لا تنسَ السياق

لا تنسَ السياق
TT

لا تنسَ السياق

لا تنسَ السياق

حدث ذلك قبل نحو ثلاثة عقود؛ حين كنت على وشك التخرج في كلية الإعلام، جامعة القاهرة، وهو الأمر الذي استلزم الخضوع لتدريب عملي في إحدى وسائل الإعلام المعروفة، للوفاء بمتطلبات التخرج.
بعد أسبوعين من التدريب، طلب إلي المسؤول عن القسم، في تلك الصحيفة الرائجة، أن أعدّ موضوعاً عن ارتفاع معدلات الفائدة في البنوك المصرية، بالنظر إلى أن الخبر كان قد ورد للتو على وكالة الأنباء الوطنية.
كنت أهوى قراءة التقارير الضافية التي ترد عبر وكالات الأنباء الغربية الكبرى، ولطالما وجدت أنها أكثر وفاء بالاستحقاقات الخبرية مقارنة بغيرها من الوسائل الإقليمية والمحلية في تلك الأثناء، واستناداً إلى ما وجدته متدفقاً ومتاحاً عبر هذه الوكالات، وبعدما قمت بالحديث هاتفياً مع أحد الخبراء المستقلين، للحصول على تقييم موضوعي، أعددت قطعة خبرية من نحو 500 كلمة، ودفعت بها إلى هذا الصحافي المخضرم، متوقعاً ثناء، لكن الأمور لم تجرِ على هذا النحو.
لقد انزعج الصحافي المخضرم جداً، وراح يتحدث إليّ بصوت مرتفع، قاصداً أن يصل حديثه إلى الآخرين، سواء كانوا من نظرائه المحترفين أو من زملائي المتدربين، ولأن حديثه كان موجعاً ومثيراً للجدل في آن، فما زلت أتذكر بعضه على هذا النحو: «في صحيفتنا لا نعيد ولا نزيد... نريد كلمة و(رد غطاها)... أفضل خبر هو الذي يأتي في سطرين... عنوان صغير ومتن صغير. تلك هي الصحافة. ما الذي جعلك تشير إلى التغيرات الأخيرة التي طرأت على أسعار الفائدة؟ وما مبرر إيراد معدل التضخم؟ وما الذي أقحم الحديث عن الضغوط على العملة الوطنية؟ أما الكارثة الكبرى، فتكمن في إشارتك إلى شركات توظيف الأموال التي تمنح عوائد أكبر من البنوك. وما فائدة أن تسأل خبيراً؟ احذف كل هذا. لا نريد سوى سطرين».
كانت تلك الواقعة إشارة مبكرة جداً لطالب صحافة على وشك التخرج، وهي إشارة لم تربكه أو تخذله، بقدر ما حملته على التفكير في أهمية التناول الخبري العميق للأحداث والقضايا ضمن القصص الإخبارية.
ثمة نوعان من الكتابة الخبرية إذن؛ أحدهما يزدهر ويزيد الطلب عليه في قطاع كبير من الصحافة المحلية العربية، وقد جسد هذا الصحافي المخضرم سماته، مختزلاً إياها في عبارة «كلمة و(رد غطاها)... لا نريد سوى سطرين»، أما ثانيهما فنجده في وسائل الإعلام الغربية العريقة النافذة، وبعض وسائل الإعلام الإقليمية التي تنتهج أساليب عمل معيارية، وتقدم محتوى يتسق مع معايير الجودة الدولية في الأداء الصحافي.
يُسمى هذا النوع الثاني «الكتابة العميقة»، منطلقاً من تصور راسخ يعرفه القائمون على غرف التحرير في وسائل الإعلام ذات السمت الاحترافي، وهو تصور مفاده ما يلي: «يمكننا بالطبع أن ننشر أخباراً مختصرة ومقتضبة، لكن عندما ينطوي الخبر على زخم يثير اهتمام الجمهور، أو يجسد صراعاً أو يعكس تبايناً بين أطراف أو وجهات نظر، فلا مناص من معالجته بوصفه (قصة خبرية/ News Story)، وهو الأمر الذي يستلزم استيفاء سمة العمق في تلك المعالجة».
فكيف يتحقق العمق في الكتابة الخبرية؟
يتحقق العمق في معالجة القصص الخبرية عبر استيفاء عنصري الخلفية والسياق؛ وبالتطبيق على الخبر المشار إليه في السطور السابقة؛ فإن الخلفية ليست سوى إيراد التغيرات التي طرأت على معدلات الفائدة في فترة زمنية سابقة، ومن ذلك القول: «رفع البنك المركزي معدل الفائدة بواقع نصف نقطة مئوية، وهو الرفع الثالث على التوالي في أقل من عامين».
عبر إيراد مثل تلك الخلفية تتحسن معرفة الجمهور بفحوى الخبر، ويزيد إدراكه لأبعاده، ويكتسب هذا الرفع الأخير معنى أكثر وضوحاً.
أما السياق الذي يجب إيراده أيضاً لاستكمال المعالجة العميقة، فيتعلق بذكر التطورات التي تتفاعل بموازاة الحدث الأساسي وتتبادل التأثير معه، أو هو علاقة الجزء بالكل والخاص بالعام.
وفي هذا الخبر ذاته، فإن السياق يقتضي ذكر حالة التضخم، لكونها تتبادل التأثير مع معدلات الفائدة، كما يستلزم الإشارة إلى سعر العملة ومدى تأثره بتحريك تلك المعدلات، وربما يجدر أيضاً أن تتم الإشارة إلى حالة أوعية الاستثمار المنافسة، وهي أمور يتضافر بعضها مع بعض لتوضيح الخبر وتقصي أبعاده.
الكتابة العميقة ضرورة لشرح العالم للجمهور، ومن دونها تتحول الصحافة إلى «بوستات» و«تغريدات»، وتفقد سمة ضرورية من سمات تفردها التي يمكن أن تبقيها حية.


