لبنان: الأزمة الحكومية... من تحدي التكليف إلى مخاض التأليف

على وقع ازدياد زخم تحركات الشارع والمطالبة بتعيين اختصاصيين لا سياسيين

الحريري خلال تقديمه استقالته الى الرئيس عون خلال لقائهما في بعبدا (رويترز)
الحريري خلال تقديمه استقالته الى الرئيس عون خلال لقائهما في بعبدا (رويترز)
TT

لبنان: الأزمة الحكومية... من تحدي التكليف إلى مخاض التأليف

الحريري خلال تقديمه استقالته الى الرئيس عون خلال لقائهما في بعبدا (رويترز)
الحريري خلال تقديمه استقالته الى الرئيس عون خلال لقائهما في بعبدا (رويترز)

تسلك الأزمة الحكومية في لبنان، مطلع الأسبوع المقبل، مساراً جديداً مع ترقب ما ستنتج عنه الاستشارات النيابية التي يجريها رئيس الجمهورية، العماد ميشال عون، يوم بعد غد (الاثنين)، التي يُفترض أن تنتهي لتكليف رئيس لتشكيل الحكومة الجديدة.
وتشير كل المعطيات إلى أنه سيكون مجدداً رئيس تيار «المستقبل» سعد الحريري بغياب أي مرشحين معلنين آخرين. مع العلم، أن المطلعين على المسار الحكومي يتوقعون «الانتقال في الأسبوع المقبل من تحدي التكليف إلى مخاض التأليف الذي يُرجح أن يكون طويلاً وشبيهاً بالمخاضات الحكومية السابقة».
ورغم قرار عون تأجيل الاستشارات التي كان يُفترض أن تجري، مطلع الأسبوع الحالي، حتى تبلور المشهد العام لجهة حسم القوى السياسية قرارها، ومحاولة تأمين نوع من التوافق حول اسم معين، لا تُظهر المعطيات الحالية أن الكثير قد يتغير في الساعات المقبلة. وهذا، في ظل تمترس كل فريق وراء شروطه، وبالتحديد لجهة مطالبة «المستقبل» و«التقدمي الاشتراكي» و«القوات» و«الكتائب» بتشكيل حكومة من الاختصاصيين، مقابل إصرار «الثنائي الشيعي» على حكومة تكنوسياسية يكون فيها التمثيل الحزبي مختصراً.

يعيد الخلاف الحالي على شكل الحكومة اللبنانية العتيدة، إلى حد ما، إنهاض اصطفافي 8 و14 آذار اللذين اعتقد البعض أنهما تداعيا بعد التسوية السياسية بين تيار «المستقبل» و«التيار الوطني الحر» (التيار العوني)، التي تم التوصل إليها في عام 2006، وأدت لانتخاب العماد ميشال عون رئيسا للجمهورية. إلا أن الطرفين يؤكدان أن التنسيق المباشر الذي كان قائماً في مرحلة 2005 - 2015 بين مختلف المكوّنات لم يعد قائماً اليوم، وأن وحدها التوجهات الاستراتيجية هي التي تجمع هذه القوى من جديد في اصطفافين متواجهين.

