لبنان: الأزمة الحكومية... من تحدي التكليف إلى مخاض التأليف

على وقع ازدياد زخم تحركات الشارع والمطالبة بتعيين اختصاصيين لا سياسيين

الحريري خلال تقديمه استقالته الى الرئيس عون خلال لقائهما في بعبدا (رويترز)
الحريري خلال تقديمه استقالته الى الرئيس عون خلال لقائهما في بعبدا (رويترز)
TT

لبنان: الأزمة الحكومية... من تحدي التكليف إلى مخاض التأليف

الحريري خلال تقديمه استقالته الى الرئيس عون خلال لقائهما في بعبدا (رويترز)
الحريري خلال تقديمه استقالته الى الرئيس عون خلال لقائهما في بعبدا (رويترز)

تسلك الأزمة الحكومية في لبنان، مطلع الأسبوع المقبل، مساراً جديداً مع ترقب ما ستنتج عنه الاستشارات النيابية التي يجريها رئيس الجمهورية، العماد ميشال عون، يوم بعد غد (الاثنين)، التي يُفترض أن تنتهي لتكليف رئيس لتشكيل الحكومة الجديدة.
وتشير كل المعطيات إلى أنه سيكون مجدداً رئيس تيار «المستقبل» سعد الحريري بغياب أي مرشحين معلنين آخرين. مع العلم، أن المطلعين على المسار الحكومي يتوقعون «الانتقال في الأسبوع المقبل من تحدي التكليف إلى مخاض التأليف الذي يُرجح أن يكون طويلاً وشبيهاً بالمخاضات الحكومية السابقة».
ورغم قرار عون تأجيل الاستشارات التي كان يُفترض أن تجري، مطلع الأسبوع الحالي، حتى تبلور المشهد العام لجهة حسم القوى السياسية قرارها، ومحاولة تأمين نوع من التوافق حول اسم معين، لا تُظهر المعطيات الحالية أن الكثير قد يتغير في الساعات المقبلة. وهذا، في ظل تمترس كل فريق وراء شروطه، وبالتحديد لجهة مطالبة «المستقبل» و«التقدمي الاشتراكي» و«القوات» و«الكتائب» بتشكيل حكومة من الاختصاصيين، مقابل إصرار «الثنائي الشيعي» على حكومة تكنوسياسية يكون فيها التمثيل الحزبي مختصراً.

يعيد الخلاف الحالي على شكل الحكومة اللبنانية العتيدة، إلى حد ما، إنهاض اصطفافي 8 و14 آذار اللذين اعتقد البعض أنهما تداعيا بعد التسوية السياسية بين تيار «المستقبل» و«التيار الوطني الحر» (التيار العوني)، التي تم التوصل إليها في عام 2006، وأدت لانتخاب العماد ميشال عون رئيسا للجمهورية. إلا أن الطرفين يؤكدان أن التنسيق المباشر الذي كان قائماً في مرحلة 2005 - 2015 بين مختلف المكوّنات لم يعد قائماً اليوم، وأن وحدها التوجهات الاستراتيجية هي التي تجمع هذه القوى من جديد في اصطفافين متواجهين.

