الأردن... حصار الاحتجاجات الناعمة وشكوى الاقتصاد المريض

2019 عام متأرجح لم يحقق وعد إخراج البلاد من «عنق الزجاجة»

الملك عبد الله الثاني وولي العهد الأمير الحسين في الباقورة بعد استعادتها في نوفمبر الماضي (رويترز)
الملك عبد الله الثاني وولي العهد الأمير الحسين في الباقورة بعد استعادتها في نوفمبر الماضي (رويترز)
TT

الأردن... حصار الاحتجاجات الناعمة وشكوى الاقتصاد المريض

الملك عبد الله الثاني وولي العهد الأمير الحسين في الباقورة بعد استعادتها في نوفمبر الماضي (رويترز)
الملك عبد الله الثاني وولي العهد الأمير الحسين في الباقورة بعد استعادتها في نوفمبر الماضي (رويترز)

يقفل العام أبوابه أردنياً على مشهد اقتصادي وسياسي متأرجح، رغم ما حمله من محاولات رسمية وحكومية لدفع مسيرة الإصلاح في البلاد إلى الأمام، وسط استمرار لضغوطات إقليمية سعت إلى تحجيم الدور التاريخي الهاشمي في حماية القضية الفلسطينية والدفاع عنها، ولم تستطع حكومة رئيس الوزراء عمر الرزاز أن تخرج من عنق الزجاجة كما تعهدت في بداية توليها مهامها الدستورية منتصف عام 2018.
وبانقضاء هذا العام، تبدأ حكومة الرزاز في حساب العد التنازلي لانتهاء الدورة البرلمانية للمجلس الثامن عشر، تحضيراً لانتخاب المجلس المقبل، مما يحتم رحيلها بعد إجراء الانتخابات إن صدرت أوامر ملكية بإنفاذ المواعيد الدستورية لعقد الانتخابات.
وبين مرحلة سبقت قدوم حكومة الرزاز ومرحلة جني ثمار حصيلة نحو عامين من محاولات حثيثة للإصلاح، لم تهدأ الأوساط السياسية والنقابية والحقوقية والقطاعات المختلفة، في التصدي للسياسات الحكومية التي رفعتها «حكومة النهضة» كما ارتأى الرزاز أن يسميها، وهو الذي أجرى 4 تعديلات وزارية على تشكيلة حكومته لم يلق أي منها ترحيباً شعبياً، بل تعديلات أرهقت أداءها.
وانقلبت حظوة الرئيس الرزاز الذي جاء على وقع احتجاجات شعبية تطالب بتغيير حكومة هاني الملقي، من دعم شعبي إلى سخط أذكته حالة الارتباك المستمرة للأداء الحكومي وخطابها المتضارب، ولم تكن الحزم الاقتصادية التي أعلنت عنها الحكومة في الأشهر الثلاثة الأخيرة من عام 2019، سوى استجابة لتوجيهات ملكية مباشرة قادها العاهل الأردني الملك عبد الله الثاني، شخصياً، عبر مجلس أسسه عرف بـ«مجلس بسمان» خصص للالتقاء مع القطاعات المختلفة في بلاده والاستماع لهموم المواطنين بنفسه.
ومما زاد من الرصيد السلبي للحكومة، تمسك حراكات شعبية؛ وإن كانت محدودة، بوقفات أسبوعية رمزية بالقرب من مقر الحكومة، ورفع شعارات بسقوف مرتفعة طالت شخصيات عامة وبارزة بلغ بعضها أسوار القصر الملكي. وعلى محدودية هذا الحراك؛ كانت تسجل في المقابل عشرات التوقيفات والاعتقالات التي أقرت بها مؤسسات حقوقية وطنية معتمدة، مثل «المركز الوطني لحقوق الإنسان»، بينما تجاهلتها الحكومة جملة وتفصيلاً.
