بيروت يا بيروت (1975)
(جيد)
ما تشهده بيروت، تلك المدينة التي كان لها من تعدد الثقافات والحضارات والعز والجمال ما لم يكن متاحاً لأي مدينة عربية، يذكرنا بفيلم مارون بغدادي الأول له في مجال الإخراج «بيروت يا بيروت». إذا لم يكن لشيء فلأن بيروت ذلك الفيلم وبيروت هذا الحاضر يشتركان في مناجاة واحدة. أحدهما واقع لصورة أصلية.
ملصق الفيلم رسم لجزء صغير قديم من المدينة يشبه «قهوة القزاز» (كما كان اسم ذلك المقهى الشعبي الشهير في منطقة عين المريسة) والأرجح أنها له. عنوان الفيلم في الجانب الأعلى بلون أحمر. واللافت أن البحر الذي في الصورة هو أحمر اللون أيضاً.
حسب حديث جرى بيني وبين المخرج الراحل بعد سنوات من إصدار الفيلم، فإن «بيروت يا بيروت» كان تعبيراً عن الشعور الداخلي الذي كان ينتاب المخرج حيال التركيبة الاجتماعية للبنان: «كنت أعيش في (غيتو) مقفل. فيلمي كان عن هذا (الغيتو) والخوف من الآخر، ومن الإقدام على التواصل معه».
تقع أحداث الفيلم ما بين عامي 1969 و1970 وانعكاسات الواقع العربي أيامها هي الحلقة التي يدور الفيلم حولها. لا تتدخل مباشرة فيما يسرده المخرج لكنها حاضرة من خلال أحداث العامين المذكورين، حيث الخلافات العربية في أوجها، والقضية الفلسطينية التي لا تزال تبرح مكانها، ووفاة جمال عبد الناصر... إلخ، وأثرها على الشخصيات. يختار بغدادي نماذج لبنانية صرفة لكن محليّتها تقع في أركان مختلفة. ففي أحد هذه الأركان، نجد المثقف المسيحي (جوزف بونصّار) الآتي من عائلة منغلقة على نفسها وتراثها وتقاليدها، وفي آخر نجد المحامي البيروتي المسلم المنتمي إلى الطموحات القومية والعلمانية، الذي أبدع فيه عزت العلايلي رغم صعوبة اللهجة البيروتية. في الوسط، هناك الشاب الجنوبي (أحمد الزين) الضائع في الواقع المحيط به ولا يجد بداً من ترك بيروت عائداً إلى الجنوب، حيث يموت لاحقاً.
بين هؤلاء الثلاثة فتاة شابة، اسمها ميراي معلوف مسيحية طموحة ومتمردة على الواقع الصعب الذي يمزق المدينة، ولبنان بأسره. لا أحد من هؤلاء ينجح في الوصول بهدفه الذاتي إلى نهاية سعيدة، أو على الأقل إلى وضع أفضل يؤهله لتغيير ما يصبو لتغييره. الواقع يشد الجميع إلى الأرض، ويبقيهم في حيز الرغبة والتمني. بل يغلق عليهم الدائرة التي نفذوا منها سابقاً. هي نهاية غير متفائلة وحزينة، لكنها تستند إلى واقع معيش كان ماثلاً بقوّة قبل وقوع الحرب الأهلية اللبنانية في السنة ذاتها.
في الوقت الذي يعبّر فيه المخرج عن نظرته الذاتية، كونه آتياً من «الغيتو»، كما يقول يحاول استكشاف بعض من الواقع الجديد عليه في بيروت. لكن مدار هذه الإحاطة ليست متوازنة. فبينما تتبدى التقاليد العائلية بوضوح لدى الطرف المسيحي، تبقى غامضة عند الطرف الإسلامي. وهذا مفهوم كون المخرج أتى من الطرف الأول، كذلك مقبول، إلى حد ما، كونه يريد نقد العائلة البرجوازية الممتنعة عن التعامل مع أي طرف آخر أكثر مما هو نقد فعلي للمحامي البيروتي وطموحاته.
فنياً حمل «بيروت يا بيروت» ما اصطلح على تسميته هنّات العمل الأول، إنما بفارق أنها ليست هنات يمكن إغفالها بسهولة. ما يمنح العذر هو أن بغدادي كان يرمي لموضوع يتجاوز قدراته وموهبته وإمكانيات الفيلم المادية أيضاً. كان لا يزال يؤسس لرؤيته وأسلوبه. بعده أخرج عدداً من الأفلام التسجيلية القصيرة والطويلة قبل أن يطلق فيلمه الروائي الثاني «حروب صغيرة» سنة 1982. في هذا الفيلم، التحمت طموحات المخرج الفنية بإمكانيات أعلى وبنتائج أفضل.
سنوات السينما: بيروت يا بيروت (1975)
سنوات السينما: بيروت يا بيروت (1975)
لم تشترك بعد
انشئ حساباً خاصاً بك لتحصل على أخبار مخصصة لك ولتتمتع بخاصية حفظ المقالات وتتلقى نشراتنا البريدية المتنوعة