المجلة الصامدة... سلاح «كوندي ناست» السّري لا يزال حبراً على ورق

«ذا وورلد أوف إنتريورز» تبتعد عن زخم الإنترنت وتحافظ على رونقها وتاريخها

TT

المجلة الصامدة... سلاح «كوندي ناست» السّري لا يزال حبراً على ورق

أن تكون قارئاً لمجلة من المجلات في هذه الأيام، لهو أمر يبعث على المزيد من الأسى – إلّا إذا كنت من قراء مجلة «ذا وورلد أوف إنتريورز»، التي تتابع نشرها منذ عام 1982 بواسطة شركة «كوندي ناست بريتاين»، ويسهل العثور عليها على نطاق كبير في أكشاك بيع الصّحف والمجلات بالولايات المتحدة، حيث يُباع العدد الواحد منها لقاء 9.99 دولار.
تعنى مجلة «ذا وورلد أوف إنتريورز»، بالديكورات الدّاخلية في المقام الأول، ولكن هذا يشبه القول بأن مجلة «فوغ» معنية بالحياكة سواء بسواء. بل إنّ المجلة معنية على ما يبدو بتناول كل جانب من جوانب الفنون والحرف الزّخرفية على مرّ القرون، من استوديو فنان البوب روي ليختنشتاين في مانهاتن، إلى متجر العاديّات الذي يرجع إلى القرن السادس عشر في بلدة شروبشاير الإنجليزية، وحتى كوخ أحد الرعاة في أحد الجبال، أو استعراض أحد الكتب من شاكلة «معارض الناس: متاحف ومعارض الفنون في بريطانيا من عام 1800 إلى 1914». وبذلك، فهي تعد مجلة ذكية الطّرح، وواسعة مجال التّغطية، وذات إثارة مميزة لفضول القارئ، مع ندرة الموضوعات المنتقاة لديها.

