نجاح الجيل الثاني من المهاجرين يغلق مطاعم صينية في أميركا

أصحابها يشعرون بالسعادة لأن أبناءهم لن يكملوا مسيرتهم

مجموعة مختارة من الأطباق في مطعم نوم واه تي بارلور الذي يقدم أطباق السمبوسك الصينية «ديم سوم» منذ أوائل القرن العشرين
مجموعة مختارة من الأطباق في مطعم نوم واه تي بارلور الذي يقدم أطباق السمبوسك الصينية «ديم سوم» منذ أوائل القرن العشرين
TT

نجاح الجيل الثاني من المهاجرين يغلق مطاعم صينية في أميركا

مجموعة مختارة من الأطباق في مطعم نوم واه تي بارلور الذي يقدم أطباق السمبوسك الصينية «ديم سوم» منذ أوائل القرن العشرين
مجموعة مختارة من الأطباق في مطعم نوم واه تي بارلور الذي يقدم أطباق السمبوسك الصينية «ديم سوم» منذ أوائل القرن العشرين

بعد مرور أكثر من أربعين عاماً على شراء مطعم «إنغيز» الأميركي الصيني في هدسون فالي، أخذ توم سيت يفكر متردداً بالتقاعد. لقد قضى الجزء الأكبر من حياته يعمل هنا طوال أيام الأسبوع لمدة 12 ساعة في اليوم، وهو يطهو حالياً في المطبخ نفسه الذي كان يعمل فيه مهاجراً شاباً قادماً من الصين. كذلك يصفّ سيارته في البقعة ذاتها، التي كان يستريح بها، ويقرأ خطابات زوجته المرسلة من مونتريال، حين كانا يتراسلان في نهاية السبعينات. وهو يجلس على الطاولات نفسها التي كانت بناته الثلاث يؤدين فروضهن المنزلية عليها.
وقد بدأ سيت منذ عامين، بناء على إلحاح زوجته فاي لي سيت، أخذ يوم عطلة أسبوعياً، لكن ذلك ليس كافياً حين أصبح في السادسة والسبعين، وسيصبحان جدين قريباً. لقد أصبح العمل لمدة 80 ساعة مرهقاً للغاية، لكن بناته البالغات اللاتي حصلن على شهادات جامعية ووظائف جيدة، لا يرغبن في مواصلة مسيرته.
على الجانب الآخر، يستعد أصحاب مطاعم أميركية صينية، مثل مطعم «إنغز»، للتقاعد، لكن ما من أحد ليتولى العمل بدلا منهم ويواصل مسيرتهم، فأبناؤهم، الذين نشأوا وتعلموا في أميركا، يمارسون أعمالاً مهنية تخصصية لا تتطلب هذا الجهد الشاق الذي يتطلبه العمل في مجال الطهي.
حسب بيانات جديدة من موقع «يلب» الخاص بتقييم المطاعم، تراجعت حصة المطاعم الصينية في أهم 20 منطقة حضرية. منذ خمسة أعوام كان متوسط نسبة وجود المطاعم الصينية من بين المطاعم الموجودة في تلك المناطق 7.3 في المائة، لكنّها انخفضت إلى 6.5 في المائة، أي أنّه قد أُغلق 1200 مطعم صيني في وقت افتُتح أكثر من 15 ألف مطعم في تلك المناطق. حتى في سان فرانسيسكو، حيث يوجد أقدم حي صيني في الولايات المتحدة الأميركية، تراجعت حصة المطاعم الصينية إلى 8.8 في المائة، بعدما كانت 10 في المائة.
مع ذلك لا يبدو أنّ الاهتمام بالمطبخ الصيني قد تراجع؛ حيث لم يتراجع متوسط نصيب المطاعم الصينية من المشاهدة والمتابعة على موقع «يلب»، وكذا لم يتراجع مستوى تقييم تلك المطاعم. في الوقت ذاته، كانت النسبة المئوية للمطاعم الهندية والكورية والفيتنامية، التي يمتلكها ويديرها أيضاً مهاجرون من دول آسيوية، ثابتة أو في تزايد على مستوى البلاد. لطالما كان مجال المطاعم صعباً وقاسياً، ولم تساعد زيادة الإيجارات وتطبيقات توصيل الطلبات إلى المنازل في التخفيف من الضغوط. كذلك زاد تشديد القيود واللوائح التنظيمية على الهجرة ونظام المحاسبة من صعوبة استمرار المطاعم المعتمدة على المعاملات النقدية في العمل.