اندلاع الأزمة
بدأت الأزمة الحكومية (كما هو معروف) في 17 أكتوبر (تشرين الأول) على خلفية انطلاق حراك شعبي للتصدي لإقرار ضرائب جديدة كانت الحكومة تخطط لفرضها من خلال قطاع الاتصالات. وحاول مجلس الوزراء الذي يرأسه سعد الحريري استيعاب النقمة الشعبية المتفجرة، من خلال المسارعة لإقرار ورقة إصلاحات تضمنت 24 إجراءً وصف الخبراء بعضها بـ«غير المسبوق». وضمت تلك الورقة الاتفاق مع البنوك لخفض تكلفة الدين العام، وفرض ضرائب على أرباح المصارف لمدة عام واحد، أو لجهة خصخصة قطاع الهاتف الجوال، والشروع في إصلاح قطاع الكهرباء، وإقرار مناقصات محطات الغاز، فضلاً عن خفض جميع رواتب الوزراء والنواب الحاليين والسابقين بنسبة 50 في المائة، وإلغاء جميع الصناديق (المهجرين - الجنوب - الإنماء والإعمار).
بيد أن هذه الورقة لم تُرضِ الجماهير التي نزلت إلى الساحات وقطعت الطرقات للضغط باتجاه إسقاط الحكومة. ولم يتأخر الحريري بتلبية هذا المطلب، فقدم استقالة حكومته يوم 29 أكتوبر، أي بعد 12 يوماً على اندلاع الانتفاضة، رغم اعتراض القوى الرئيسية التي تشكل مجلس الوزراء، وأبرزها «التيار الوطني الحر» و«حزب الله».
ومع نجاح المتظاهرين بدفع الحريري إلى الاستقالة، ازداد زخم تحركاتهم، وباتوا يطالبون موحّدين بتشكيل حكومة من الاختصاصيين لا يكون فيها تمثيل سياسي. وربط الحريري ترؤسه لأي حكومة جديدة بتلبية هذا المطلب، ما أدى لاعتراض العونيين، لاعتباره أن الحريري ليس من الاختصاصيين، وإذا كان سيتم السير بحكومة من غير السياسيين فمن المفترض ألا يرأسها الحريري.
ومع مرور الأيام، كان العونيون يحمّلون رئيس «المستقبل» مسؤولية التأخير بتشكيل الحكومة ويتهمونه بفرض معادلة «أنا أو لا أحد»، ما دفعه إلى إصدار بيان واضح أكد فيه تمسكه بقاعدة «ليس أنا، بل أحد آخر لتشكيل حكومة».
ومن ثم، عندما أحيا اللبنانيون عيد الاستقلال في 22 نوفمبر (تشرين الثاني)، في ظل حكومة تصريف أعمال، بدا واضحاً خلال الاحتفال الرمزي العسكري الذي أُقيم في وزارة الدفاع حجم الخلاف بين الحريري ورئيس الجمهورية العماد ميشال عون، الذي كان وما زال يأخذ عليه تقدمه بالاستقالة من دون الأخذ برأيه والاتفاق على كيفية إدارة المرحلة المقبلة.
الدستور... والتكليف والتأليف

قرار عون بألا يدعو للاستشارات النيابية مباشرة بعد استقالة الحريري من أجل فتح الباب أمام مشاورات تسبق توجه الكتل إلى قصر بعبدا، شكل مادة دسمة لسجال دستوري مستمر حول صلاحيات رئيسي الجمهوري والحكومة. وكان رئيس الجمهورية قد برر قراره هذا بوجوب تحقيق حد أدنى من التوافق المطلوب حول اسم رئيس الحكومة الجديد، كي لا يخرج البلد من أزمة التكليف وندخل في أزمة تأليف. إلا أن الثلاثي «المستقبل» - «الحزب التقدمي الاشتراكي» - «القوات اللبنانية»، إضافة إلى «الكتائب اللبنانية» المنضوي في المعارضة منذ فترة، يتهم رئيس الجمهورية الذي كان أصلاً معارضاً لـ«اتفاق الطائف»، بالانقضاض على الدستور. وهو ما كان يردده المتظاهرون في الشوارع الذين طالبوا رئيس البلاد بالدعوة إلى استشارات من دون مماطلة ليأخذ النظام البرلماني مجراه، رافضين تماماً الاستمرار بإتمام تفاهمات وصفقات تسبق أي استحقاق دستوري.
في أي حال، رغم نفي الأفرقاء المعنيين، بدا واضحاً أنه تم توحيد مساري التكليف والتأليف، إذ انطلقت برعاية عون، في الأسابيع الماضية، وبالتزامن مع البحث عن اسم رئيس جديد للحكومة، المشاورات البعيدة عن الأضواء حول شكل الحكومة وأسماء الوزراء وتوزيع الحقائب فيما بينهم. ولم يستقر «بازار» أسماء المرشحين لخلافة الحريري إلا بعد إعلان دار الفتوى ورؤساء الحكومات السابقين صراحة إصرارهم على عودة رئيس «المستقبل» إلى السراي الحكومي، مع أنه كان قد استبق ذلك بتأكيد عدم حماسته للعودة إلى السراي الحكومي بالمعطيات الراهنة.
فلقد توالت عملية حرق الأسماء التي كانت مطروحة لخلافته تباعاً؛ فأُحرق اسم الوزير السابق محمد الصفدي الذي كان يدعمه العونيون في الشارع مع إعلان الناشطين رفضهم تماماً أن يرأس الصفدي حكومة اختصاصيين محمّلين إياه إلى جانب باقي المسؤولين نتائج ما آلت إليه الأوضاع في البلد.
وبعد الصفدي، طُرح اسم الوزير السابق الدكتور بهيج طبارة الذي سقط أيضاً بعد ساعات من طرحه، ليستقر البازار عند اسم المهندس سمير الخطيب. وبدا لبعض الوقت أن هناك «تفاهم حد أدنى» بين القوى السياسية على تسمية الخطيب، بعد تحديد عون موعداً للاستشارات النيابية، يوم الاثنين الماضي. إلا أنه لم تبين لاحقاً أن لا اتفاق سياسياً على تسمية الخطيب الذي خرج من دار الفتوى، وبعدها من بيت الوسط (مقر الحريري) ليعلن انسحابه، وليتحدث عن توافق بين القوى الإسلامية على اسم الحريري.