اندلاع الأزمة
بدأت الأزمة الحكومية (كما هو معروف) في 17 أكتوبر (تشرين الأول) على خلفية انطلاق حراك شعبي للتصدي لإقرار ضرائب جديدة كانت الحكومة تخطط لفرضها من خلال قطاع الاتصالات. وحاول مجلس الوزراء الذي يرأسه سعد الحريري استيعاب النقمة الشعبية المتفجرة، من خلال المسارعة لإقرار ورقة إصلاحات تضمنت 24 إجراءً وصف الخبراء بعضها بـ«غير المسبوق». وضمت تلك الورقة الاتفاق مع البنوك لخفض تكلفة الدين العام، وفرض ضرائب على أرباح المصارف لمدة عام واحد، أو لجهة خصخصة قطاع الهاتف الجوال، والشروع في إصلاح قطاع الكهرباء، وإقرار مناقصات محطات الغاز، فضلاً عن خفض جميع رواتب الوزراء والنواب الحاليين والسابقين بنسبة 50 في المائة، وإلغاء جميع الصناديق (المهجرين - الجنوب - الإنماء والإعمار).
بيد أن هذه الورقة لم تُرضِ الجماهير التي نزلت إلى الساحات وقطعت الطرقات للضغط باتجاه إسقاط الحكومة. ولم يتأخر الحريري بتلبية هذا المطلب، فقدم استقالة حكومته يوم 29 أكتوبر، أي بعد 12 يوماً على اندلاع الانتفاضة، رغم اعتراض القوى الرئيسية التي تشكل مجلس الوزراء، وأبرزها «التيار الوطني الحر» و«حزب الله».
ومع نجاح المتظاهرين بدفع الحريري إلى الاستقالة، ازداد زخم تحركاتهم، وباتوا يطالبون موحّدين بتشكيل حكومة من الاختصاصيين لا يكون فيها تمثيل سياسي. وربط الحريري ترؤسه لأي حكومة جديدة بتلبية هذا المطلب، ما أدى لاعتراض العونيين، لاعتباره أن الحريري ليس من الاختصاصيين، وإذا كان سيتم السير بحكومة من غير السياسيين فمن المفترض ألا يرأسها الحريري.
ومع مرور الأيام، كان العونيون يحمّلون رئيس «المستقبل» مسؤولية التأخير بتشكيل الحكومة ويتهمونه بفرض معادلة «أنا أو لا أحد»، ما دفعه إلى إصدار بيان واضح أكد فيه تمسكه بقاعدة «ليس أنا، بل أحد آخر لتشكيل حكومة».
ومن ثم، عندما أحيا اللبنانيون عيد الاستقلال في 22 نوفمبر (تشرين الثاني)، في ظل حكومة تصريف أعمال، بدا واضحاً خلال الاحتفال الرمزي العسكري الذي أُقيم في وزارة الدفاع حجم الخلاف بين الحريري ورئيس الجمهورية العماد ميشال عون، الذي كان وما زال يأخذ عليه تقدمه بالاستقالة من دون الأخذ برأيه والاتفاق على كيفية إدارة المرحلة المقبلة.
الدستور... والتكليف والتأليف

قرار عون بألا يدعو للاستشارات النيابية مباشرة بعد استقالة الحريري من أجل فتح الباب أمام مشاورات تسبق توجه الكتل إلى قصر بعبدا، شكل مادة دسمة لسجال دستوري مستمر حول صلاحيات رئيسي الجمهوري والحكومة. وكان رئيس الجمهورية قد برر قراره هذا بوجوب تحقيق حد أدنى من التوافق المطلوب حول اسم رئيس الحكومة الجديد، كي لا يخرج البلد من أزمة التكليف وندخل في أزمة تأليف. إلا أن الثلاثي «المستقبل» - «الحزب التقدمي الاشتراكي» - «القوات اللبنانية»، إضافة إلى «الكتائب اللبنانية» المنضوي في المعارضة منذ فترة، يتهم رئيس الجمهورية الذي كان أصلاً معارضاً لـ«اتفاق الطائف»، بالانقضاض على الدستور. وهو ما كان يردده المتظاهرون في الشوارع الذين طالبوا رئيس البلاد بالدعوة إلى استشارات من دون مماطلة ليأخذ النظام البرلماني مجراه، رافضين تماماً الاستمرار بإتمام تفاهمات وصفقات تسبق أي استحقاق دستوري.
في أي حال، رغم نفي الأفرقاء المعنيين، بدا واضحاً أنه تم توحيد مساري التكليف والتأليف، إذ انطلقت برعاية عون، في الأسابيع الماضية، وبالتزامن مع البحث عن اسم رئيس جديد للحكومة، المشاورات البعيدة عن الأضواء حول شكل الحكومة وأسماء الوزراء وتوزيع الحقائب فيما بينهم. ولم يستقر «بازار» أسماء المرشحين لخلافة الحريري إلا بعد إعلان دار الفتوى ورؤساء الحكومات السابقين صراحة إصرارهم على عودة رئيس «المستقبل» إلى السراي الحكومي، مع أنه كان قد استبق ذلك بتأكيد عدم حماسته للعودة إلى السراي الحكومي بالمعطيات الراهنة.
فلقد توالت عملية حرق الأسماء التي كانت مطروحة لخلافته تباعاً؛ فأُحرق اسم الوزير السابق محمد الصفدي الذي كان يدعمه العونيون في الشارع مع إعلان الناشطين رفضهم تماماً أن يرأس الصفدي حكومة اختصاصيين محمّلين إياه إلى جانب باقي المسؤولين نتائج ما آلت إليه الأوضاع في البلد.
وبعد الصفدي، طُرح اسم الوزير السابق الدكتور بهيج طبارة الذي سقط أيضاً بعد ساعات من طرحه، ليستقر البازار عند اسم المهندس سمير الخطيب. وبدا لبعض الوقت أن هناك «تفاهم حد أدنى» بين القوى السياسية على تسمية الخطيب، بعد تحديد عون موعداً للاستشارات النيابية، يوم الاثنين الماضي. إلا أنه لم تبين لاحقاً أن لا اتفاق سياسياً على تسمية الخطيب الذي خرج من دار الفتوى، وبعدها من بيت الوسط (مقر الحريري) ليعلن انسحابه، وليتحدث عن توافق بين القوى الإسلامية على اسم الحريري.