ومع ذلك ليست تلك العوامل ذات صلة في حالة المطاعم الصينية، ولا تفسر موجة إغلاق المطاعم. يبدو أنّ السبب الرئيسي وراء ذلك هو الحراك الاقتصادي للجيل الثاني. وتقول جنيفير إيت لي، صحافية سابقة في صحيفة «نيويورك تايمز» تناولت نجاح المطاعم الصينية في كتابها «تاريخ بسكويت الحظ»، إنّ «النجاح هو السبب وراء إغلاق تلك المطاعم لأبوابها». كذلك أنتجت جنيفير فيلماً وثائقياً بعنوان «البحث عن الجنرال تسو». أضافت جنيفير قائلة: «لقد جاء أولئك الناس للطهي حتى لا يضطر أبناؤهم إلى القيام بذلك، وها قد تحقق ذلك».
كذلك يوضح تقاعد أصحاب المطاعم تاريخ الهجرة الصينية إلى الولايات المتحدة. وقد عرقل قانون الاستبعاد الصيني في عام 1882 التزايد المستمر لأعداد المهاجرين القادمين من الصين. وأُلغي ذلك القانون عام 1943. ولكن لم تُستأنف الهجرة على نطاق واسع من جديد إلا بعد عام 1965، بعد إلغاء الأشكال الأخرى من المحاصصة العرقية.
كذلك شجعت الثورة الثقافية في الصين، التي مثلت تغيراً اجتماعياً وسياسيا عنيفاً في أكثر جوانبها، عام 1966، كثيراً من الشباب على الهجرة إلى الولايات المتحدة الأميركية التي كانت تُصوّر على أنّها بلد الحرية والفرص الاقتصادية. غادر سيت مدينة غوانجو (كوانزو) في جنوب الصين عام 1968، وتسلق الجبال وسبح حتى وصل إلى هونغ كونغ حاملاً في جيبه أكواز الصنوبر لتساعده على الطفو. وقال: «لم يكن هناك مستقبل. كان الطريق الوحيد للحصول على الحرية ووظيفة جيدة هو الذهاب إلى هونغ كونغ».
وقد هاجر سيت في عام 1974 إلى الولايات المتحدة، وبدأ العمل في «إنجيز» الذي افتُتح عام 1927. وعلى الرّغم من أنّه لم يعمل من قبل في مطعم، كانت الحرارة الشديدة الناجمة عن قلي الطعام أخفّ وطأة مما عانى منه في مصنع البلاستيك في هونغ كونغ، حيث كان يعمل من قبل. على عكس سيت كان بعض المهاجرين يعملون طهاة في الصين، وباتوا يقدمون أصنافاً من الطعام الكنتوني وطعام مقاطعة خونان إلى زبائن فضوليين أثرياء في أماكن مثل مطعم «شون لي بالاس» في نيويورك. ويقول إيد شوينفيلد، صاحب مطعم وطاهٍ يعمل في مطاعم صينية منذ السبعينات: «كان هناك عصر ذهبي للطهي الصيني في أميركا، وقد بدأ في نهاية الستينات وبداية السبعينات». وأضاف: «لقد بدأنا في استقبال طهاة إقليميين متخصصين في الأصناف الإقليمية».
مع ذلك كان أكثر الطّهاة الجدد يطبخون بوتيرة سريعة وبتكلفة منخفضة. كذلك عدّلوا طريقتهم في الطهي بحيث تناسب الأذواق الأميركية، وابتكروا أطباقاً، مثل طبق الشعرية مع اللحم البقري، وبسكويت الحظ، والحساء الذي يحتوي على البيض، وكانت تلك الأطباق توضع في أكثر الأحوال بعلب مميزة لتناولها خارج المطعم. تقول السيدة لي: «لم يكونوا ذوي قيمة كبيرة. لم يأتوا ليكونوا طهاة، بل ليكونوا مهاجرين، وكان الطهي هو الطريقة التي يجنون بها عيشهم».
