العنف نظام ساكن ومعقد لا يمكن تبسيطه

حنة أرندت.. أرادت الخروج من التصورات اللغوية إلى السياق التاريخي

تأليف: حنة أرندت - ترجمة: إبراهيم العريس - الناشر: دار الساقي للطباعة والنشر - عدد الصفحات: 112 صفحة
تأليف: حنة أرندت - ترجمة: إبراهيم العريس - الناشر: دار الساقي للطباعة والنشر - عدد الصفحات: 112 صفحة
TT

العنف نظام ساكن ومعقد لا يمكن تبسيطه

تأليف: حنة أرندت - ترجمة: إبراهيم العريس - الناشر: دار الساقي للطباعة والنشر - عدد الصفحات: 112 صفحة
تأليف: حنة أرندت - ترجمة: إبراهيم العريس - الناشر: دار الساقي للطباعة والنشر - عدد الصفحات: 112 صفحة

حنة أرندت (1906 - 1975) حجر استثنائي في بركة الفلاسفة المعاصرين الراكدة، فهي بإزاء كونها من الأسماء الكبيرة في النظرية السياسية، إلا أن اضطلاعها بالتفلسف العملي عبر مفاهيم ضاجّة وموارة كالعنف والثورة والتطرف والشمولية جعلها واحدة من أهم الأسماء التي تجمع نضالها العملي باطلاعها الفكري ومعرفتها الواسعة حتى وصفها أحد النقاد المؤرخين لها بقوله «حياة هذه الناقدة اللاذعة تجسد أيضا جملة الحياة الفكرية والسياسية في عدة قرون أوروبية»، كما أنها عملت كأستاذة للنظرية السياسية في جامعات عريقة مثل كولومبيا وكاليفورنيا وبيرنستون وتعود جذورها إلى عائلة علمانية من يهود ألمانيا قطنت مدينة ليندن، وكان وصول النازيين بما دشنوه من عهد شمولي راديكالي محطة مركزية في حياة «حنة» دفعتها للانتقال من النظرية إلى الممارسة عبر الدخول في أتون العمل السياسي الذي توجته باعتقالها 1933 على يد المخابرات النازية، وفي نشأتها كان ارتباطها الفكري والعاطفي بالفيلسوف الألماني مارتن هيدغر مؤثرا في شخصيتها ولاحقا تتلمذت على الفيلسوف كارل ياسبرز في جامعة هايدلبرج وقدمت فيها أطروحتها للدكتوراه عام 1928. ربما كان كتابها عن «التوتاليتارية» أشهر ما ألفته إضافة إلى أطروحتها الرائدة «في الثورة» التي تعد بحق واحدة من أهم الكتب التي أسست لمفهوم الثورة وماهيتها وأفكارها وتطبيقاتها من خلال قراءة مختلفة للثورة الفرنسية، إلا أن ذلك لا يلغي كتابها الصغير حجما «في العنف» الكبير في الأسئلة التي يطرحها حول الظاهرة وعلاقتها بالراهن السياسي.
وعلى الرغم من أن الكتاب صدر بالعربية في مطلع التسعينات مع ترجمة أنيقة باذخة بقلم إبراهيم العريس فإن استدعاءه في هذه المرحلة التي يتصاعد فيها العنف مهم جدا لأسباب كثيرة يلخصها أنه واحد من أكثر الكتب التي غاصت في مفهوم العنف وممارسته على مستوى النظرية الفلسفية وليس التحليل السياسي أو الرصد البحثي، وهو ما نحتاجه لفهم هذه الظاهرة المركّبة التي عادة ما يجري الوقوف فيها على الشواطئ والضفاف.
وإذا كانت ظاهرة «العنف» فهما وتحليلا وتفلسفا قديمة قدم التاريخ، فإن أطروحة حنة أرندت قاربت علاقة هذا العنف الكامن لدى البشرية بالسلطة والمجتمع، فبينما يتساءل الفلاسفة عن طبيعة العنف باعتباره لازمة للسلطة والمجتمع وظاهرة تاريخية طبيعية لكن انتقاله للشر المحض والتدمير يطرح ذات السؤال حول العنف غير السياسي، باعتبار أن جزءا من التحليل التاريخي للعنف ارتبط بفلسفات تاريخية مثالية بدءا من أفلاطون والفارابيوالقديس «طوما الأكويني» والقديس «أغسطين» إلا أننا يمكن إعادة تحقيب تاريخية العنف منذ لحظة أفلاطون وحواراته التي تدور حول العدالة والمساواة والسعادة والفضيلة والعلم ومن هنا يرى أفلاطون صراحة أن السياسة لا تقاس بالقوة ولا بالأسلحة، بل بالتمسك بالفضيلة، لأنّ غاية الدولة عنده هي إسعاد الإنسان لا الدفع به نحو الاقتتال، في حين رأى أرسطو أن السياسة كامنة في ذات الإنسان، وذلك في توفيقه بين الديمقراطية والأرستقراطية، فإنّ السعادة تنبثق من خلال هذا التوفيق بين هذين النظامين، وتنعدم في ظل سيادة نظام على آخر، حيث يسود العنف.