«هواجس» عند «حزب الله»
لعل أبرز ما يمكن التوقف عنده خلال المسار المستمر لتشكيل الحكومة التباين الواضح والمستجد بين «حزب الله» وحليفه «التيار الوطني الحر» في المقاربة المعتمدة؛ إذ يتمسك الحزب بالحريري لتشكيل حكومة جديدة يريدها حكومة وحدة وطنية تضم كل الأفرقاء، بينما يميل الثاني منذ البداية لتجاوز الحريري واعتماد خيار آخر لرئاسة مجلس وزراء يأمل منه ألا «يعرقل» سياسات ما تبقى من عهد رئيس الجمهورية ومؤسسه عون. وهنا تجدر الإشارة إلى أن عون وقيادة تياره لم يتجاوزا ما يعتبرانها «طعنة بالظهر» وجهها الحريري لهما بقراره تقديم استقالة حكومته.
من جهته، لم يخفِ «حزب الله» إصراره على عودة الحريري إلى السراي الحكومي، فأعلن الوزير في حكومة تصريف الأعمال محمد فنيش أن «التنسيق مع الرئيس الحريري قائم، لأن الحزب لا يريد المواجهة مع أحد». أما رئيس كتلة الحزب النيابية محمد رعد، فأكد من جهته التمسك بـ«تشكيل حكومة وحدة وطنية وفق صيغة (اتفاق الطائف)»، معتبراً أنه «غير هذا سيبقى البلد في ظلّ حكومة تصريف أعمال، وسنلاحقهم لكي يقوموا بواجبهم، الذي لا يقوم بواجباته سنحاسبه».
ويعلل «الثنائي الشيعي» (أي «حزب الله» و«حركة أمل») تمسُّكه بالحريري من باب التصدي لأي صدام سني - شيعي، ولاقتناعه بأن «المرحلة الحالية تقتضي أن يكون هو على رأس مجلس الوزراء، نظراً لمروحة علاقاته الدولية الواسعة التي من المفترض أن تؤمن وصول المساعدات المرتقبة للبنان لانتشالنا من الأزمتين المالية والاقتصادية اللتين نتخبط فيهما».
وتشير مصادر الثنائي في تصريح لـ«الشرق الأوسط» إلى أن الإصرار على الحريري «ليس إيماناً بمشروعه ومسيرته السياسية، إنما إصراراً منا على وجوب أن يتحمل، كما نحن، وكما باقي القوى السياسية التي كانت جزءاً من السلطة منذ (اتفاق الطائف) وحتى اليوم، مسؤولية الأوضاع التي نحن فيها اليوم... فأما أن نكون كلنا شركاء في نهوض البلد من جديد، أو نتحمل جميعاً مسؤولية الانهيار».
إلا أن ليونة «حزب الله» بالتعاطي مع إعادة تسمية الحريري شيء، ومطالبته بحكومة تكنو سياسية شيء آخر تماماً، وهو ليس بصدد تقديم أي تنازل بشأنه. هذا ما تؤكده المصادر التي تعتبر أن «كل الدعوات لتشكيل حكومة من التكنوقراط أصلاً ليست إلا صدى للأجندة الأميركية التي تهدف لإقصاء (حزب الله) عن الحكم، وهو ما لن نقبل به مهما كانت الأثمان». وتضيف المصادر: «كيف يقبل الطرف المنتصر إقليمياً كما داخلياً عبر نتائج الانتخابات النيابية أن يخرج من الحكم ويخضع للشروط الأميركية؟! نحن نفضل أن تستمر حكومة تصريف الأعمال 10 سنوات، ولا نسير بحكومة حسب الأهواء الأميركية».