- الإنترنت وتأثيره على المجلات
بعد مرور عقدين من الزمان على الإنترنت وما أحدثه من تغيير في كل شيء تقريباً، تحتّمّ على المجلات في غالب الأمر البحث عن سُبل المواصلة والاستمرار وربما الازدهار في العالم الرّقمي المعاصر. وتوقفت مجلّتا «ديتيلز» و«دومينو» عن الطّباعة. واتخذت مجلات معروفة مثل «غلامور»، و«سفنتين»، و«فايب»، و«سيلف» قرار التّراجع عن مواصلة الطّباعة أو محاولة الظهور في أكشاك بيع الصحف والجرائد وإنّما بصفة غير منتظمة. وكانت المجلات الكبيرة ذات العناوين البرّاقة والنّفوذ الثّقافي الكبير لدرجة أنّها خلقت أساطيرها الخاصة بها من حولها –مثل مجلات «تايم»، و«سبورتس إيلاستريتيد»، و«رولينغ ستون»– قد استعانت بمنصّات التّواصل الاجتماعي والمدونات الإلكترونية، أو ربما خرجت في طبعات نحيفة للغاية مع الكثير من الإعلانات والمقالات الافتتاحية حتى إنّها بدت مثل الكتيبات التعريفية.
وكان نيكولاس كولريدج، رئيس مجلس الإدارة لمجموعة «كوندي ناست» البريطانية المنتهية ولايته، قد أصدر مذكرة بشأن الفترة الذهبية للمجلات التي امتدت قرابة 30 عاماً كاملة، بدءاً من عقد الثّمانينات، عندما كانت إيرادات الإعلانات والتّوزيع ترتفع عاماً تلو الآخر، وكان المحرّرون يواصلون الخروج بالأفكار الإبداعية تباعاً. وحملت المذكرة عنوان «السنوات البراقة». وفي عام 2017 خسر الفرع الأميركي لشركة «كوندي ناست» أكثر من 120 مليون دولار، وفي محاولة لوقف نزيف الخسائر، قرّر الناشر إغلاق أو بيع العديد من عناوين المطبوعات، إلى جانب تأجير المساحات الإدارية من الباطن في المقر الرئيس للشركة في مانهاتن السفلى. وتساءلت مجلة «نيويورك»: ما الذي تبقى من شركة «كوندي ناست» بعد ذلك، حتى مع المستقبل شديد الغموض الذي تستشرفه تحت قيادة شركة «فوكس ميديا»، المالك الجديد، في حين تواجه الشركات المنافسة من أمثال «هيرست»، و«ميريديث»، تحدّيات مماثلة؟
وإن كان بإمكان المرء مجرد بيع مذكرات المجلات في يومنا هذا، فيمكن إطلاق وصف «سنوات تدبُّر الأمور» على الأمر برمّته: حيث تخفيض الميزانيات، وتقليص عدد الموظفين، والتناقص الواضح في الموارد، ليست المالية فحسب، وإنما على مستوى الطّموح الصّحافي وتحرير النّسخ.
وكل ذلك مع استثناء وحيد هو أنّ المجلّة، التي لم تفقد شيئاً من بريقها، على ما يبدو أنّها لم تتأثّر قط بالاتجاهات الحديثة في عالم وسائل الإعلام. وبخلاف منصّتها الرّائجة على موقع «إنستغرام» مع موقع إلكتروني معقول التّصميم والحركة يعكسان بعض المؤشرات الملهمة للمجلة، فلن تجد لها وجوداً كبيراً على شبكة الإنترنت، أو ربما تحاول المجلة بكل بساطة الابتعاد قدر الإمكان عن زخم الإنترنت كما هو الحال مع العديد من العناوين الكلاسيكية القديمة التي تحافظ على رونقها وتاريخها. يقول ألبرت ريد، المدير التنفيذي لشركة «كوندي ناست بريتاين»: «إنّها تحظى بوضعية شبه مستقلة بين أقرانها. والأشخاص الذين يشرفون على إنتاجها، من النوعية الفنية البوهيمية. وهي تعدّ المناهض الورقي لعالم الرقمنة والبيانات الذي تعين علينا احتضانه والاعتماد عليه في جوانب أخرى من عملنا الحالي».
جلس ريد في مكتبه ذي الألواح الخشبية الجميلة داخل مبنى «فوغ هاوس»، المقر الرئيس لدار النشر في لندن، ممسكاً بعدد أكتوبر (تشرين الأول)، من مجلة «ذا وورلد أوف إنتريورز». كان العدد سميكاً مثل دليل الهاتف مع الكثير من الإعلانات، ومطبوعاً على ورق مصقول خالٍ من لباب الخشب زنة 100 غرام للورقة الواحدة، وهو من أرقى وأغلى أنواع الأوراق ثمناً ممّا تستخدمه شركة «كوندي ناست» في طباعة أي من عناوينها الأخرى. وكان الغلاف بسيطاً للغاية، يحمل صورة بسيطة ولكنّها جذابة لشرفة مظللة في منزل من منازل جزر الكناري الإسبانية الواقعة قبالة سواحل شمال غرب أفريقيا، مع القليل للغاية من الحروف المطبعية المصاحبة للصورة الجميلة. وقال ريد عن ذلك العدد: «يا له من عدد رائع وجميل للغاية».

