«فرقة رضا»... 60 عاماً من استلهام الفولكلور وإبداع الاستعراض

مصر تحتفي بذكرى تأسيس أشهر فرق الفنون الشعبية العربية

فرقة «رضا» تتميز برقصاتها وفنونها الاستعراضية والشعبية
فرقة «رضا» تتميز برقصاتها وفنونها الاستعراضية والشعبية
TT

«فرقة رضا»... 60 عاماً من استلهام الفولكلور وإبداع الاستعراض

فرقة «رضا» تتميز برقصاتها وفنونها الاستعراضية والشعبية
فرقة «رضا» تتميز برقصاتها وفنونها الاستعراضية والشعبية

من أمام أهرامات الجيزة إلى معابد مدينة الأقصر جنوب مصر، إلى مسرح هيئة الأمم المتحدة في نيويورك، وكذلك جنيف، ومنه إلى «مسرح الأولمبيا» بباريس، وشمالاً إلى مسرح «قاعة ألبرت هول» في لندن، ثم شرقاً إلى مسرح بيتهوفن في بون... تنقل أعضاء فرقة «رضا» للفنون الشعبية من مصر إلى كل دول العالم، على مدار 60 عاماً، حاملين على عاتقهم إحياء الفولكلور الشعبي عبر الموسيقى الشعبية وفنون الاستعراض والرقص.
تعد «فرقة رضا» للفنون الشعبية أهم وأشهر الفرق الاستعراضية العربية، التي تخصصت في تقديم الفنون الشعبية بشكل منظم، حيث تأسست عام 1959، لتحمل اسم مؤسسيها الأخوين علي رضا ومحمود رضا، اللذين كانا السبب في اكتشاف الكثير من المواهب الفنية، حيث قدما من خلال الفرقة منذ ذلك التاريخ وحتى اليوم أكثر من 3000 عرض عالمي في أهم وأعرق المسارح العالمية.
ومع إحياء الفرقة لعيد ميلادها الستين، عبر احتفالية ترعاها وزارة الثقافة المصرية، على مدار أسبوعين، تقفز إلى الأذهان استعراضات الفولكلور المصري والأغاني الشعبية التي قدمتها الفرقة، مثل «حلاوة شمسنا»، و«الأقصر بلدنا»، و«رقصة اللمونة»، و«الفلاحين»، و«الإسكندراني»، و«التنورة»، و«التحطيب»، و«الكرنبة والنوبة»، وغيرها من الأغاني التراثية التي ذاع صيتها محلياً وعربياً وعالمياً.
وتميزت الفرقة عبر رقصاتها وفنونها الاستعراضية، بمشهدية جذابة مزجت بين روح التراث المصري، والبيئة الشعبية، واتسمت بالتناغم بين حركات العارضين والملابس التقليدية للراقصين.
من بين هؤلاء الراقصين، يقول الفنان والباحث محمد الفرماوي، لـ«الشرق الأوسط»، «كانت فرقة رضا مجرد فكرة في ذهن الفنان محمود رضا، لتتحول إلى حقيقة في نهاية الخمسينات، وبالتحديد في أغسطس (آب) عام 1959، بالاشتراك مع زوجة أخيه الراقصة فريدة فهمي، والمصمم والمؤلف الموسيقي علي رضا، وقدمت الفرقة أول عروضها على مسرح الأزبكية، وكان عدد أعضائها عند التأسيس 13 راقصة و13 راقصاً و13 عازفاً».