اتخذت مجموعات أخرى من المهاجرين نهجاً مماثلاً؛ فمع الحراك الاجتماعي، وعمليات الدمج في أجزاء أكثر شيوعاً من الاقتصاد، تراجع احتمال تحوُّل أبناء المهاجرين لأصحاب أعمال مقارنة بآبائهم. تقول جنيفير لي، أستاذة علم الاجتماع في جامعة كولومبيا، التي شاركت في تأليف «مفارقة الإنجاز الأميركي الآسيوي»: «يستعيد الأبناء على نحو ما مكانة الجيل الأول التي فقدوها حين هاجروا». وأضافت قائلة: «لم يكن الهدف هو مواصلة القيام بتلك الأعمال». حتى حين يصبح أولئك الأبناء أصحاب أعمال رائدة، يتجهون إلى العمل في مجالات مثل التكنولوجيا أو الاستشارات لا خدمة تقديم الطعام أو صالونات التجميل، التي تعد من أكثر المجالات شيوعاً بين المهاجرين الذين يديرون أعمالهم الخاصة.
خلال العقد الماضي، اختار بعض أفراد الجيل الثاني تولي مسؤولية مطاعم العائلة. وظل «نوم وا تي بارلور»، وهو مطعم تقليدي صيني في نيويورك، افتُتح عام 1920، مشروع العائلة، وتولت أسرة تشوي إدارته في البداية قبل أن تتولى أسرة تانغ إدارته بعد ذلك. وقد تخلى ويلسون تانغ، صاحب المطعم البالغ من العمر 41 عاماً، عن مسيرته المهنية في عالم المال ليخلف عمه في العمل عام 2011. وقد اعترض والداه على قراره في البداية، إذ يقول تانغ: «إنه الأمر الوحيد الذي يمكنك القيام به كمهاجر. إن لم يكن المشروع مطعماً، فسيكون مغسلة. كان من الصعب عليهم تقبُّل أن أختار العودة إلى امتلاك مطعم». منذ ذلك الحين توسع العمل في «نوم وا»، وافتُتحت فروع له في منهاتن، وفيلادلفيا، وأيضاً في شينزين بالصين. في أي ليلة ستجد مجموعات من السائحين ينتظرون على طاولة خارج الحي الصيني لمدة تصل إلى ساعة، متكدسين عند الجزء الملتفّ من شارع «دويرز». وأوضح قائلاً: «كان لدي فرصة فريدة للحفاظ على مكان يمثل جزءاً من مدينة نيويورك القديمة. ما زلت أعمل بجدّ وهمة، لكنّني أعرف كيفية استخدام وسائل التسويق مثل الإنترنت».
كذلك جمع فريق العمل في «جونزي كيتشن»، وهو سلسلة من المطاعم الصينية للأكلات السريعة، ومقرها نيويورك، 5 ملايين دولار للبحث عن أماكن مثل «إنجيز» وشرائها، وإضفاء الطابع العصري في الطهي الخاص بمطعم «جونزي» لها. ويقول يونغ جاو، المؤسس والرئيس التنفيذي لسلسلة المطاعم: «سوف يستمر تقديم الخدمات الصينية المعتادة المحبوبة، لكن مع تطويرها».
بشكل عام لا تنتقل المطاعم، التي تديرها عائلات صينية، إلى الجيل التالي. ربما يغلق البعض المتجر، ويبيعونه إلى الجيل الأول من مهاجرين آخرين، أو يتخلون عنه تماماً، ويرون تحوله إلى مجال مختلف تماماً. لم يعثر سيت بعدُ على الشخص المناسب لإدارة مطعمه، ولا يخطّط لإغلاقه حالياً. ويقول: «لتحصل على مطعم (إنغز) عليك أن تحبه وتحافظ عليه. عليه بالتحلي بالولاء لهذا المجال، لا أن يكون مجرد شخص يبحث عن تحقيق أرباح في عام أو عامين ولا يبالي بغير ذلك». السيدة سيت أكثر استعداداً للتقاعد من زوجها. يستطيع سيت، الذي يكون ثرثاراً في أكثر الأوقات، المراوغة حين تحاول الأسرة اقتراح خلف له. تقول سيت بينما تلمع عيناها وهي تحاول استفزاز زوجها: «عليه الكدّ في العمل، ربما مثل توم سيت، حينها فقط سيسمح له بامتلاك المطعم». إذا تنازل سيت عن مطعمه فعلا لشخص آخر، سوف يفتقد زبائنه، وإدارة العمل في المطعم، لكنّه سيظل فخوراً بما صنعه وحققه. إنّه يفتخر بنجاح بناته في الحصول على وظائف جيدة اختاروها وأحبوها. ويضيف قائلا: «كنت آمل أن تكون حياتهن أفضل مني، وقد تحقق ذلك بالفعل».
- خدمة «نيويورك تايمز»