ويطرح الفارابي فكرته بوضوح أكبر وتطور لثنائية العنف والسياسية في المدينة الفاضلة مؤكدا على أنّ الغلبة والقهر من خاصية المدينة الضالة، في حين أنّ السياسة الحكيمة والقويمة هي التي تؤدي إلى إسعاد الإنسان، ولا يمكن إلا أن تسود المدينة الفاضلة وحدها، وهي المتميزة بالعدل والعقل.
مقاربة حنة أرندت تذهب بعيدا عن استخدام أداة الأخلاق في قراءة العلائق الوشيجة بين السياسة والعنف، حيث تذهب أولا إلى قراءة السياسة من زاوية التفاعل والتواصل الذي يطبع العلاقات بين الناس في إطار من الاختلاف والتمايز بينهم وتساويهم، رغم اختلافهم وتمايزهم، إذ إنّ هذا الاختلاف والتمايز في نظرها هو ما يضمن ألا تتحول السياسة إلى العنف، وهنا تنتقل بالمفهوم من مثاليته إلى واقعية مفرطة تحاول الخروج من أقواس الثنائيات المتعارضة التي طرحتها الفلسفة الكلاسيكية.
حنة أرندت تقفز على التراث الماركسي كله الذي أعاد مركزية العنف الثوري باعتباره ضرورة تاريخية، فالباحث في تاريخ الأفكار الفلسفية الكبرى لا يمكن أن يتجاهل تأثير الفلسفة الماركسية في إعادة تدوير مفهوم العنف باعتباره ضرورة تاريخية لتنظيم الثورة وتأطير العنف الجماهيري؛ فالعنف الثوري وسيلة للقضاء على العنف للوصول إلى مجتمع جديد تغيب فيه السياسة والعنف.
وهنا جزء شخصي في حياتها مهم جدا لا يمكن تجاهله ويعطي لأطروحاتها حول العنف والثورة معان جديدة، فالمتابع لسيرة حياة حنة أرندت يدرك علاقتها الوطيدة بالفيلسوف الألماني الأشهر هيدغر الذي في مفارقة تاريخية أيد النظام النازي لفترة قصيرة، ثم تراجع وصمت، ولكن من دون تسويغ أو تبرير لموقفه، إلا أن تعددية حنة أرندت جعلتها لا توجه له أي نقد حتى بعدما توقفت الحرب وسقط النظام النازي، بل أبعد من ذلك كتبت حنة أرندت وهي اليهودية في ذلك الزمان النازي إعادة قراءة للمحرقة من جديد كظاهرة عنفية غير مفارقة لرؤيتها للعنف وللتاريخ ومن زاوية سياسية محددة.
ترفض حنة أرندت كل التصورات المسبقة عن «العنف» وتراها اختزالية وناقصة بسبب وجود العوائق الإبستيمولوجية أمام فهم العنف وعقله. خاصة تلك المعرفة التي جعلت من العنف ظاهرة عادية، كما تنتقد مفهوم إنجلز للعنف باعتباره محرك الاقتصاد، وبالتالي فالعنف هنا لا يعبر عن الطبيعة العدوانية اللاواعية للإنسان، التي لا يمكن السيطرة عليها، بل عن المصالح الاقتصادية والشره نحو الرفاه والرغبة في الهيمنة على الموارد.
كما أن أرندت تتعالى على مدارس التحليل النفسي التي ترى في العنف غريزة لا سيما تجاه تيار إيريك فروم تلميذ فرويد وتؤكد أن «استمرار وجود الحرب بيننا اليوم، لا يعني وجود عشق للموت في قلب النوع البشري، أو لغريزة تدميرية لا يمكن قهرها».