استوحى المؤسسان علي ومحمود رضا، رقصات الفرقة من فنون الريف والصعيد والبيئة الساحلية، وبفضل هذا التكوين الراقي اكتسب فن الرقص احترام كافة طبقات المجتمع، وفي عام 1961، أصيبت الفرقة بعثرة مالية هددت بإفلاسها، لتنضم إلى إشراف وزارة الثقافة، وتقدم عروضها على مسرح متروبول بالقاهرة؛ حيث أصبح لها منهج خاص وملامح مميزة في عروض الرقص الشرقي الفولكلوري، كما كون الموسيقار على إسماعيل أول أوركسترا خاص بالفنون الشعبية لمصاحبتها بقيادته، وقام بتلحين أشهر استعراضاتها.
يتابع الفرماوي: «ذاع صيت الفرقة، لتشارك في بطولة ثلاثة أفلام سينمائية خلال حقبة الستينات لاقت نجاحاً جماهيرياً عريضاً، وهي (إجازة نصف السنة)، و(غرام في الكرنك)، و(حرامي الورق)، ووصل الفنانون من الراقصين والراقصات والموسيقيين في فترة السبعينات إلى عشرات الفنانين، ليقرر محمود رضا تقسيم الفرقة إلى ثلاثة أقسام، هي الفريق الأساسي الذي يقدم العروض داخل وخارج مصر، وفريق يمثل الصف الثاني للفرقة، إلى جانب فريق يتكون من مجموعات تحت التدريب».
مع هذا الانتشار، تأسس مركز لتخريج دفعات من الأعضاء لدعم الفرقة، وهي مدرسة «فرقة رضا للمواهب الجديدة»، وفي الثمانينات قدمت الفرقة لوناً جديداً من ألوان الرقص، وهو الموشحات الراقصة التي لاقت نجاحاً كبيراً.
وعن واقع الفرقة في الوقت الحالي، يقول عضو الفرقة، «نسير بخطوات ثابتة، حيث نمثل مصر في مهرجانات وأحداث فنية كثيرة خارجية، وكذلك في فعاليات محلية عديدة، ورغم أننا لم نعد الفرقة الوحيدة التي تمثل مصر خارجياً، كما كنا من قبل، إلا أن عروضنا دائماً يعرفها المشاهد، فـ(فرقة رضا) كانت ملهمة للجميع، وما زالت، فهي التي قادت الركب، ولا أحد يحاول تقديم تجربة البحث الميداني، فالفنان محمود رضا لم يبتكر من رأسه فناً، بل نزل إلى المجتمع الشعبي، وبحث في مؤثرات الثقافة الشعبية، واختار ما يحرك الناس واحتفالاتهم، وكان ذلك سر النجاح».
يلفت راقص الفرقة إلى وجود بعض المعوقات التي تواجه الفرقة منذ عدة سنوات، حيث لم يعد هناك اهتمام كبير مقارنة بالماضي، وذلك يعود لتعدد الفرق، حيث يوجد في الوقت الحالي 25 فرقة تقدم الفولكلور الشعبي، إلى جانب ضعف الإمكانات المادية، وتراجع عدد الراقصين الآن إلى 22 راقصاً وراقصة فقط، مع الاتجاه الحكومي بعدم التعيين الوظيفي.
وحول ذوق الجمهور، يؤكد الفرماوي، أنه منذ انضمامه للفرقة عام 1992 والذوق لم يتغير، فالذاكرة الذهنية للمتفرج تحب الأغنيات والرقصات الشعبية التي تتفرد بها «فرقة رضا»، كما ساهمت السينما وكذلك التلفزيون في ارتباط الجمهور بها، حتى أن الأطفال يأتون لمشاهدة هذه العروض، لأنهم ارتبطوا بها وتربوا عليها.
يذكر أن احتفالية وزارة الثقافة المصرية بالفرقة شملت تكريم 14 شخصية من مؤسسيها ورموزها، الذين ساهموا بإبداعاتهم في ترسيخ أحد أشكال الفنون الشعبية، ونشرها في المجتمع المصري.