ورغم تراجع نطاق الحراك الشعبي كمّاً، فإن مسوغاته، بحسب مشاركين فيه، استندت إلى واقع معيشي متراجع في وقت وصلت فيه نسبة البطالة إلى أكثر من 19 في المائة، ونسبة فقر بلغت نحو 15.5 في المائة، إضافة إلى رصد إحصائي موثق تحدث لأول مرة في تاريخ البلاد عن 8 آلاف حالة من حالات الفقر المدقع، ولم تعلن الحكومة حتى اللحظة عن خط الفقر الحقيقي أو تكشف عن منهجية تحديد نسب الفقر الجديدة.
وإيلاء الحكومة الإصلاح الاقتصادي أولوية قصوى في أجندتها 2019 لم يتكلل بتحقيق اختراقات بنيوية، بل رسخ حالة من الشكوى العامة من عجز رسمي مستمر، ظهر في مشروع قانون موازنة الدولة لسنة 2020 بسبب إيجاد حلول طارئة لأزمات متراكمة مزمنة، وهو ما يمثل عقدة ارتفاع العجز في الموازنة من 800 مليون دينار أردني في نهاية عام 2019 إلى 1.3 مليار دينار في عام 2020، وهو رقم تقديري قد يتجاوز ذلك مع نهاية العام.
وخلال عام 2019 تأثرت البلاد بموجة احتجاجات موسمية اختطف العنوان الاقتصادي مضامينها، وكانت عمّان العاصمة على موعد مع اعتصامات واحتجاجات متدرجة نقابية، ساهمت إلى حد كبير في تفجير أزمة نقابة المعلمين الأردنيين حديثة التأسيس في شهر سبتمبر (أيلول) الماضي، التي كادت تطيح بحكومة الرزاز بعد إضراب عام نفذه المعلمون استمر شهراً كاملاً وأدى إلى حدوث شلل في الحياة العامة، ولم ينته إلا باعتراف الحكومة الكامل بعلاوات مجزية، مما أحيا آمال النقابات المهنية الأخرى في الفوز بحصتهم المسكوت عنها في نظام الوظيفة العامة في البلاد.
وفي الوقت الذي ساهم فيه هذا المنجز في تقديم زيادات مجزية على رواتب موظفي القطاع العام مع مطلع العام الجديد، أنتج ذلك الأمر عجزاً مبالغاً فيه بموازنة العام الجديد، مع استمرار الوعود الحكومية بتخفيض الضرائب على السلع والخدمات الأساسية. وهو ما جاء في مقدمة مشروع قانون الموازنة العامة الذي فتح باب التساؤلات عن مصادر تمويل الزيادات وسط عجز مستمر في موازنة البلاد.
هنا؛ تبدو الحكومة الأردنية كالمستجير من الرمضاء بالنار، فهي تبحث عن ترميم شعبيتها، بتركة اقتصادية ستدفع الدين العام للبلاد نحو الارتفاع، فيما سيكون حساب عجز الموازنة عسيراً أمام إملاءات صندوق النقد الدولي، الذي ما زال شاهراً سيف سياساته الاقتصادية على رقاب الأردنيين، بعد مَسّ تلك السياسات بقدسية تحرير السلع والخدمات الأساسية من الدعم الحكومي، وإقرار قانون ضريبة الدخل الذي أصاب الطبقة الوسطى بمزيد من تداعيات تراجع الأوضاع المعيشية.
سياسياً، فإن مقدمة عام 2020 ستشهد عراكاً قاسياً بين السلطتين التشريعية والتنفيذية، ففيما تسعى الحكومة لمرور موازنتها المالية متسلحة بالزيادات على رواتب الموظفين في القطاع العام كرافعة شعبية، فإن مجلس النواب سيكون على بُعد كافٍ يسمح له بمناكفة الحكومة عبر مطالبته بزيادات مجزية، وهو بذلك يريد أن يغلق مدته الدستورية على إنجازات تسجل له وحده عند قواعده الانتخابية.
