سايمون هاريس... أصغر زعيم في تاريخ آيرلندا...أحد الثلاثي الأوروبي الداعم لقيام دولة فلسطين

سياسي بالفطرة... ومتعاطف مع المظلومين وذوي الحاجات الخاصة

في عام 2011 انتُخب هاريس وهو لا يزال في الرابعة والعشرين من العمر نائباً في البرلمان، وكان يومذاك أصغر النواب سناً
في عام 2011 انتُخب هاريس وهو لا يزال في الرابعة والعشرين من العمر نائباً في البرلمان، وكان يومذاك أصغر النواب سناً
TT

سايمون هاريس... أصغر زعيم في تاريخ آيرلندا...أحد الثلاثي الأوروبي الداعم لقيام دولة فلسطين

في عام 2011 انتُخب هاريس وهو لا يزال في الرابعة والعشرين من العمر نائباً في البرلمان، وكان يومذاك أصغر النواب سناً
في عام 2011 انتُخب هاريس وهو لا يزال في الرابعة والعشرين من العمر نائباً في البرلمان، وكان يومذاك أصغر النواب سناً

طرح الإعلان «الثلاثي» من حكومات النرويج وإسبانيا وجمهورية آيرلندا عن قرارها كل على حدة بالاعتراف رسمياً بدولة فلسطين علامات استفهام في الأوساط السياسية الداعمة لإسرائيل والمناوئة للقضية الفلسطينية إلا أنه حظي بترحيب واسع في الضفة المقابلة والواقع أن هذا الموقف جاء مبنياً على سلسلة مواقف اعتراضية اتخذتها تباعاً بصورة تصعيدية الدول الأوروبية الثلاث منذ حوّلت «حكومة الحرب» الإسرائيلية «الردّ» على عملية «طوفان الأقصى» التي شنّتها حركة «حماس» على غلاف قطاع غزة إلى حرب تهجير وتدمير مفتوحة راح ضحيتها أكثر من 35 ألف قتيل ومئات ألوف المصابين ناهيك من تحويل مدن القطاع ومؤسساته إلى أنقاض

في ما يخصّ مواقف جمهورية آيرلندا من حرب تهجير قطاع غزة، صدر أول موقف من رئيس الحكومة السابق الدكتور ليو فارادكار في ديسمبر (كانون الأول) الماضي خلال قمة الاتحاد الأوروبي، عندما طالب زملاءه القادة الأوروبيين بتبني موقف حازم باتجاه فرض وقف حرب غزة.

وأضاف فارادكار أن الاتحاد «فقد صدقيته بسبب عجزه عن أخذ موقف أكثر قوة وحدّة» إزاء ما يحدث في غزة. وغمز من قناة «ازدواجية المعايير»، قبل أن تتضامن آيرلندا مع إسبانيا وبلجيكا ومالطا في المطالبة بمناقشة جدية للأمر في ظل تفاقم الوضع الإنساني في القطاع.

بعد ذلك، في مارس (آذار) الماضي، صعّد فارادكار مواقفه في مستهل جولته الأميركية، عندما قال: «إن قتل أعداد هائلة من أطفال غزة سيقضّ مضاجع العالم إذا ظل صامتاً في وجه العقاب الجماعي المستمر الذي تمارسه إسرائيل». واستنكر بشدة في كلمة له بمدينة بوسطن قائلاً: «حياة الطفل هي أكبر النعم على الإطلاق. الطفولة يجب أن تكون نعمة. لكن اليوم في غزة بالنسبة لكثيرين نراها حكم إعدام ونقمة». ثم كرّر مواقفه المطالبة بوقف كامل وفوري للحرب بعد أيام قليلة خلال لقائه بالرئيس جو بايدن في البيت الأبيض.

إلا أن فارادكار استقال من منصبه خلال فترة قصيرة من عودته إلى بلاده لـ«أسباب خاصة» أثير حولها لغط. وعلى الإثر، انتخب حزب «فين غايل» الحاكم النائب والوزير الشاب سايمون هاريس خلفاً له في قيادة الحزب ورئاسة الحكومة.

هاريس (37 سنة) قُيض له بالأمس أن يكمِل ما مهّد له سلفه، وأن يكون الزعيم الآيرلندي الذي يعلن اعترف بلاده رسمياً بدولة فلسطين.

