العنف نظام ساكن ومعقد لا يمكن تبسيطه

حنة أرندت.. أرادت الخروج من التصورات اللغوية إلى السياق التاريخي

تأليف: حنة أرندت - ترجمة: إبراهيم العريس - الناشر: دار الساقي للطباعة والنشر - عدد الصفحات: 112 صفحة
تأليف: حنة أرندت - ترجمة: إبراهيم العريس - الناشر: دار الساقي للطباعة والنشر - عدد الصفحات: 112 صفحة
TT

العنف نظام ساكن ومعقد لا يمكن تبسيطه

تأليف: حنة أرندت - ترجمة: إبراهيم العريس - الناشر: دار الساقي للطباعة والنشر - عدد الصفحات: 112 صفحة
تأليف: حنة أرندت - ترجمة: إبراهيم العريس - الناشر: دار الساقي للطباعة والنشر - عدد الصفحات: 112 صفحة

حنة أرندت (1906 - 1975) حجر استثنائي في بركة الفلاسفة المعاصرين الراكدة، فهي بإزاء كونها من الأسماء الكبيرة في النظرية السياسية، إلا أن اضطلاعها بالتفلسف العملي عبر مفاهيم ضاجّة وموارة كالعنف والثورة والتطرف والشمولية جعلها واحدة من أهم الأسماء التي تجمع نضالها العملي باطلاعها الفكري ومعرفتها الواسعة حتى وصفها أحد النقاد المؤرخين لها بقوله «حياة هذه الناقدة اللاذعة تجسد أيضا جملة الحياة الفكرية والسياسية في عدة قرون أوروبية»، كما أنها عملت كأستاذة للنظرية السياسية في جامعات عريقة مثل كولومبيا وكاليفورنيا وبيرنستون وتعود جذورها إلى عائلة علمانية من يهود ألمانيا قطنت مدينة ليندن، وكان وصول النازيين بما دشنوه من عهد شمولي راديكالي محطة مركزية في حياة «حنة» دفعتها للانتقال من النظرية إلى الممارسة عبر الدخول في أتون العمل السياسي الذي توجته باعتقالها 1933 على يد المخابرات النازية، وفي نشأتها كان ارتباطها الفكري والعاطفي بالفيلسوف الألماني مارتن هيدغر مؤثرا في شخصيتها ولاحقا تتلمذت على الفيلسوف كارل ياسبرز في جامعة هايدلبرج وقدمت فيها أطروحتها للدكتوراه عام 1928. ربما كان كتابها عن «التوتاليتارية» أشهر ما ألفته إضافة إلى أطروحتها الرائدة «في الثورة» التي تعد بحق واحدة من أهم الكتب التي أسست لمفهوم الثورة وماهيتها وأفكارها وتطبيقاتها من خلال قراءة مختلفة للثورة الفرنسية، إلا أن ذلك لا يلغي كتابها الصغير حجما «في العنف» الكبير في الأسئلة التي يطرحها حول الظاهرة وعلاقتها بالراهن السياسي.
وعلى الرغم من أن الكتاب صدر بالعربية في مطلع التسعينات مع ترجمة أنيقة باذخة بقلم إبراهيم العريس فإن استدعاءه في هذه المرحلة التي يتصاعد فيها العنف مهم جدا لأسباب كثيرة يلخصها أنه واحد من أكثر الكتب التي غاصت في مفهوم العنف وممارسته على مستوى النظرية الفلسفية وليس التحليل السياسي أو الرصد البحثي، وهو ما نحتاجه لفهم هذه الظاهرة المركّبة التي عادة ما يجري الوقوف فيها على الشواطئ والضفاف.