مقالات ذات صلة

«الشرق الأوسط» تفوز ببرونزية «أريج» للصحافة الاستقصائية

يوميات الشرق الصحافي سامح اللبودي والزميلة بيسان الشيخ من «الشرق الأوسط»

«الشرق الأوسط» تفوز ببرونزية «أريج» للصحافة الاستقصائية

فازت «الشرق الأوسط» بالجائزة البرونزية للصحافة الاستقصائية العربية التي تمنحها مؤسسة «أريج»، عن تحقيق: قصة الإبحار الأخير لـ«مركب ملح» سيئ السمعة.

«الشرق الأوسط» (لندن)
يوميات الشرق صورة تذكارية لعدد من أعضاء مجلس الإدارة (الشركة المتحدة)

​مصر: هيكلة جديدة لـ«المتحدة للخدمات الإعلامية»

تسود حالة من الترقب في الأوساط الإعلامية بمصر بعد إعلان «الشركة المتحدة للخدمات الإعلامية» إعادة تشكيل مجلس إدارتها بالتزامن مع قرارات دمج جديدة للكيان.

«الشرق الأوسط» (القاهرة )
إعلام الدوسري أكد أهمية توظيف العمل الإعلامي لدعم القضية الفلسطينية (واس)

السعودية تؤكد ضرورة تكاتف الإعلام العربي لدعم فلسطين

أكّد سلمان الدوسري وزير الإعلام السعودي أهمية توظيف العمل الإعلامي العربي لدعم قضية فلسطين، والتكاتف لإبراز مخرجات «القمة العربية والإسلامية» في الرياض.

«الشرق الأوسط» (أبوظبي)
المشرق العربي الهواتف الجوالة مصدر معلومات بعيداً عن الرقابة الرسمية (تعبيرية - أ.ف.ب)

شاشة الجوال مصدر حصول السوريين على أخبار المعارك الجارية؟

شكلت مواقع «السوشيال ميديا» والقنوات الفضائية العربية والأجنبية، مصدراً سريعاً لسكان مناطق نفوذ الحكومة السورية لمعرفة تطورات الأحداث.

«الشرق الأوسط» (دمشق)
المشرق العربي جنود إسرائيليون يقودون مركباتهم في منطقة قريبة من الحدود الإسرائيلية اللبنانية كما شوهد من شمال إسرائيل الأربعاء 27 نوفمبر 2024 (أ.ب)

إصابة مصورَين صحافيَين بنيران إسرائيلية في جنوب لبنان

أصيب مصوران صحافيان بجروح بعد إطلاق جنود إسرائيليين النار عليهما في جنوب لبنان اليوم الأربعاء.

«الشرق الأوسط» (بيروت)

السعودية تؤكد ضرورة تكاتف الإعلام العربي لدعم فلسطين

الدوسري مترئساً اجتماع المكتب التنفيذي لمجلس وزراء الإعلام العرب (واس)
الدوسري مترئساً اجتماع المكتب التنفيذي لمجلس وزراء الإعلام العرب (واس)
TT

السعودية تؤكد ضرورة تكاتف الإعلام العربي لدعم فلسطين

الدوسري مترئساً اجتماع المكتب التنفيذي لمجلس وزراء الإعلام العرب (واس)
الدوسري مترئساً اجتماع المكتب التنفيذي لمجلس وزراء الإعلام العرب (واس)

أكّد سلمان الدوسري وزير الإعلام السعودي، الاثنين، أهمية توظيف العمل الإعلامي العربي لدعم قضية فلسطين، والتكاتف لإبراز مخرجات «القمة العربية والإسلامية غير العادية» التي استضافتها الرياض مؤخراً.

وشددت القمة في 11 نوفمبر (تشرين الثاني) الماضي، على مركزية القضية الفلسطينية، والدعم الراسخ للشعب لنيل حقوقه المشروعة، وإيجاد حل عادل وشامل مبني على قرارات الشرعية الدولية.

وقال الدوسري لدى ترؤسه الدورة العادية الـ20 للمكتب التنفيذي لمجلس وزراء الإعلام العرب في أبوظبي، أن الاجتماع يناقش 12 بنداً ضمن الجهود الرامية لتطوير العمل المشترك، وفي مقدمتها القضية الفلسطينية، بمشاركة رؤساء الوفود والمؤسسات والاتحادات الممارسة لمهام إعلامية ذات صفة مراقب.

الدوسري أكد أهمية توظيف العمل الإعلامي لدعم القضية الفلسطينية (واس)

وأضاف أن الاجتماعات ناقشت سبل الارتقاء بالمحتوى الإعلامي، وأهم القضايا المتعلقة بدور الإعلام في التصدي لظاهرة الإرهاب، وجهود الجامعة العربية في متابعة خطة التحرك الإعلامي بالخارج، فضلاً عن الخريطة الإعلامية العربية للتنمية المستدامة 2030.

وتطرق الدوسري إلى استضافة السعودية مؤتمر الأطراف في اتفاقية الأمم المتحدة للتصحر «كوب 16»، وقمة المياه الواحدة، وضرورة إبراز مخرجاتهما في الإعلام العربي، مؤكداً أهمية الخطة الموحدة للتفاعل الإعلامي مع قضايا البيئة.

وأشار إلى أهمية توظيف تقنيات الذكاء الاصطناعي في الإعلام العربي، واستثمار دورها في تعزيز المحتوى وتحليل سلوك الجمهور، داعياً للاستفادة من خبرات «القمة العالمية للذكاء الاصطناعي» في الرياض؛ لتطوير الأداء.