من هو هاريس؟

ولد سايمون هاريس يوم 17 أكتوبر (تشرين الأول) 1986 في بلدة غرايستونز، وهي منتجع على الساحل الشرقي للجزيرة الآيرلندية، في مقاطعة ويكلو، الواقعة إلى الجنوب من العاصمة دبلن. وبهذه المقاطعة ارتبطت حياته السياسية منذ شقّ طريقه في عالم السياسة عام 2009.

سايمون هو الابن الأكبر بين 3 أولاد (صبيان وبنت) لعائلة بارت وماري هاريس. ولقد تلقى تعليمه في إحدى مدارس غرايستونز الثانوية، وفيها لمع في التمثيل، وأعد مسرحية وهو ابن 13 سنة. وحين بدأ شغفه بالسياسة في سن الـ15 سنة، تواءم هذا الشغف مع تعاطفه مع ذوي الحاجات الخاصة عندما أسس رابطة تهدف لمساعدة أهالي الأطفال المُعانين من إعاقتي التوحّد ونقص التركيز، وللعلم فإن شقيقه هو ممّن يعانون من التوحّد. وكذلك كان من اهتمامات تلك الرابطة التواصل مع الشخصيات السياسة ودفعها إلى دعم هؤلاء المعانين والمحرومين وتأمين تعليم الأطفال منهم.

وبما يخص حياة هاريس الأسرية، فإنه متزوّج من كوفه ويد، وهي ممرضة في قسم أمراض القلب، ولديهما صبي وبنت. وعلى الصعيد الشخصي، فإنه يعاني من «مرض كرون» (الالتهاب المزمن في الجهاز الهضمي).

التعليم... والانطلاقة السياسية

أما بالنسبة لدراسته الجامعية، فإنه بدأ في تخصص الصحافة والأدب الفرنسي في معهد دبلن للتكنولوجيا، غير أنه لم يتابع، بل غادر الدراسة في السنة الثانية، ليركّز مسيرته على السياسة. وبالفعل، في انتخابات عام 2002، نشط سايمون هاريس ضمن صفوف حزب «فيانا فويل» (قومي على يمين الوسط)، إلا أنه انتقل خلال سنة واحدة إلى حزب «فيني غايل» (يمين ليبرالي) وانتخب في تنظيمه الشبابي.

وفي حزبه الجديد، بدأ عام 2008 رحلته مساعداً لزميلته الوزيرة المستقبلية فرانسيس فيتزجيرالد عندما كانت عضواً في مجلس الشيوخ (أحد مجلسي البرلمان). وفي العام التالي، خلال الانتخابات المحلية، انتخب عضواً في المجلس المحلي لمقاطعة ويكلو، وكان لافتاً أنه حصل على أعلى نسبة تأييد بين كل أعضاء المجالس المنتخبة على امتداد آيرلندا، كما انتخب عضواً في بلدية غرايستونز.

من البرلمان إلى الوزارة

عام 2011، انتخب هاريس، وهو لا يزال في الرابعة والعشرين من العمر نائباً في مجلس النواب الآيرلندي عن ويكلو... وكان يومذاك أصغر نواب البرلمان سناً. وفي مجلس النواب صقل خبراته عبر شغله مهاماً في بعض اللجان البرلمانية المتخصصة، ومنها الاقتصاد والصحة.

وفي عام 2014، خطا هاريس خطوة كبيرة أخرى عندما عيّن وزير دولة في وزارة المالية. وتسارع الصعود عندما رقّي عام 2016، في أعقاب تشكيل حزب «فيني غايل» حكومة أقلية، ليصبح وزيراً للصحة، ولاحقاً، مع تشكيل الحكومة الائتلافية عام 2020 انتقل من وزارة الصحة ليتولى وزارة التعليم الإضافي والعالي والبحث والابتكار والعلوم. ومن ثم تولى أيضاً بصفة مؤقتة حقيبة وزارة العدل بين ديسمبر 2022 ويونيو (حزيران) 2023 عندما حصلت زميلته الوزيرة هيلين ماكينتي على إجازة أمومة.