العنف ببساطة لدى أرندت نظام اجتماعي ساكن ومضمر وقارّ، ويحتوي في جوهره على أشكال متصارعة من التنظيمات الاجتماعية، وبالتالي لم يظهر تاريخيا شكل أو نمط واحد للعنف، ومن هنا فإن كل الصراعات القديمة فقدت كل معانيها في الزمن المعاصر، فالعنف الجديد مختلف جذريا عن سوابقه، فالعنف المعاصر أكثر عقلانية من وجهة نظرها لأنه يسعى إلى قهر الخصم وإخضاعه وإضعافه، عن طريق الكثير من الوسائل، وأهمها السباق المحموم نحو التسلح الذي لا يعد إعدادا للحرب بقدر أنه وسيلة ناجعة للإخضاع والسلم طويل الأجل.
وفي ذات السياق تعود أرندت وتؤكد بعد حديثها عن العنف العقلاني بين الدول أنه غير قادر على خلق أسباب قيادة التاريخ وتوجيهه، أو التشجيع على الثورة والدفاع عن التقدم، غير أنه يستطيع تحويل الاضطرابات والاحتجاجات إلى مسرح واقعي وبشكل جذري قد يغير توجهات الجماهير، وهنا مكمن سر تأثير العنف.
تنتقد أرندت عنف المجموعات الصغيرة خاصة الحركات الطلابية، حيث تراه مفهوما لم يبن على نظرية متماسكة بل يعيش جهلا مركبا من حيث فهم نظرية الصراع في شكلها الماركسي، وتذهب ساخرة إلى أن كثيرا من قادة العنف الطلابي والجماهيري لم يقرأوا مارسك أو إنجلز، كما أنها ترى في ادعاءات سارتر وسورل حول العنف مجرد تخرصات لا مسؤولة وتنتقد بشدة مقولة سورل عن تأثير وسحر الإضراب العام.
تسعى حنة جاهدة إلى التفريق بين العنف ومفاهيم مقاربة له في ذات الحقل الدلالي كمفهوم السلطة والقوة والنفوذ والقدرة، وترى أن أزمة المفكرين في الخلط بين هذه المفاهيم واستعمالاتها، لذلك ترفض مجرد إعمال التصورات اللغوية، وترك الأهم وهو التصور التاريخي للعنف.
لكنها تميّز بين عنف السلطة وعنف الأفراد باعتبار أن السلطة هي الحكم، إلا أن التحولات التي أصابت مفهوم الدولة الآن هي جزء من وجهة نظر حنة أرندت من اختراق الأفكار الماركسية للمفاهيم العامة، وبسببه ظهر مفهوم الدولة التسلطية التي تعلب دور إخضاع مواطنيها، وبالتالي لم يصبح المجال العام مجالا لممارسة الحرية بقدر تحوله إلى إنتاج أو على الأقل إدارة العنف بين مكونات المجتمع.
بالنسبة للإرهاب المبني على رافعة دينية فتؤكد حنة أرندت أنه وإن كان معظمه توتاليتاريًّا من حيث طبيعته، فهو ظاهرة خاصة بنوع المجتمعات التي تسعى وراء الحداثة واكتساب طرائق العَلمانية، أي المجتمعات التي تبحث عن التغيير، سواء المادي أو المعنوي.
وبالتالي هو مفارق للإرهاب السياسي الذي لا يعدو أن يكون سوى سلوكا رمزيا قائما على استخدام منظَّم للعنف بسبب ارتفاع منسوب الخوف والقلق. فاستخدام هذا النوع من العنف هو أحد مكوِّنات الفعل الإرهابي الذي يدخل في نزاع مع دولة القانون حول إمكانات الأمَّة وتاريخها. فهو صراع من أجل امتلاك الحقيقة. فالإرهاب ينطلق من رفض المجتمع، دون أن يكون هناك هدف واضح من هذا الرفض أو غاية محددة؛ فهو يحتوي بداخله على الفوضى والعشوائية.
العنف سلوك خارج بنية الدولة هو مفهوم قائم على حل التناقضات بالقوة، لكن الإرهاب هو شكل لليأس يعبر عنه المنخرطون فيه على طريقة الاقتصاص والانتقام، هذا الانتقام الذي لا يستحضر أي معنى من معاني العنف وعلاقتها بتغيير الوضع القائم.