باسيل خارج الحكومة؟
وقبل أيام من الموعد الجديد الذي حدده عون للاستشارات النيابية، خرج رئيس «التيار الوطني الحر» جبران باسيل ليعلن عدم حماسته للعودة إلى حكومة تكنوسياسية يرأسها الحريري، مؤكداً بذلك الخلاف مع حليفه «حزب الله» على كيفية مقاربة الملف الحكومي.
وقال باسيل في مؤتمر صحافي بعد اجتماع «تكتل لبنان القوي»، أول من أمس (الخميس): «إذا أصرّ الرئيس الحريري على (أنا أو لا أحد) وأصرّ (حزب الله) و(حركة أمل) على مقاربتهما بمواجهة المخاطر الخارجية بحكومة تكنو سياسية برئاسة الحريري، فنحن كـ(تيّار وطني حرّ)، وكـ(تكتّل لبنان القوي)، لا يهمّنا أن نشارك بهكذا حكومة، لأن مصيرها الفشل حتماً». وأضاف: «لا نشارك ولا نحرّض، ولكن نقوم بمعارضة قوية وبنّاءة للسياسات المالية والاقتصادية والنقدية القائمة ونقوم بمقاومة لمنظومة الفساد القائمة من 30 سنة، التي يريد البعض الاستمرار فيها من خلال استنساخ الحكومة ذاتها».
في هذه الأثناء، استبعد مدير معهد «الشرق الأوسط للشؤون الاستراتيجية» الدكتور سامي نادر أن يكون هناك قرار عوني نهائي بالانضواء في صفوف المعارضة، مرجحاً أن يكون ما أعلنه باسيل هدفه المناورة، ويندرج بإطار التكتيكات لتحسين موقعه التفاوضي.
وقال نادر، في تصريح لـ«الشرق الأوسط» متسائلاً: «كيف سيعارض (التيار) حكومة يرأسها العماد عون؟ ألا يعلم أن ذلك سيؤدي لإضعاف موقع الرئاسة؟ أليس الرئيس عون رمزهم؟ ألا يعلمون أنه بالنهاية يشكل مع الرئيس المكلف الحكومة التي لا تمر تشكيلتها دون توقيعه؟».
وشدد نادر على أنه «إذا كان (التيار) اشتاق للشارع بعدما اكتشف أن جزءاً كبيراً من مؤيديه تعاطفوا مع الثورة، فمحاولة العودة إلى الشارع اليوم ستكون يائسة، فمن أمضى 15 سنة في الحكم وتولى الوزارات الأساسية لا يمكنه أن يصبح في الشارع في ليلة وضحاها، فهو يحتاج لينسحب إلى سنتين على الأقل أو 3 من السلطة قبل العودة إلى موقعه السابق».

الإنذار الدولي
على صعيد متصل، شكّل اجتماع «مجموعة الدعم الدولية للبنان» في العاصمة الفرنسية باريس منعطفاً أساسياً في مسار الأحداث، الأسبوع الماضي، إذ اشترطت المجموعة التي أسست عام 2013 وتضم فرنسا والولايات المتحدة وألمانيا وإيطاليا وبريطانيا والاتحاد الأوروبي وروسيا والأمم المتحدة، بالإضافة لممثلين عن المؤسسات المالية الدولية، تشكيل حكومية إصلاحية في لبنان لمساعدته اقتصادياً.
وقالت إن الحفاظ على استقرار لبنان وأمنه واستقلاله يتطلب التشكيل الفوري لحكومة. وأضافت أنه يجب أن تكون لتلك الحكومة القدرة والمصداقية للقيام بإصلاحات اقتصادية، وإبعاد البلاد عن التوترات والأزمات الإقليمية. وأكدت أن على لبنان تبني إصلاحات مستدامة وموثوق بها لمواجهة التحديات الطويلة الأمد في الاقتصاد الوطني، مشيرة إلى ضرورة أن تعكس هذه الإجراءات تطلعات الشعب اللبناني.
وحول هذا الموضوع، اعتبر الدكتور نادر أن بيان المجموعة «يجب أن يكون واضحاً للقوى اللبنانية، فهو اعتمد لغة دبلوماسية، لكنه وجه رسائل حاسمة، وبالتحديد لجهة التشديد على أن تلاقي الحكومة الجديدة تطلعات الشارع»، لافتاً إلى أن «الجميع بات يعلم أنه لا مجال لإعادة استنساخ المنظومة القديمة، وأن ما بعد 17 أكتوبر (تشرين الأول) لا يمكن أن يكون كما قبله». وأضاف: «حتى إن المجتمع الدولي لم يعد مرحِّباً بالتعاون مع هذه المنظومة، لذا يصر (حزب الله) على الشراكة السنّية مع سعد الحريري الذي يبدو حالياً الأقدر على التواصل مع الغرب، وقد حاول إثبات ذلك من خلال الاستعراض الذي قام به هذا الأسبوع من خلال اتصالاته والرسائل الدولية التي بعث بها».