رئيساً في سن الـ37

وأخيراً، بعد الاستقالة المفاجئة لفارادكار يوم 20 مارس الماضي، دُعي حزبه «فيني غايل»، وفق التدابير المألوفة والمتبعة لانتخاب زعيم جديد، مع العلم أن الزعيم المستقيل تعهّد بالتخلي عن رئاسة الحكومة فور انتخاب خلف له على قمة الحزب. وفي اليوم التالي، فتح باب الترشيح إلا أنه بحلول بعد ظهر ذلك اليوم كان أكثر من نصف عدد أعضاء الكتلة البرلمانية للحزب قد أعلنوا تأييدهم لاختيار سايمون هاريس، وأبعد كل وزراء الحزب أنفسهم عن المنافسة. وهكذا صار هاريس المرشح الوحيد، وبالتالي الزعيم الفعلي بالتزكية، يوم 24 مارس الذي كان قد حُدد كمهلة أخيرة لقبول الترشيحات، خلال اجتماع رسمي للقيادة الحزبية في اليوم ذاته، عقد بمدينة آثلون بشمال وسط البلاد. ومن ثم يوم 9 أبريل (نيسان) بعد عطلة عيد الفصح الماضي، عيّن رسمياً بصفته زعيم الحزب الحاكم رئيساً جديداً للحكومة وهو لا يزال في السابعة والثلاثين من العمر... وبذا بات رئيس الحكومة الأصغر سناً في تاريخ البلاد.

حزب «فيني غايل» في سطور

> حزب «فيني غايل» (أي العشيرة أو الأمة الآيرلندية) حزب يميني ليبرالي مسيحي التوجهات، يمتلك اليوم ثالث أكبر عدد من المقاعد داخل مجلس النواب الآيرلندي وأكبر تمثيل نيابي آيرلندي في البرلمان الأوروبي.

> أسس يوم 8 سبتمبر (أيلول) 1933 من اندماج 3 جماعات نشطت إبان النضال الاستقلالي عن بريطانيا، أيّد أعضاؤها «الاتفاقية الأنجلو آيرلندية» إبان النزاع الأهلي الآيرلندي بين الاستقلاليين المعتدلين والمتشددين، وعدّ هؤلاء أنفسهم مناصرين للزعيم الراحل المعتدل مايكل كولينز الذي اغتاله رافضو «الاتفاقية».

> بعد الاستقلال تناوب الحزب مع حزب «فيانا فويل» الأكثر تشدداً قومياً، والذي انشق مثله، تحت قيادة زعيمه البارز إيمون دي فاليرا، عن حزب «شين فين» أقدم القوى الاستقلالية.

> اضطر للتحالف غير مرة مع حزب العمال الآيرلندي (يسار الوسط) في ائتلافات حكومية ضد «فيانا فويل»، وخرج منهم زعماء بارزون، من أهمهم ليام كوسغريف (ابن وليم توماس كوسغريف أول رئيس للمجلس التنفيذي لدولة آيرلندا الحرة)، وجون كوستيللو، والدكتور غاريث فيتزجيرالد، والدكتور ليو فارادكار، أول رئيس من أصل هندي يتولى السلطة في آيرلندا.


مقالات ذات صلة

فرنسوا بايرو: رجل المصالحة أو الفرصة الأخيرة؟

حصاد الأسبوع فرنسوا بايرو: رجل المصالحة أو الفرصة الأخيرة؟

فرنسوا بايرو: رجل المصالحة أو الفرصة الأخيرة؟

بعد 9 أيام من سقوط الحكومة الفرنسية بقيادة ميشال بارنييه في اقتراع لحجب الثقة، عيّن الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون، فرنسوا بايرو، زعيم رئيس حزب الوسط (الموديم)،

أنيسة مخالدي (باريس)
حصاد الأسبوع خافيير ميلي (أ.ب)

خافيير ميلي... شعبية «المخرّب الأكبر» لا تعرف التراجع

في المشهد الشعبوي واليميني المتطرف، المتنامي منذ سنوات، يشكّل الصعود الصاعق لخافيير ميلي إلى سدّة الرئاسة في الأرجنتين، حالة مميّزة، لا بل فريدة، من حيث الأفكار

شوقي الريّس (مدريد)
حصاد الأسبوع جريمة اغتيال رفيق الحريري (غيتي)

لبنان يواجه تحدّيات مصيرية في زمن التحوّلات

يواجه لبنان جملة من التحديات السياسية والعسكرية والأمنية والاقتصادية، خصوصاً في مرحلة التحوّلات الكبرى التي تشهدها المنطقة وترخي بثقلها على واقعه الصعب

يوسف دياب (بيروت)
حصاد الأسبوع تحت ضغط الفضائح والخلافات انخفضت شعبية يون، وقبل أقل من شهر أظهر استطلاع للرأي أن شعبيته انخفضت إلى 19 % فقط