أما دستورياً فيُنهي مجلس النواب مدته في 10 مايو (أيار) المقبل، ويعني ذلك ضرورة تنسيب الحكومة بحل المجلس القائم، وتقديم استقالتها، حتى تتسنى لحكومة جديدة إدارة مرحلة انتقالية لا تتجاوز مدتها الأربعة أشهر، وهو ما سيلهب مطلع صيف العام الجديد، بالتحضير للانتخابات المتوقع أن يكون موعد إجرائها في سبتمبر المقبل.
المواقيت الدستورية أعلاه تتطلب تغييراً متوقعاً لرئيس الحكومة عمر الرزاز، في موعد قد لا يتجاوز شهر يونيو (حزيران)، بانتظار أن يكلف العاهل الأردني رئيساً جديداً قد ينجح بعد إدارته المرحلة الانتقالية، في البقاء إذا ما حصل على ثقة المجلس الجديد.
وفي هذا السياق، فإنه وإن منحت الخيارات الدستورية الحق للملك الأردني في التمديد للمجلس الحالي، فإن مصادر مطلعة ذكرت أن إجراء الانتخابات في موعدها وبصيغة قانون الانتخاب الحالي هو الخيار الأوحد على طاولة صانع القرار.
ووسط انشغال المملكة ببرنامجها المحلي اقتصادياً وسياسياً، والحديث عن تغيير جذري في شكل النخب التقليدية من بوابة الانتخابات المقبلة، يظل الأردن محاصراً بظروف جواره، فحتى اللحظة لم تأتِ سياسة فتح الحدود مع سوريا والعراق، بعد الحد من نفوذ تنظيم «داعش»، بالحسابات الاقتصادية المتوقعة، فيما يظل التهديد الإسرائيلي قائماً بعد إعلان نتنياهو نيته ضم غور الأردن وشمال البحر الميت.
السلام البارد مع إسرائيل قد يصبح مهدداً في حال نفذت تل أبيب سياسات التطرف اليميني التي انتهجتها حكومة بنيامين نتنياهو بدعم أميركي من خلال الرئيس دونالد ترمب، ضاربة تل أبيب بالمصالح الأردنية عرض الحائط، وهو ما حذر منه العاهل الأردني عبد الله الثاني في خلواته مع نخب وطنية. الأمر الذي فسره مراقبون بأن التزام الأردن بتعهداته بملفي الباقورة والغمر وفرض السيادة عليهما، بإنهاء عقود الإيجار للإسرائيليين على مدى الـ25 عاماً الماضية، هو رسالة باتجاه رد الفعل الأردني على الممارسات الإسرائيلية الأحادية. وأضافت عمّان على رسائل الغضب تجاه تل أبيب من خلال محاكمة علنية لمتسلل مدني إسرائيلي استثمرت قصته لضرب سياسات اليمين المتطرف وممارساته.
ولم يكن الملف الحقوقي للمملكة في 2019 أكثر إيجابية، فقد أظهر تقرير «المركز الوطني لحقوق الإنسان» الجهة الوطنية المعتمدة دولياً، أرقاماً صادمة في تراجع مستوى الحريات العامة في البلاد والتوسع في الاعتقالات، وتكييف جرائم لنشطاء على خلفية قضايا «تعبير» على أنها قضايا تندرج ضمن قوانين منع الإرهاب وتقويض نظام الحكم، كما أن التقرير الذي قدم حالة تقييم لحقوق الإنسان في البلاد عن 2018، خلص إلى أن السلطات التنفيذية قد تغوّلت على حق التجمهر السلمي في البلاد، وسجلت أيضاً عدد قضايا غير مسبوق في التوقيف على النشر الإلكتروني.


