الأردن... حصار الاحتجاجات الناعمة وشكوى الاقتصاد المريض

يقفل العام أبوابه أردنياً على مشهد اقتصادي وسياسي متأرجح، رغم ما حمله من محاولات رسمية وحكومية لدفع مسيرة الإصلاح في البلاد إلى الأمام، وسط استمرار لضغوطات إقليمية سعت إلى تحجيم الدور التاريخي الهاشمي في حماية القضية الفلسطينية والدفاع عنها، ولم تستطع حكومة رئيس الوزراء عمر الرزاز أن تخرج من عنق الزجاجة كما تعهدت في بداية توليها مهامها الدستورية منتصف عام 2018.
وبانقضاء هذا العام، تبدأ حكومة الرزاز في حساب العد التنازلي لانتهاء الدورة البرلمانية للمجلس الثامن عشر، تحضيراً لانتخاب المجلس المقبل، مما يحتم رحيلها بعد إجراء الانتخابات إن صدرت أوامر ملكية بإنفاذ المواعيد الدستورية لعقد الانتخابات.
وبين مرحلة سبقت قدوم حكومة الرزاز ومرحلة جني ثمار حصيلة نحو عامين من محاولات حثيثة للإصلاح، لم تهدأ الأوساط السياسية والنقابية والحقوقية والقطاعات المختلفة، في التصدي للسياسات الحكومية التي رفعتها «حكومة النهضة» كما ارتأى الرزاز أن يسميها، وهو الذي أجرى 4 تعديلات وزارية على تشكيلة حكومته لم يلق أي منها ترحيباً شعبياً، بل تعديلات أرهقت أداءها.
وانقلبت حظوة الرئيس الرزاز الذي جاء على وقع احتجاجات شعبية تطالب بتغيير حكومة هاني الملقي، من دعم شعبي إلى سخط أذكته حالة الارتباك المستمرة للأداء الحكومي وخطابها المتضارب، ولم تكن الحزم الاقتصادية التي أعلنت عنها الحكومة في الأشهر الثلاثة الأخيرة من عام 2019، سوى استجابة لتوجيهات ملكية مباشرة قادها العاهل الأردني الملك عبد الله الثاني، شخصياً، عبر مجلس أسسه عرف بـ«مجلس بسمان» خصص للالتقاء مع القطاعات المختلفة في بلاده والاستماع لهموم المواطنين بنفسه.
ومما زاد من الرصيد السلبي للحكومة، تمسك حراكات شعبية؛ وإن كانت محدودة، بوقفات أسبوعية رمزية بالقرب من مقر الحكومة، ورفع شعارات بسقوف مرتفعة طالت شخصيات عامة وبارزة بلغ بعضها أسوار القصر الملكي. وعلى محدودية هذا الحراك؛ كانت تسجل في المقابل عشرات التوقيفات والاعتقالات التي أقرت بها مؤسسات حقوقية وطنية معتمدة، مثل «المركز الوطني لحقوق الإنسان»، بينما تجاهلتها الحكومة جملة وتفصيلاً.
ورغم تراجع نطاق الحراك الشعبي كمّاً، فإن مسوغاته، بحسب مشاركين فيه، استندت إلى واقع معيشي متراجع في وقت وصلت فيه نسبة البطالة إلى أكثر من 19 في المائة، ونسبة فقر بلغت نحو 15.5 في المائة، إضافة إلى رصد إحصائي موثق تحدث لأول مرة في تاريخ البلاد عن 8 آلاف حالة من حالات الفقر المدقع، ولم تعلن الحكومة حتى اللحظة عن خط الفقر الحقيقي أو تكشف عن منهجية تحديد نسب الفقر الجديدة.
وإيلاء الحكومة الإصلاح الاقتصادي أولوية قصوى في أجندتها 2019 لم يتكلل بتحقيق اختراقات بنيوية، بل رسخ حالة من الشكوى العامة من عجز رسمي مستمر، ظهر في مشروع قانون موازنة الدولة لسنة 2020 بسبب إيجاد حلول طارئة لأزمات متراكمة مزمنة، وهو ما يمثل عقدة ارتفاع العجز في الموازنة من 800 مليون دينار أردني في نهاية عام 2019 إلى 1.3 مليار دينار في عام 2020، وهو رقم تقديري قد يتجاوز ذلك مع نهاية العام.
وخلال عام 2019 تأثرت البلاد بموجة احتجاجات موسمية اختطف العنوان الاقتصادي مضامينها، وكانت عمّان العاصمة على موعد مع اعتصامات واحتجاجات متدرجة نقابية، ساهمت إلى حد كبير في تفجير أزمة نقابة المعلمين الأردنيين حديثة التأسيس في شهر سبتمبر (أيلول) الماضي، التي كادت تطيح بحكومة الرزاز بعد إضراب عام نفذه المعلمون استمر شهراً كاملاً وأدى إلى حدوث شلل في الحياة العامة، ولم ينته إلا باعتراف الحكومة الكامل بعلاوات مجزية، مما أحيا آمال النقابات المهنية الأخرى في الفوز بحصتهم المسكوت عنها في نظام الوظيفة العامة في البلاد.