يون سوك ــ يول... رئيس كوريا الجنوبية أثار زوبعة دعت لعزله في تصويت برلماني

تشهد كوريا الجنوبية، منذ نحو أسبوعين، تطورات متلاحقة لا تلوح لها نهاية حقيقية، شهدت اهتزاز موقع رئيس الجمهورية يون سوك - يول بعد إعلانه في بيان تلفزيوني

براكريتي غوبتا (نيودلهي (الهند))
حصاد الأسبوع تشون دو - هوان (رويترز)

تاريخ مظلم للقيادات في كوريا الجنوبية

إلى جانب يون سوك - يول، فإن أربعة من رؤساء كوريا الجنوبية السبعة إما قد عُزلوا أو سُجنوا بتهمة الفساد منذ انتقال البلاد إلى الديمقراطية في أواخر الثمانينات.

«الشرق الأوسط» (نيودلهي)

منطقة الساحل... ساحة صراع بين الغرب وروسيا

طائرة ميراج 2000 فرنسية في قاعدة بنيامي، عاصمة النيجر، يوم 5 يونيو 2021 (أ.ب)
طائرة ميراج 2000 فرنسية في قاعدة بنيامي، عاصمة النيجر، يوم 5 يونيو 2021 (أ.ب)
TT

منطقة الساحل... ساحة صراع بين الغرب وروسيا

طائرة ميراج 2000 فرنسية في قاعدة بنيامي، عاصمة النيجر، يوم 5 يونيو 2021 (أ.ب)
طائرة ميراج 2000 فرنسية في قاعدة بنيامي، عاصمة النيجر، يوم 5 يونيو 2021 (أ.ب)

يسدلُ الستارُ على آخر مشاهد عام 2024 في منطقة الساحل الأفريقي، ورغم أن هذه الصحراء الشاسعة ظلت رتيبة لعقود طويلة، فإن المشهد الأخير جاء ليكسر رتابتها، فلم يكن أحد يتوقع أن ينتهي العام والمنطقة خالية من القوات الفرنسية، وأن يحل محلها مئات المسلحين الروس، وأنّ موسكو ستكون أقربَ من باريس لكثير من أنظمة الحكم في العديد من بلدان القارة السمراء.ورغم أن الفرنسيين كانوا ينشرون في الساحل أكثر من 5 آلاف جندي لمحاربة الإرهاب، بينما أرسل الروس بدورهم مرتزقة شركة «فاغنر» للمساعدة في المهمة نفسها، التي فشل فيها الفرنسيون، فإن الإرهاب ما زال يتمدد، بل إنه ضرب في قلب دول الساحل هذا العام، كما لم يفعل من قبل.

لم يكن الإرهاب حجةً للتدخل العسكري الأجنبي فقط، وإنما كان حجة جيوش دول الساحل للهيمنة على الحكم في انقلابات عسكرية أدخلت الدول الثلاث، مالي، النيجر وبوركينا فاسو، في أزمة حادة مع جيرانها في المجموعة الاقتصادية لدول غرب أفريقيا (إيكواس)، انتهت بالقطيعة التامة وانسحاب الدول الثلاث من المنظمة الإقليمية التي كانت حتى وقت قريب تمثّلُ حلماً جميلاً بالاندماج والتكامل الاقتصادي.

بالإضافة إلى تصاعد الإرهاب والعزلة الإقليمية، حمل عام 2024 معه لدول الساحل تداعيات مدمرة للتغيّر المناخي، فضرب الجفاف كثيراً من المحاصيل الزراعية، وجاءت بعد ذلك فيضانات دمّرت ما بقي من حقول وقرى متناثرة في السافانا، وتسببت في موت الآلاف، وتشريد الملايين في النيجر وتشاد ومالي وبوركينا فاسو.

صورة وزعها الجيش الفرنسي لمقاتلين من المرتزقة الروس خلال صعودهم إلى مروحية في شمال مالي في أبريل 2022 (الجيش الفرنسي - أ.ب)

الخروج الفرنسي

الساحل الذي يصنّف واحدة من أفقر مناطق العالم وأكثرها هشاشة، كان يمثّلُ الجبهة الثانية للحرب الروسية - الأوكرانية، فكان مسرحاً للصراع بين الغرب وروسيا، وقد تصاعد هذا الصراع في عام 2024، وتجاوز النفوذ السياسي والاستراتيجي، إلى ما يشبه المواجهة المباشرة من أجل الهيمنة على مناجم الذهب واليورانيوم وحقول النفط، والموارد الهائلة المدفونة في قلب صحراء يقطنها قرابة 100 مليون إنسان، أغلبهم يعيشون في فقر مدقع.