- مجلة تكسر قواعد المجلّات
عدد قراء المجلة ليس كبيراً كما هو متصوّر، ولا يتجاوز التوزيع الـ55 ألف نسخة في كل شهر، ولكنّها رغم ذلك، لا تفقد تأثيرها الخاص. وهي المجلة المحبوبة والمفضلة لدى المهتمين بالفنون الإبداعية والبصرية تحديداً. ومن بينهم كلير وايت كيللر المديرة الفنية في دار «جيفينشي»، ونيكولا غيسكوير مدير الإبداع في دار «لويس فويتون»، الذي ظهرت شقته الخاصة في باريس في عدد شهر ديسمبر (كانون الأول) من عام 2012، وكذلك أليساندرو ميشيل، مدير الموضة في دار «غوتشي»، الذي يستعين بمجلة «ذا وورلد أوف إنتريورز» لأفكارها الإبداعية الملهمة في مجموعاته الخاصة – وجميعهم من قراء المجلة القدامى الموالين. ولا ننسى الممثل العالمي براد بيت، والممثلة العالمية كيت بلانشيت، والمصور الشهير تيم والكر.
تأسست مجلة «ذا وورلد أوف إنتريورز» في عام 1981، وباتت تكسر كل قاعدة معروفة من قواعد المجلات الحديثة الحمقاء. فلن تجد صورة لأي شخصية من المشاهير على غلافها أبداً (ونادراً ما تعثر على صور لهم في الداخل). ولن تشعر بأيدي جهات الدّعاية أو الإعلان الخانقة، أو ذلك الهوس الرّقمي في كل صفحة من صفحاتها. وتصميم المجلة منخفض المستوى، يميل إلى الحس الأكاديمي أكثر من الرقمي، في غياب الحروف التافهة أو الألوان الصّارخة حتى يبدو كل شيء كأنّه نسخة مزيفة من عالم ديزني لاند. وفي واقع الأمر، فإنّ الصّور التي تعرضها المجلة ذات صبغة مزاجية إلى درجة ما، مع اعتبارات توزيع الضوء بين أركان الصورة، مما يمنح الغرف المؤثثة درجة من الجاذبية الرّائقة أشبه بالحلم الجميل.
ولا تُعنى مجلة «ذا وورلد أوف إنتريورز» بطرح أفكار أو كيفية تحقيق هذا أو ذاك من الأمور أو بيع حلم من الأحلام أو طموح من الطّموحات للقرّاء. فمن يتوقع أن يعيش في يوم من الأيام في المقر الخاص للملكة الأم بالمملكة المتحدة على أي حال؟ ومع ذلك، لا تعد هذه المجلة من المطبوعات الصّلفة المتعجرفة من جهة أخرى، لأنك قد تجد بعد ثلاث صفحات من موضوع المقر الملكي البريطاني، موضوعاً آخر عن منزل تحوّل إلى متحف اشتراه زوجان أميركيان من أصول أفريقية، شاعرة وزوجها عامل البريد، وكان مشيّداً في لينشبيرغ بولاية فيرجينيا الأميركية عام 1903، والمنزل مزدان بالمواد الحديثة المعاد تدويرها مع ذوق رفيع. أو ربما تجد موضوعاً آخر عن فندق الثّلج في السّويد، أو المنزل المتحرّك في مكان من الأماكن. ومن ثم، فإنّ وجهة نظر المجلة متمايزة، وربما هي غير معقولة لدى البعض. ولكنّها مبتكرة للغاية: على الرغم من أنّ صفحاتها تتألف في المعتاد من قصاصات فنّية على خلفية بيضاء، إلّا أنّها تواصل جمع أحدث الصّور والقصاصات والموضوعات وتوزّعها بعناية فائقة عبر مختلف الصفحات.