«هواجس» عند «حزب الله»
لعل أبرز ما يمكن التوقف عنده خلال المسار المستمر لتشكيل الحكومة التباين الواضح والمستجد بين «حزب الله» وحليفه «التيار الوطني الحر» في المقاربة المعتمدة؛ إذ يتمسك الحزب بالحريري لتشكيل حكومة جديدة يريدها حكومة وحدة وطنية تضم كل الأفرقاء، بينما يميل الثاني منذ البداية لتجاوز الحريري واعتماد خيار آخر لرئاسة مجلس وزراء يأمل منه ألا «يعرقل» سياسات ما تبقى من عهد رئيس الجمهورية ومؤسسه عون. وهنا تجدر الإشارة إلى أن عون وقيادة تياره لم يتجاوزا ما يعتبرانها «طعنة بالظهر» وجهها الحريري لهما بقراره تقديم استقالة حكومته.
من جهته، لم يخفِ «حزب الله» إصراره على عودة الحريري إلى السراي الحكومي، فأعلن الوزير في حكومة تصريف الأعمال محمد فنيش أن «التنسيق مع الرئيس الحريري قائم، لأن الحزب لا يريد المواجهة مع أحد». أما رئيس كتلة الحزب النيابية محمد رعد، فأكد من جهته التمسك بـ«تشكيل حكومة وحدة وطنية وفق صيغة (اتفاق الطائف)»، معتبراً أنه «غير هذا سيبقى البلد في ظلّ حكومة تصريف أعمال، وسنلاحقهم لكي يقوموا بواجبهم، الذي لا يقوم بواجباته سنحاسبه».
ويعلل «الثنائي الشيعي» (أي «حزب الله» و«حركة أمل») تمسُّكه بالحريري من باب التصدي لأي صدام سني - شيعي، ولاقتناعه بأن «المرحلة الحالية تقتضي أن يكون هو على رأس مجلس الوزراء، نظراً لمروحة علاقاته الدولية الواسعة التي من المفترض أن تؤمن وصول المساعدات المرتقبة للبنان لانتشالنا من الأزمتين المالية والاقتصادية اللتين نتخبط فيهما».
وتشير مصادر الثنائي في تصريح لـ«الشرق الأوسط» إلى أن الإصرار على الحريري «ليس إيماناً بمشروعه ومسيرته السياسية، إنما إصراراً منا على وجوب أن يتحمل، كما نحن، وكما باقي القوى السياسية التي كانت جزءاً من السلطة منذ (اتفاق الطائف) وحتى اليوم، مسؤولية الأوضاع التي نحن فيها اليوم... فأما أن نكون كلنا شركاء في نهوض البلد من جديد، أو نتحمل جميعاً مسؤولية الانهيار».
إلا أن ليونة «حزب الله» بالتعاطي مع إعادة تسمية الحريري شيء، ومطالبته بحكومة تكنو سياسية شيء آخر تماماً، وهو ليس بصدد تقديم أي تنازل بشأنه. هذا ما تؤكده المصادر التي تعتبر أن «كل الدعوات لتشكيل حكومة من التكنوقراط أصلاً ليست إلا صدى للأجندة الأميركية التي تهدف لإقصاء (حزب الله) عن الحكم، وهو ما لن نقبل به مهما كانت الأثمان». وتضيف المصادر: «كيف يقبل الطرف المنتصر إقليمياً كما داخلياً عبر نتائج الانتخابات النيابية أن يخرج من الحكم ويخضع للشروط الأميركية؟! نحن نفضل أن تستمر حكومة تصريف الأعمال 10 سنوات، ولا نسير بحكومة حسب الأهواء الأميركية».