يمكن القول إن عام 2024 محطة فاصلة في تاريخ الوجود العسكري الفرنسي في منطقة الساحل، خصوصاً أن الفرنسيين دخلوا المنطقة مطلع القرن التاسع عشر، تحت غطاء تجاري واقتصادي، ولكن سرعان ما تحوّل إلى استعمار عسكري وسياسي، هيمن بموجبه الفرنسيون على المنطقة لأكثر من قرن من الزمان، وبعد استقلال هذه الدول، ظلت فرنسا موجودة عسكرياً بموجب اتفاقات للتعاون العسكري والأمني.

ازداد الوجود العسكري الفرنسي في منطقة الساحل بشكل واضح، عام 2013، بعد أن توجّه تنظيم «القاعدة» إلى منطقة الساحل الأفريقي، ليتخذ منها مركزاً لأنشطته بعد الضربات التي تلقاها في أفغانستان والعراق، ومستغلاً في الوقت ذاته الفوضى التي عمّت المنطقة عقب سقوط نظام العقيد الليبي معمر القذافي عام 2011. حينها أصبح الفرنسيون يقودون «الحرب العالمية على الإرهاب» في الساحل، وأطلقوا عملية «سيرفال» العسكرية في يناير (كانون الثاني) 2013، التي تحوّلت عام 2014 إلى عملية «برخان» العسكرية التي كان ينفق عليها الفرنسيون سنوياً مليار يورو، وينشرون فيها أكثر من 5 آلاف جندي في دول مالي والنيجر وبوركينا فاسو وتشاد.

على وقع هذه الحرب الطاحنة بين الفرنسيين وتنظيم «القاعدة»، وانتشار الجنود الفرنسيين بشكل لافت في شوارع المدن الأفريقية، تصاعد الشعور المعادي لفرنسا في الأوساط الشعبية، ما قاد إلى انهيار الأنظمة السياسية الموالية لباريس، وسيطر عسكريون شباب على الحكم في مالي والنيجر وبوركينا فاسو، وكان أول قرار اتخذوه هو «مراجعة» العلاقة مع فرنسا، وهي مراجعة انتهت بالقطيعة التامة.

حزمت القوات الفرنسية أمتعتها وغادرت مالي، ثم بوركينا فاسو والنيجر، ولكن المفاجأة الأكبر جاءت يوم 28 نوفمبر (تشرين الثاني) 2024 حين قررت تشاد إنهاء اتفاقية التعاون العسكري مع فرنسا، وهي التي ظلت دوماً توصف بأنها «حليف استراتيجي» للفرنسيين والغرب في المنطقة.

وبالفعل بدأ الفرنسيون حزم أمتعتهم ومغادرة تشاد دون أي تأخير، وغادرت مقاتلات «ميراج» الفرنسية قاعدة عسكرية في عاصمة تشاد، إنجامينا، يوم الثلاثاء 10 ديسمبر (كانون الأول) الحالي، في حين بدأ الحديث عن خطة زمنية لخروج أكثر من ألف جندي فرنسي كانوا يتمركزون في تشاد.

ربما كان تطور الأحداث خلال السنوات الأخيرة يوحي بأن الفرنسيين في طريقهم إلى فقدان نفوذهم التقليدي في منطقة الساحل، ولكن ما يمكن تأكيده هو أن عام 2024 شكّل «لحظة الإدراك» التي بدأ بعدها الفرنسيون يحاولون التحكم في صيغة «الخروج» من الساحل.

صورة جماعية لقادة دول "الإيكواس" خلال قمتهم في أبوجا بنيجيريا يوم 15 ديسمبر 2024 (أ.ف.ب)

لقد قرَّر الفرنسيون التأقلم مع الوضع الجديد في أفريقيا، حين أدركوا حجم الجهد الضائع في محاولة المواجهة والضغط على الأنظمة العسكرية المتحالفة مع روسيا، فهذه الأنظمة لا تتوقف عن «إذلال» القوة الاستعمارية السابقة بقرارات «استفزازية» على غرار اعتقال 4 موظفين بالسفارة الفرنسية في بوركينا فاسو، واتهامهم بالتجسس، وبعد عام من السجن، أُفرج عنهم بوساطة قادها العاهل المغربي الملك محمد السادس يوم 19 ديسمبر 2024.