وإذا كانت ظاهرة «العنف» فهما وتحليلا وتفلسفا قديمة قدم التاريخ، فإن أطروحة حنة أرندت قاربت علاقة هذا العنف الكامن لدى البشرية بالسلطة والمجتمع، فبينما يتساءل الفلاسفة عن طبيعة العنف باعتباره لازمة للسلطة والمجتمع وظاهرة تاريخية طبيعية لكن انتقاله للشر المحض والتدمير يطرح ذات السؤال حول العنف غير السياسي، باعتبار أن جزءا من التحليل التاريخي للعنف ارتبط بفلسفات تاريخية مثالية بدءا من أفلاطون والفارابيوالقديس «طوما الأكويني» والقديس «أغسطين» إلا أننا يمكن إعادة تحقيب تاريخية العنف منذ لحظة أفلاطون وحواراته التي تدور حول العدالة والمساواة والسعادة والفضيلة والعلم ومن هنا يرى أفلاطون صراحة أن السياسة لا تقاس بالقوة ولا بالأسلحة، بل بالتمسك بالفضيلة، لأنّ غاية الدولة عنده هي إسعاد الإنسان لا الدفع به نحو الاقتتال، في حين رأى أرسطو أن السياسة كامنة في ذات الإنسان، وذلك في توفيقه بين الديمقراطية والأرستقراطية، فإنّ السعادة تنبثق من خلال هذا التوفيق بين هذين النظامين، وتنعدم في ظل سيادة نظام على آخر، حيث يسود العنف.
ويطرح الفارابي فكرته بوضوح أكبر وتطور لثنائية العنف والسياسية في المدينة الفاضلة مؤكدا على أنّ الغلبة والقهر من خاصية المدينة الضالة، في حين أنّ السياسة الحكيمة والقويمة هي التي تؤدي إلى إسعاد الإنسان، ولا يمكن إلا أن تسود المدينة الفاضلة وحدها، وهي المتميزة بالعدل والعقل.
مقاربة حنة أرندت تذهب بعيدا عن استخدام أداة الأخلاق في قراءة العلائق الوشيجة بين السياسة والعنف، حيث تذهب أولا إلى قراءة السياسة من زاوية التفاعل والتواصل الذي يطبع العلاقات بين الناس في إطار من الاختلاف والتمايز بينهم وتساويهم، رغم اختلافهم وتمايزهم، إذ إنّ هذا الاختلاف والتمايز في نظرها هو ما يضمن ألا تتحول السياسة إلى العنف، وهنا تنتقل بالمفهوم من مثاليته إلى واقعية مفرطة تحاول الخروج من أقواس الثنائيات المتعارضة التي طرحتها الفلسفة الكلاسيكية.
حنة أرندت تقفز على التراث الماركسي كله الذي أعاد مركزية العنف الثوري باعتباره ضرورة تاريخية، فالباحث في تاريخ الأفكار الفلسفية الكبرى لا يمكن أن يتجاهل تأثير الفلسفة الماركسية في إعادة تدوير مفهوم العنف باعتباره ضرورة تاريخية لتنظيم الثورة وتأطير العنف الجماهيري؛ فالعنف الثوري وسيلة للقضاء على العنف للوصول إلى مجتمع جديد تغيب فيه السياسة والعنف.
وهنا جزء شخصي في حياتها مهم جدا لا يمكن تجاهله ويعطي لأطروحاتها حول العنف والثورة معان جديدة، فالمتابع لسيرة حياة حنة أرندت يدرك علاقتها الوطيدة بالفيلسوف الألماني الأشهر هيدغر الذي في مفارقة تاريخية أيد النظام النازي لفترة قصيرة، ثم تراجع وصمت، ولكن من دون تسويغ أو تبرير لموقفه، إلا أن تعددية حنة أرندت جعلتها لا توجه له أي نقد حتى بعدما توقفت الحرب وسقط النظام النازي، بل أبعد من ذلك كتبت حنة أرندت وهي اليهودية في ذلك الزمان النازي إعادة قراءة للمحرقة من جديد كظاهرة عنفية غير مفارقة لرؤيتها للعنف وللتاريخ ومن زاوية سياسية محددة.
ترفض حنة أرندت كل التصورات المسبقة عن «العنف» وتراها اختزالية وناقصة بسبب وجود العوائق الإبستيمولوجية أمام فهم العنف وعقله. خاصة تلك المعرفة التي جعلت من العنف ظاهرة عادية، كما تنتقد مفهوم إنجلز للعنف باعتباره محرك الاقتصاد، وبالتالي فالعنف هنا لا يعبر عن الطبيعة العدوانية اللاواعية للإنسان، التي لا يمكن السيطرة عليها، بل عن المصالح الاقتصادية والشره نحو الرفاه والرغبة في الهيمنة على الموارد.