تساؤلات حول قيادة «داعش»

فيديو يُظهر {داعشي} يطلق النار خلال اشتباكات مع «قوات سوريا الديمقراطية» في بلدة الباغوز مارس الماضي (أ.ب)
فيديو يُظهر {داعشي} يطلق النار خلال اشتباكات مع «قوات سوريا الديمقراطية» في بلدة الباغوز مارس الماضي (أ.ب)
TT

تساؤلات حول قيادة «داعش»

فيديو يُظهر {داعشي} يطلق النار خلال اشتباكات مع «قوات سوريا الديمقراطية» في بلدة الباغوز مارس الماضي (أ.ب)
فيديو يُظهر {داعشي} يطلق النار خلال اشتباكات مع «قوات سوريا الديمقراطية» في بلدة الباغوز مارس الماضي (أ.ب)

من يقود تنظيم داعش الإرهابي الآن؟ وما سر عدم ظهور إبراهيم الهاشمي القرشي، زعيم «داعش» الجديد، حتى اللحظة؟ ولماذا تعمد التنظيم إخفاء هوية «القرشي» منذ تنصيبه قبل شهرين؟ وهل هناك تغير في شكل التنظيم خلال الفترة المقبلة، عبر استراتيجية إخفاء هوية قادته، خوفاً عليهم من الرصد الأمني بعد مقتل أبو بكر البغدادي؟ تساؤلات كثيرة تشغل الخبراء والمختصين، بعدما خيم الغموض على شخصية زعيم «داعش» الجديد طوال الفترة الماضية. خبراء في الحركات الأصولية أكدوا لـ«الشرق الأوسط» أن «التنظيم يعاني الآن من غياب المركزية في صناعة القرار».
ويرجح خبراء التنظيمات المتطرفة أن «يكون (داعش) قد قرر إخفاء هوية (القرشي) تماماً، في محاولة لحمايته، وأن إعلان (القرشي) زعيماً من قبل كان شكلاً من أشكال التمويه فقط، لإخفاء حقيقة الخلاف الدائر داخل التنظيم». كما شكك الخبراء في «وجود شخصية (القرشي) من الأساس».
وأعلن «داعش»، في تسجيل صوتي بثه موقع «الفرقان»، الذراع الإعلامية للتنظيم، في نهاية أكتوبر (تشرين الأول) الماضي، تنصيب «القرشي» خلفاً للبغدادي الذي قتل في أعقاب غارة أميركية، وتعيين أبو حمزة القرشي متحدثاً باسم التنظيم، خلفاً لأبو الحسن المهاجر الذي قتل مع البغدادي. وكان الرئيس الأميركي دونالد ترمب قد أعلن «مقتل البغدادي في عملية عسكرية أميركية شمال غربي سوريا».
ورغم أن مراقبين أكدوا أن «(القرشي) هو القاضي الأول في التنظيم، وكان يرأس اللجنة الشرعية»، فإن مصادر أميركية ذكرت في وقت سابق أن «(القرشي) عُرف بلقب الحاج عبد الله، وعُرف أيضاً باسم محمد سعيد عبد الرحمن المولى، وكان أحد قادة تنظيم القاعدة في العراق، وقاتل ضد الأميركيين». لكن عمرو عبد المنعم، الباحث في شؤون الحركات الأصولية بمصر «شكك في وجود (القرشي) من الأساس»، قائلاً: إن «(القرشي) شخصية غير حقيقية، وهناك أكثر من إدارة تدير (داعش) الآن».
وأكد أحمد بان، الخبير في شؤون الحركات الأصولية بمصر، أنه «بطبيعة الحال، لا يمكن أن نحدد من يقود (داعش) الآن، حتى هذا الإعلان (أي تنصيب القرشي) قد يكون شكلاً من أشكال التمويه، لإخفاء حقيقة الخلاف الدائر داخل التنظيم»، مضيفاً: «نحن أمام عدد من الاحتمالات: الاحتمال الأول هو أن تكون شخصية (القرشي) حقيقية لكن يتم إخفاءها، وعدم ظهوره إلى الآن هو من أجل تأمين حياته، وعدم مطاردته من قبل أجهزة الدول. والاحتمال الثاني أننا أمام شخصية (وهمية)، والتنظيم لا يزال منقسماً حول فكرة اختيار خليفة للبغدادي. أما الاحتمال الثالث فأننا أمام صراع حقيقي داخل التنظيم حول خلافة (البغدادي)».
