ندرة موارد المياه العذبة وتأثرها بالتغيّر المناخي والنمو السكاني العالمي، كان مثار اهتمام بالغ لمركز تحلية وإعادة استخدام المياه (WDRC) في جامعة الملك عبد الله للعلوم والتقنية (كاوست)، بقيادة البروفسور هانز فروينفيلد، الأستاذ في العلوم والهندسة البيئية ومدير المركز، حيث شكل هذا الموضوع حافزاً للبحث عن حلول مبتكرة لمواجهة التحديات العالمية المتمثلة في أمن المياه واستدامتها وسلامتها.
- ندرة المياه
يشير تقرير صادر عن برنامج الأمم المتحدة الإنمائي، إلى أن ندرة المياه تهدد التنمية في المنطقة العربية؛ إذ يؤدي كل من انخفاض وتذبذب معدلات سقوط الأمطار، وارتفاع معدلات التبخر، وتكرار موجات الجفاف إلى انخفاض القدرة على الاعتماد على الموارد المائية وتوفرها. ورغم شغل البلدان العربية 1 في المائة من مساحة العالم، فإن متوسط سقوط الأمطار السنوي لا يبلغ فيها إلا 2.1 في المائة ولا تتخطى كمية الموارد المائية الداخلية المتجددة في المنطقة إلا 6 في المائة.
وفي مختبرات «كاوست» يقوم البروفسور فروينفيلد وزملاؤه بالعمل على تحسين التقنيات الحالية، وتطوير طرق جديدة لمعالجة المياه؛ إذ يعمل المركز على ثلاثة محاور بحثية رئيسية، تتمثل في: تحلية المياه بطريقة أكثر مراعاة للبيئة، وأمن المياه، وتحويل النفايات إلى موارد. ويهدف المحور الأخير إلى الاستفادة من مياه الصرف الصحي، واستخلاص المياه والطاقة والمعادن والعناصر الغذائية منها.
- محطات تجريبية
يقول فروينفيلد: «لعرض عملنا، بنينا محطات تجريبية لتحلية المياه، ومعالجة مياه الصرف في (كاوست). ولتطبيق تحلية المياه بطريقة أكثر مراعاة للبيئة، يعمل الباحثون على تقليل الآثار البيئية المرتبطة بالعملية بتحسين الكفاءة، وتقليل استخدام المواد الكيميائية أو وقفها نهائياً، واستخلاص الموارد المستخدمة خلال هذه العملية، وتنقية وتحسين تقنيات الأغشية».
وهناك طريقتان رئيسيتان لتحلية المياه: التحلية الحرارية؛ التي تنطوي على تسخين المياه المالحة حتى يتبخر الماء العذب ويُجمَع. والتحلية بالأغشية؛ وتتم بدفع المياه المالحة من خلال مرشّحات لفصل الملح عن جزيئات الماء. وتتطلب كلتا الطريقتين طاقة كبيرة وتعملان بالنفط غالباً، فضلاً عن كونهما تتسمان بعدم الكفاءة.
ويشير فروينفيلد إلى أن جميع عمليات تحلية المياه الحالية في المملكة تستخدم النفط بشكل مباشر أو غير مباشر، ففي الوقت الحالي، هناك فرص محدودة لتحلية المياه باستخدام الطاقة الشمسية؛ لأن متطلباتها مرتفعة، ويصعُب توسيع نطاق هذه التقنيات.
وكانت شركة «مداد» الناشئة الابتكارية، التابعة لـ«كاوست»، قد اتّخذت خطواتٍ لتحسين كفاءة التحلية الحرارية، بإنشاء عملية مختلطة أو هجينة. وعن ذلك يقول فروينفيلد: «أضافت شركة (مداد) مرحلة في نهاية العملية التقليدية هي المرحلة المضافة التي تُمتصُ فيها جزيئات الماء في هلام السيليكا؛ مما يخفض درجة حرارة التكثيف، وهذا يعني أنه يمكننا استخراج المزيد من المياه العذبة باستخدام كمية الطاقة نفسها».
ومع ذلك، تثير جميع عمليات تحلية المياه المزيد من المشاكل البيئية. فعندما تُضخّ المياه المالحة المتبقية في المحيط، فقد يؤدّي ذلك إلى تَكوَّن طبقات مياه شديدة الملوحة وعالية الكثافة تستقر في قاع البحر؛ مما يعوق تدفق الأكسجين ويقتل الأحياء البحرية.
من جانبه، يقول يشير البروفسور كارلوس دوارتي، عالم الأحياء البحرية في مركز أبحاث البحر الأحمر بـ«كاوست»، إلى أن المياه المالحة قد تحتوي على عناصر غذائية مركزة، ومواد كيميائية سامة تُضاف خلال عملية تحلية المياه. ويسعى الباحثون في مركز تحلية وإعادة استخدام المياه إلى إيجاد حلول لهذه المشكلة؛ إذ تحتاج المياه المالحة إما إلى إعادة تدويرها وإما إلى تنظيفها أو تخفيفها قبل صرفها.
- تحدي العقول
وفي سياق متصل، أطلق مركز تحلية وإعادة استخدام المياه وشركة البحر الأحمر للتطوير، إلى جانب شركاء آخرين في المملكة، مبادرة «تحدي العقول لتصريف المياه المالحة» لإيجاد حلول مبتكرة خاصة بإدارة المياه المالحة.
ويهدف التحدي كذلك إلى ابتكار حلّ لتوفير مياه الشرب لمنتجع فاخر أُنشأته شركة البحر الأحمر للتطوير، على مجموعة من الجزر في الجزء الشمالي من البحر.