كما أن أرندت تتعالى على مدارس التحليل النفسي التي ترى في العنف غريزة لا سيما تجاه تيار إيريك فروم تلميذ فرويد وتؤكد أن «استمرار وجود الحرب بيننا اليوم، لا يعني وجود عشق للموت في قلب النوع البشري، أو لغريزة تدميرية لا يمكن قهرها».
العنف ببساطة لدى أرندت نظام اجتماعي ساكن ومضمر وقارّ، ويحتوي في جوهره على أشكال متصارعة من التنظيمات الاجتماعية، وبالتالي لم يظهر تاريخيا شكل أو نمط واحد للعنف، ومن هنا فإن كل الصراعات القديمة فقدت كل معانيها في الزمن المعاصر، فالعنف الجديد مختلف جذريا عن سوابقه، فالعنف المعاصر أكثر عقلانية من وجهة نظرها لأنه يسعى إلى قهر الخصم وإخضاعه وإضعافه، عن طريق الكثير من الوسائل، وأهمها السباق المحموم نحو التسلح الذي لا يعد إعدادا للحرب بقدر أنه وسيلة ناجعة للإخضاع والسلم طويل الأجل.
وفي ذات السياق تعود أرندت وتؤكد بعد حديثها عن العنف العقلاني بين الدول أنه غير قادر على خلق أسباب قيادة التاريخ وتوجيهه، أو التشجيع على الثورة والدفاع عن التقدم، غير أنه يستطيع تحويل الاضطرابات والاحتجاجات إلى مسرح واقعي وبشكل جذري قد يغير توجهات الجماهير، وهنا مكمن سر تأثير العنف.
تنتقد أرندت عنف المجموعات الصغيرة خاصة الحركات الطلابية، حيث تراه مفهوما لم يبن على نظرية متماسكة بل يعيش جهلا مركبا من حيث فهم نظرية الصراع في شكلها الماركسي، وتذهب ساخرة إلى أن كثيرا من قادة العنف الطلابي والجماهيري لم يقرأوا مارسك أو إنجلز، كما أنها ترى في ادعاءات سارتر وسورل حول العنف مجرد تخرصات لا مسؤولة وتنتقد بشدة مقولة سورل عن تأثير وسحر الإضراب العام.
تسعى حنة جاهدة إلى التفريق بين العنف ومفاهيم مقاربة له في ذات الحقل الدلالي كمفهوم السلطة والقوة والنفوذ والقدرة، وترى أن أزمة المفكرين في الخلط بين هذه المفاهيم واستعمالاتها، لذلك ترفض مجرد إعمال التصورات اللغوية، وترك الأهم وهو التصور التاريخي للعنف.
لكنها تميّز بين عنف السلطة وعنف الأفراد باعتبار أن السلطة هي الحكم، إلا أن التحولات التي أصابت مفهوم الدولة الآن هي جزء من وجهة نظر حنة أرندت من اختراق الأفكار الماركسية للمفاهيم العامة، وبسببه ظهر مفهوم الدولة التسلطية التي تعلب دور إخضاع مواطنيها، وبالتالي لم يصبح المجال العام مجالا لممارسة الحرية بقدر تحوله إلى إنتاج أو على الأقل إدارة العنف بين مكونات المجتمع.
بالنسبة للإرهاب المبني على رافعة دينية فتؤكد حنة أرندت أنه وإن كان معظمه توتاليتاريًّا من حيث طبيعته، فهو ظاهرة خاصة بنوع المجتمعات التي تسعى وراء الحداثة واكتساب طرائق العَلمانية، أي المجتمعات التي تبحث عن التغيير، سواء المادي أو المعنوي.