باسيل خارج الحكومة؟
وقبل أيام من الموعد الجديد الذي حدده عون للاستشارات النيابية، خرج رئيس «التيار الوطني الحر» جبران باسيل ليعلن عدم حماسته للعودة إلى حكومة تكنوسياسية يرأسها الحريري، مؤكداً بذلك الخلاف مع حليفه «حزب الله» على كيفية مقاربة الملف الحكومي.
وقال باسيل في مؤتمر صحافي بعد اجتماع «تكتل لبنان القوي»، أول من أمس (الخميس): «إذا أصرّ الرئيس الحريري على (أنا أو لا أحد) وأصرّ (حزب الله) و(حركة أمل) على مقاربتهما بمواجهة المخاطر الخارجية بحكومة تكنو سياسية برئاسة الحريري، فنحن كـ(تيّار وطني حرّ)، وكـ(تكتّل لبنان القوي)، لا يهمّنا أن نشارك بهكذا حكومة، لأن مصيرها الفشل حتماً». وأضاف: «لا نشارك ولا نحرّض، ولكن نقوم بمعارضة قوية وبنّاءة للسياسات المالية والاقتصادية والنقدية القائمة ونقوم بمقاومة لمنظومة الفساد القائمة من 30 سنة، التي يريد البعض الاستمرار فيها من خلال استنساخ الحكومة ذاتها».
في هذه الأثناء، استبعد مدير معهد «الشرق الأوسط للشؤون الاستراتيجية» الدكتور سامي نادر أن يكون هناك قرار عوني نهائي بالانضواء في صفوف المعارضة، مرجحاً أن يكون ما أعلنه باسيل هدفه المناورة، ويندرج بإطار التكتيكات لتحسين موقعه التفاوضي.
وقال نادر، في تصريح لـ«الشرق الأوسط» متسائلاً: «كيف سيعارض (التيار) حكومة يرأسها العماد عون؟ ألا يعلم أن ذلك سيؤدي لإضعاف موقع الرئاسة؟ أليس الرئيس عون رمزهم؟ ألا يعلمون أنه بالنهاية يشكل مع الرئيس المكلف الحكومة التي لا تمر تشكيلتها دون توقيعه؟».
وشدد نادر على أنه «إذا كان (التيار) اشتاق للشارع بعدما اكتشف أن جزءاً كبيراً من مؤيديه تعاطفوا مع الثورة، فمحاولة العودة إلى الشارع اليوم ستكون يائسة، فمن أمضى 15 سنة في الحكم وتولى الوزارات الأساسية لا يمكنه أن يصبح في الشارع في ليلة وضحاها، فهو يحتاج لينسحب إلى سنتين على الأقل أو 3 من السلطة قبل العودة إلى موقعه السابق».

