بالمولود إلى شيخ لكي يباركه. الحفل يضم رقصاً صوفياً يتمايل فيه أحد الراقصين وهو يحصي أرقاماً. حين يسقط من الإعياء عند رقم معين يصبح هذا الرقم نبوءة بعدد السنين التي سيعيشها الطفل في هذه الحياة. والصوفي يسقط عندما يصل للرقم عشرين. يحبس الحاضرون أنفاسهم وتجهش الأم بالبكاء وتعود بطفلها مزمل (مصطفى شحاتة) إلى البيت لترعاه. والده يغيب مرتحلاً ولن يعود إلّا عندما أصبح مزمل في العشرين من العمر إمّا ليشهد وفاته أو متوقعاً أن يكون قد مات. الأم تبقى سجينة تلك النبوءة تماماً كابنها.
في كلا الفيلمين ليست العلاقة النفسية محور العمل، بل تعود إلى اختيارات صانعي الفيلمين. مرّة أخرى كان يمكن للمخرج أبو العلا - لو أراد - إلزام الأب بفعل البقاء لجانب زوجته، لكنّه حسناً فعل لأنّ مزمل سيجد «عرّاباً» يحل مكان أبيه.
بذلك كله وفي الفيلمين معاً، الخيوط متشابكة، لكنّها لا تخلو من مراجع نفسية خصوصاً أنّ «سيدة البحر» يضمن وجود رجل آخر أشرف برهوم، يعبّر عن السُلطة… تلك التي يفتقدها الأب.
غياب الأب ملحوظ أيضاً في فيلمي هيفاء المنصور، «وجدة» (2012)، و«المرشح المثالي» (2019). في الأول هو منصاع لتقليد مشاع في دول عربية كثيرة وهو الرغبة في مولود ذكر من الزوجة. حين تأتيه بمولودة أنثى اسمها وجدة، يقرر الزواج مرة ثانية. هو قليل الظهور في الفيلم، لكنّ غيابه هو الحاضر. هنا تشيد المخرجة العلاقة الاجتماعية ولا تسبر غور تلك النفسية فالأم وابنتها تتحملان أعباء التصرّف وأعباء التقاليد.
يتطرق فيلم المنصور الثاني «المرشحة المثالية» إلى غياب الأب مرّة أخرى. حال تبدأ سارة (نورا العودة) بالعمل كمرشحة لرئاسة البلدية (وهو منصب توارثه الرجال فقط)، تواجه غياب أبيها عن مرحلتها هذه، فهو - بدوره - لديه طموحات يريد لها أن تتحقق، فهو يرأس فرقة موسيقية تراثية تقيم حفلاتها في أنحاء مختلفة من المملكة وخارجها. هو حاضر على الهاتف. يؤيدها ويدعمها معنوياً فقط، لكن هذا لا يعوض غيابه عن واقعها، وفي بعد آخر، ربما كان مسؤولاً كذلك عن فشلها في الوصول إلى تحقيق الفوز الذي كانت تنشده.
المضمون النفسي لكل هذه الحالات حاضر، لكنّه لا يؤدي بالضرورة إلى ما ذهب إليه سيغموند فرويد من تفسيرات بل يتوقف غالباً عند بابها. يتم استنتاجه عن بعد. ليست مقصودة، لكنّها واردة في التحليل النفسي للأمور.
والحال أن هناك منظورات أخرى للعلاقات العائلية في أفلام كثيرة هذه الأيام. الأسر التي نراها في الأفلام عموماً هي أسر تواجه أسباب تفكك لأكثر من سبب لا يدخل علم النفس في نطاقها إلّا عبر عملية تنقيب تبعد الناقد عن الفيلم عوض أن تبقيه فيه.
السينما التونسية هي الأكثر تطرقاً للعلاقات العاطفية بين أفراد الأسرة الواحدة. نلحظ ذلك في «تونس بالليل» لإلياس بكّار (2017) و«بنزين» لسارا عبيدي (2018) يكشف الأول عن تفكك أُسري ويوعز الثاني بتعاضدها بعدما فرضت الظروف عليها أوضاعاً أدت إلى التفكك.