وبالتالي هو مفارق للإرهاب السياسي الذي لا يعدو أن يكون سوى سلوكا رمزيا قائما على استخدام منظَّم للعنف بسبب ارتفاع منسوب الخوف والقلق. فاستخدام هذا النوع من العنف هو أحد مكوِّنات الفعل الإرهابي الذي يدخل في نزاع مع دولة القانون حول إمكانات الأمَّة وتاريخها. فهو صراع من أجل امتلاك الحقيقة. فالإرهاب ينطلق من رفض المجتمع، دون أن يكون هناك هدف واضح من هذا الرفض أو غاية محددة؛ فهو يحتوي بداخله على الفوضى والعشوائية.
العنف سلوك خارج بنية الدولة هو مفهوم قائم على حل التناقضات بالقوة، لكن الإرهاب هو شكل لليأس يعبر عنه المنخرطون فيه على طريقة الاقتصاص والانتقام، هذا الانتقام الذي لا يستحضر أي معنى من معاني العنف وعلاقتها بتغيير الوضع القائم.



فرنسا في مواجهة الإرهاب بالساحل الأفريقي

تشييع جثامين الجنود الفرنسيين الذين لقوا حتفهم في تصادم بطائرتي هليكوبتر أثناء ملاحقة متشددين بمالي بداية الشهر (أ.ف.ب)
تشييع جثامين الجنود الفرنسيين الذين لقوا حتفهم في تصادم بطائرتي هليكوبتر أثناء ملاحقة متشددين بمالي بداية الشهر (أ.ف.ب)
TT

فرنسا في مواجهة الإرهاب بالساحل الأفريقي

تشييع جثامين الجنود الفرنسيين الذين لقوا حتفهم في تصادم بطائرتي هليكوبتر أثناء ملاحقة متشددين بمالي بداية الشهر (أ.ف.ب)
تشييع جثامين الجنود الفرنسيين الذين لقوا حتفهم في تصادم بطائرتي هليكوبتر أثناء ملاحقة متشددين بمالي بداية الشهر (أ.ف.ب)

غداة إعلان باريس مصرع 13 جندياً من مواطنيها، في حادث تحطم مروحيتين عسكريتين في جمهورية مالي الأفريقية، كان الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون يعلن في مؤتمر صحافي أن بلاده تدرس جميع الخيارات الاستراتيجية المتعلقة بوجودها العسكري في منطقة الساحل الأفريقي.
في تصريحاته، أكد ماكرون أنه أمر الجيش الفرنسي بتقييم عملياته ضد المسلحين في غرب أفريقيا، مشيراً إلى أن جميع الخيارات متاحة، وموضحاً أن بلاده «ترغب في مشاركة أكبر من قبل حلفائها في المنطقة من أجل مكافحة الإرهاب».

هل يمكن عد تصريحات ماكرون بداية لمرحلة فرنسية جديدة في مكافحة الإرهاب على أراضي القارة السمراء، لا سيما في منطقة دول الساحل التي تضم بنوع خاص «بوركينا فاسو، ومالي، وموريتانيا، والنيجر، وتشاد»؟
يتطلب منا الجواب بلورة رؤية واسعة للإشكالية الأفريقية في تقاطعاتها مع الإرهاب بشكل عام من جهة، ولجهة دول الساحل من ناحية ثانية.
بداية، يمكن القطع بأن كثيراً من التحديات الحياتية اليومية تطفو على السطح في تلك الدول، لا سيما في ظل التغيرات المناخية التي تجعل الحياة صعبة للغاية وسط الجفاف، الأمر الذي يولد هجرات غير نظامية من دولة إلى أخرى. وفي الوسط، تنشأ عصابات الجريمة المنظمة والعشوائية معاً، مما يقود في نهاية المشهد إلى حالة من الانفلات الأمني، وعدم مقدرة الحكومات على ضبط الأوضاع الأمنية، وربما لهذا السبب أنشأ رؤساء دول المنطقة ما يعرف بـ«المجموعة الخماسية»، التي تدعمها فرنسا وتخطط لها مجابهتها مع الإرهاب، والهدف من وراء هذا التجمع هو تنسيق أنشطتهم، وتولي زمام الأمور، وضمان أمنهم، من أجل الحد من تغلغل الإرهاب الأعمى في دروبهم.