الإنذار الدولي
على صعيد متصل، شكّل اجتماع «مجموعة الدعم الدولية للبنان» في العاصمة الفرنسية باريس منعطفاً أساسياً في مسار الأحداث، الأسبوع الماضي، إذ اشترطت المجموعة التي أسست عام 2013 وتضم فرنسا والولايات المتحدة وألمانيا وإيطاليا وبريطانيا والاتحاد الأوروبي وروسيا والأمم المتحدة، بالإضافة لممثلين عن المؤسسات المالية الدولية، تشكيل حكومية إصلاحية في لبنان لمساعدته اقتصادياً.
وقالت إن الحفاظ على استقرار لبنان وأمنه واستقلاله يتطلب التشكيل الفوري لحكومة. وأضافت أنه يجب أن تكون لتلك الحكومة القدرة والمصداقية للقيام بإصلاحات اقتصادية، وإبعاد البلاد عن التوترات والأزمات الإقليمية. وأكدت أن على لبنان تبني إصلاحات مستدامة وموثوق بها لمواجهة التحديات الطويلة الأمد في الاقتصاد الوطني، مشيرة إلى ضرورة أن تعكس هذه الإجراءات تطلعات الشعب اللبناني.
وحول هذا الموضوع، اعتبر الدكتور نادر أن بيان المجموعة «يجب أن يكون واضحاً للقوى اللبنانية، فهو اعتمد لغة دبلوماسية، لكنه وجه رسائل حاسمة، وبالتحديد لجهة التشديد على أن تلاقي الحكومة الجديدة تطلعات الشارع»، لافتاً إلى أن «الجميع بات يعلم أنه لا مجال لإعادة استنساخ المنظومة القديمة، وأن ما بعد 17 أكتوبر (تشرين الأول) لا يمكن أن يكون كما قبله». وأضاف: «حتى إن المجتمع الدولي لم يعد مرحِّباً بالتعاون مع هذه المنظومة، لذا يصر (حزب الله) على الشراكة السنّية مع سعد الحريري الذي يبدو حالياً الأقدر على التواصل مع الغرب، وقد حاول إثبات ذلك من خلال الاستعراض الذي قام به هذا الأسبوع من خلال اتصالاته والرسائل الدولية التي بعث بها».



ربع قرن على عرش الكرملين

أكبر تحد يواجهه بوتين خلال السنوات المقبلة هو اختيار بديله على عرش الكرملين (تاس)
أكبر تحد يواجهه بوتين خلال السنوات المقبلة هو اختيار بديله على عرش الكرملين (تاس)
TT

ربع قرن على عرش الكرملين

أكبر تحد يواجهه بوتين خلال السنوات المقبلة هو اختيار بديله على عرش الكرملين (تاس)
أكبر تحد يواجهه بوتين خلال السنوات المقبلة هو اختيار بديله على عرش الكرملين (تاس)

مع حلول نهاية عام 2024، يكون الرئيس فلاديمير بوتين قد قضى 25 سنة كاملة على عرش الكرملين. تغيرت خلالها كثيراً ملامحُ روسيا، كما تغير العالم من حولها. والرئيس الذي تسلم تركة ثقيلة، عندما عُيّن في عام 1999 رئيساً للوزراء من قبل الرئيس بوريس يلتسين، وجد نفسه أمام استحقاقات صعبة، ودخلت البلاد معه منعطفات حاسمة، وواجهت صعوبات كبيرة، لكنها استعادت قدرتها ورسخت مكانتها مجدداً بين الكبار في العالم.

أعلن يلتسين عن استقالته في 31 ديسمبر (كانون الأول) عام 1999 خلال خطاب ألقاه بمناسبة رأس السنة، وأصبح بوتين رئيساً بالنيابة. وفي شهر مارس (آذار) عام 2000 فاز أول مرة في انتخابات الرئاسة.

تولى بوتين قيادة البلاد منذ ذلك الحين، باستثناء المدة من عام 2008 إلى عام 2012، عندما كان ديميتري ميدفيديف رئيساً وكان بوتين رئيساً للوزراء. ويلاحظ كثير من الخبراء أنه حتى في ذلك الحين كان هو الذي اتخذ القرارات الرئيسية بشأن قضايا السياسة الداخلية والخارجية، وكان المقصود من انتخاب ميدفيديف احترام متطلبات الدستور الروسي، الذي لا يسمح لشخص واحد بأن يكون رئيساً أكثر من ولايتين متتاليتين.