- كيف تمكنت المجلة من الاستمرار؟
يجري إنتاج مجلة «ذا وورلد أوف إنتريورز» في زاوية من الطّابق الثاني من مبنى «فوغ هاوس» المشيّد بالطّوب البنّي، الذي يضمّ مقرّ النّاشر في وسط لندن. والمكتب عبارة عن غرفة كبيرة مزوّدة بأرضيات خشبية مجعّدة وشبه بالية، مع أسقف منسدلة، ونوافذ مطلّة على ميدان هانوفر الأخضر. ومؤخّراً في صباح أحد الأيام، كان روبرت توماس، محرّر المجلة، في اجتماع مع مارك لازنبي، المدير الفني، لوضع اللمسات الأخيرة على العدد الجديد قيد الصّدور. ووقف الرجلان في منتصف المكتب أمام سطح طاولة بيضاء التي لدى الاقتراب منها يتبيّن أنّها عبارة عن صندوق ضوئي خامل لمطالعة الورق الفوتوغرافي الشّفاف. ولم تعد أي مجلة أخرى من مطبوعات الناشر، أو في أي مكان آخر معروف، تستعين بالصناديق الضوئية، إذ إنّها تحوّلت جميعها للاستعانة بالتصوير الرّقمي الحديث.
يقول توماس عن ذلك: «لا نزال نعتمد على الأفلام التقليدية في عملنا»، مع نبرة فخر واضحة في صوته.
كانت المحررة المؤسسة للمجلة سابقاً، السيدة مين هوغ، من الشخصيات الرائعة للغاية، وكان والدها طبيباً لأمراض الأنف والأذن والحنجرة لدى الملكة الأم، وكان يروق له الرّكض مع حشد من الشّخصيات البوهيمية في لندن، ومن بينهم الممثل روبرت إيفرت.
تناول توماس كوباً من الشّاي في أثناء متابعته العمل على تلك الطّاولة الممتلئة عن آخرها بالموضوعات والقصاصات والصور، وتحدّث عن الأيام الذّهبية السّالفة للصّناعة، عندما كان هناك 25 موديلاً مع 15 من مصفّفي الشّعر ومحترفي التجميل الذين يطيرون إلى الأماكن السّاحرة والخلّابة لالتقاط الصّور البديعة، وأضاف قائلاً: «لكنّنا لم نكن نعمل بهذا الأسلوب أبداً. لقد كنّا نعمل على الدوام بميزانية متقشفة».

- طاقم المجلّة
تضمّ مجلة «ذا وورلد أوف إنتريورز» طاقماً صغيراً من الموظفين يتكون من 13 عضواً. استمر الكثيرون منهم في العمل بسعادة في هذا المكان لسنوات ممتدّة، بعد الوصول إلى هناك. جيسيكا هاينز، الموظفة المخضرمة التي تجاوزت 26 عاماً من العمل فيها، وهي مديرة الإبداع في المجلة وتشرف على قسم المنسوجات وصور الأثاث، كانت في الأصل تعمل في مجال تصميم الأقمشة والمنسوجات قبل انتقالها للعمل في المجلة. وهناك أيضاً كارول بريسانت، المحرّرة السّابقة في مجلة «نيويورك»، وكانت تعمل سابقاً في مجال تجارة التحف والعاديّات ولم تكتب المقالات للمجلّات قبل أن تبعث برسالة استفسار إلى السيدة هوغ، ومن ثمّ حصلت على الوظيفة في عام 1989. وكل العاملين هناك من المخضرمين الماهرين في مجالاتهم ولديهم خبرات متعدّدة في مجالات أخرى ولا يتهيّبون من السّفر لأجل العمل.
ومن الشّائع أن تقوم المجلات المختلفة باصطناع القصص حتى تقضي عليها في وقت لاحق لسبب الغيرة. وتشتهر مجلتا «فوغ» و«فانيتي فير» بانتهاج تلك الممارسات. غير أنّ مجلة «ذا وورلد أوف إنتريورز» لا يمكنها تحمّل العمل بهذا الأسلوب السّخيف، ولذلك وضع توماس وفريقه طريقة لتوجيه القصص الفنية مُقدماً من أجل التزام العمل بكل ثقة وكفاءة ممكنة.
وتصف بريسانت هذه العملية بقولها: «يطلب مني روبرت توفير الصّور للجدران الأربعة بغرفة من الغرف التي ربما أجدها مثيرة للاهتمام. ومن ثمّ أقف في منتصفها، وأتحرك في دائرة كاملة لتصوير الجدران. ثم يضع الصّور بأكملها من إنجلترا من تلك السلسلة من الصور الأصلية. وبذلك يمكننا القيام بجولة تصوير كبيرة في يوم عمل واحد». وقال توماس: إنّ «هناك ما هو أفضل من إنفاق الأموال في غير محلها. وهو إلقاء نظرة متفحّصة على الأمر أولاً. ولا بد أن تواصل الإشراف ومراقبة كل صغيرة وكبيرة. ومتابعة كل صورة تُلتقط، وكل قرش يُنفق. فنحن ضالعون للغاية في عملية الإنتاج. ولم يكن كافياً أبداً بالنسبة لي إلا أن أعتني بكل شيء، وأقول إنّ القارئ لن يلاحظ ذلك. إذ إن قراء مجلتنا يلاحظون كل شيء عن كثب. ويواصلون الكتابة إلينا ويخبروننا بملاحظاتهم تباعاً».