مقالات ذات صلة

وزيرة سويدية تعاني «رهاب الموز»... وموظفوها يفحصون خلو الغرف من الفاكهة

يوميات الشرق رهاب الموز قد يسبب أعراضاً خطيرة مثل القلق والغثيان (رويترز)

وزيرة سويدية تعاني «رهاب الموز»... وموظفوها يفحصون خلو الغرف من الفاكهة

كشفت تقارير أن رهاب وزيرة سويدية من الموز دفع المسؤولين إلى الإصرار على أن تكون الغرف خالية من الفاكهة قبل أي اجتماع أو زيارة.

«الشرق الأوسط» (ستوكهولم)
صحتك رجل يشتري الطعام في إحدى الأسواق الشعبية في بانكوك (إ.ب.أ)

دراسة: 3 خلايا عصبية فقط قد تدفعك إلى تناول الطعام

اكتشف باحثون أميركيون دائرة دماغية بسيطة بشكل مذهل تتكوّن من ثلاثة أنواع فقط من الخلايا العصبية تتحكم في حركات المضغ لدى الفئران.

«الشرق الأوسط» (واشنطن)
يوميات الشرق خبراء ينصحون بتجنب الوجبات المالحة والدهنية في مبنى المطار (رويترز)

حتى في الدرجة الأولى... لماذا يجب عليك الامتناع عن تناول الطعام على متن الطائرات؟

كشف مدرب لياقة بدنية مؤخراً أنه لا يتناول الطعام مطلقاً على متن الطائرات، حتى إذا جلس في قسم الدرجة الأولى.

«الشرق الأوسط» (واشنطن)
يوميات الشرق قطع من الجبن عُثر عليها ملفوفة حول رقبة امرأة (معهد الآثار الثقافية في شينغيانغ)

الأقدم في العالم... باحثون يكتشفون جبناً يعود إلى 3600 عام في مقبرة صينية

اكتشف العلماء أخيراً أقدم قطعة جبن في العالم، وُجدت ملقاة حول رقبة مومياء.

«الشرق الأوسط» (بكين)
يوميات الشرق التفوُّق هو الأثر أيضاً (أ.ف.ب)

الشيف دانييل هوم... أرقى الأطباق قد تكون حليفة في حماية كوكبنا

دانييل هوم أكثر من مجرّد كونه واحداً من أكثر الطهاة الموهوبين في العالم، فهو أيضاً من المدافعين المتحمّسين عن التغذية المستدامة، وراهن بمسيرته على معتقداته.

«الشرق الأوسط» (باريس)

100 عامٍ من عاصي الرحباني

عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)
عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)
TT

100 عامٍ من عاصي الرحباني

عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)
عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)

في الرابع من شهر الخِصب وبراعم اللوز والورد، وُلد عاصي الرحباني. كانت البلادُ فكرةً فَتيّة لم تبلغ بعد عامها الثالث. وكانت أنطلياس، مسقط الرأس، قريةً لبنانيةً ساحليّة تتعطّر بزهر الليمون، وتَطربُ لارتطام الموج بصخور شاطئها.
لو قُدّر له أن يبلغ عامه المائة اليوم، لأَبصر عاصي التحوّلات التي أصابت البلاد وقُراها. تلاشت الأحلام، لكنّ «الرحباني الكبير» ثابتٌ كحقيقةٍ مُطلَقة وعَصي على الغياب؛ مقيمٌ في الأمس، متجذّر في الحاضر وممتدّةٌ جذوره إلى كل الآتي من الزمان.


عاصي الرحباني خلال جلسة تمرين ويبدو شقيقه الياس على البيانو (أرشيف Rahbani Productions)

«مهما قلنا عن عاصي قليل، ومهما فعلت الدولة لتكريمه قليل، وهذا يشمل كذلك منصور وفيروز»، يقول المؤلّف والمنتج الموسيقي أسامة الرحباني لـ«الشرق الأوسط» بمناسبة مئويّة عمّه. أما الصحافي والباحث محمود الزيباوي، الذي تعمّق كثيراً في إرث الرحابنة، فيرى أن التكريم الحقيقي يكون بتأليف لجنة تصنّف ما لم يُنشر من لوحاته الغنائية الموجودة في إذاعتَي دمشق ولبنان، وتعمل على نشره.
يقرّ أسامة الرحباني بتقصير العائلة تجاه «الريبرتوار الرحباني الضخم الذي يحتاج إلى تضافر جهود من أجل جَمعه»، متأسفاً على «الأعمال الكثيرة التي راحت في إذاعة الشرق الأدنى». غير أنّ ما انتشر من أغانٍ ومسرحيات وأفلام، على مدى أربعة عقود من عمل الثلاثي الرحباني عاصي ومنصور وفيروز، أصبح ذخيرةً للقرون المقبلة، وليس للقرن الرحباني الأول فحسب.

