يعرف دارسو تاريخ العلوم أن سنة 1905 كانت سنة عجائبية Annus Mirabilis بحق عندما أنجز فيها (أينشتاين) أربع دراسات كان من شأنها إحداث ثورة حقيقية في الفيزياء المعاصرة؛ غير أنّ الحقيقة تخبرُنا أنّ سنة 1948 كانت أكثر عجائبية من عام 1905. وبخاصة بعد أن نشر فيها البروفسور (نوربرت فينر)، أستاذ الرياضيات في معهد ماساتشوستس للتقنية MIT، كتاباً بعنوان (السيبرنيتيكا: السيطرة والاتصال في الحيوان والآلة) - ذلك الكتاب الذي جاء انعطافة ثورية في حقل المعلومات والاتصالات على مستوى المكوّنات المادية صعوداً حتى أكثر النظم البيولوجية تعقيداً (الجهاز العصبي البشري على سبيل المثال).
وتمثل وسائل الاتصال واحدة من أهمّ المجالات التي شهدت انقلاباً ثورياً في كلّ الثورات الصناعية: في الثورة الصناعية الأولى شهدنا جهاز «مورس» للتراسل البرقي، وفي الثانية حلّ الهاتف؛ أما في الثالثة فكان «الموبايل» هو الأعجوبة السحرية للعصر الرقمي والممثل المعترف به للثورة الصناعية الثالثة (تسمّى الثورة المعلوماتية أيضاً)، ولنا أن نتساءل عن أسباب ذلك ودلالاته من الوجهتين التقنية والآيديولوجية.
جرت العادة على اختزال القدرة الثورية لكلّ عصر صناعي في كينونة مادية محدّدة لها القدرة على الإيفاء بمتطلبات التمثل الرمزي لطاقة ذلك العصر وقدرته التأثيرية الفائقة في إحداث انعطافة محسوسة في حياة أعظم عدد ممكن من البشر؛ فكان من الطبيعي أن يكون القطار (والماكينة البخارية بعامة) الممثل الرمزي للثورة الصناعية الأولى، وأن تكون السيارة (ومحرك الاحتراق الداخلي بعامة) الممثل الرمزي للثورة الصناعية الثانية؛ أما الثورة الصناعية الثالثة (الثورة المعلوماتية) فكان الموبايل رمزها وعنوان سحرها الرقمي.
لكن من أين تنبع هذه الرمزية التقنية للموبايل في عصر نعرف كم تعني فيه الحاسبات بكلّ أنواعها (بحثية عملاقة ومكتبية وشخصية) ؟ يكمن الجواب في أمرين اثنين: الأول هو شيوع نطاقات الاستخدام وجماهيريته الكاسحة، والثاني هو الدلالة الفكرية اللصيقة بالدلالة الآيديولوجية.
قد يبدو الحاسوب أكثر الكينونات المادية المصنّعة شيوعاً في عالمنا؛ لكنّ أعداد الحواسيب مهما تعاظمت لن تكون سوى نسبة مئوية بسيطة من أعداد الموبايلات المنتشرة على كوكب الأرض، ولا ينبغي أن ننسى وجود موبايلات رخيصة الثمن وبتصاميم مختلفة توفّر للمستخدم ما يحقق رغباته التواصلية أو الفكرية بثمن في الاستطاعة تحمّل عبء تكلفته؛ في حين لا يبدو هذا (الاسترخاء) الشخصي مُتاحاً عند شراء حاسوب، ومن جانب آخر يستلزم تشغيل الموبايل والتعامل الكفؤ معه معرفة تقنية أقلّ بكثير بالخوارزميات الرقمية عند المقارنة مع الحاسوب - وهو الأمر الذي ساهم في شيوع استخدام الموبايل وجعله رمزاً للحداثة الرقمية في عصر الثورة المعلوماتية.
أما على الصعيد الفكري - الفلسفي - الآيديولوجي فيمثل الموبايل كسراً لصلادة الزمان والمكان وتمكيناً للفرد من تمثّل عصر الحداثة السائلة (التعبير الذي استخدمه السوسيولوجي الراحل زيغمونت باومان لوصف عصر ما بعد الحداثة الذي ترافق مع عصر الثورة المعلوماتية). إنّ التواصل اللحظي الذي يتيحه الموبايل مع أي شخص على الأرض كفيل بكسر عزلة الإنسان واختراق حلقات ضعفه الناجمة عن تصورّه بانعدام القدرة على التواصل مع سواه من البشر وعدم مشاركتهم له في دراما وجوده الإنساني التي تحفل بالكثير من اللحظات المحزنة العسيرة، ويفسّر هذا الأمر رغبة الحكومات الشمولية في فرض نوع من التعتيم التواصلي على المرء لتكريس حالة الضعف البشري لديه وتوهين إرادته المضادة وتقوية فكرة أنّ الآخرين لا شأن لهم به.