- هوس الإعلانات الرّقمية
وعندما وصلنا إلى حالة الهوس في الإعلانات الرّقمية بدءاً من العقد الماضي، وتقليص الميزانيات مع تسريح الموظفين، تعيّن على مجلة «ذا وورلد أوف إنتريورز» مواكبة الأمر. ولم نشهد زيادة أو نقصاً في الميزانية. وكما كان الحال دائماً، كنّا نسحب الأموال التي لم تكن تُنفق في محلها المناسب، مثل الاستمرار بتصوير الأفلام التقليدية، أو الطّباعة على الورق الفاخر للغاية، أو شحن كمية كبيرة من الأثاث مرتين في العام إلى إيطاليا من أجل تصويرها داخل فيلا فاخرة مستأجرة أو قلعة تاريخية معروفة.
ومع اضطرار المجلات الأخرى إلى تقليص الميزانيات، أو التخفيض من الصّفحات المطبوعة من أجل نقل المحتوى إلى المواقع والمنصّات الإلكترونية، تخيّرت مجلة «ذا وورلد أوف إنتريورز» أن تزيد من المحتوى الإبداعي مع المزيد من العناية في الموضوعات بدلاً من ذلك. وقال فريتز كارش، تاجر التحف والعاديّات من نيوجيرسي، الذي عمل لفترة طويلة لدى مجلة «مارثا ستيوارت ليفينغ» واعتاد قراءة «ذا وورلد أوف إنتريورز» منذ منتصف الثمانينات: «إن الاهتمام الذي ينصبّ على الصّور التوضيحية هو من الفنون المتدهورة».

- المجلة على «إنستغرام»
ولقد استحدثت المجلة صفحتها على «إنستغرام» بعدما ذاع انتشار المنصّة الاجتماعية وصارت معروفة لدى الجميع، وذلك بعد دراسة متأنية للغاية لكيفية التعامل مع ذلك الموقع وزواره، كما قالت إيما ريدماين، ناشرة المجلة. وهناك قصص قليلة متاحة على موقع المجلة على الإنترنت. ولقراءة العدد الكامل منها، لا بدّ من شراء النّسخة المطبوعة من الأسواق.
وأخيراً، قالت ريدماين: إنّ «ما يميزنا هو أنّنا نحاول السير في عكس الاتجاه. وبطريقة غريبة للغاية. وتمكنّا من المواصلة والاستمرار من خلال عدم الاهتمام البالغ بالنّاحية التجارية لتوزيع المجلة. إن كان ذلك منطقياً بمعنى من المعاني».
- خدمة «نيويورك تايمز»


مقالات ذات صلة

لماذا تم حظر ظهور «المنجمين» على التلفزيون الرسمي في مصر؟

يوميات الشرق مبنى التلفزيون المصري «ماسبيرو» (تصوير: عبد الفتاح فرج)

لماذا تم حظر ظهور «المنجمين» على التلفزيون الرسمي في مصر؟

أثار إعلان «الهيئة الوطنية للإعلام» في مصر حظر ظهور «المنجمين» على التلفزيون الرسمي تساؤلات بشأن دوافع هذا القرار.

فتحية الدخاخني (القاهرة )
شمال افريقيا الكاتب أحمد المسلماني رئيس الهيئة الوطنية للإعلام (موقع الهيئة)

مصر: «الوطنية للإعلام» تحظر استضافة «العرّافين»

بعد تكرار ظهور بعض «العرّافين» على شاشات مصرية خلال الآونة الأخيرة، حظرت «الهيئة الوطنية للإعلام» في مصر استضافتهم.