«فوتي احفظي، قومي سجّلي»
«كان بركاناً يغلي بالعمل... يكتب بسرعة ولا يتوقف عند هاجس صناعة ما هو أجمل، بل يترك السرد يمشي كي لا ينقطع الدفق»، هكذا يتذكّر أسامة عمّه عاصي. وفي بال الزيباوي كذلك، «عاصي هو تجسيدٌ للشغف وللإنسان المهووس بعمله». لم يكن مستغرباً أن يرنّ الهاتف عند أحد أصدقائه الساعة الثالثة فجراً، ليخرج صوت عاصي من السمّاعة قارئاً له ما كتب أو آخذاً رأيه في لحنٍ أنهاه للتوّ.
ووفق ما سمعه الزيباوي، فإن «بعض تمارين السيدة فيروز وتسجيلاتها كان من الممكن أن يمتدّ لـ40 ساعة متواصلة. يعيد التسجيل إذا لم يعجبه تفصيل، وهذا كان يرهقها»، رغم أنه الزوج وأب الأولاد الأربعة، إلا أن «عاصي بقي الأستاذ الذي تزوّج تلميذته»، على حدّ وصف الزيباوي. ومن أكثر الجمل التي تتذكّرها التلميذة عن أستاذها: «فوتي احفظي، قومي سَجّلي». أضنى الأمر فيروز وغالباً ما اعترفت به في الحوارات معها قبل أن تُطلقَ تنهيدةً صامتة: «كان ديكتاتوراً ومتطلّباً وقاسياً ومش سهل الرِضا أبداً... كان صعب كتير بالفن. لمّا يقرر شي يمشي فيه، ما يهمّه مواقفي».


عاصي وفيروز (تويتر)
نعم، كان عاصي الرحباني ديكتاتوراً في الفن وفق كل مَن عاصروه وعملوا معه. «كل العباقرة ديكتاتوريين، وهذا ضروري في الفن»، يقول أسامة الرحباني. ثم إن تلك القسوة لم تأتِ من عدم، فعاصي ومنصور ابنا الوَعر والحرمان.
أثقلت كتفَي عاصي منذ الصغر همومٌ أكبر من سنّه، فتحمّلَ وأخوه مسؤولية العائلة بعد وفاة الوالد. كان السند المعنوي والمادّي لأهل بيته. كمعطفٍ ردّ البردَ عنهم، كما في تلك الليلة العاصفة التي استقل فيها دراجة هوائية وقادها تحت حبال المطر من أنطلياس إلى الدورة، بحثاً عن منصور الذي تأخّر بالعودة من الوظيفة في بيروت. يروي أسامة الرحباني أنها «كانت لحظة مؤثرة جداً بين الأخوين، أبصرا خلالها وضعهما المادي المُذري... لم ينسيا ذلك المشهد أبداً، ومن مواقفَ كتلك استمدّا قوّتهما».
وكما في الصِبا كذلك في الطفولة، عندما كانت تمطر فتدخل المياه إلى المدرسة، كان يظنّ منصور أن الطوفان المذكور في الكتاب المقدّس قد بدأ. يُصاب بالهلَع ويصرخ مطالباً المدرّسين بالذهاب إلى أخيه، فيلاقيه عاصي ويحتضنه مهدّئاً من رَوعه.

«سهرة حبّ»... بالدَين
تعاقبت مواسم العزّ على سنوات عاصي الرحباني. فبعد بدايةٍ متعثّرة وحربٍ شرسة ضد أسلوبه الموسيقي الثائر على القديم، سلك دروب المجد. متسلّحاً بخياله المطرّز بحكايا جدّته غيتا و«عنتريّات» الوالد حنّا عاصي، اخترع قصصاً خفتت بفعلِ سحرِها الأصواتُ المُعترضة. أما لحناً، فابتدعَ نغمات غير مطابقة للنظريات السائدة، و«أوجد تركيبة جديدة لتوزيع الموسيقى العربية»، على ما يشرح أسامة الرحباني.