بوريس يلتسين (يمين) يصافح بوتين (يسار) خلال حفل الكرملين في موسكو في ديسمبر 1999 (أ.ف.ب)

بوتين في ربع قرن

ربع قرن مدة طويلة إلى حد ما، وعدد محدود من القادة في التاريخ الروسي بقوا في السلطة لمدة أطول. لذا؛ فمن المنطقي أن نلخص النتائج لحكم فلاديمير بوتين.

لقد ورث دولة تعاني من كثير من المشكلات الداخلية، فالعواقب التي خلفها التخلف عن سداد الديون في عام 1998، والتحركات الانفصالية، والبطالة، والفقر... كانت مجرد قائمة صغيرة من التحديات التي كان على فلاديمير بوتين أن يواجهها على الفور.

في عام 1999، قبل أشهر قليلة من استقالة يلتسين، اندلعت حرب الشيشان الثانية في شمال القوقاز. تمكن الزعيم الروسي الجديد من إنهاء العمليات القتالية في أبريل (نيسان) عام 2000. ومع ذلك، باتت الحركة الإرهابية السرية تعمل في الشيشان لسنوات عدة أخرى.

فقط في عام 2009 رُفع نظام عمليات مكافحة الإرهاب هناك، وهو ما عُدَّ نهاية للحرب. والآن الشيشان هي محافَظة مستقرة وآمنة ومزدهرة ضمن الأراضي الروسية، ويزورها كثير من السياح كل عام للتعرف على التقاليد المحلية والتاريخ والمأكولات.

أيضاً، وفي بداية عهد فلاديمير بوتين، أضيفت حوادث طارئة مختلفة إلى حالة عدم الاستقرار الاقتصادي والسياسي، فضلاً عن العمليات العسكرية في شمال القوقاز. وكان أكثرها صدى في أغسطس (آب) 2000، عندما غرقت الغواصة النووية «كورسك»، وأودت هذه الكارثة بحياة 118 بحاراً، وكانت صدمة لروسيا بأكملها. بالنسبة إلى فلاديمير بوتين، أصبح ذلك تحدياً حقيقياً، وواجه حينها انتقادات لعدم استجابته بشكل كافٍ للحادثة.

تضاف إلى هذه الأحداث المشكلات الاقتصادية والاجتماعية الخطرة التي كان على رئيس الدولة حلها. أما بالنسبة إلى السياسة الخارجية، فرغم أن موسكو لا تزال عضواً دائماً في مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة، فإنه حينها لم يكن لها أي دور مهم في الشؤون الدولية. لقد كان العالم أحادي القطب لمدة طويلة؛ في الواقع، كانت الولايات المتحدة منخرطة في غالبية العمليات على المسرح العالمي.

سيدة تبيع قطعة لحم كبيرة وسط حشود من الناس على أمل التغلب على أزمة النقص وارتفاع الأسعار في موسكو خلال الحقبة السوفياتية (غيتي)

«خطاب ميونيخ»

نقطة التحول كانت في عام 2007 عندما ألقى فلاديمير بوتين خطابه الشهير خلال «مؤتمر ميونيخ للأمن»، وذكر فيه تهديدات صادرة من توسع حلف «الناتو»، كما أشار إلى عدم قبول الحالة أحادية القطب أو تجاهل القانون الدولي.

في الوقت نفسه، أشار الزعيم الروسي إلى أن موسكو ستتبع سياسة خارجية مستقلة، وإلى أن تطورات الأحداث على الساحة العالمية، بما في ذلك استخدام القوة، يجب أن تستند فقط إلى ميثاق الأمم المتحدة.