السودان في 25 عاماً... حرب تلد حروباً

فارون من المعارك ينقلون بشاحنات من مدينة رينك الحدودية في جنوب السودان إلى رصيف لمواصلة رحلتهم إلى وجهتهم التالية (د.ب.أ)
فارون من المعارك ينقلون بشاحنات من مدينة رينك الحدودية في جنوب السودان إلى رصيف لمواصلة رحلتهم إلى وجهتهم التالية (د.ب.أ)
TT

السودان في 25 عاماً... حرب تلد حروباً

فارون من المعارك ينقلون بشاحنات من مدينة رينك الحدودية في جنوب السودان إلى رصيف لمواصلة رحلتهم إلى وجهتهم التالية (د.ب.أ)
فارون من المعارك ينقلون بشاحنات من مدينة رينك الحدودية في جنوب السودان إلى رصيف لمواصلة رحلتهم إلى وجهتهم التالية (د.ب.أ)

لا يُعدّ دوي المدافع ولا انفجارات القذائف أو البراميل الناسفة القادمة، أو حتى الرصاصات العمياء، شيئاً جديداً في السودان، الجديد أنه انتقل من «الهوامش» إلى العاصمة الخرطوم، فاضطرت الحكومة وقيادة الجيش للانتقال إلى عاصمة بديلة تبعد نحو ألف كيلومتر على ساحل البحر الأحمر عند بورتسودان.

كان يُنظر للحروب السابقة على أنها تمرد ضد الدولة، لكن أسبابها تكمن في الصراع بين «المركز» الذي يحتكر كل شيء، و«الهامش» الذي لا يحصل على شيء، وأنها «حرب مطالب وحقوق».

لكن الحرب، خلال حكم الإسلاميين بقيادة الرئيس السابق عمر البشير البلاد، تحولت من حرب مطلبية إلى «حرب دينية» بين الشمال «المسلم»، والجنوب «المسيحي» أو «اللاديني»، وانتهت بـ«فصل جنوب السودان»، وإعلان ميلاد دولة جديدة انضمت للأمم المتحدة، فمن أين تأتي الحروب والعواصف لتدمر السودان؟

يرجع المحللون جذور الحروب السودانية إلى الافتقار لـ«مشروع وطني»، وإلى عدم الاعتراف بالتنوع الإثني والثقافي الناتج عن عدم وجود منظومة سياسية ثقافية اقتصادية موحدة تعترف بهذا التنوع.

ورغم أن الحرب الحالية هي حرب بين جيشين «نظاميين»، لكن جذورها تتصل «بمتلازمة التهميش وعدم الاعتراف بالتنوع»، التي أدت للتمرد الأول قبيل إعلان الاستقلال 1955 بقيادة قوات «أنانيا 1»؛ وهي تسمية محلية لثعبان الكوبرا.

الرئيس السوداني المعزول عمر البشير ملوحاً بعصاه إثناء إلقائه خطاباً في نيالا، عاصمة ولاية جنوب دارفور في سبتمبر 2017 (أ.ف.ب)

اتفاق «نيفاشا»

انطفأت الحرب الأولى باتفاق أديس أبابا 1972، لكنها اشتعلت مرة أخرى في عام 1983، تحت راية «الحركة الشعبية لتحرير السودان»، بقيادة الزعيم الجنوب سوداني الراحل جونق قرنق دمبيور، على أثر إعلان الرئيس الأسبق جعفر النميري «أحكام الشريعة الإسلامية».

وانتقلت من كونها ضد متمردين إلى حرب «جهادية»، جيش الإسلاميين المقاتلين على أساس ديني، ورفعوا رايات الجهاد ضد مَن وُصفوا بـ«أعداء الدين»، فاستمرت الحرب سنوات، وراح ضحيتها أكثر من مليونيْ مواطن.