على أنه وفي زمن ما يمكن أن نسميه «الإرهاب المعولم»، كانت ارتدادات ما جرى لتنظيم داعش الإرهابي في العراق وسوريا، من اندحارات وهزائم عسكرية العامين الماضيين، تسمع في القارة الأفريقية بشكل عام، وفي منطقة الساحل بنوع خاص، ولم يكن غريباً أو عجيباً أن تعلن جماعات إرهابية متعددة، مثل «بوكو حرام» وحركة الشباب وغيرهما، ولاءها لـ«داعش»، وزعيمها المغدور أبي بكر البغدادي.
وتبدو فرنسا، فعلاً وقولاً، عازمة على التصدي للإرهاب القائم والآتي في القارة السمراء، وقد يرجع البعض السبب إلى أن فرنسا تحاول أن تحافظ على مكاسبها التاريخية السياسية أو الاقتصادية في القارة التي تتكالب عليها اليوم الأقطاب الكبرى، من واشنطن إلى موسكو، مروراً ببكين، ولا تود باريس أن تخرج خالية الوفاض من قسمة الغرماء الأفريقية، أي أنه تموضع عسكري بهدف سياسي أو اقتصادي، وفي كل الأحوال لا يهم التوجه، إنما المهم حساب الحصاد، وما تخططه الجمهورية الفرنسية لمواجهة طاعون القرن الحادي والعشرين.
في حديثها المطول مع صحيفة «لوجورنال دو ديمانش» الفرنسية، كانت وزيرة الجيوش الفرنسية، فلورانس بارلي، تشير إلى أن فرنسا تقود جهوداً أوروبية لتشكيل قوة عسكرية لمحاربة تنظيمي «داعش» و«القاعدة» في منطقة الساحل الأفريقي، وأن هناك خطوات جديدة في الطريق تهدف إلى تعزيز المعركة ضد العناصر الإرهابية هناك، وإن طال زمن الصراع أو المواجهة.
ما الذي يجعل فرنسا تتحرك على هذا النحو الجاد الحازم في توجهها نحو الساحل الأفريقي؟
المؤكد أن تدهور الأوضاع في الساحل الأفريقي، وبنوع خاص المثلث الحدودي بين النيجر ومالي وبوركينا فاسو، قد أزعج الأوروبيين أيما إزعاج، لا سيما أن هذا التدهور يفتح الأبواب لهجرات غير شرعية لسواحل أوروبا، حكماً سوف يتسرب في الوسط منها عناصر إرهابية تنوي إلحاق الأذى بالقارة الأوروبية ومواطنيها.
يكاد المتابع للشأن الإرهابي في الساحل الأفريقي يقطع بأن فرنسا تقود عملية «برخان 2»، وقد بدأت «برخان 1» منذ اندلاع أولى شرارات الأزمة الأمنية في منطقة الساحل، فقد التزمت فرنسا التزاماً حاراً من أجل كبح جماح التهديد الإرهابي.
بدأت العملية في يناير (كانون الثاني) 2013، حين تدخلت فرنسا في شمال مالي، عبر عملية «سيرفال»، بغية منع الجماعات الإرهابية التابعة لتنظيم القاعدة من السيطرة على البلاد.
والثابت أنه منذ ذلك الحين، توحدت العمليات الفرنسية التي تضم زهاء 4500 جندي تحت اسم عملية «برخان». وتعمل القوات الفرنسية في هذا الإطار على نحو وثيق مع القوات المسلحة في منطقة الساحل.
ويمكن للمرء توقع «برخان 2»، من خلال تحليل وتفكيك تصريحات وزيرة الجيوش الفرنسية بارلي التي عدت أن دول الساحل الأفريقي تقع على أبواب أوروبا. وعليه، فإن المرحلة المقبلة من المواجهة لن تكون فرنسية فقط، بل الهدف منها إشراك بقية دول أوروبا في مالي بقيادة عملية «برخان 2»، في إطار وحدة مشتركة تدعى «تاكوبا»، بغية مواكبة القوات المسلحة المالية.
