الناتو بين تحدّي ابتداع هوية جديدة وخطر الزوال

قادة الدول الأطلسية في واتفورد (أرشيف – رويترز)
قادة الدول الأطلسية في واتفورد (أرشيف – رويترز)
TT

الناتو بين تحدّي ابتداع هوية جديدة وخطر الزوال

قادة الدول الأطلسية في واتفورد (أرشيف – رويترز)
قادة الدول الأطلسية في واتفورد (أرشيف – رويترز)

بمعزل عن «الصدام» الذي جعل الرئيس الأميركي دونالد ترمب يغادر لندن على عجل بعد نهاية قمة حلف شمال الأطلسي (ناتو) أخيراً، يجدر النظر إلى مستقبل هذا الحلف الذي نشأ رسمياً في الرابع من أبريل (نيسان) 1949، ودوره في تشكيل المشهد الجيو – استراتيجي والتعامل مع ديناميات السياسة العالمية.
معلوم أن قمة الأطلسي التأمت (3 و4 ديسمبر/كانون الأول) بعد أيام من قول الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون إن الحلف بات في حالة «موت دماغي»، وإن أوروبا لم يعد في إمكانها الاعتماد على الولايات المتحدة في الدفاع عنها وبالتالي عليها إيجاد آليات بديلة. والغريب أن هذا الكلام أزعج ترمب الذي تحوّل فجأة إلى مؤمن صلب بالحلف بعدما سبق له القول عنه إنه صار هيكلاً قديماً عفا عليه الزمن.
واعتبر ترمب في قمة لندن أن لوجود الحلف هدفاً كبيراً، خصوصاً بعدما اقتنع الحلفاء بوجوب زيادة حصصهم في الإنفاق على المنظمة (خصوصاً بعد ضم روسيا لشبه جزيرة القرم عام 2014)، وهو ما دأب الرئيس الأميركي على المطالبة به منذ انتخابه. وينقل موقع «فوكس» عن الباحثة هيذر كونلي العاملة في مركز الدراسات الاستراتيجية والدولية في واشنطن قولها إن «الرئيس ترمب ينظر الآن إلى حلف الناتو باعتباره أحد نجاحاته في السياسة الخارجية».
هنا يجدر السؤال: ماذ حققت قمة الحلف في واتفورد قرب لندن؟

