قَبِل الشيف أحمد عبد السلام بأن يجازف بالعمل في عرض البحر، أخذ بالنصيحة وأكل من التفاح الأخضر في كل مرة أصابه دوار البحر.
التحق الشيف أحمد عام 2017 بأكبر باخرة بالعالم MSC Meraviglia، حيث يركب على متنها نحو 5600 زبون، و1700 عامل، ويتوزع بين أرجائها 17 مطعماً تتنوع بين مطاعم إنجليزية ومكسيكية وهندية وإيطالية، والشاهد في القصة أنه قبل قدوم الشيف المصري كان يعمل أربعة طهاة (إيطالي وفرنسي وألماني ونمساوي)، إلا أنهم رفعوا الراية البيضاء قبل مرور أربعة أسابيع، نتيجة الضغط الهائل الذي وقع على عاتقهم، لا سيما أن الحد الأدنى لعدد ساعات العمل 12 ساعة لستة أشهر متواصلة، من دون الحصول على إجازة ولو ليوم واحد.
لكن ماذا فعل أحمد؟ لقد نجح بامتياز مع مرتبة الشرف، ليغدو أول عربي يتولى لاحقاً منصب الشيف التنفيذي للحلويات في شركة ملاحة عالمية Norwegian cruise line تتألف من 16 باخرة، حاملاً مسؤولية التدريب والإشراف على لائحة الطعام فيها، ومحققاً قفزة عالية في قسم الحلويات.
- عائلة «حَلوانية»
بدأت رحلته الخاصة أولاً بتعليم نفسه لأصول المهنة التي أحبها، فقد كان يدخر من راتبه على مدار السنة للالتحاق بكورس واحد في الخارج يختص بـ«فن السكر»، في حين كانت عائلته تلومه بأن أولاده أولى بهذا المال، إلى أن أدرك الجميع ما كان يصبو إليه عندما رفع الكأس كأول بطل «حلواني» لأفريقيا عام 2011، ليظفر بالسبق مع فريقه بفوزهم ببطولة قارية لمصر. تجدر الإشارة إلى أنه شارك بكأس العالم في أعوام 2013 - 2015 - 2017 - 2019.
يستهل أحمد عبد السلام حديثه لـ«الشرق الأوسط» بالقول: «نشأت في بيئة كلها (حَلوانية) بالتعبير المصري، والدي كان عضواً في نقابة (حلو من عجين) عام 1948، أي أنه يُعدّ من قدامى هذه المهنة ولم يكن في مصر حينها سوى 300 شخص يجيد تحضيره (الجاتوه)، فعائلة عبد السلام ولله الحمد شهيرة في هذا المجال، حتى إن إخوتي الأربعة (حلوانية)، ويعملون حالياً في أهم فنادق بمصر».
لمعة براءة تألقت في عينيه، عندما تذكر المخبز الذي امتلكته عائلته في طفولته، حيث تعلَّم طريقة تحضير «العيش البلدي» و«الفينو»، والمفارقة في الأمر أن والده كان يمنعه وإخوته من دخول المطبخ للطهي، ويستشيط غضباً إذا ما اجترأوا على خطه الأحمر، حسب قوله.
إلا أن اكتشافه لحقيقة شغفه بدأ عندما عمل مع أخيه سعد في «فندق شيراتون المطار»، فراقت له فكرة أن «الشيف» يحظى باحترام من مديريه وزبائنه، وتتاح له فرصة الاحتكاك بالأجانب.
- الدخول إلى «عالم أليس»
لم يعرف أحمد عبد السلام أن الحياة ستبتسم له كثيراً؛ ليصبح فيما بعد أول شيف عربي تختاره مجلة Chicago‘s school of mold making الأميركية، كواحد من بين أفضل 20 «شيفاً» على مستوى العالم لعام 2008. ناهيك بأنه أول شيف عربي يتجول بين أكثر من 120 دولة في أربع قارات.
«ماذا عن شرارة البداية الحقيقة في حياتك المهنية؟»... يزيل فضولي بإخباري أنه في عمر الـ23 التقى بصديق مهندس، واندهش بحاسوبه الذي كان في بداية التسعينات بمثابة «اختراع جديد»، فأخذ يطلعه على المواقع الإلكترونية التي تتناول كأس العالم في مجال الحلويات والسكر والشوكولاته، واصفاً مشاعره في ذلك اليوم: «انبهرت إلى درجة أني شعرتً بأنني أعيش في عالم (أليس) حيث بلاد العجائب أو ربما (ديزني لاند)، لم أصدق أن هناك أشخاصاً بمقدورهم صُنع تحف فنية بهذا الشكل، ولا أبالغ إن قلتُ إن النوم طار من عيني لأسبوع كامل».
لم يجد أحمد مفراً من شراء حاسوب في ذلك الوقت بتقاسم ثمنه مع إخوته. إنها أول خطوة صغيرة خطاها من أجل المشاركة يوماً في (كأس العالم للحلواني)، كان يوصي أصدقاءه الطهاة الأجانب بشراء كتب حلويات عند سفرهم، وتبلورت نقطة التحول عندما عمل في أحد الفنادق الكبرى بالسعودية، وصار بوسعه ادخار المال طوال العام من أجل الالتحاق بدورة مدتها شهر في سويسرا، بلغت تكاليفها نحو 6000 يورو، إذ تمكن عام 2004 من السفر إليها لتعلم الشوكولاته ثم عاد مجدداً عام 2006 للالتحاق بدورة في السكر، وفي العامين التاليين انضمّ إلى دورات أخرى ليروي عطشه لتعلم تكنيك السكر الذي صار لعبته المفضلة ليل نهار.