«الشرق الأوسط» (القاهرة )
يوميات الشرق قرارات «المجلس الأعلى لتنظيم الإعلام» أثارت جدلاً (تصوير: عبد الفتاح فرج)

​مصر: ضوابط جديدة للبرامج الدينية تثير جدلاً

أثارت قرارات «المجلس الأعلى لتنظيم الإعلام» بمصر المتعلقة بالبرامج الدينية جدلاً في الأوساط الإعلامية

محمد الكفراوي (القاهرة )
الولايات المتحدة​ ديبورا والدة تايس وبجانبها صورة لابنها الصحافي المختفي في سوريا منذ عام 2012 (رويترز)

فقد أثره في سوريا عام 2012... تقارير تفيد بأن الصحافي أوستن تايس «على قيد الحياة»

قالت منظمة «هوستيدج إيد وورلدوايد» الأميركية غير الحكومية إنها على ثقة بأن الصحافي أوستن تايس الذي فقد أثره في سوريا العام 2012 ما زال على قيد الحياة.

«الشرق الأوسط» (واشنطن)
المشرق العربي شخص يلوّح بعلم تبنته المعارضة السورية وسط الألعاب النارية للاحتفال بإطاحة الرئيس السوري بشار الأسد في دمشق (رويترز)

فور سقوطه... الإعلام السوري ينزع عباءة الأسد ويرتدي ثوب «الثورة»

مع تغيّر السلطة الحاكمة في دمشق، وجد الإعلام السوري نفسه مربكاً في التعاطي مع الأحداث المتلاحقة، لكنه سرعان ما نزع عباءة النظام الذي قمعه لعقود.

«الشرق الأوسط» (دمشق)

100 عامٍ من عاصي الرحباني

عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)
عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)
TT

100 عامٍ من عاصي الرحباني

عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)
عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)

في الرابع من شهر الخِصب وبراعم اللوز والورد، وُلد عاصي الرحباني. كانت البلادُ فكرةً فَتيّة لم تبلغ بعد عامها الثالث. وكانت أنطلياس، مسقط الرأس، قريةً لبنانيةً ساحليّة تتعطّر بزهر الليمون، وتَطربُ لارتطام الموج بصخور شاطئها.
لو قُدّر له أن يبلغ عامه المائة اليوم، لأَبصر عاصي التحوّلات التي أصابت البلاد وقُراها. تلاشت الأحلام، لكنّ «الرحباني الكبير» ثابتٌ كحقيقةٍ مُطلَقة وعَصي على الغياب؛ مقيمٌ في الأمس، متجذّر في الحاضر وممتدّةٌ جذوره إلى كل الآتي من الزمان.


عاصي الرحباني خلال جلسة تمرين ويبدو شقيقه الياس على البيانو (أرشيف Rahbani Productions)

«مهما قلنا عن عاصي قليل، ومهما فعلت الدولة لتكريمه قليل، وهذا يشمل كذلك منصور وفيروز»، يقول المؤلّف والمنتج الموسيقي أسامة الرحباني لـ«الشرق الأوسط» بمناسبة مئويّة عمّه. أما الصحافي والباحث محمود الزيباوي، الذي تعمّق كثيراً في إرث الرحابنة، فيرى أن التكريم الحقيقي يكون بتأليف لجنة تصنّف ما لم يُنشر من لوحاته الغنائية الموجودة في إذاعتَي دمشق ولبنان، وتعمل على نشره.
يقرّ أسامة الرحباني بتقصير العائلة تجاه «الريبرتوار الرحباني الضخم الذي يحتاج إلى تضافر جهود من أجل جَمعه»، متأسفاً على «الأعمال الكثيرة التي راحت في إذاعة الشرق الأدنى». غير أنّ ما انتشر من أغانٍ ومسرحيات وأفلام، على مدى أربعة عقود من عمل الثلاثي الرحباني عاصي ومنصور وفيروز، أصبح ذخيرةً للقرون المقبلة، وليس للقرن الرحباني الأول فحسب.