لم يحقق الجيش ومؤيدوه «المجاهدون» انتصاراً حاسماً، فاضطروا إلى الرضوخ للضغوط الدولية، ووقَّعوا اتفاق سلام في ضاحية نيفاشا الكينية؛ «اتفاق السلام الشامل أو اتفاق نيفاشا».

قضى «نيفاشا» بمنح جنوب السودان «حق تقرير المصير»، وخيّره بين البقاء في السودان الموحد أو الانفصال، وحدد فترة انتقالية قدرها خمس سنوات.

خلال الفترة الانتقالية، شغل زعيم الحركة الشعبية الراحل جونق قرنق دمبيور منصب النائب الأول للرئيس لأيام قلائل، قبل أن يلقى مصرعه في حادثة تفجر المروحية الرئاسية الأوغندية الغامض، ليخلفه نائبه رئيس جنوب السودان الحالي سلفاكير ميارديت.

استفتي شعب جنوب السودان 2010 على الوحدة أو الانفصال، وجاءت النتيجة لصالح الانفصال، فولدت من رحِم الحروب جمهورية جنوب السودان، وخسر السودان ثلث مساحته الجغرافية، وربع عدد سكانه، و75 في المائة من ثرواته وموارده.

انتقلت النيران إلى إقليم دارفور غرب البلاد، وتمردت مجموعات جديدة تحت مزاعم التهميش والاضطهاد باسم «حركة تحرير السودان» في عام 2003.

وأخذت طابعاً «عِرقياً»، بعدما استعانت الحكومة في حربها ضد الحركات المتمردة ذات الأصول الأفريقية، بمجموعات قبلية عُرفت وقتها بمجموعة «الجنجويد» ذات الأصول العربية، ومِن قادتها، للمفارقة، محمد حمدان دقلو «حميدتي»، الذي أصبح قائد ما يُعرف بقوات «الدعم السريع».

راح ضحية حرب دارفور نحو 300 ألف، واتهمت الحكومة، برئاسة عمر البشير، بجرائم تطهير عِرقي وجرائم حرب وجرائم ضد الإنسانية، أصدرت بموجبها المحكمة الجنائية الدولية مذكرات قبض ضد الرئيس السابق عمر البشير، و3 من معاونيه الكبار وهم في الحكم، لا تزال سارية.

مقاتلون من «حركة تحرير السودان» في دارفور في مارس 2024 (أ.ف.ب)

تبضع بين العواصم

في مايو (أيار) 2006، وقّعت الحكومة الإسلامية اتفاق سلام في مدينة أبوجا مع «حركة تحرير السودان»، لكن الحركة انشقت إلى حركتين، يقود التي وقَّعت اتفاق أبوجا حاكم إقليم دارفور الحالي مني أركو مناوي.

رفض تيار عبد الواحد محمد النور الاتفاق، واعتصم بجبل مرة في وسط دارفور، وواصل الحرب ولا يزال، بينما حصل مناوي على منصب مساعد الرئيس عمر البشير، ثم عاد للتمرد زاعماً أنه كان مجرد «مساعد حلّة»، وليس مساعد رئيس، ومساعد الحلة هو معاون سائقي الشاحنات الذي يُعِدّ الطعام للسائق.

تنقلت المفاوضات مع الحركات الدارفورية المتشظية بين عدة عواصم، ففي يوليو (تموز) 2011 وقَّعت مع بعضها في قطر «وثيقة سلام الدوحة»، ونصت على تقاسم الثروة والسلطة، لكن الحرب لم تتوقف.

ثم وقَّعت حركات مسلَّحة مع الحكومة الانتقالية، في أكتوبر (تشرين الأول) 2020 اتفاق سلام السودان في جوبا، أبرزها «حركة تحرير السودان» بقيادة مني أركو مناوي، و«حركة العدل والمساواة» بقيادة جبريل إبراهيم، ونصَّ الاتفاق على تقاسم السلطة والثروة، وبموجبها تولَّى جبريل إبراهيم وزارة المالية، ومني أركو مناوي منصب حاكم إقليم دارفور.