وفي النيجر، قرَّر المجلس العسكري الحاكم، في يونيو (حزيران) 2024، إلغاء رخصة شركة فرنسية كانت تستغل منجماً لليورانيوم شمال البلاد، وسبق أن قرَّرت النيجر، على غرار مالي وبوركينا فاسو، منع وسائل الإعلام الفرنسية من البث في البلاد بعد أن اتهمتها بنشر «أخبار كاذبة».

يدخل مثل هذه القرارات ضمن مسار يؤكد أن «النقمة» تجاه الفرنسيين في دول الساحل تحوّلت إلى قرار نهائي بالقطيعة والخروج من عباءة المستعمِر السابق. وفي ظل مخاوف من اتساع رقعة هذه القطيعة لتشمل دولاً أفريقية أخرى ما زالت قريبةً من باريس، وضع الفرنسيون خطةً لإعادة هيكلة وجودهم العسكري في أفريقيا، من خلال تخفيض قواتهم المتمركزة في السنغال، وكوت ديفوار، والغابون، وجيبوتي.

أسند الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون مهمة إعداد هذه الخطة إلى جان-ماري بوكل، حين عيّنه في شهر فبراير (شباط) 2024 مبعوثاً خاصاً إلى أفريقيا، وهي المهمة التي انتهت في نحو 10 أشهر، قدّم بعدها تقريراً خاصاً سلّمه إلى ماكرون، يوم 27 نوفمبر الماضي، ينصح فيه بتقليص عدد القوات الفرنسية المتمركزة إلى الحد الأدنى، وتَحوُّل القواعد العسكرية إلى «مراكز» أكثر مرونة وخفة، هدفها التركيز على التدريب العسكري، وجمع المعلومات الاستخباراتية، وتعزيز الشراكات الاستراتيجية.

الأميركيون أيضاً

حين كان الجميعُ يتحدَّث خلال العقدين الأخيرين عن الانتشار العسكري الفرنسي، والنفوذ الذي تتمتع به باريس في منطقة الساحل وغرب أفريقيا، كان الأميركيون حاضرين ولكن بصمت، ينشرون مئات الجنود من قواتهم الخاصة في النيجر؛ لمساعدة هذا البلد في حربه ضد جماعات مثل «القاعدة»، و«بوكو حرام»، و«داعش». واستخدم الأميركيون في عملياتهم قاعدة جوية في منطقة «أغاديز» خاصة بالطائرات المسيّرة التي تمكِّنهم من مراقبة الصحراء الكبرى وتحركات «القاعدة» من جنوب ليبيا وصولاً إلى شمال مالي.

ولا يزال الأميركيون أوفياء لاستراتيجية الحضور العسكري الصامت في أفريقيا، على العكس من حلفائهم الفرنسيين وخصومهم الروس، ولكن التحولات الأخيرة في منطقة الساحل أرغمتهم على الخروج إلى العلن، خصوصاً حين بدأت مجموعة «فاغنر» تتمتع بالنفوذ في النيجر. حينها أبلغ الأميركيون نظام الحكم في نيامي بأنه لا مجال لدخول «فاغنر» إلى بلد هم موجودون فيه.

وحين اختارت النيجر التوجه نحو روسيا و«فاغنر»، قرَّر الأميركيون في شهر أغسطس (آب) 2024 سحب قواتهم من النيجر، وإغلاق قاعدتهم العسكرية الجوية الموجودة في شمال البلاد.

وأعلن الأميركيون خطةً لإعادة تموضع قواتهم في غرب أفريقيا، فتوجَّهت واشنطن نحو غانا وكوت ديفوار وبنين، وهي دول رفعت من مستوى تعاونها العسكري مع الولايات المتحدة، وتسلّمت مساعدات عسكرية كانت موجهة إلى النيجر، عبارة عن مدرعات وآليات حربية.

دبابة فرنسية على مقربة من نهر النيجر عند مدخل مدينة غاو بشمال مالي يوم 31 يناير 2013 (أ.ب)

البديل الروسي

لقد كانت روسيا جاهزة لاستغلال تراجع النفوذ الغربي في منطقة الساحل، وهي المتمركزة منذ سنوات في ليبيا وجمهورية أفريقيا الوسطى، فنشرت المئات من مقاتلي «فاغنر» في مالي أولاً، ثم في بوركينا فاسو والنيجر، كما عقدت صفقات سلاح كبيرة مع هذه الدول.