ويوضح مارتن ستال، أحد منسوبي الشركة، إلى أنهم يلتمسون الأفكار ووجهات النظر الجديدة من العلماء والمهندسين والمبتكرين الشباب، من مختلف المجالات، لمواجهة التحدي المتمثل في إدارة المياه المالحة بطريقة مستدامة بيئياً.
وأضاف: «لن يوقف الاقتراح المثالي صرف المياه المالحة في البحر فحسب، بل سيوفّر أيضاً حلاً بيئياً - مجدياً تجارياً - لإدارة الأملاح المستخلصة».
واعتبر ستال، أن الالتزام بوضع معايير جديدة من أجل التنمية المستدامة، وحماية البيئة الطبيعية الخلابة التي تجعل هذه الوجهة فريدة من نوعها، والحفاظ عليها وتجميلها، يدخل في صميم مشروع البحر الأحمر.
وتتمثل إحدى المبادرات في وقف التصريف نهائياً، وإعادة استخدام المياه المستعملة بنسبة 100 في المائة، وعدم صرف المياه المالحة في بيئة البحيرة الشاطئية؛ وهو ما سيجعل مبادرة تحدي العقول لصرف المياه المالحة ذات تأثير حقيقي في هذا المجال.
وسوف تُقيَّم جميع الأفكار المقدّمة بواسطة شركة البحر الأحمر للتطوير ومركز تحلية وإعادة استخدام المياه، وتتحول أكثر الأفكار الواعدة إلى خطط. كما سيُختار ثلاثة فائزين بالجائزة الأولى بحد أقصى، ويمنح كل منهم 10 آلاف دولار أميركي.
وستتاح للفائزين الفرصة لتجربة حلولهم كشركة ناشئة تابعة لشركة البحر الأحمر للتطوير، بالتعاون مع مشروع البحر الأحمر، أحد المشاريع الثلاثة الكبرى التي أعلن عنها الأمير محمد بن سلمان بن عبد العزيز آل سعود في عام 2017.
وخلافاً للتحديات السابقة فهناك تحدٍ كبير آخر يواجهه مركز تحلية وإعادة استخدام المياه يتمثل في نمو أغشية بكتيرية رقيقة، أو أغشية حيوية رقيقة، على أغشية تحلية المياه والأنابيب وأبراج التبريد؛ مما يؤثر على تكلفة إنتاج المياه وجودتها، وإمكانية الاعتماد عليها وأمانها عبر الشبكة.
ولمواجهة ذلك، طوَّر مركز تحلية وإعادة استخدام المياه أنظمة للإنذار المبكّر، تُمَكِّن من الاستجابة السريعة لتلوث الأغشية في أثناء تحلية المياه. ومن الإنجازات الأخرى التي تحققت في الآونة الأخيرة، تطوير منظّف للأغشية يعاد استخدامه، ويوقف صرف سوائل التنظيف في البيئة.
- بدائل لمياه الري
تعتبر إدارة مياه الري العذبة وتوفير الفقد الكبير منها، من القضايا الأساسية التي تشغل مركز تحلية وإعادة استخدام المياه؛ إذ تستهلك الزراعة نحو 80 في المائة من إمدادات المياه العذبة في السعودية، ويكون مصدرها طبقات المياه الجوفية غير المستدامة غالباً.
ويجرِّب المركز التقنيات التي قد تشجّع المزارعين على تقليل مياه الري، أو استبدالها بمصادر مياه أخرى لزراعة محاصيلهم. وعلى سبيل المثال، نجحت مجموعة بحثية يقودها الدكتور هيمانشو ميشرا، الأستاذ المساعد في العلوم والهندسة البيئية في قسم العلوم والهندسة البيولوجية والبيئية، وطالب الدكتوراه أدير جالو جونيور، في تقليل التبخّر من التربة، بوضع طبقة رقيقة من الرمال المغلَّفة بالشمع (SandX) حول قاعدة نباتات الطماطم. خلال التجارب الأولية، حَفَّض غطاء الرمال الواقي هذا التبخّر لدرجة أن محصول الطماطم زاد بنسبة 70 في المائة، دون الحاجة إلى زيادة الري.
كما أن هناك جهوداً بحثية أخرى لمواجهة الفقد الكبير للمياه بسبب سوء إدارتها، يقودها البروفسور ماثيو ماكابي، أستاذ العلوم والهندسة والبيئية في قسم العلوم والهندسة البيولوجية والبيئية وفريقه بمراقبة استخدام المياه في الزراعة، حيث يجمع الباحثون بيانات من الأقمار الصناعية والطائرات من دون طيار، بالإضافة إلى البيانات الميدانية، لزيادة كفاءة استخدام المياه وتحسين إنتاجية المحاصيل.
من جهته، سلَّط البروفسور فروينفيلد الضوء على أهمية استغلال مياه الصرف، قائلاً: «تعتبر معالجة مياه الصرف مجالاً آخر نعمل على تحسينه، ونعالجه من خلال أبحاثنا المتعلقة بتحويل النفايات إلى موارد. كما نأمل أيضاً في تقدير حجم المخاطر الميكروبية المرتبطة بإعادة استخدام مياه الصرف، وضمان سلامة استخدامها». وتتمثَّل إحدى الإمكانات التي يجرِّبها مركز تحلية وإعادة استخدام المياه في استخدام المفاعلات الحيوية لمعالجة مياه الصرف، ليس فقط لاستخلاص المياه، لكن لإنتاج منتجات ذات قيمة مع تقليل صرف النفايات في البيئة.
وأشاد البروفسور فروينفيلد بالتعاون والدعم الذي يقدّمه رجال الحكومة والصناعة في المملكة قائلاً: «شركاؤنا في المملكة، سواء من الصناعة أو الحكومة، ينفّذون بسرعة نتائج عمل مركزنا، ويطلبون مساعدتنا لتوقع التغييرات المقبلة في التشريعات البيئية أيضاً».