مقالات ذات صلة

أفريقيا... ساحة تنافس جديد بين الهند والصين

حصاد الأسبوع Chinese Foreign Minister Wang Yi (C) speaks during a press conference with Senegal's Foreign Minister Yassine Fall (L) and Congo Foreign Minister Jean-Claude Gakosso (R) at the Forum on China-Africa Cooperation (FOCAC) in Beijing on September 5, 2024. (Photo by GREG BAKER / AFP)

أفريقيا... ساحة تنافس جديد بين الهند والصين

منذ فترة ولايته الأولى عام 2014، كان رئيس الوزراء الهندي ناريندرا مودي أكبر مناصر للعلاقات بين الهند وأفريقيا.

براكريتي غوبتا (نيودلهي)
حصاد الأسبوع نيتومبو ندايتواه... أول امرأة تترأس ناميبيا

نيتومبو ندايتواه... أول امرأة تترأس ناميبيا

سطرت نيتومبو ناندي ندايتواه، 72 عاماً، اسمها في التاريخ بوصفها أول امرأة تتولى رئاسة ناميبيا منذ استقلال البلاد عام 1990، بعدما حصدت 57 في المائة من الأصوات في

فتحية الدخاخني ( القاهرة)
رياضة سعودية السعودية تستمر في تشكيل خريطة مختلف الرياضات العالمية بتنظيم واستضافات غير مسبوقة (الشرق الأوسط)

السعودية ستُشكل خريطة الرياضة العالمية في 2025

شارف عام حافل بالأحداث الرياضية بما في ذلك الألعاب الأولمبية التي حظيت بإشادة واسعة وأربع بطولات قارية لكرة القدم على الانتهاء ومن المتوقع أن يكون عام 2025 أقل.

«الشرق الأوسط» (لندن)
حصاد الأسبوع فرنسوا بايرو: رجل المصالحة أو الفرصة الأخيرة؟

فرنسوا بايرو: رجل المصالحة أو الفرصة الأخيرة؟

بعد 9 أيام من سقوط الحكومة الفرنسية بقيادة ميشال بارنييه في اقتراع لحجب الثقة، عيّن الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون، فرنسوا بايرو، زعيم رئيس حزب الوسط (الموديم)،

أنيسة مخالدي (باريس)
حصاد الأسبوع خافيير ميلي (أ.ب)

خافيير ميلي... شعبية «المخرّب الأكبر» لا تعرف التراجع

في المشهد الشعبوي واليميني المتطرف، المتنامي منذ سنوات، يشكّل الصعود الصاعق لخافيير ميلي إلى سدّة الرئاسة في الأرجنتين، حالة مميّزة، لا بل فريدة، من حيث الأفكار

شوقي الريّس (مدريد)

لبنان يواجه تحدّيات مصيرية في زمن التحوّلات

جريمة اغتيال رفيق الحريري (غيتي)
جريمة اغتيال رفيق الحريري (غيتي)
TT

لبنان يواجه تحدّيات مصيرية في زمن التحوّلات

جريمة اغتيال رفيق الحريري (غيتي)
جريمة اغتيال رفيق الحريري (غيتي)

يواجه لبنان جملة من التحديات السياسية والعسكرية والأمنية والاقتصادية، خصوصاً في مرحلة التحوّلات الكبرى التي تشهدها المنطقة وترخي بثقلها على واقعه الصعب والمعقّد. ولا شك أن أهم هذه التحوّلات سقوط نظام بشّار الأسد في سوريا، وتراجع النفوذ الإيراني الذي كان له الأثر المباشر في الأزمات التي عاشها لبنان خلال السنوات الأخيرة، وهذا فضلاً عن تداعيات الحرب الإسرائيلية وآثارها التدميرية الناشئة عن «جبهة إسناد» لم تخفف من مأساة غزّة والشعب الفلسطيني من جهة، ولم تجنّب لبنان ويلات الخراب من جهة ثانية.

إذا كانت الحرب الإسرائيلية على لبنان قد انتهت إلى اتفاق لوقف إطلاق النار برعاية دولية، وإشراف أميركي ـ فرنسي على تطبيق القرار 1701، فإن مشهد ما بعد رحيل الأسد وحلول سلطة بديلة لم يتكوّن بعد.

وربما سيحتاج الأمر إلى بضعة أشهر لتلمُّس التحدّيات الكبرى، التي تبدأ بالتحدّيات السياسية والتي من المفترض أن تشكّل أولوية لدى أي سلطة جديدة في لبنان. وهنا يرى النائب السابق فارس سُعَيد، رئيس «لقاء سيّدة الجبل»، أنه «مع انهيار الوضعية الإيرانية في لبنان وتراجع وظيفة (حزب الله) الإقليمية والسقوط المدوّي لحكم البعث في دمشق، وهذا إضافة إلى الشغور في رئاسة الجمهورية، يبقى التحدّي الأول في لبنان هو ملء ثغرات الدولة من أجل استقامة المؤسسات الدستورية».