«فوتي احفظي، قومي سجّلي»
«كان بركاناً يغلي بالعمل... يكتب بسرعة ولا يتوقف عند هاجس صناعة ما هو أجمل، بل يترك السرد يمشي كي لا ينقطع الدفق»، هكذا يتذكّر أسامة عمّه عاصي. وفي بال الزيباوي كذلك، «عاصي هو تجسيدٌ للشغف وللإنسان المهووس بعمله». لم يكن مستغرباً أن يرنّ الهاتف عند أحد أصدقائه الساعة الثالثة فجراً، ليخرج صوت عاصي من السمّاعة قارئاً له ما كتب أو آخذاً رأيه في لحنٍ أنهاه للتوّ.
ووفق ما سمعه الزيباوي، فإن «بعض تمارين السيدة فيروز وتسجيلاتها كان من الممكن أن يمتدّ لـ40 ساعة متواصلة. يعيد التسجيل إذا لم يعجبه تفصيل، وهذا كان يرهقها»، رغم أنه الزوج وأب الأولاد الأربعة، إلا أن «عاصي بقي الأستاذ الذي تزوّج تلميذته»، على حدّ وصف الزيباوي. ومن أكثر الجمل التي تتذكّرها التلميذة عن أستاذها: «فوتي احفظي، قومي سَجّلي». أضنى الأمر فيروز وغالباً ما اعترفت به في الحوارات معها قبل أن تُطلقَ تنهيدةً صامتة: «كان ديكتاتوراً ومتطلّباً وقاسياً ومش سهل الرِضا أبداً... كان صعب كتير بالفن. لمّا يقرر شي يمشي فيه، ما يهمّه مواقفي».


عاصي وفيروز (تويتر)
نعم، كان عاصي الرحباني ديكتاتوراً في الفن وفق كل مَن عاصروه وعملوا معه. «كل العباقرة ديكتاتوريين، وهذا ضروري في الفن»، يقول أسامة الرحباني. ثم إن تلك القسوة لم تأتِ من عدم، فعاصي ومنصور ابنا الوَعر والحرمان.
أثقلت كتفَي عاصي منذ الصغر همومٌ أكبر من سنّه، فتحمّلَ وأخوه مسؤولية العائلة بعد وفاة الوالد. كان السند المعنوي والمادّي لأهل بيته. كمعطفٍ ردّ البردَ عنهم، كما في تلك الليلة العاصفة التي استقل فيها دراجة هوائية وقادها تحت حبال المطر من أنطلياس إلى الدورة، بحثاً عن منصور الذي تأخّر بالعودة من الوظيفة في بيروت. يروي أسامة الرحباني أنها «كانت لحظة مؤثرة جداً بين الأخوين، أبصرا خلالها وضعهما المادي المُذري... لم ينسيا ذلك المشهد أبداً، ومن مواقفَ كتلك استمدّا قوّتهما».
وكما في الصِبا كذلك في الطفولة، عندما كانت تمطر فتدخل المياه إلى المدرسة، كان يظنّ منصور أن الطوفان المذكور في الكتاب المقدّس قد بدأ. يُصاب بالهلَع ويصرخ مطالباً المدرّسين بالذهاب إلى أخيه، فيلاقيه عاصي ويحتضنه مهدّئاً من رَوعه.

«سهرة حبّ»... بالدَين
تعاقبت مواسم العزّ على سنوات عاصي الرحباني. فبعد بدايةٍ متعثّرة وحربٍ شرسة ضد أسلوبه الموسيقي الثائر على القديم، سلك دروب المجد. متسلّحاً بخياله المطرّز بحكايا جدّته غيتا و«عنتريّات» الوالد حنّا عاصي، اخترع قصصاً خفتت بفعلِ سحرِها الأصواتُ المُعترضة. أما لحناً، فابتدعَ نغمات غير مطابقة للنظريات السائدة، و«أوجد تركيبة جديدة لتوزيع الموسيقى العربية»، على ما يشرح أسامة الرحباني.