جنود سودانيون من «قوات الدعم السريع» في ولاية شرق النيل بالسودان، يونيو 2019 (أ.ب)

الجنوب الجديد

كأنما لا بد من جنوب ليحاربه الشمال، اشتعلت حرب في جنوب كردفان وجنوب النيل الأزرق، وهما منطقتان منحهما اتفاق نيفاشا حق المشورة الشعبية، للبقاء في السودان أو الانضمام للجنوب، وعادت إلى الحرب «الحركة الشعبية لتحرير السودان - الشمال».

انشقت الحركة الشعبية الشمالية، التي تُعدّ امتداداً للجنوبية، وتضم مقاتلين سودانيين انحازوا للجنوب إبان الحرب الأهلية، إلى حركتين بقيادة نائب رئيس مجلس السيادة الحالي مالك عقار، الموقِّع على اتفاق سلام جوبا، بينما بقيت الأخرى، بقيادة عبد العزيز، تسيطر على منطقة كاودا بجنوب كردفان، وتَعُدّها «منطقة محرَّرة»، وتخوض معارك متفرقة ضد الجيش السوداني، ولا تزال.

لم يَسلم شرق السودان من متلازمة الحروب السودانية، فقد كان مرتعاً لحروب المعارضة المسلَّحة ضد حكم البشير في تسعينات القرن الماضي، ونشأت فيه مجموعات مسلَّحة مثل «مؤتمر البجا»، و«الأسود الحرة»، قاتلت هي الأخرى ضد المركز في الخرطوم، قبل أن تُوقِّع اتفاقاً في العاصمة الإريترية عُرف بـ«أسمرا لسلام شرق السودان»، ونال هو الآخر حصة في السلطة والثروة.

أطاح السودانيون بنظام حكم الإسلاميين، بقيادة الرئيس السابق عمر البشير في 11 أبريل (نيسان) 2019، عبر احتجاجات شعبية استمرت أشهراً عدة، وأجبروا قيادة الجيش على تنحية البشير.

ومع ذلك، تواصلت الاحتجاجات والاعتصامات، حتى قرر «المجلس العسكري الانتقالي»، برئاسة الفريق عبد الفتاح البرهان، وقائد قوات «الدعم السريع» محمد حمدان دقلو «حميدتي»، فض الاعتصام باستخدام القوة، ما أسفر عن مقتل المئات من المعتصمين، ما عده كثيرون من «أفظع الجرائم» بحق المدنيين.

واستمر الضغط المدني السلمي، فاضطر العسكريون لتوقيع «وثيقة دستورية» نصّت على شراكة مدنية عسكرية، في أغسطس (آب) 2019، وجرى تشكيل حكومة برئاسة رئيس الوزراء عبد الله حمدوك، وتكوين مجلس سيادة انتقالي برئاسة البرهان، ونائبه حميدتي.

البرهان وحميدتي يحضران حفل تخريج عسكري للقوات الخاصة، في الخرطوم في 22 سبتمبر2021 (غيتي)

حرب الجنرالات

في 25 أكتوبر 2021، أطاح قائد الجيش بحكومة حمدوك المدنية، بانقلاب عسكري، واضطر تحت الضغط الشعبي السلمي مرة أخرى، لتوقيع ما عُرف بـ«الاتفاق الإطاري» مع المدنيين، ونص على «حكم مدني» يعود بموجبه الجيش إلى ثكناته، وإزالة أي فرصة لـ«تمكين نظام الإسلاميين».

لكن أنصار النظام السابق أحبطوا «الاتفاق الإطاري»، واستخدموا آليات «الدولة العميقة» في تأجيج الخلافات بين الجيش و«الدعم السريع»، فاشتعلت الحرب.

لم تفلح جهود إزالة التوتر والتحشيد العسكري، وفي صبيحة السبت، منتصف أبريل 2023، فوجئ السودانيون بالرصاص «يلعلع» في جنوب الخرطوم عند «المدينة الرياضية»، معلناً الحرب المستمرة حتى اليوم.

يتهم «الدعم السريع» الجيش بمهاجمة معسكراته على حين غِرة، ويقول إن الجيش حاصر مطار مروي شمال البلاد، وإنه كان يخطط للانقضاض على السلطة، بينما «تسود رواية أخرى» بأن «خلايا الإسلاميين» داخل الجيش هاجمت «الدعم السريع»، ووضعت قيادته أمام الأمر الواقع؛ «الاستسلام أو الحرب».