وتحدث المراقبون عن سبب آخر لإخفاء «داعش» هوية «القرشي»، وهو «الخوف من الانشقاقات التي تضرب التنظيم من قبل مقتل البغدادي، بسبب الهزائم التي مُني بها في سوريا والعراق، خاصة أن نهج إخفاء المعلومات والتفاصيل التي تتعلق بقادة (داعش) استخدمه التنظيم من قبل، حين تم تعيين أبو حمزة المهاجر وزيراً للحرب (على حد تعبير التنظيم) في عهد البغدادي، وتم الكشف عن اسمه في وقت لاحق».
وكان البغدادي قد استغل فرصة الاضطرابات التي حدثت في سوريا، وأسس فرعاً لتنظيمه هناك، كما استغل بعض الأحداث السياسية في العراق، وقدم نفسه وتنظيمه على أنهم المدافعون عن الإسلام (على حد زعمه)، فاكتسب في البداية بيئة حاضنة ساعدته على احتلال المزيد من الأراضي العراقية التي أسس عليها «دولته المزعومة». وفي عام 2014، أعلن البغدادي نفسه «خليفة مزعوماً» من على منبر مسجد النوري الكبير، في مدينة الموصل، ثم اختفى بعدها لمدة 5 سنوات، ولم يظهر إلا في أبريل (نيسان) الماضي، في مقطع فيديو مصور مدته 18 دقيقة، ليعلن «انتهاء السيطرة المكانية لـ(دولته المزعومة)، وسقوط آخر معاقلها في الباغوز السورية». وقال المراقبون إنه «رغم أن ظهور البغدادي كان قليلاً في السنوات الأخيرة قبل مقتله، فإن أخباره كانت دائمة الانتشار، كما عمد مع بداية الإعلان عن (دولته المزعومة) إلى الظهور المتكرر، وهو ما لم يفعله (القرشي)».
وأكد عبد المنعم أن «هوية (القرشي) كانت لا بد أن تختفي تماماً لحمايته»، مدللاً على ذلك بأنه «في ثمانينات القرن الماضي، كانت التنظيمات الإرهابية تعلن عن أكثر من اسم للقيادة، حتى تحميه من التتبع الأمني»، موضحاً: «يبدو أن هوية (القرشي) الحقيقة بالنسبة لعناصر التنظيم ليست بالأهمية ذاتها، لأن ما يهمهم هو وجود الزعيم على هرم التنظيم، ضمن إطار وإرث ديني... وهذا أهم بكثير للعناصر من الإعلان عن هوية الرجل (أي القرشي)»، مدللاً على ذلك بأنه «في الأيام التي أعقبت إعلان تعيين (القرشي)، تساءلت مجموعة صغيرة من عناصر التنظيم على موقع التواصل (تليغرام) عن هوية الزعيم الجديد. وبعد أيام من تساؤلاتهم، وعندما طلب منهم مبايعة (القرشي)، قلت التساؤلات. ولهذا، من الواضح أن هوية الرجل بدت غير مهمة لهم، بل المهم هو أنه زعيم (داعش)، ويحتاج إلى دعمهم».
وحث أبو حمزة القرشي، متحدث «داعش» الجديد، أتباعه في رسالته الصوتية الأخيرة على «الالتزام بما أصدره البغدادي في رسالته في سبتمبر (أيلول) الماضي، التي طالب فيها بتحرير أنصار التنظيم من السجون، وتجنيد أتباع جدد لاستكمال المهمة، وتأكيد مواصلة التنظيم تمدده في الشرق الأوسط وخارجه».
ومن جهته، أضاف عبد المنعم أن «التنظيم دشن قبل أيام كتيبة أطلق عليها (الثأر للبغدادي والمهاجر)، بهدف الانتقام لمقتل البغدادي والمهاجر، كما جرى سجن عدد من قيادات التنظيم، مُرجح أنها تورطت في تسريب معلومات بطريقة غير مباشرة لعناصر في تنظيم (حراس الدين)»، موضحاً أن «المركز الإعلامي للتنظيم يعاني حالياً من عدم وجود اتصال مع باقي المراكز التابعة للتنظيم، ويعاني من حالة ارتباك شديدة».
وهدد المتحدث باسم التنظيم الجديد الولايات المتحدة، قائلاً: «لا تفرحوا بمقتل الشيخ البغدادي». وقال عبد المنعم: «يبدو أن (داعش) قرر عدم التعامل بالشكل التقليدي في التسجيلات والظهور المباشر لـ(القرشي)، مثلما كان يحدث مع البغدادي»، لافتاً إلى أن «عمليات (داعش) منذ تولي (القرشي) لم تشهد أي حراك، على عكس شهري أبريل وسبتمبر الماضيين، اللذين شهدا حراكاً، عقب بث تسجيلين: واحد مصور والآخر صوتي للبغدادي».