وأردف سُعَيد، في تصريح لـ«الشرق الأوسط»، إلى أنه «بعكس الحال في سوريا، يوجد في لبنان نصّ مرجعي اسمه الدستور اللبناني ووثيقة الوفاق الوطني، وهذا الدستور يجب أن يحترم بما يؤمّن بناء الدولة والانتقال من مرحلة إلى أخرى».

الدستور أولاً

الواقع أنه لا يمكن لمعطيات علاقة متداخلة بين لبنان وسوريا طالت لأكثر من 5 عقود، و«وصاية دمشق» على بيروت ما بين عامَي 1976 و2005 - وصفها بعض معارضي سوريا بـ«الاحتلال» - أن تتبدّل بين ليلة وضحايا على غرار التبدّل المفاجئ والصادم في دمشق. ثم إن حلفاء نظام دمشق الراحل في لبنان ما زالوا يملكون أوراق قوّة، بينها تعطيل الانتخابات الرئاسية منذ 26 شهراً وتقويض كل محاولات بناء الدولة وفتح ورشة الإصلاح.

غير أن المتغيّرات في سوريا، وفي المنطقة، لا بدّ أن تؤسس لواقع لبناني جديد. ووفق النائب السابق سُعَيد: «إذا كان شعارنا في عام 2005 لبنان أولاً، يجب أن يكون العنوان في عام 2024 هو الدستور أولاً»، لافتاً إلى أن «الفارق بين سوريا ولبنان هو أن سوريا لا تملك دستوراً وهي خاضعة فقط للقرار الدولي 2254. في حين بالتجربة اللبنانية يبقى الدستور اللبناني ووثيقة الوفاق الوطني المرجعَين الصالحَين لبناء الدولة، وهذا هو التحدي الأكبر في لبنان».

وشدّد، من ثم، على ضرورة «استكمال بناء المؤسسات الدستورية، خصوصاً في المرحلة الانتقالية التي تمرّ بها سوريا»، وتابع: «وفي حال دخلت سوريا، لا سمح الله، في مرحلة من الفوضى... فنحن لا نريد أن تنتقل هذه الفوضى إلى لبنان».

العودة للحضن العربي

من جهة ثانية، يحتاج لبنان في المرحلة المقبلة إلى مقاربة جديدة عمّا كان الوضع عليه في العقود السابقة. ولا يُخفي السياسي اللبناني الدكتور خلدون الشريف، في تصريح لـ«الشرق الأوسط»، أن لبنان «سيتأثّر بالتحوّلات الكبرى التي تشهدها المنطقة، وحتميّة انعكاس ما حصل في سوريا على لبنان». ويلفت إلى أن «ما حصل في سوريا أدّى إلى تغيير حقيقي في جيوبوليتيك المنطقة، وسيكون له انعكاسات حتمية، ليس على لبنان فحسب، بل على المشرق العربي والشرق الأوسط برمته أيضاً».

الاستحقاق الرئاسي

في سياق موازٍ، قبل 3 أسابيع من موعد جلسة انتخاب الرئيس التي دعا إليها رئيس مجلس النواب نبيه برّي في التاسع من يناير (كانون الثاني) المقبل، لم تتفق الكتل النيابية حتى الآن على اسم مرشّح واحد يحظى بأكثرية توصله إلى قصر بعبدا.

وهنا، يرى الشريف أنه بقدر أهمية عودة لبنان إلى موقعه الطبيعي في العالم العربي، ثمّة حاجة ماسّة لعودة العرب إلى لبنان، قائلاً: «إعادة لبنان إلى العرب مسألة مهمّة للغاية، شرط ألّا يعادي أي دولة إقليمية عربية... فلدى لبنان والعرب عدوّ واحد هو إسرائيل التي تعتدي على البشر والحجر». وبغض النظر عن حتميّة بناء علاقات سياسية صحيحة ومتكافئة مع سوريا الجديدة، يلفت الشريف إلى أهمية «الدفع للتعاطي معها بإيجابية وانفتاح وفتح حوار مباشر حول موضوع النازحين والشراكة الاقتصادية وتفعيل المصالح المشتركة... ويمكن للبلدين، إذا ما حَسُنت النيّات، أن يشكلّا نموذجاً مميزاً للتعاون والتنافس تحت سقف الشراكة».