- المنتج الأكثر حداثة
تنقاد الصناعة الرقمية بكاملها لقانون غريب من نوعه يدعى (قانون مور)، ويرى واضع هذا القانون (وقد وضعه في ستينيات القرن الماضي) أنّ قدرة المعالجة الاحتسابية للمكوّنات الرقمية المادية تتضاعف كلّ 18 شهراً - أو سنتين أحياناً - لأسباب تختصّ بالقدرة المتعاظمة على تصغير المكونات المادية التي تُصنّع منها الرقاقات الإلكترونية Microchips، وقد أثبتت التطورات التقنية المتتالية صحة هذا القانون حتى أوقات قريبة.
إنّ قانون مور هذا الذي ربما لم يسمع به الكثيرون ولا يهتمون به كثيراً هو ما يفسّر تعدّد موديلات الموبايلات وتحديثها كلّ سنة بحيث صار من التقاليد المعروفة ترقّبُ طرح تصميم جديد من أجهزة الموبايلات المعروفة في وقت محدّد من كلّ سنة، وهو أمر لم نشهده من قبلُ مع السيارات أو القاطرات أو الطائرات أو أي منتج من منتجات الثورات الصناعية المتتالية. إنّ اختزال الوقت الواقع بين فترة البحث والتصميم من جهة والتطوير المادي الذي ينتهي بدورة إنتاج تجارية واسعة النطاق هي إحدى معالم الصناعة الرقمية هائلة الاستثمارات في الصناعة المعلوماتية التي يمثل الموبايل رمزها التقني الرائد في عالم اليوم.
- مُفارقة الأمية الرقمية الخوارزمية
يمثل الموبايل كينونة مادية مكتنفة بأعلى أشكال المفارقة بين المعرفة الرقمية من جهة والاستخدام الرقمي اليومي من جهة أخرى، ويبدو واضحاً أنّ هذه المفارقة ستتعاظم في عصر سيادة تطبيقات الذكاء الصناعي. إنّ منشأ هذه المفارقة يكمن في أنّ النظم الرقمية تعمل وفقاً لخوارزميات محدّدة تحكم عمل المنظومة بأكملها، وقلّما تُتاحُ معرفة هذه الخوارزميات إلا لمن يمتلك الخبرة على التعامل مع الخوارزميات، ولا تنفكّ شركات التطوير الرقمي تطوّر هذه المنظومات في شتى التطبيقات والمجالات حتى باتت النظم الرقمية أقرب إلى (ملغّزات لاهوتية) سرية معقدة ليس بمستطاع الأفراد سوى شراء منتجاتها واستخدامها من غير معرفة مسبقة لازمة أو ضرورية بها، وهنا أصبحنا نشهد نوعاً من الأمية الرقمية الخوارزمية التي لا تشكّل عائقاً أمام التطوّر الفكري للأشخاص طالما هم يعرفون كيفية استخدامها فحسب وعلى العكس من الأمية الأبجدية التي تمثل كابحاً خطيراً في مسيرة الارتقاء الفكري للأفراد.
- تسليع لفضاء التواصل
لم يعُد غريباً رؤية مشهد الطوابير المؤلفة من الناس وهم يقفون أفواجاً منذ الليل على أبواب المتاجر التي تعلن بيع النسخ الأولى من إصدار جديد لجهاز موبايل - ذلك المشهد الذي لم نألفه مع أي منتج مادي من منتجات الثورة المعلوماتية. إنّ كل واحد من هؤلاء الواقفين في الطابور يمتلك بالتأكيد جهاز موبايل وإلا ما كان ليتزاحم من أجل الحصول على نسخة جديدة؛ لكنه الهوس الجمعي الذي يشيع ضرورة الحصول على أسبقية في الوصول إلى آخر مبتكرات الحداثة «الموبايلية» رغم أنّ تلك المبتكرات قد تكون طفيفة (مثل شيء من التحسين على الكاميرا أو تطبيقات جديدة... إلخ) ولا تسوّغ المبالغ الهائلة المدفوعة لقاءها، ويبدو أنّ هذا الهوس الجمعي سيستمرّ وتتعاظم أشكاله في السنوات المقبلة.
- كاتبة وروائية ومترجمة عراقية مقيمة في الأردن