كان على روسيا أن تثبت هذه الأقوال بالأفعال في وقت قريب جداً. في أغسطس عام 2008 أرسلت جورجيا قواتها إلى أوسيتيا الجنوبية وقصفت قاعدة لقوات حفظ السلام الروسية هناك. وخلال الحرب التي استمرت 8 أيام، تمكنت موسكو من هزيمة تبيليسي، واعترفت بأوسيتيا الجنوبية وأبخازيا دولتين مستقلتين.

مع هذا، فإنه لم يتبع ذلك هدوء طويل الأمد. في نهاية عام 2010، اندلع ما يسمى «الربيع العربي» في منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا. في السنوات الأولى، لعبت روسيا دوراً سياسياً ودبلوماسياً في هذه الأحداث، وعملت بنشاط على منصة مجلس الأمن، لكن كما معروف، كان على موسكو لاحقاً أن تثبت قوة أسلحتها.

قبل ذلك، بدأت حالة التوتر في أوكرانيا. في عام 2014، على خلفية الاحتجاجات والاشتباكات مع قوات الأمن، وقع انقلاب في كييف. أسقط ممثلو ما تسمى «المعارضة»، بدعم من الولايات المتحدة ودول غربية أخرى، الرئيس فيكتور يانوكوفيتش. وذلك على الرغم من الاتفاقات لحل النزاعات وإجراء الانتخابات الرئاسية. وعارض سكان دونباس وشبه جزيرة القرم تطور الأحداث هذا.

في النهاية، أُجري استفتاء في القرم حول الانضمام إلى أراضي روسيا في مارس عام 2014، وأيد هذا القرار أكثر من 96 في المائة من الناخبين. ومنذ ذلك الحين، أصبحت شبه جزيرة القرم جزءاً لا يتجزأ من الأراضي الروسية.

كان دونباس أقل حظاً؛ إذ استمر لسنواتٍ القتالُ المسلح بين متطوعي هذا الإقليم من جهة؛ والقوات الأوكرانية من جهة أخرى، وكان القتال بدأ في ربيع عام 2014، وأودى بحياة آلاف الأشخاص؛ بينهم نساء وأطفال.

وحتى على الرغم من توقيع «اتفاقيات مينسك» في عامي 2014 و2015، التي كانت تهدف إلى وقف إطلاق النار وتسوية وضع دونباس، فإن قصف نظام كييف لم يتوقف حتى عام 2022. ورغم ذلك؛ فإن كثيرين بدأوا ينظرون إلى انضمام شبه جزيرة القرم إلى روسيا بوصفه تحدياً من موسكو للولايات المتحدة ومحاولة روسية قوية للعب دور بارز على الساحة الدولية.

قوات جورجية تطلق النار فوق جدار على الجبهة في شمال غرب جورجيا أثناء الحرب الأهلية في يوليو 1993 (غيتي)

سوريا ونفوذ روسيا

أثبتت روسيا هذا بشكل أقوى في عام 2015، عندما بدأت العملية العسكرية في سوريا. آنذاك تمركز مقاتلو المعارضة ومجموعات إرهابية في ضواحي دمشق. كان هناك وضع حرج يتطور بالنسبة إلى السلطات المركزية في دمشق. ومع ذلك، فقد أدى القصف الجوي الروسي المكثف إلى وقف تقدم المتطرفين، ودفعهم إلى الوراء، وبدء تحرير المناطق الرئيسية بالبلاد التي جرى الاستيلاء عليها تقريباً منذ بداية الأزمة السورية في عام 2011.

وأظهرت العملية العسكرية قدرات روسيا ونفوذها في الشرق الأوسط. فهذا النفوذ لم يعزز موقف موسكو في المنطقة فحسب؛ بل سمح أيضاً لفلاديمير بوتين بتقديم نفسه مدافعاً عن الاستقرار الدولي ضد التهديدات الإرهابية.

لكن سوريا لم تصبح نقطة أخيرة في تعزيز مواقف روسيا على الساحة الدولية. وعادت موسكو إلى أفريقيا، حيث كانت غائبة منذ انهيار الاتحاد السوفياتي. وفي عدد من الحالات، تمكن فلاديمير بوتين من طرد فرنسا والولايات المتحدة. حدث هذا في مالي والنيجر وبوركينا فاسو وجمهورية أفريقيا الوسطى.