لكن موسكو حاولت في العام الماضي أن ترفع من مستوى تحالفها مع دول الساحل إلى مستويات جديدة. فبالإضافة إلى الشراكة الأمنية والعسكرية، كان الروس يطمحون إلى شراكة اقتصادية وتجارية.

ولعل الحدث الأبرز في هذا الاتجاه كان جولة قام بها وفد روسي بقيادة نائب رئيس الوزراء ألكسندر نوفاك، نهاية نوفمبر الماضي، وقادته إلى دول الساحل الثلاث: مالي وبوركينا فاسو والنيجر.

كان الهدف من الجولة هو «تعزيز الشراكة الاقتصادية»، مع تركيز روسي واضح على مجال «الطاقة». فقد ضم الوفد الروسي رجال أعمال وفاعلين في قطاع الطاقة، وسط حديث عن اتفاقات لإقامة محطات لإنتاج الطاقة الشمسية، تتولى شركات روسية تنفيذها في الدول الثلاث.

وفي شهر سبتمبر (أيلول) الماضي، وقَّع رؤساء مالي وبوركينا فاسو والنيجر اتفاقاً مع وكالة الفضاء الروسية، ستقدم بموجبه الوكالة الروسية لهذه الدول «صور الأقمار الاصطناعية»؛ من أجل تعزيز مراقبة الحدود وتحسين الاتصالات، أي أن روسيا أصبحت العين الرقيبة على دول الساحل بعد أن أُغمضت العين الفرنسية. هذا عدا عن نجاح روسيا في اللعب بورقة الأمن الغذائي، فكان القمح الروسي أهم سفير لموسكو لدى دول الساحل، وفي العام الماضي أصبحت موسكو أكبر مورِّد للحبوب لهذه الدول التي تواجه مشكلات كبيرة في توفير حاجياتها من الغذاء، فأصبح القمح الروسي يسيطر على سوق حجمها 100 مليون نسمة.

رغم المكاسب التي حققتها روسيا في منطقة الساحل الأفريقي، فإن عام 2024 حمل معه أول هزيمة تتعرَّض لها مجموعة «فاغنر» الخاصة، منذ أن بدأت القتال إلى جانب الجيش المالي، قبل سنوات عدة.

جاء ذلك حين تصاعدت وتيرة المعارك بين الجيش المالي والمتمردين الطوارق، إثر انسحاب مالي من اتفاقية الجزائر المُوقَّعة بين الطرفين عام 2015، ودخل الطرفان في هدنة بموجبها امتدت لقرابة 10 سنوات. لكن الهدنة انتهت حين قرر الماليون الزحف العسكري نحو الشمال حيث يتمركز المتمردون.

استطاع الجيش المالي، المدعوم من «فاغنر»، أن يسيطر سريعاً على كبريات مدن الشمال، حتى لم تتبقَّ في قبضة المتمردين سوى قرية صغيرة، اسمها تينزواتين، على الحدود مع الجزائر، وعلى مشارفها وقعت معركة نهاية يوليو (تموز) 2024، قُتل فيها العشرات من الجيش المالي و«فاغنر»، ووقع عدد منهم في الأسر.

كانت هزيمة مفاجئة ومذلة، خصوصاً حين نشر المتمردون مقاطع فيديو لعشرات الجثث المتفحمة، بعضها يعود لمقاتلين من «فاغنر»، كان من بينهم قائد الفرقة التي تقدّم الدعم للجيش المالي من أجل استعادة السيطرة على شمال البلاد.

طائرة ميراج فرنسية تُقلع من قاعدة في إنجامينا... (أ.ف.ب)

المفاجأة الأوكرانية

اللافت بعد هزيمة «فاغنر» والجيش المالي في «معركة تينزواتين» هو اكتشاف دور لعبته أوكرانيا في دعم المتمردين من أجل كسر كبرياء روسيا، من خلال إذلال «فاغنر»، وهو ما أكدته مصادر أمنية وعسكرية أوكرانية.

تحدَّثت مصادر عدة عن حصول المتمردين في شمال مالي على تدريب خاص في أوكرانيا، واستفادتهم من طائرات مسيّرة حصلوا عليها من كييف مكّنتهم من حسم المعركة بسرعة، بالإضافة إلى معلومات استخباراتية وفّرتها لهم المخابرات الأوكرانية وكان لها الأثر الكبير في الهزيمة التي لحقت بقوات «فاغنر» وجيش مالي.