وكان أبو بكر البغدادي قد ذكر في سبتمبر (أيلول) الماضي أن «تنظيمه لا يزال موجوداً، رغم توسعه في البداية، ومن ثم الانكماش»، وأن ذلك يعد (اختباراً من الله)»، على حد زعمه.
وقال عمرو عبد المنعم إن «قنوات (داعش) واصلت بث أخبارها كالمعتاد، وأبرز ما نقلته هذه القنوات أخيراً إصدار مرئي جديد على شاكلة (صليل الصوارم)، بعنوان (لن يضروكم إلا أذى)، مدته 11 دقيقة، وفيه متحدث رئيسي مُقنع يتوعد بالثأر من عملية (التراب الأسود) التي أطلقتها القوات العراقية ضد (داعش) في سبتمبر (أيلول) الماضي. وفي نهاية الإصدار، ظهر مقاتلون ملثمون يبايعون الخليفة الجديد».
وبايع فرع «داعش» في الصومال «القرشي» في نوفمبر (تشرين الثاني) الماضي، حيث نشر فرع التنظيم صوراً على موقع التواصل الاجتماعي «إنستغرام» لنحو 12 عنصراً يقفون بين الأشجار، وعليها تعليق يقول: «إنهم يعلنون مبايعة (القرشي)». كما بايع «ولاية سيناء»، الموالي لـ«داعش» في مصر، «القرشي»، ونشر في إصدار مرئي صوراً لمجموعة قال إنهم من العناصر التي بايعت «القرشي». ويشار إلى أنه ما زالت بعض أفرع تنظيم داعش حول العالم لم تعلن مبايعتها لـ«القرشي» حتى الآن، وفي مقدمتها «ولاية خراسان» في أفغانستان، و«ولاية غرب أفريقيا» (بوكو حرام سابقاً) في نيجيريا.
وحول وجود تغير في استراتيجية «داعش» في الفترة المقبلة، بالاعتماد على إخفاء شخصيات قادته، أكد الخبير الأصولي أحمد بان أن «هذه المرحلة ليست مرحلة الإمساك بالأرض من جديد، والسيطرة عليها، أو ما يسمى (الخلافة)، لكن مرحلة ترميم مجموعات التنظيم، وإعادة التموضع في ساحات جديدة، ومحاولة كسب ولاءات جماعات أخرى، قبل أن نصل إلى عنوان جديد، ربما يعكس ظهور تنظيم جديد، قد يكون أخطر من تنظيم (داعش). لكن في كل الأحوال، هيكلية (داعش) تغيرت، من مرحلة الدولة (المزعومة) إلى مرحلة (حروب النكاية) إلى مرحلة إعادة التنظيم والتموضع؛ وكل مرحلة تطرح الشكل المناسب لها. وفي هذه المرحلة (أي الآن)، أتصور أن التنظيم قد تشظى إلى مجموعات صغيرة، وأن هناك محاولة لكسب ولاء مجموعات جديدة في دول متعددة».
أما عمرو عبد المنعم، فقد لفت إلى أن «(داعش) فقد مركزية صناعة القرار الآن، وهناك عملية (انشطار) في المرحلة المقبلة للتنظيم، ولن يكرر التنظيم فكرة القيادة المركزية من جديد، لذلك لم يظهر (القرشي) على الإطلاق حتى الآن، لو كان له وجود حقيقي، وهذا على عكس ما كان يظهر به البغدادي، ويحث العناصر دائماً على الثبات والصبر»، محذراً في الوقت ذاته من «خطوة (حرب العصابات) التي قد يشنها التنظيم، وقتال الشوارع واستنزاف القوى الكبرى، وهي الاستراتيجية القديمة نفسها للتنظيم، مع زيادة العنصر (الانفرادي) الذي يعرف بـ(الذئاب المنفردة)».
وقال المراقبون إن «التنظيم تحول منذ سقوط بلدة الباغوز في مارس (آذار) الماضي، ونهاية (الخلافة المزعومة) بعد عدة سنوات من إرسائها، نحو اعتماد (نهج العصابات). وقاد البغدادي (داعش) بعد استيلائه على مناطق شاسعة في العراق وسوريا، قبل أن يتهاوى التنظيم خلال الأشهر الماضية نتيجة خسائره، وفرار عدد كبير من عناصره».