صورة تجمع عاصي ومنصور الرحباني وفيروز بالموسيقار محمد عبد الوهاب وفريد الأطرش، بحضور بديعة مصابني وفيلمون وهبي ونجيب حنكش (أرشيف Rahbani Productions)
كان عاصي مستعداً للخسارة المادية من أجل الربح الفني. يحكي محمود الزيباوي أنه، ولشدّة مثاليته، «سجّل مسرحية (سهرة حب) مرتَين ولم تعجبه النتيجة، فاقترض مبلغاً من المال ليسجّلها مرة ثالثة». ويضيف أن «أساطير كثيرة نُسجت حول الرحابنة، لكن الأسطورة الحقيقية الوحيدة هي جمال عملهم».
ما كانت لتكتمل أسطورة عاصي، لولا صوت تلك الصبية التي دخلت قفصَه الذهبي نهاد حدّاد، وطارت منه «فيروز».
«أدهشته»، يؤكّد الزيباوي؛ ويستطرد: «لكنّ أحداً منهما لم يعرف كيف يميّز بين نهاد حداد وفيروز»... «هي طبعاً المُلهِمة»، يقول أسامة الرحباني؛ «لمح فيها الشخصية التي لطالما أراد رسمَها، ورأى امرأةً تتجاوب مع تلك الشخصية»، ويضيف أن «عاصي دفع بصوت فيروز إلى الأعلى، فهو في الفن كان عنيفاً ويؤمن بالعصَب. كان يكره الارتخاء الموسيقي ويربط النجاح بالطبع الفني القوي، وهذا موجود عند فيروز».


زفاف عاصي الرحباني ونهاد حداد (فيروز) عام 1955 (تويتر)

دماغٌ بحجم وطن
من عزّ المجد، سرقت جلطة دماغيّة عاصي الرحباني عام 1972. «أكثر ما يثير الحزن أن عاصي مرض وهو في ذروة عطائه وإبداعه، وقد زادت الحرب اللبنانية من مرضه وصعّبت العمل كثيراً»، وفق الزيباوي. لم يكن القلق من الغد الغامض غريباً عليه. فهو ومنذ أودى انفجارٌ في إحدى الكسّارات بحياة زوج خالته يوسف الزيناتي، الذي كان يعتبره صياداً خارقاً واستوحى منه شخصيات لمسرحه، سكنته الأسئلة الحائرة حول الموت وما بعدَه.
الدماغ الذي وصفه الطبيب الفرنسي المعالج بأنه من أكبر ما رأى، عاد ليضيء كقمرٍ ليالي الحصّادين والعاشقين والوطن المشلّع. نهض عاصي ورجع إلى البزُق الذي ورثه عن والده، وإلى نُبله وكرمه الذي يسرد أسامة الرحباني عنهما الكثير.
بعد المرض، لانت قسوة عاصي في العمل وتَضاعفَ كرَمُه المعهود. يقول أسامة الرحباني إن «أقصى لحظات فرحه كانت لحظة العطاء». أعطى من ماله ومن فِكرِه، وعُرف بيدِه الموضوعة دائماً في جيبِه استعداداً لتوزيع النقود على المحتاجين في الشارع. أما داخل البيت، فتجسّد الكرَم عاداتٍ لطيفة وطريفة، كأن يشتري 20 كنزة متشابهة ويوزّعها على رجال العائلة وشبّانها.
خلال سنواته الأخيرة ومع احتدام الحرب، زاد قلق عاصي الرحباني على أفراد العائلة. ما كان يوفّر مزحة أو حكاية ليهدّئ بها خوف الأطفال، كما في ذلك اليوم من صيف 1975 الذي استُهدفت فيه بلدة بكفيا، مصيَف العائلة. يذكر أسامة الرحباني كيف دخل عاصي إلى الغرفة التي تجمّع فيها أولاد العائلة مرتعدين، فبدأ يقلّد الممثلين الأميركيين وهم يُطلقون النار في الأفلام الإيطالية، ليُنسيَهم ما في الخارج من أزيز رصاص حقيقي. وسط الدمار، بنى لهم وطناً من خيالٍ جميل، تماماً كما فعل وما زال يفعل في عامِه المائة، مع اللبنانيين.


عاصي الرحباني (غيتي)