لم يكن لأوكرانيا، في الواقع، أي نفوذ في منطقة الساحل الأفريقي، ولا يتجاوز حضورها سفارات شبه نائمة، لكنها وبشكل مفاجئ ألحقت بروسيا أول هزيمة على صحراء مالي، وأصبحت تطمح لما هو أكثر من ذلك. ولكن مالي أعلنت بعد مرور أسبوع على «معركة تينزواتين»، قطع علاقاتها الدبلوماسية مع أوكرانيا، وتبعتها في ذلك النيجر وبوركينا فاسو، كما تقدَّمت مالي بشكوى إلى مجلس الأمن الدولي تتهم فيها أوكرانيا بدعم «الإرهاب» في منطقة الساحل الأفريقي.

رغم مكاسب روسيا في الساحل، إلا إن عام 2024 حمل معه أول هزيمة لمجموعة «فاغنر» منذ أن بدأت القتال إلى جانب جيش مالي

قادة مالي الكولونيل أسيمي غويتا، والنيجر الجنرال عبدالرحمن تياني، وبوركينا فاسو النقيب إبراهيم تراوري خلال لقاء لـ "تحالف دول الساحل" في نيامي، عاصمة النيجر، يوم 6 يوليو الماضي (رويترز)

خطر الإرهاب

في 2024 كثّفت جيوش دول الساحل حربها ضد التنظيمات الإرهابية، ونجحت في تحقيق مكاسب مهمة، وقضت على مئات المقاتلين من تنظيمي «القاعدة» و«داعش»، وقد ساعدت على ذلك الشراكة مع روسيا، حيث حصلت جيوش الساحل على أسلحة روسية متطورة، كما كان هناك عامل حاسم تَمثَّل في مسيّرات «بيرقدار» التركية التي قضت على مئات المقاتلين.

لكن الخطوة الأهم في الحرب، جاءت يوم 6 مارس (آذار) 2024، حين أعلن قادة جيوش دول مالي والنيجر وبوركينا فاسو إنشاء «قوة عسكرية مشتركة»؛ لمواجهة الجماعات الإرهابية التي تنشط في المنطقة، خصوصاً في المناطق الحدودية، ما قلّص من قدرة التنظيمات الإرهابية على التنقل عبر الحدود.

في هذه الأثناء قرَّرت دول الساحل رفع مستوى هذا التعاون مطلع يوليو 2024، من خلال تشكيل «تحالف دول الساحل»؛ بهدف توحيد جهودها في مجال محاربة الإرهاب، ولكن أيضاً مواقفها السياسية والاقتصادية والاستراتيجية، قبل أن تتجه نحو تشكيل عملة موحدة وجواز سفر موحد.

في غضون ذلك، لم تتوقف التنظيمات الإرهابية عن شنِّ هجماتها في الدول الثلاث، ولعل الهجوم الأهم في العام الماضي ذاك الذي نفَّذه تنظيم «القاعدة» يوم 17 سبتمبر الماضي ضد مطار عسكري ومدرسة للدرك في العاصمة المالية باماكو. شكّل الهجوم الذي خلّف أكثر من 70 قتيلاً، اختراقاً أمنياً خطيراً، أثبت من خلاله التنظيم الإرهابي قدرته على الوصول إلى واحدة من أكثر المناطق العسكرية حساسية في قلب دولة مالي.

في يوم 28 يناير 2024 أعلنت الأنظمة العسكرية الحاكمة، في مالي والنيجر وبوركينا فاسو، الانسحاب من المجموعة الاقتصادية لدول غرب أفريقيا (إيكواس)، التي فرضت عقوبات ضد دول الساحل إثر الانقلابات العسكرية التي وقعت فيها، وفي يوليو عادت لتُشكِّل «تحالف دول الساحل».

يؤكد التحالف الجديد رغبة هذه الدول في الانسحاب من المنظمة بشكل نهائي، ولكنه في المقابل يرسم ملامح الصراع الدولي في المنطقة. فتحالف دول الساحل يمثّل المحور الموالي لروسيا، أما منظمة «إيكواس» فهي الحليف التقليدي لفرنسا والغرب.

ورغم أن منظمة «إيكواس» في آخر قمة عقدتها خلال ديسمبر الحالي، تركت الباب مفتوحاً أمام تراجع دول الساحل عن القرار، ومنحتها مهلة 6 أشهر، إلا أن القادة العسكريين لدول الساحل ردوا على المنظمة بأن قرارهم «لا رجعة فيه».