صورة تجمع عاصي ومنصور الرحباني وفيروز بالموسيقار محمد عبد الوهاب وفريد الأطرش، بحضور بديعة مصابني وفيلمون وهبي ونجيب حنكش (أرشيف Rahbani Productions)
كان عاصي مستعداً للخسارة المادية من أجل الربح الفني. يحكي محمود الزيباوي أنه، ولشدّة مثاليته، «سجّل مسرحية (سهرة حب) مرتَين ولم تعجبه النتيجة، فاقترض مبلغاً من المال ليسجّلها مرة ثالثة». ويضيف أن «أساطير كثيرة نُسجت حول الرحابنة، لكن الأسطورة الحقيقية الوحيدة هي جمال عملهم».
ما كانت لتكتمل أسطورة عاصي، لولا صوت تلك الصبية التي دخلت قفصَه الذهبي نهاد حدّاد، وطارت منه «فيروز».
«أدهشته»، يؤكّد الزيباوي؛ ويستطرد: «لكنّ أحداً منهما لم يعرف كيف يميّز بين نهاد حداد وفيروز»... «هي طبعاً المُلهِمة»، يقول أسامة الرحباني؛ «لمح فيها الشخصية التي لطالما أراد رسمَها، ورأى امرأةً تتجاوب مع تلك الشخصية»، ويضيف أن «عاصي دفع بصوت فيروز إلى الأعلى، فهو في الفن كان عنيفاً ويؤمن بالعصَب. كان يكره الارتخاء الموسيقي ويربط النجاح بالطبع الفني القوي، وهذا موجود عند فيروز».


زفاف عاصي الرحباني ونهاد حداد (فيروز) عام 1955 (تويتر)

دماغٌ بحجم وطن
من عزّ المجد، سرقت جلطة دماغيّة عاصي الرحباني عام 1972. «أكثر ما يثير الحزن أن عاصي مرض وهو في ذروة عطائه وإبداعه، وقد زادت الحرب اللبنانية من مرضه وصعّبت العمل كثيراً»، وفق الزيباوي. لم يكن القلق من الغد الغامض غريباً عليه. فهو ومنذ أودى انفجارٌ في إحدى الكسّارات بحياة زوج خالته يوسف الزيناتي، الذي كان يعتبره صياداً خارقاً واستوحى منه شخصيات لمسرحه، سكنته الأسئلة الحائرة حول الموت وما بعدَه.
الدماغ الذي وصفه الطبيب الفرنسي المعالج بأنه من أكبر ما رأى، عاد ليضيء كقمرٍ ليالي الحصّادين والعاشقين والوطن المشلّع. نهض عاصي ورجع إلى البزُق الذي ورثه عن والده، وإلى نُبله وكرمه الذي يسرد أسامة الرحباني عنهما الكثير.
بعد المرض، لانت قسوة عاصي في العمل وتَضاعفَ كرَمُه المعهود. يقول أسامة الرحباني إن «أقصى لحظات فرحه كانت لحظة العطاء». أعطى من ماله ومن فِكرِه، وعُرف بيدِه الموضوعة دائماً في جيبِه استعداداً لتوزيع النقود على المحتاجين في الشارع. أما داخل البيت، فتجسّد الكرَم عاداتٍ لطيفة وطريفة، كأن يشتري 20 كنزة متشابهة ويوزّعها على رجال العائلة وشبّانها.
خلال سنواته الأخيرة ومع احتدام الحرب، زاد قلق عاصي الرحباني على أفراد العائلة. ما كان يوفّر مزحة أو حكاية ليهدّئ بها خوف الأطفال، كما في ذلك اليوم من صيف 1975 الذي استُهدفت فيه بلدة بكفيا، مصيَف العائلة. يذكر أسامة الرحباني كيف دخل عاصي إلى الغرفة التي تجمّع فيها أولاد العائلة مرتعدين، فبدأ يقلّد الممثلين الأميركيين وهم يُطلقون النار في الأفلام الإيطالية، ليُنسيَهم ما في الخارج من أزيز رصاص حقيقي. وسط الدمار، بنى لهم وطناً من خيالٍ جميل، تماماً كما فعل وما زال يفعل في عامِه المائة، مع اللبنانيين.


عاصي الرحباني (غيتي)