ولعل المتابع لتصريحات الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون العام الحالي يرى أن الرجل يكاد ينزع إلى ما مضي في طريقه جنرال فرنسا الأشهر شارل ديغول، ذاك الذي اهتم كثيراً بوحدة أوروبا والأوروبيين بأكثر من التحالف مع الأميركيين أو الآسيويين.
ماكرون الذي أطلق صيحة تكوين جيش أوروبي مستقل هو نفسه الذي تحدث مؤخراً عما أطلق عليه «الموت السريري» لحلف الناتو. وعليه، يبقى من الطبيعي أن تكون خطط فرنسا هادفة إلى جمع شمل الأوروبيين للدفاع عن القارة، وعدم انتظار القوة الأميركية الأفريقية (أفريكوم) للدفاع عن القارة الأوروبية.
هذه الرؤية تؤكدها تصريحات الوزيرة بارلي التي أشارت إلى أن فرنسا تبذل الجهود الكبيرة من أجل أن يكون هناك أوروبيون أكثر في الصفوف الأولى مع فرنسا ودول الساحل. وقد أعلنت الوزيرة الفرنسية بالفعل أن «التشيكيين والبلجيكيين والإستونيين قد استجابوا أولاً، كما أن آخرين حكماً سينضمون إلى عملية (تاكوبا) عندما تصادق برلمانات بلادهم على انتشارهم مع القوات الفرنسية».
لا تبدو مسألة قيادة فرنسا لتحالف أوروبي ضد الإرهاب مسألة مرحباً بها بالمطلق في الداخل الفرنسي، لا سيما أن الخسائر التي تكمن دونها عاماً بعد الآخر في منطقة الساحل قد فتحت باب النقاش واسعاً في الداخل الفرنسي، فقد قتل هناك العشرات من الجنود منذ عام 2013، مما جعل بعض الأصوات تتساءل عن نجاعة تلك العملية، وفرصها في الحد من خطورة التنظيمات الإرهابية، وقد وصل النقاش إلى وسائل الإعلام الفرنسية المختلفة.
غير أنه، على الجانب الآخر، ترتفع أصوات المسؤولين الفرنسيين، لا سيما من الجنرالات والعسكريين، الذين يقارنون بين الأكلاف والخسائر من باب المواجهة، وما يمكن أن يصيب فرنسا وبقية دول أوروبا حال صمت الأوروبيين وجلوسهم مستكينين لا يفعلون شيئاً. فساعتها، ستكون الأراضي الأوروبية من أدناها إلى أقصاها أراضي شاسعة متروكة من الدول، وستصبح ملاجئ لمجموعات إرهابية تابعة لـ«داعش» و«القاعدة».
ما حظوظ نجاحات مثل هذا التحالف الأوروبي الجديد؟
يمكن القول إن هناك فرصة جيدة لأن يفعل التحالف الفرنسي الأوروبي الجديد حضوره، في مواجهة الإرهاب المتغلغل في أفريقيا، لا سيما أن الهدف يخدم عموم الأوروبيين، فتوفير الأمن والاستقرار في الجانب الآخر من الأطلسي ينعكس حتماً برداً وسلاماً على بقية عموم أوروبا.
ولم يكن الإعلان الفرنسي الأخير هو نقطة البداية في عملية «برخان 2» أو «تاكوبا»، فقد سبق أن أعلن رئيس الجمهورية الفرنسية، والمستشارة الألمانية أنجيلا ميركل، بمعية رئيس بوركينا فاسو السيد روش كابوريه، وهو الرئيس الحالي للمجموعة الخماسية لمنطقة الساحل، إبان مؤتمر قمة مجموعة الدول السبع في بياريتز، إنشاء الشراكة من أجل الأمن والاستقرار في منطقة الساحل.
وترمي هذه الشراكة مع بلدان المنطقة إلى تعزيز فعالية الجهود المبذولة في مجالي الدفاع والأمن الداخلي، وإلى تحسين سبل تنسيق دعم الإصلاحات الضرورية في هذين المجالين، وتمثل ضرورة المساءلة مقوماً من مقومات هذه الشراكة.