وفي الوقت الذي ساهم فيه هذا المنجز في تقديم زيادات مجزية على رواتب موظفي القطاع العام مع مطلع العام الجديد، أنتج ذلك الأمر عجزاً مبالغاً فيه بموازنة العام الجديد، مع استمرار الوعود الحكومية بتخفيض الضرائب على السلع والخدمات الأساسية. وهو ما جاء في مقدمة مشروع قانون الموازنة العامة الذي فتح باب التساؤلات عن مصادر تمويل الزيادات وسط عجز مستمر في موازنة البلاد.
هنا؛ تبدو الحكومة الأردنية كالمستجير من الرمضاء بالنار، فهي تبحث عن ترميم شعبيتها، بتركة اقتصادية ستدفع الدين العام للبلاد نحو الارتفاع، فيما سيكون حساب عجز الموازنة عسيراً أمام إملاءات صندوق النقد الدولي، الذي ما زال شاهراً سيف سياساته الاقتصادية على رقاب الأردنيين، بعد مَسّ تلك السياسات بقدسية تحرير السلع والخدمات الأساسية من الدعم الحكومي، وإقرار قانون ضريبة الدخل الذي أصاب الطبقة الوسطى بمزيد من تداعيات تراجع الأوضاع المعيشية.
سياسياً، فإن مقدمة عام 2020 ستشهد عراكاً قاسياً بين السلطتين التشريعية والتنفيذية، ففيما تسعى الحكومة لمرور موازنتها المالية متسلحة بالزيادات على رواتب الموظفين في القطاع العام كرافعة شعبية، فإن مجلس النواب سيكون على بُعد كافٍ يسمح له بمناكفة الحكومة عبر مطالبته بزيادات مجزية، وهو بذلك يريد أن يغلق مدته الدستورية على إنجازات تسجل له وحده عند قواعده الانتخابية.
أما دستورياً فيُنهي مجلس النواب مدته في 10 مايو (أيار) المقبل، ويعني ذلك ضرورة تنسيب الحكومة بحل المجلس القائم، وتقديم استقالتها، حتى تتسنى لحكومة جديدة إدارة مرحلة انتقالية لا تتجاوز مدتها الأربعة أشهر، وهو ما سيلهب مطلع صيف العام الجديد، بالتحضير للانتخابات المتوقع أن يكون موعد إجرائها في سبتمبر المقبل.
المواقيت الدستورية أعلاه تتطلب تغييراً متوقعاً لرئيس الحكومة عمر الرزاز، في موعد قد لا يتجاوز شهر يونيو (حزيران)، بانتظار أن يكلف العاهل الأردني رئيساً جديداً قد ينجح بعد إدارته المرحلة الانتقالية، في البقاء إذا ما حصل على ثقة المجلس الجديد.
وفي هذا السياق، فإنه وإن منحت الخيارات الدستورية الحق للملك الأردني في التمديد للمجلس الحالي، فإن مصادر مطلعة ذكرت أن إجراء الانتخابات في موعدها وبصيغة قانون الانتخاب الحالي هو الخيار الأوحد على طاولة صانع القرار.
ووسط انشغال المملكة ببرنامجها المحلي اقتصادياً وسياسياً، والحديث عن تغيير جذري في شكل النخب التقليدية من بوابة الانتخابات المقبلة، يظل الأردن محاصراً بظروف جواره، فحتى اللحظة لم تأتِ سياسة فتح الحدود مع سوريا والعراق، بعد الحد من نفوذ تنظيم «داعش»، بالحسابات الاقتصادية المتوقعة، فيما يظل التهديد الإسرائيلي قائماً بعد إعلان نتنياهو نيته ضم غور الأردن وشمال البحر الميت.
السلام البارد مع إسرائيل قد يصبح مهدداً في حال نفذت تل أبيب سياسات التطرف اليميني التي انتهجتها حكومة بنيامين نتنياهو بدعم أميركي من خلال الرئيس دونالد ترمب، ضاربة تل أبيب بالمصالح الأردنية عرض الحائط، وهو ما حذر منه العاهل الأردني عبد الله الثاني في خلواته مع نخب وطنية. الأمر الذي فسره مراقبون بأن التزام الأردن بتعهداته بملفي الباقورة والغمر وفرض السيادة عليهما، بإنهاء عقود الإيجار للإسرائيليين على مدى الـ25 عاماً الماضية، هو رسالة باتجاه رد الفعل الأردني على الممارسات الإسرائيلية الأحادية. وأضافت عمّان على رسائل الغضب تجاه تل أبيب من خلال محاكمة علنية لمتسلل مدني إسرائيلي استثمرت قصته لضرب سياسات اليمين المتطرف وممارساته.
ولم يكن الملف الحقوقي للمملكة في 2019 أكثر إيجابية، فقد أظهر تقرير «المركز الوطني لحقوق الإنسان» الجهة الوطنية المعتمدة دولياً، أرقاماً صادمة في تراجع مستوى الحريات العامة في البلاد والتوسع في الاعتقالات، وتكييف جرائم لنشطاء على خلفية قضايا «تعبير» على أنها قضايا تندرج ضمن قوانين منع الإرهاب وتقويض نظام الحكم، كما أن التقرير الذي قدم حالة تقييم لحقوق الإنسان في البلاد عن 2018، خلص إلى أن السلطات التنفيذية قد تغوّلت على حق التجمهر السلمي في البلاد، وسجلت أيضاً عدد قضايا غير مسبوق في التوقيف على النشر الإلكتروني.