100 عامٍ من عاصي الرحباني

عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)
عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)
TT

100 عامٍ من عاصي الرحباني

عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)
عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)

في الرابع من شهر الخِصب وبراعم اللوز والورد، وُلد عاصي الرحباني. كانت البلادُ فكرةً فَتيّة لم تبلغ بعد عامها الثالث. وكانت أنطلياس، مسقط الرأس، قريةً لبنانيةً ساحليّة تتعطّر بزهر الليمون، وتَطربُ لارتطام الموج بصخور شاطئها.
لو قُدّر له أن يبلغ عامه المائة اليوم، لأَبصر عاصي التحوّلات التي أصابت البلاد وقُراها. تلاشت الأحلام، لكنّ «الرحباني الكبير» ثابتٌ كحقيقةٍ مُطلَقة وعَصي على الغياب؛ مقيمٌ في الأمس، متجذّر في الحاضر وممتدّةٌ جذوره إلى كل الآتي من الزمان.


عاصي الرحباني خلال جلسة تمرين ويبدو شقيقه الياس على البيانو (أرشيف Rahbani Productions)

«مهما قلنا عن عاصي قليل، ومهما فعلت الدولة لتكريمه قليل، وهذا يشمل كذلك منصور وفيروز»، يقول المؤلّف والمنتج الموسيقي أسامة الرحباني لـ«الشرق الأوسط» بمناسبة مئويّة عمّه. أما الصحافي والباحث محمود الزيباوي، الذي تعمّق كثيراً في إرث الرحابنة، فيرى أن التكريم الحقيقي يكون بتأليف لجنة تصنّف ما لم يُنشر من لوحاته الغنائية الموجودة في إذاعتَي دمشق ولبنان، وتعمل على نشره.
يقرّ أسامة الرحباني بتقصير العائلة تجاه «الريبرتوار الرحباني الضخم الذي يحتاج إلى تضافر جهود من أجل جَمعه»، متأسفاً على «الأعمال الكثيرة التي راحت في إذاعة الشرق الأدنى». غير أنّ ما انتشر من أغانٍ ومسرحيات وأفلام، على مدى أربعة عقود من عمل الثلاثي الرحباني عاصي ومنصور وفيروز، أصبح ذخيرةً للقرون المقبلة، وليس للقرن الرحباني الأول فحسب.

«فوتي احفظي، قومي سجّلي»
«كان بركاناً يغلي بالعمل... يكتب بسرعة ولا يتوقف عند هاجس صناعة ما هو أجمل، بل يترك السرد يمشي كي لا ينقطع الدفق»، هكذا يتذكّر أسامة عمّه عاصي. وفي بال الزيباوي كذلك، «عاصي هو تجسيدٌ للشغف وللإنسان المهووس بعمله». لم يكن مستغرباً أن يرنّ الهاتف عند أحد أصدقائه الساعة الثالثة فجراً، ليخرج صوت عاصي من السمّاعة قارئاً له ما كتب أو آخذاً رأيه في لحنٍ أنهاه للتوّ.
ووفق ما سمعه الزيباوي، فإن «بعض تمارين السيدة فيروز وتسجيلاتها كان من الممكن أن يمتدّ لـ40 ساعة متواصلة. يعيد التسجيل إذا لم يعجبه تفصيل، وهذا كان يرهقها»، رغم أنه الزوج وأب الأولاد الأربعة، إلا أن «عاصي بقي الأستاذ الذي تزوّج تلميذته»، على حدّ وصف الزيباوي. ومن أكثر الجمل التي تتذكّرها التلميذة عن أستاذها: «فوتي احفظي، قومي سَجّلي». أضنى الأمر فيروز وغالباً ما اعترفت به في الحوارات معها قبل أن تُطلقَ تنهيدةً صامتة: «كان ديكتاتوراً ومتطلّباً وقاسياً ومش سهل الرِضا أبداً... كان صعب كتير بالفن. لمّا يقرر شي يمشي فيه، ما يهمّه مواقفي».


عاصي وفيروز (تويتر)
نعم، كان عاصي الرحباني ديكتاتوراً في الفن وفق كل مَن عاصروه وعملوا معه. «كل العباقرة ديكتاتوريين، وهذا ضروري في الفن»، يقول أسامة الرحباني. ثم إن تلك القسوة لم تأتِ من عدم، فعاصي ومنصور ابنا الوَعر والحرمان.
أثقلت كتفَي عاصي منذ الصغر همومٌ أكبر من سنّه، فتحمّلَ وأخوه مسؤولية العائلة بعد وفاة الوالد. كان السند المعنوي والمادّي لأهل بيته. كمعطفٍ ردّ البردَ عنهم، كما في تلك الليلة العاصفة التي استقل فيها دراجة هوائية وقادها تحت حبال المطر من أنطلياس إلى الدورة، بحثاً عن منصور الذي تأخّر بالعودة من الوظيفة في بيروت. يروي أسامة الرحباني أنها «كانت لحظة مؤثرة جداً بين الأخوين، أبصرا خلالها وضعهما المادي المُذري... لم ينسيا ذلك المشهد أبداً، ومن مواقفَ كتلك استمدّا قوّتهما».
وكما في الصِبا كذلك في الطفولة، عندما كانت تمطر فتدخل المياه إلى المدرسة، كان يظنّ منصور أن الطوفان المذكور في الكتاب المقدّس قد بدأ. يُصاب بالهلَع ويصرخ مطالباً المدرّسين بالذهاب إلى أخيه، فيلاقيه عاصي ويحتضنه مهدّئاً من رَوعه.

«سهرة حبّ»... بالدَين
تعاقبت مواسم العزّ على سنوات عاصي الرحباني. فبعد بدايةٍ متعثّرة وحربٍ شرسة ضد أسلوبه الموسيقي الثائر على القديم، سلك دروب المجد. متسلّحاً بخياله المطرّز بحكايا جدّته غيتا و«عنتريّات» الوالد حنّا عاصي، اخترع قصصاً خفتت بفعلِ سحرِها الأصواتُ المُعترضة. أما لحناً، فابتدعَ نغمات غير مطابقة للنظريات السائدة، و«أوجد تركيبة جديدة لتوزيع الموسيقى العربية»، على ما يشرح أسامة الرحباني.