تقليدياً، يُنظر إلى روسيا على أنها تعارض الاستعمار، أو بشكل أكثر دقة: الاستعمار الجديد. وهذا ما يؤتي ثماره. فقد تمكنت موسكو من بناء تعاون اقتصادي وعسكري مع الدول الأفريقية على أساس الاحترام المتبادل ودون التضحية بمصالحها الخاصة.

ولكن ربما كان التحدي الرئيسي الذي واجهه فلاديمير بوتين هو قرار إجراء العملية العسكرية الخاصة في أوكرانيا، التي بدأت في فبراير (شباط) 2022. ويستمر القتال لحماية سكان دونباس، فضلاً عن نزع السلاح وإزالة النازية من أوكرانيا، حتى يومنا هذا.

تمكنت روسيا من تحرير مناطق كبيرة وإنشاء ما يسمى «الجسر البري» إلى شبه جزيرة القرم. بالإضافة إلى ذلك، توسعت حدود البلاد بسبب الاستفتاءات التي أُجريت في جمهوريتَي دونيتسك ولوغانسك الشعبيتين، وكذلك في منطقتَي خيرسون وزابوروجيا.

أوكرانيون يعبرون مساراً تحت جسر مدمر أثناء فرارهم من ضواحي كييف في مارس 2022. (أ.ب)

علاقات بديلة

ومع ذلك، أصبح على روسيا أن تدفع ثمناً كبيراً مقابل السياسة السيادية والمستقلة. ورغم عدم وجود تصريحات رسمية حالياً بشأن عدد الخسائر في صفوف الجيش الروسي، فإن الأدلة غير المباشرة من المسؤولين الروس تشير إلى أنها تجاوزت خسائر الاتحاد السوفياتي في حربه بأفغانستان. بالإضافة إلى ذلك، تعرضت موسكو لعقوبات وحشية وضغوطات سياسة واقتصادية من الولايات المتحدة والدول الأوروبية وحلفائها.

في جوهره، كان الأمر يتعلق بمحاولة عزل روسيا سياسياً واقتصادياً ومالياً. ومع ذلك، لم تستطع الدول الغربية تحقيق ذلك. تمكنت موسكو من بناء علاقات تجارية بديلة، والحفاظ على اتصالات وثيقة مع الدول الآسيوية؛ بما فيها دول الشرق الأوسط. وبشكل عام، فإن الاقتصاد الروسي، رغم كل التوقعات، لم يَنْهَرْ، بل يظهر نمواً.

كانت السنوات الخمس والعشرين التي قضاها فلاديمير بوتين في السلطة بمنزلة حركة تقدمية للخروج من حفرة الأزمات التي وجدت روسيا نفسها فيها بعد انهيار الاتحاد السوفياتي، نحو الاستقرار الداخلي وإحياء موسكو بوصفها لاعباً قوياً على الساحة الدولية.

وكما يعترف كثير من أولئك الذين ينتقدون سياسات فلاديمير بوتين، فإن شعب روسيا لم يَعِشْ بمثل هذا الثراء من قبل، ولم يَحْظَ سابقاً بمثل هذه الفرص للتنمية... سيارة شخصية، ورحلات إجازات في داخل البلاد وخارجها، وفرص شراء السلع الاستهلاكية دون أي قيود، والحصول على التعليم، وخلق مهنة في أي مجال... كل هذا أصبح ممكناً بالنسبة إلى كثير من سكان روسيا، رغم أنه قبل وصول فلاديمير بوتين إلى السلطة لم يكن من الممكن تصور أي شيء كهذا.

في الوقت نفسه، أصبحت مسألة من سيحل محل بوتين، عندما تنتهي الفرصة التي يوفرها الدستور للاحتفاظ بالمنصب الرئاسي، ملحة بشكل متنامٍ، ولعل «اختيار مثل هذا الشخص وإعداده» هو التحدي الأهم الذي لم يواجهه فلاديمير بوتين بعد.

* كاتب روسي