يحتاج لبنان في المرحلة المقبلة إلى مقاربة جديدة

النهوض الاقتصادي

وحقاً، يمثّل الملفّ الاقتصادي عنواناً رئيساً للبنان الجديد؛ إذ إن بناء الاقتصاد القوي يبقى المعيار الأساس لبناء الدولة واستقرارها، وعودتها إلى دورها الطبيعي. وفي لقاء مع «الشرق الأوسط»، قال الوزير السابق محمد شقير، رئيس الهيئات الاقتصادية في لبنان، إن «النهوض الاقتصادي يتطلّب إقرار مجموعة من القوانين والتشريعات التي تستجلب الاستثمارات وتشجّع على استقطاب رؤوس الأموال، على أن يتصدّر الورشة التشريعية قانون الجمارك وقانون ضرائب عصري وقانون الضمان الاجتماعي».

شقير يشدّد على أهمية «إعادة هيكلة القطاع المصرفي؛ إذ لا اقتصاد من دون قطاع مصرفي». ويشير إلى أهمية «ضبط التهريب على كل طول الحدود البحرية والبرّية، علماً بأن هذا الأمر بات أسهل مع سقوط النظام السوري، الذي طالما شكّل عائقاً رئيساً أمام كل محاولات إغلاق المعابر غير الشرعية ووقف التهريب، الذي تسبب بخسائر هائلة في ميزانية الدولة، بالإضافة إلى وضع حدّ للمؤسسات غير الشرعية التي تنافس المؤسسات الشرعية وتؤثر عليها».

نقطة جمارك المصنع اللبنانية على الحدود مع سوريا (آ ف ب)

لبنان ودول الخليج

يُذكر أن الفوضى في الأسواق اللبنانية أدت إلى تراجع قدرات الدولة، ما كان سبباً في الانهيار الاقتصادي والمالي، ولذا يجدد شقير دعوته إلى «وضع حدّ للقطاع الاقتصادي السوري الذي ينشط في لبنان بخلاف الأنظمة والقوانين، والذي أثّر سلباً على النمو، ولا مانع من قوننة ليعمل بطريقة شرعية ووفق القوانين اللبنانية المرعية الإجراء». لكنه يعبّر عن تفاؤله بمستقبل لبنان السياسي والاقتصادي، قائلاً: «لا يمكن للبنان أن ينهض من دون علاقات طيّبة وسليمة مع العالم العربي، خصوصاً دول الخليج... ويجب أن تكون المهمّة الأولى للحكومة الجديدة ترسيخ العلاقات الجيّدة مع دول الخليج العربي، ولا سيما المملكة العربية السعودية التي طالما أمّنت للبنان الدعم السياسي والاقتصادي والمالي».

ضبط السلاح

على صعيد آخر، تشكّل الملفات الأمنية والعسكرية سمة المرحلة المقبلة، بخاصةٍ بعد التزام لبنان فرض سلطة الدولة على كامل أراضيها تطبيقاً للدستور والقرارات الدولية. ويعتبر الخبير العسكري والأمني العميد الركن فادي داوود، في تصريح لـ«الشرق الأوسط»، أن «تنفيذ القرار 1701 ومراقبة تعاطيها مع مكوّنات المجتمع اللبناني التي تحمل السلاح، هو التحدّي الأكبر أمام المؤسسات العسكرية والأمنية». ويوضح أن «ضبط الحدود والمعابر البرية مع سوريا وإسرائيل مسألة بالغة الدقة، سيما في ظل المستجدات التي تشهدها سوريا، وعدم معرفة القوة التي ستمسك بالأمن على الجانب السوري».