في «تونس بالليل» نجد عائلة كل من فيها يغنّي على ليلاه. هذا بفعل حال اجتماعي قلق ساد تونس بأسرها (تقع أحداث الفيلم في سنوات ما قبل ثورة 2011). فالأب مؤمن بمحاربة الفساد، والأم ترضخ لطلب التوقف عن التعرض للعيوب الاجتماعية. الابن متطرف في إيمانه والابنة على النقيض منه.
«بنزين» يدور حول زوجين يعيشان في إحدى قرى الريف التونسي متأثرين بغياب ابنهما المفاجئ منذ أن هاجر من البلاد بحراً. وضع قاس لا ينفع فيه صبر الأب ولا نفاد صبر الأم ويتمحور حول أثر هذا الغياب القاسي عليهما.
- غياب
الموضوع هنا قريب لفيلم «ولدي» لمحمد بن عطية (تونس، 2018) حيث يفاجأ الأبوان بغياب ابنهما بعدما قرر التوجه إلى سوريا منضماً لإحدى المنظمات المتطرفة. في «بنزين» (والعنوان يعود إلى مهنة الأب بيع البنزين على الطرقات الريفية البعيدة) لا نرى ذلك الابن وغيابه يبدأ من مطلع الفيلم. أما في «ولدي» فهو حاضر في مطلع الفيلم. كذلك لا يترك الأب حياته الحاضرة لكي يلحق بابنه كونه لا يعلم أين رحل، لكن في «ولدي» يحاول الأب اللحاق بابنه عبر الحدود التركية ليجد أنه من الصعب جداً البحث عن إبرة في كومة قش.
وهناك حالة مثيرة أخرى في الفيلم المغربي «عرق الشتا» لحكيم بلعباس (2017). هنا اختفاء الابن يصيب عائلة فقيرة أخرى. حكاية مزارع اسمه مبارك (من قرية أبي الجعد التي وُلد فيها المخرج سنة 1961) يحفر في أرضه طالباً بئر ماء ينقذ به المحاصيل في موسم أصابه الجفاف. لديه زوجة حامل وابن معاق. لديه أرواح عليه إطعامها، وديون عليه سدادها وآمال صغيرة (تبدو له بحجم جبال عالية) يريد تحقيقها. مأساة مبارك هي في ولده المعاق وما يشكله هذا من عبء عليه. لكن هذا هو الجزء الكبير من الصورة وليس كلها.
«في عينيا» للتونسي نجيب بلقاضي (2018) يبحث في عودة أب تونسي كان هاجر من زوجته بعدما طلب منه شقيقه ذلك. المشكلة التي سيواجهها هي ولده المصاب بمرض التوحد. في البداية هو بغنى عن معالجة هذه المشكلة، لكنّه لاحقاً ما يجد نفسه غير قادر عن منع نفسه من الشعور بالحاجة إلى البقاء قرب ابنه ذي الحالة الصعبة.
هذا الفيلم يقصد القول إنّ الأب انفصل عن زوجته والابن تُرك في عهدة أقرباء آخرين. هذا هو أيضاً وضع «فتوى» لمحمود بن محمود الذي يعود بطله (أحمد الحفيان) من فرنسا ليبحث في سبب موت ابنه الشاب. كلا البطلين كانا تطلق وهاجر ما يمكن معه اعتبار هذا الوضع عنصراً آخر للأوضاع العائلية المضطربة التي تمر بها عائلات عربية كثيرة.
أفلام عربية تبحث في أوضاع عائلية صعبة
طلاق وفراق وغياب الأب والولد
أفلام عربية تبحث في أوضاع عائلية صعبة
لم تشترك بعد
انشئ حساباً خاصاً بك لتحصل على أخبار مخصصة لك ولتتمتع بخاصية حفظ المقالات وتتلقى نشراتنا البريدية المتنوعة