السحر المنتهك للكلمة المطبوعة

لا تفرض الكلمة المطبوعة سحرها وتأثيرها العميق على قارئها وحده، بل على كاتبها أيضاً. وهو سحر لا تمتلكه النصوص المكتوبة بخط أصحابها، أو تلك التي تقبع في ظلمة الأدراج. فالمقالة التي نكتبها تظل بالنسبة لنا عملاً شخصياً أو ناقص الحضور أو مشكوكاً بقيمته الفعلية، حتى إذا استوى حضورها في صحيفة أو مجلة دورية، تكتسب مكانة لم تكن لها من قبل، بحيث نشرع في قراءتها من جديد وكأنها نص آخر غير الذي سبق وكتبناه. كأن المسافة بين الكتابة والنشر تتيح لنا أن ننفصل عن الكاتب الذي كناه، لننتقل في الضوء الخالص إلى خانة القراء، أو لنصبح نقاداً شديدي المراس لما اقترفناه في اللحظات المعتمة للكتابة. كما أن المقالة التي تنشر في صحيفة أو عمل مطبوع تتكفل بنقل التجربة من عهدة الكاتب الفرد إلى عهدة الجماعة، وتمكّنه من تعقب أصدائها المتفاوتة في نفوس الآخرين، سواء تم ذلك عن طريق التعليق الشفهي أو المقالة النقدية المنشورة.
إن رؤية النص مطبوعاً في صحيفة أو مجلة يولّد عند صاحبه شعوراً باللذة متصلاً بنرجسية الكتّاب ورغبتهم في تحقيق ذواتهم عبر مجال الآخرين الحيوي، الذي تتسع حلقاته من الجماعة الأهلية الضيقة إلى آخر ما تسمح به حدود اللغة وبقع انتشارها. ولعل هذه اللذة تكون عند ذراها القصوى لدى الناشئة والكتاب اليافعين الذين يتتبعون بعيون ذاهلة أسماءهم المطبوعة على الورق، ويشعرون بأنهم يخرجون من خانة العزلة والنسيان، ليضعوا أقدامهم على طريق الشهرة والمجد. ورغم أن مثل هذه المشاعر تفقد بفعل العادة والتكرار حرارتها الأولى، إلا أنها لا تضمحل تماماً، لأن في كل نص منشور ما يُشعر صاحبه بالرضا عن النفس، وما يثبّت هويته الشخصية ويُبعد عنه شبح الإحساس بالعقم التعبيري أو «السكتة» الإبداعية. ولم يكن الكاتب والناقد اللبناني الراحل محمد دكروب مجافياً للحقيقة حين صرح في أحد مقالاته بأن اللحظة التي وقعت فيها عيناه على أول مقالة له منشورة في صحيفة، كانت أسعد لحظات حياته. على أن صاحب «جذور السنديانة الحمراء»، وهو الكاتب المعروف بصدقه وحسه الساخر، ما يلبث أن يضيف بأنه، وبعد ستين عاماً من الكتابة، لا يزال يشعر بالسعادة نفسها لدى قراءة اسمه متصدراً مقالة له في صحيفة أو مجلة ثقافية.