مكافحة المخدِّرات

وبأهمية ضبط الحدود ومنع الاختراق الأمني عبرها، يظل الوضع الداخلي تحت المجهر في ظلّ انتشار السلاح لدى معظم الأحزاب والفئات والمناطق اللبنانية، وهنا يوضح داوود أن «تفلّت السلاح في الداخل يتطلّب خطة أمنية ينفّذها الجيش والأجهزة الأمنية كافة». ويشرح أن «وضع المخيمات الفلسطينية يجب أن يبقى تحت رقابة الدولة ومنع تسرّب السلاح خارجها، إلى حين الحلّ النهائي والدائم لانتشار السلاح والمسلحين في جميع المخيمات»، منبهاً إلى «معضلة أمنية أساسية تتمثّل بمكافحة المخدرات تصنيعاً وترويجاً وتصديراً، سيما وأن هناك مناطق معروفة كانت أشبه بمحميات أمنية لعصابات المخدرات».

حقائق

علاقات لبنان مع سوريا... نصف قرن من الهيمنة

شهدت العلاقات اللبنانية - السورية العديد من المحطات والاستحقاقات، صبّت بمعظمها في مصلحة النظام السوري ومكّنته من إحكام قبضته على كلّ شاردة وواردة. وإذا كان نفوذ دمشق تصاعد منذ دخول جيشها لبنان في عام 1976، فإن جريمة اغتيال الرئيس اللبناني المنتخب رينيه معوض في 22 نوفمبر (تشرين الثاني) 1989 - أي يوم عيد الاستقلال - شكّلت رسالة. واستهدفت الجريمة ليس فقط الرئيس الذي أطلق مرحلة الشروع في تطبيق «اتفاق الطائف»، وبسط سلطة الدولة على كامل أراضيها وحلّ كل الميليشيات المسلّحة وتسليم سلاحها للدولة، بل أيضاً كلّ من كان يحلم ببناء دولة ذات سيادة متحررة من الوصاية. ولكنْ ما إن وُضع «اتفاق الطائف» موضع التنفيذ، بدءاً بوحدانية قرار الدولة، أصرّ حافظ الأسد على استثناء سلاح «حزب الله» والتنظيمات الفلسطينية الموالية لدمشق، بوصفه «سلاح المقاومة لتحرير الأراضي اللبنانية المحتلّة» ولإبقائه عامل توتر يستخدمه عند الضرورة. ثم نسف الأسد «الأب» قرار مجلس الوزراء لعام 1996 القاضي بنشر الجيش اللبناني على الحدود مع إسرائيل، بذريعة رفضه «تحويل الجيش حارساً للحدود الإسرائيلية».بعدها استثمر نظام دمشق انسحاب الجيش الإسرائيلي من المناطق التي كان يحتلها في جنوب لبنان خلال مايو (أيار) 2000، و«جيّرها» لنفسه ليعزّز هيمنته على لبنان. غير أنه فوجئ ببيان مدوٍّ للمطارنة الموارنة برئاسة البطريرك الراحل نصر الله بطرس صفير في سبتمبر (أيلول) 2000، طالب فيه الجيش السوري بالانسحاب من لبنان؛ لأن «دوره انتفى مع جيش الاحتلال الإسرائيلي من جنوب لبنان».مع هذا، قبل شهر من انتهاء ولاية الرئيس إميل لحود، أعلن نظام بشار الأسد رغبته بالتمديد للحود ثلاث سنوات (نصف ولاية جديدة)، ورغم المعارضة النيابية الشديدة التي قادها رئيس الوزراء الراحل رفيق الحريري، مُدِّد للحود بالقوة على وقع تهديد الأسد «الابن» للحريري ووليد جنبلاط «بتحطيم لبنان فوق رأسيهما». وهذه المرة، صُدِم الأسد «الابن» بصدور القرار 1559 عن مجلس الأمن الدولي، الذي يقضي بانتخاب رئيس جديد للبنان، وانسحاب الجيش السوري فوراً، وحلّ كل الميليشيات وتسليم سلاحها للدولة اللبنانية. ولذا، عمل لإقصاء الحريري وقوى المعارضة اللبنانية عن السلطة، وتوِّج هذا الإقصاء بمحاولة اغتيال الوزير مروان حمادة في أكتوبر (تشرين الأول) 2004، ثمّ باغتيال رفيق الحريري يوم 14 فبراير (شباط) 2005، ما فجّر «ثورة الأرز» التي أدت إلى انسحاب الجيش السوري من لبنان يوم 26 أبريل (نيسان)، وتبع ذلك انتخابات نيابية خسرها حلفاء النظام السوري فريق «14 آذار» المناوئ لدمشق.