ولا يخلو المشهد الفرنسي من براغماتية مستنيرة، إن جاز التعبير، فالفرنسيون لن يقبلوا أن يستنزفوا طويلاً في دفاعهم عن الأمن الأوروبي، في حين تبقى بقية دول أوروبا في مقاعد المتفرجين ليس أكثر، وربما لمح الفرنسيون مؤخراً من طرف خفي إلى فكرة الانسحاب الكامل الشامل، إن لم تسارع بقية دول القارة الأوروبية في إظهار رغبة حقيقية في تفعيل شراكة استراتيجية تستنقذ دول الساحل الأفريقي من الوقوع لقمة سائغة في فم الجماعات الإرهابية، في منطقة باتت الأنسب ليتخذها الإرهابيون مخزناً استراتيجياً ومنطقة حشد لهم، وفي مقدمة تلك الجماعات مجموعات إرهابية تابعة لتنظيم القاعدة تجتمع تحت راية جماعة «نصرة الإسلام والمسلمين»، وأخرى تابعة لتنظيم داعش على غرار التنظيم الإرهابي في الصحراء الكبرى، التي تقوم بتنفيذ كثير من الهجمات ضد القوات المسلحة في منطقة الساحل، والقوات الدولية التي تدعمها، والتي تضم بعثة الأمم المتحدة المتكاملة المتعددة الإبعاد لتحقيق الاستقرار في مالي، المكلفة بدعم تنفيذ اتفاق السلام المنبثق عن عملية الجزائر العاصمة، ودعم جهود إرساء الاستقرار التي تبذلها السلطات المالية في وسط البلاد.
ولعل كارثة ما يجري في منطقة الساحل الأفريقي، ودول المجموعة الخماسية بنوع خاص، غير موصولة فقط بالجماعات الراديكالية على اختلاف تسمياتها وانتماءاتها، فهناك مجموعات أخرى مهددة للأمن والسلام الأوروبيين، جماعات من قبيل تجار المخدرات والأسلحة، وكذا مهربو البشر، وتهريب المهاجرين غير الشرعيين، وهذا هاجس رهيب بدوره بالنسبة لعموم الأوروبيين.
على أن علامة استفهام تبقى قلقه محيرة بالنسبة لباريس وقصر الإليزيه اليوم، وهي تلك المرتبطة بالإرادة الأوروبية التي تعاني من حالة تفسخ وتباعد غير مسبوقة، تبدت في خلافات ألمانية فرنسية بنوع خاص تجاه فكرة استمرار الناتو، وطرح الجيش الأوروبي الموحد.
باختصار غير مخل: هل دعم الأوروبيين كافة لعملية «برخان 2» أمر مقطوع به أم أن هناك دولاً أوروبية أخرى سوف تبدي تحفظات على فكرة المساهمة في تلك العمليات، خوفاً من أن تستعلن فرنسا القوة الضاربة الأوروبية في القارة الأفريقية من جديد، مما يعني عودة سطوتها التي كانت لها قديماً في زمن الاحتلال العسكري لتلك الدول، الأمر الذي ربما ينتقص من نفوذ دول أخرى بعينها تصارع اليوم لتقود دفة أوروبا، في ظل حالة الانسحاب من الاتحاد التي تمثلها بريطانيا، والمخاوف من أن تلحقها دول أخرى؟
مهما يكن من أمر الجواب، فإن تصاعد العمليات الإرهابية في الفترة الأخيرة، أو حدوث عمليات جديدة ضد أهداف أوروبية في القارة الأفريقية، وجريان المقدرات بأي أعمال إرهابية على تراب الدول الأوروبية، ربما يؤكدان الحاجة الحتمية لتعزيز توجهات فرنسا، وشراكة بقية دول أوروبا، ويبدو واضحاً أيضاً أن بعضاً من دول أفريقيا استشرفت مخاوف جمة من تعاظم الإرهاب في منطقة الساحل الأفريقي، مثل تشاد التي وافقت على تعبئة مزيد من الجيوش في المثلث الحدودي الهش مع النيجر وبوركينا فاسو.