وإذا كان محمد دكروب يعبر مواربة عن نرجسية الكاتب الذي يحب أن يرى اسمه معكوساً في مياه النص، فإن من الضرورة بمكان الإقرار بأن شعور الكاتب بالمتعة أو الزهو يقابله شعور آخر بالتوجس والخوف من عدم قدرة النص على الدفاع عن نفسه، بعد أن بات عاجزاً عن استرداده، وبعد أن بات هذا الأخير وحيداً وأعزل إزاء سهام النقد وتحديات الزمن. وإذا كان هذا الشعور يلازم الكاتب لدى نشر مقالاته وقصائده في الصحف والدوريات، فإنه يصبح مضاعفاً لدى إصداره للمجموعات الشعرية وغيرها من الأعمال الأدبية والإبداعية. والسبب في ذلك يعود إلى أن الكثيرين يعتبرون ما ينشرونه في الصحف والمجلات نصوصاً غير نهائية، أو نصوصاً قابلة للتنقيح والتعديل. وحيث هي معرضة بنسبة عالية للتلف والإهمال، فإن ما ترتبه على الكاتب من مسؤولية هو أقل بكثير مما يرتبه الكتاب الذي تصبح العودة عنه متعذرة، أو شديدة التعقيد، بعد أن يأخذ مكانه فوق رفوف المكتبات. فالكتاب حين يصدر يفلت من يد كاتبه، كما تفلت الرصاصة من يد مُطْلقها. ولأن الكتابة رديفة للنقصان، وعدم الاكتمال، فإن كتّاباً كثيرين لا يستطيعون قراءة أعمالهم الأدبية بعد صدورها في كتب ومجموعات مستقلة. ليس فقط لأنهم يحاولون إغماض أعينهم عن الأخطاء اللغوية أو المطبعية التي قد تصيب العمل في حال حدوثها بأعطاب غير محسوبة، بل لأنهم يعيشون حالة من النرجسية المقلوبة التي تجعلهم يخشون من «ضبط» أنفسهم متلبسين بأعمال «مثقوبة» ومليئة بالفجوات. ولعل شعور بعض الكتاب بالتسرع في إصدار بواكيرهم هو الذي يدفع بهم إلى التنصل لاحقاً من هذه البواكير، وصولاً إلى إسقاطها من أعمالهم الكاملة بحجة ركاكتها وسطحيتها وافتقارها إلى النضج. فيما لا يكف البعض الآخر عن إعادة النظر فيما تم نشره من الأعمال وإصدارها في طبعات «مزيدة ومنقحة»، اعترافاً منهم بأن حالات الإلهام والكشف لا تفضي بالضرورة إلى كمال النص الأدبي ونهائيته، بل إن هذا النص يظل قابلاً على الدوام للتطوير والتنقيح وإعادة الكتابة.
على أن الأمور لم تعد على حالها في السنوات الأخيرة، فلم يعد للكلمة المطبوعة، بخاصة في العالم العربي، سحرها القديم والهالة التي عرفتها من قبل. ذلك أن نشر الكتب بات متاحاً أمام جحافل جرارة من الأدعياء وعديمي المواهب ومنتحلي الصفة. وقد يفرح المرء للوهلة الأولى حين يرى أجنحة دور النشر تغصّ في معارض الكتب بعشرات الإصدارات الجديدة التي تشير أغلفتها إلى أجناس أدبية موزعة بين الشعر والرواية والمسرح والقصة القصيرة، فيما نكتشف عند قراءتها أنها لا تنتمي لغير الغثاثة والضحالة الإبداعية والمعرفية. وإذا كان المؤلفون المفتونون بمواهبهم، واللاهثون خلف ما يسبق أسماءهم من ألقاب أدبية مختلفة، يتحملون جزءاً من المسؤولية عما لحق بسوق النشر العربي من تسيب وفوضى عارمين، فإن معظم دور النشر، ولا أقول كلها، تضطلع من جهتها بقسط غير قليل من المسؤولية عما يحدث. فالقلة القليلة من هذه الدور هي التي تلتزم بمعايير الجودة والتميز فيما تصدره من كتب، وتحتكم إلى لجان متخصصة للفصل في مستوى المخطوطات التي تصلها، بينما لا تأبه الكثرة الكاثرة إلا لما يُظهره المؤلفون لقاء نشر أعمالهم الرثة من سخاء مادي. صحيح أن الكتاب هو من زاوية ما سلعة من السلع، ولكن الصحيح أيضاً أنه سلعة نبيلة وغير عادية، وأن تجارة الكتب لا تخضع لمعايير الربح والخسارة فحسب، بل لمعايير الجودة والقيمة المعرفية والإثراء الجمالي للروح، في الوقت ذاته. وما يدل على الواقع البائس لقطاع النشر هو كون الكثير من الناشرين الجدد لا تربطهم بالإبداع أي صلة تذكر، حتى أن بعضهم لا يفقه شيئاً عن الكتب التي ينشرها، في حين أن مؤسسي دور النشر العريقة في الدائرتين العالمية والعربية، هم إما منتجون للإبداع أو متذوقون له. ولأن المؤلفات القيّمة قد باتت عملة صعبة ونادرة في عالمنا الراهن، ولأن الحياة أقصر من جبال الكتب المكدسة في المعارض والمكتبات العامة، فإن أفضل الأصدقاء هم أولئك الذين يرشدوننا إلى كتاب جيد لم نكتشفه بعد، أو يحثوننا على قراءته.