صورة تجمع عاصي ومنصور الرحباني وفيروز بالموسيقار محمد عبد الوهاب وفريد الأطرش، بحضور بديعة مصابني وفيلمون وهبي ونجيب حنكش (أرشيف Rahbani Productions)
كان عاصي مستعداً للخسارة المادية من أجل الربح الفني. يحكي محمود الزيباوي أنه، ولشدّة مثاليته، «سجّل مسرحية (سهرة حب) مرتَين ولم تعجبه النتيجة، فاقترض مبلغاً من المال ليسجّلها مرة ثالثة». ويضيف أن «أساطير كثيرة نُسجت حول الرحابنة، لكن الأسطورة الحقيقية الوحيدة هي جمال عملهم».
ما كانت لتكتمل أسطورة عاصي، لولا صوت تلك الصبية التي دخلت قفصَه الذهبي نهاد حدّاد، وطارت منه «فيروز».
«أدهشته»، يؤكّد الزيباوي؛ ويستطرد: «لكنّ أحداً منهما لم يعرف كيف يميّز بين نهاد حداد وفيروز»... «هي طبعاً المُلهِمة»، يقول أسامة الرحباني؛ «لمح فيها الشخصية التي لطالما أراد رسمَها، ورأى امرأةً تتجاوب مع تلك الشخصية»، ويضيف أن «عاصي دفع بصوت فيروز إلى الأعلى، فهو في الفن كان عنيفاً ويؤمن بالعصَب. كان يكره الارتخاء الموسيقي ويربط النجاح بالطبع الفني القوي، وهذا موجود عند فيروز».


زفاف عاصي الرحباني ونهاد حداد (فيروز) عام 1955 (تويتر)

دماغٌ بحجم وطن
من عزّ المجد، سرقت جلطة دماغيّة عاصي الرحباني عام 1972. «أكثر ما يثير الحزن أن عاصي مرض وهو في ذروة عطائه وإبداعه، وقد زادت الحرب اللبنانية من مرضه وصعّبت العمل كثيراً»، وفق الزيباوي. لم يكن القلق من الغد الغامض غريباً عليه. فهو ومنذ أودى انفجارٌ في إحدى الكسّارات بحياة زوج خالته يوسف الزيناتي، الذي كان يعتبره صياداً خارقاً واستوحى منه شخصيات لمسرحه، سكنته الأسئلة الحائرة حول الموت وما بعدَه.
الدماغ الذي وصفه الطبيب الفرنسي المعالج بأنه من أكبر ما رأى، عاد ليضيء كقمرٍ ليالي الحصّادين والعاشقين والوطن المشلّع. نهض عاصي ورجع إلى البزُق الذي ورثه عن والده، وإلى نُبله وكرمه الذي يسرد أسامة الرحباني عنهما الكثير.
بعد المرض، لانت قسوة عاصي في العمل وتَضاعفَ كرَمُه المعهود. يقول أسامة الرحباني إن «أقصى لحظات فرحه كانت لحظة العطاء». أعطى من ماله ومن فِكرِه، وعُرف بيدِه الموضوعة دائماً في جيبِه استعداداً لتوزيع النقود على المحتاجين في الشارع. أما داخل البيت، فتجسّد الكرَم عاداتٍ لطيفة وطريفة، كأن يشتري 20 كنزة متشابهة ويوزّعها على رجال العائلة وشبّانها.
خلال سنواته الأخيرة ومع احتدام الحرب، زاد قلق عاصي الرحباني على أفراد العائلة. ما كان يوفّر مزحة أو حكاية ليهدّئ بها خوف الأطفال، كما في ذلك اليوم من صيف 1975 الذي استُهدفت فيه بلدة بكفيا، مصيَف العائلة. يذكر أسامة الرحباني كيف دخل عاصي إلى الغرفة التي تجمّع فيها أولاد العائلة مرتعدين، فبدأ يقلّد الممثلين الأميركيين وهم يُطلقون النار في الأفلام الإيطالية، ليُنسيَهم ما في الخارج من أزيز رصاص حقيقي. وسط الدمار، بنى لهم وطناً من خيالٍ جميل، تماماً كما فعل وما زال يفعل في عامِه المائة، مع اللبنانيين.


عاصي الرحباني (غيتي)