وبابتسامة مرحة يضيف: «تطور أدائي بشكل لافت، وأصبحتُ أول شيف عربي يلمع في هذا الجانب، حتى إن زملائي يطلقون عليّ لقب (إمبراطور السكر)، أعترف لكم بأن متعتي أجدها في أفلام الكرتون التي أشاهدها مع أطفالي، فكل شخصية تبعث الابتسامة تلهمني وتحرضني على صنع حلوى السكر منها».
إذن لا عجب أن أحمد اليوم يمارس دوره كمحكّم دولي في المسابقات التي يبذل لها طاقته لأجل النهوض بالهواة من شباب مصر إلى مستوى الاحتراف، وذلك بعد أن اغتنت تجربته بالتنقل بين ليبيا وباريس وغينيا وإثيوبيا، مستمراً في الوفاء بوعده بإنتاج فيديوهات بالعربية لتعليم المهتمين مجاناً؛ لأنه أراد أن يوفر عليهم المعاناة التي مر بها. وها هو وجه «القبطان» يضحك كلما تذكّر زيارته للمغرب، مفصحاً بالقول: «رآني مجموعة من الشباب، وإذ بهم يشيرون بأصابعهم إليَّ بلهفة (الشيف أحمد أهو!)، وتبين لاحقاً أنهم يتابعون فيديوهاتي ليتعلموا منها فن السكر... حقاً فرحت بهم».
- بدائل المكونات «احتواء للموقف»
الحديث عن عمله في البحر بدا مشوقاً ومليئاً بالمغامرات، يروي أحمد عبد السلام هذا الفصل من الحكاية: «لم يكن الأمر سهلاً البتّة، في أيامي الأولى لم أستطع النوم؛ بداية خضعت لتدريبات مكثفة، ثم كان يجب أن أتدبر أمر الفريق، فوزعتُ المهام على أفراده وفقاً لقدراتهم، بما أن إجراءات التعيين في البحر تطول، كنتُ صبوراً في تدريبهم، وبعدها اتجهت إلى التطوير في بوفيهات الشوكولاته والسكر، أتذكر أني مكثت ستة أشهر في الباخرة ولم أخرج سوى مرتين من أجل شراء ما يلزمني من أدوات للعمل، مررتُ بفترات ضغط شديد تعلمت خلالها التعامل بنجاح مع أي مشكلة طارئة، وبفضل الله صنعتُ اسماً مهماً في مجال المراكب، وبالمختصر، فإن تحديات هذه التجربة جعلت من أي تحدّ آخر في حياتي (مقدوراً عليه)».
سألته أيضاً عن وجه الاختلاف بين العمل في البر والبحر، فقال: «الطاهي في البحر يتوجب عليه التمتع بمهارات (أدناها إجادة اللغة الإنجليزية) للتعامل مع مختلف الجنسيات والثقافات والديانات، بحيث يتم التعاطي مع الجميع بإنصاف، كما أن الالتزام بإجراءات السلامة مسألة حساسة ولها تفاصيلها التي قد يصعب فهمها عند البعض، ناهيك بالقدرة على إدارة الأزمات عند حدوث الخطر من خلال التدريب على أنشطة ضرورية، والفشل فيها يؤدي إلى أشد العقوبات، لأن الأمان أولوية هنا، حيث تكون الباخرة بمثابة دولة، بالإضافة إلى الإلمام بقواعد الصحة العامة وسلامة الأغذية، لأن أقل خطأ في هذا الشأن يعرض صاحبه للفصل الفوري».
وينوه باختلافٍ آخر على صعيد أخذ الاحتياطات اللازمة لتوفير المكونات والتصرف الأمثل عند نقص الاحتياجات، يوضح الآلية بشيء من التفصيل: «نشتري الدقيق والسكر والزبدة وما شابه من الموانئ، لكن ماذا لو وصلنا إلى وجهتنا متأخرين، وبطبيعة الحال نحن ملزمون بتقديم لائحة محددة! على سبيل المثال، قد يحدث نقص أحياناً في الدقيق الألماني، عندئذ نستبدل به حبوباً مثل العدس أو الذرة بعد النقع، في حين أن السكر الخاص بمرضى السكر، الذي نجلبه من ألمانيا أو البرازيل لو نفد، فلا مفر من تحضير بديل يدوي بسلق 20 كيلو تفاح وأخذ عصارته، ومن ثم نضيفه للكيك، مما يضاعف وقت العمل، ولو واجهت نقصاً في الشوكولاته نعوضها بزبدة الكاكاو أو النوتيلا أو البندق المحمصّ، بمعنى أن احتواء الموقف وصناعة البدائل يتأتى بالخبرة، أما إن كان هناك مكون ملحّ نتواصل مع الهيلكوبتر لتجلبه من أي مكان في العالم، وإن كانت التكلفة عالية».