تراجع نفوذ دمشق في لبنان استمر بعد انسحاب جيشها بضغط أميركي مباشر. وتجلّى ذلك في «الحوار الوطني اللبناني»، الذي أفضى إلى اتخاذ قرارات بينها «ترسيم الحدود» اللبنانية السورية، وبناء علاقات دبلوماسية مع سوريا وتبادل السفراء، الأمر الذي قبله بشار الأسد على مضض. وأكمل المسار بقرار إنشاء محكمة دولية لمحاكمة قتلة الحريري وتنظيم السلاح الفلسطيني خارج المخيمات - وطال أساساً التنظيمات المتحالفة مع دمشق وعلى رأسها «الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين - القيادة العامة» - وتحرير المعتقلين اللبنانيين في السجون السورية. حرب 6002مع هذا، بعد الحرب الإسرائيلية على لبنان في يوليو (تموز) 2006، التي أعلن «حزب الله» بعدها «الانتصار على إسرائيل»، استعاد النظام السوري بعض نفوذه. وتعزز ذلك بسلسلة اغتيالات طالت خصومه في لبنان من ساسة ومفكّرين وإعلاميين وأمنيين - جميعهم من فريق «14 آذار» - وتوّج بالانقلاب العسكري الذي نفذه «حزب الله» يوم 7 مايو 2008 محتلاً بيروت ومهاجماً الجبل. وأدى هذا التطور إلى «اتفاق الدوحة» الذي منح الحزب وحلفاء دمشق «الثلث المعطِّل» في الحكومة اللبنانية، فمكّنهم من الإمساك بالسلطة.يوم 25 مايو 2008 انتخب قائد الجيش اللبناني ميشال سليمان رئيساً للجمهورية، وفي 13 أغسطس (آب) من العام نفسه عُقدت قمة لبنانية ـ سورية في دمشق، وصدر عنها بيان مشترك، تضمّن بنوداً عدّة أهمها: «بحث مصير المفقودين اللبنانيين في سوريا، وترسيم الحدود، ومراجعة الاتفاقات وإنشاء علاقات دبلوماسية، وتبنّي المبادرة العربية للسلام». ولكن لم يتحقق من مضمون البيان، ومن «الحوار الوطني اللبناني» سوى إقامة سفارات وتبادل السفراء فقط.ختاماً، لم يقتنع النظام السوري في يوم من الأيام بالتعامل مع لبنان كدولة مستقلّة. وحتى في ذروة الحرب السورية، لم يكف عن تعقّب المعارضين السوريين الذي فرّوا إلى لبنان، فجنّد عصابات عملت على خطف العشرات منهم ونقلهم إلى سوريا. كذلك سخّر القضاء اللبناني (خصوصاً المحكمة العسكرية) للتشدد في محاكمة السوريين الذين كانوا في عداد «الجيش السوري الحرّ» والتعامل معهم كإرهابيين.أيضاً، كان للنظام السوري - عبر حلفائه اللبنانيين - الدور البارز في تعطيل الاستحقاقات الدستورية، لا سيما الانتخابات الرئاسية والنيابية وتشكيل الحكومات، بمجرد اكتشاف أن النتائج لن تكون لصالحهم. وعليه، قد يكون انتخاب الرئيس اللبناني في 9 يناير (كانون الثاني) المقبل، الاستحقاق الأول الذي يشهده لبنان من خارج تأثير نظام آل الأسد منذ نصف قرن.