حسابات خاطئة

كان مخططاً للحرب أن تنتهي في ساعات، أو على أسوأ تقدير أيام معدودات، بحساب التفوق التسليحي للجيش على «الدعم السريع»، لكن الأخير فاجأ الجيش وخاض حرب مدن كان قد تمرَّس عليها، ففرض سيطرته على معظم الوحدات العسكرية للجيش، وأحكم الحصار على البرهان في القيادة العامة، بل سيطر على المقرات الحكومية؛ بما فيها القصر الرئاسي والوزارات.

اضطرت الحكومة للانتقال إلى بورتسودان، واتخاذها عاصمة بديلة بعد سيطرة «الدعم السريع» على الخرطوم، بينما ظل قائد الجيش محاصَراً داخل قيادته لأكثر من ثلاثة أشهر، قبل أن يفلح في الخروج منها وينتقل إلى بورتسودان ليتخذها عاصمة له.

اتسعت سيطرة قوات «الدعم السريع» لتشمل إقليم دارفور، باستثناء مدينة الفاشر، حاضرة ولاية شمال دارفور، ومعظم ولايات الغرب باستثناء بعض حواضرها، ثم استسلمت له ولاية الجزيرة بوسط البلاد، وشملت عملياته ولايات أخرى، وسيطر تقريباً على نحو 70 في المائة من البلاد.

بعد نحو عامين من القتال، استعاد الجيش زمام المبادرة، وحقق تقدماً في بعض المناطق؛ الخرطوم، وأم درمان، والخرطوم بحري، وسنار، لكن «الدعم السريع» لا يزال مسيطراً على مساحات واسعة من البلاد، ويقاتل بشراسة في عدد من محاور القتال، وما زالت الحرب سجالاً.

جنوب الخرطوم مسرحاً دموياً للمعارك بين البرهان وحميدتي (أ.ف.ب)

أسوأ كارثة إنسانية

قتلت الحرب عشرات الآلاف وخلقت «أسوأ أزمة إنسانية في التاريخ»، وفقاً للأمم المتحدة، ونزح أكثر من 11 مليون شخص داخلياً، ولجأ نحو 3 ملايين لبلدان الجوار، ويواجه نحو 25 مليون شخص أكثر من نصف سكان البلاد، البالغ عددهم 45 مليوناً، حالة من «انعدام الأمن الغذائي الحاد».

أطراف الحرب لا يزالون يرفضون العودة للتفاوض، فمنذ فشل «إعلان جدة الإنساني»، فشلت محاولات إعادة الطرفين للتفاوض؛ لتعنُّت الجيش وأنصاره.

سيناريوهات

يرجع عضو مجلس السيادة السابق، ونائب رئيس تنسيقية القوى الديمقراطية المدنية «تقدم» الهادي إدريس، اندلاع الحروب في السودان إلى عدم الاتفاق على «مشروع وطني نهضوي» لحكم البلاد منذ الاستقلال.

ويقول إدريس، لـ«الشرق الأوسط»، إن الأسباب الرئيسية لحروب السودان هي الفشل في إنفاذ برامج تنمية متوازنة، وتحقيق العدالة، وسيادة ثقافة الإفلات من العقاب، وعدم حسم القضايا الاستراتيجية مثل علاقة الدين بالدولة، والهوية الوطنية، وقضية الجيش الواحد وابتعاده عن السياسة.

ويرى إدريس أن العودة إلى «جذور الأزمة» مدخل صحيح لجعل «الحرب الحالية» آخِر الحروب. ويضيف: «علينا معالجة أسباب وجذور الحروب، في الاتفاق المقبل لإيقاف وإنهاء الحروب».

أما القيادي في «التجمع الاتحادي» محمد عبد الحكم فيرى أن جذور الحروب تتمحور حول «التنمية المتوازنة والمواطنة المتوازنة». ويضيف: «يظل عدم معالجة التهميش والتنمية المتوازنة وحفظ حقوق الشعوب، وتغيير الأنظمة الاستبدادية المتسلطة، بحكم ديمقراطي تعددي، أُسّاً لنشوبِ أعتى وأطول الحروب السودانية».

ويرهن عبد الحكم إنهاء الأزمات المتتالية في السودان بإصلاح المنظومة الأمنية والعسكرية، عن طريق تكوين جيش مهني قومي موحد بـ«عقيدة قتالية» تُلزمه بحماية الدستور والنظام المدني، وتُخضعه للسلطة التشريعية والتنفيذية، وتُعلي قيم المحاسبة وردع محاولات تسييس الجيش.