أجواء سيئة ومسائل عالقة
الأجواء السيئة رافقت الجلسات وأعقبتها، وقد وصف ترمب رئيس الوزراء الكندي جاستن ترودو بأنه «ذو وجهين» بعد ظهور شريط فيديو في حفلة استقبال في قصر باكنغهام الملكي يبدو فيه عدد من القادة الأوروبيين يسخرون من ترمب وأدائه في مؤتمراته الصحافية.
وعلى الجانب الجديّ، تعهد قادة دول الحلف التضامن لمواجهة التهديدات التي تمثلها روسيا من جهة والإرهاب من جهة أخرى، وأقروا بالتحديات التي يولّدها تصاعد نفوذ الصين اقتصادياً وسياسياً على مستوى العالم. غير أنهم لم يتوصلوا إلى إصدار بيان مشترك إلا بصعوبة تعكس الشيخوخة التي أصابت الحلف على عتبة الاحتفال بالذكرى السبعين لتأسيسه حين ضم أولاً 12 دولة ليصبح عدد الأعضاء حالياً 29 دولة.
وعن هذا الجانب الجدي بالذات، تقول جودي ديمبسي الباحثة الآيرلندية في الفرع الأوروبي لمؤسسة كارنيغي، إن ثلاث مسائل عالقة تشكل التحديات الأكثر إلحاحاً أمام الحلف: الإرهاب وروسيا والأمن الأوروبي. وأسوأ ما في الأمر بالنسبة إلى الكاتبة، ليس التباين الحاد في الآراء بين الأوروبيين من جهة والولايات المتحدة من جهة أخرى، بل بين الأوروبيين أنفسهم، بحيث يبدو الأميركيون حَكَماً بين «الأشقاء الصغار» الذين يبدون عاجزين عن الاتفاق على قواعد اللعبة. وهذا يقودنا إلى القول إن إيمانويل ماكرون يبدو ربما مخطئاً في رهانه على صوغ استراتيجية أوروبية دفاعية موحدة، لأن شركاءه القاريين مشرذمون ولا بد لهم من مظلة الحماية الأميركية.
وعلى سبيل المثال، اصطدم الرئيس التركي رجب طيب إردوغان مع ماكرون في ما يتعلق بالإرهاب، حين أصر الأول على تصنيف «وحدات حماية الشعب» الكردية في سوريا منظمة إرهابية، وهدد لهذه الغاية برفض اعتماد نص يدعو إلى حماية منطقة بحر البلطيق من التهديدات الروسية. واضطر الأمين العام للحلف ينس ستولتنبرغ إلى إيجاد تسوية تتحدث عن تصدي الحلف للتهديدات الاستراتيجية الآتية «من كل الاتجاهات»، مع الالتزام الكامل بمكافحة الإرهاب.
نلاحظ هنا أن حالة واحدة تكفي لتظهير الخلاف الأوروبي العميق على المسائل الثلاث، أي الإرهاب (وحدات حماية الشعب) وروسيا (التهديدات) والأمن الأوروبي (منطقة البلطيق). واستطراداً يمكن التساؤل، على سبيل المثال، كيف يقف الأطلسيون الأوروبيون موقفاً حازماً في وجه التحديات التوسعية الروسية بينما ينتظرون تدفق الغاز الطبيعي الروسي الحيوي إلى القارة عبر أنابيب مشروعي «نورد ستريم 2» و«تورك ستريم»؟ أي كيف ترفع عصا الردع في وجه من يمدّك بالطاقة؟
ومعلوم هنا أن الرئيس الفرنسي يدعو بحماسة إلى إقامة علاقة تعاون وود بين أوروبا وروسيا، وبالتالي لا بد أنه قبل على مضض ما جاء في البيان الختامي للقمة الأطلسية عن الجار الشرقي.
ويفسر محللون كثر الموقف الفرنسي باقتناع ماكرون وفئة واسعة من «الإستابلشمنت» السياسي الفرنسي بأن على أوروبا أن تتدبر شؤونها الدفاعية وتحصّن أمنها ضد عدوانية الدول والجماعات الإرهابية بعيداً عن «بوليصة التأمين» الأميركية، لأن الحلف الأطلسي سيزول عاجلاً أم آجلاً، إلا إذا ابتدع لنفسه هوية جديدة تلبي متطلبات العقود المقبلة ويكون منطلقها حل المسائل الثلاث إياها، بالإضافة إلى التنسيق الشامل بين الدول الأعضاء. ويسوق محللون مثالاً على سوء التنسيق العملية التركية في شمال شرق سوريا التي قامت بها دولة أطلسية في وجه قوى محلية تدعمها دول أطلسية أخرى، من دون أن يتخطى التنسيق الأطلسي الحدّ الأدنى المتمثّل في التبليغ.
حلف شمال الأطلسي موجود الآن، وفي أوروبا قوات أميركية لا يستهان بها. إلا أن الرؤية الفرنسية تبدو على المديين المتوسط والطويل صحيحة وواقعية، بينما تنتهج ألمانيا سياسة النعامة وكأن قطار الزمن توقف عند زمن الحرب الباردة حين كانت البلاد مقسومة شرقية وغربية.
وإذا كانت القارة العجوز التي شهدت حربين عالميتين مدمّرتين قد نجحت في الصمود بفضل السند الغربي الآتي من الغرب الأطلسي البعيد، فإن الخطر الشرقي بات الآن مضاعفاً مع تعاظم النفوذ الصيني والنفوذ الروسي، والتحالف الاستراتيجي المتبلور بين النفوذين. وسيغدو الدور الأطلسي أقل قدرة على التصدي في أوروبا مع التركيز الأميركي الواضح على الملعب البعيد في منطقة آسيا – الهادئ، وخصوصاً في مياه بحر الصين الجنوبي وعلى سواحله.
لعلّ وزير الخارجية الألماني سابقاً يوشكا فيشر لخّص الواقع جيداً بقوله: «بغية الحفاظ على الناتو، على الاتحاد الأوروبي أن يعمل وكأن الحلف قد زال بالفعل».



موسكو تلعب على التصعيد النووي في انتظار عودة ترمب إلى البيت الأبيض

الرئيس الروسي فلاديمير بوتين خلال اجتماع في موسكو 21 نوفمبر 2024 (رويترز)
الرئيس الروسي فلاديمير بوتين خلال اجتماع في موسكو 21 نوفمبر 2024 (رويترز)
TT

موسكو تلعب على التصعيد النووي في انتظار عودة ترمب إلى البيت الأبيض

الرئيس الروسي فلاديمير بوتين خلال اجتماع في موسكو 21 نوفمبر 2024 (رويترز)
الرئيس الروسي فلاديمير بوتين خلال اجتماع في موسكو 21 نوفمبر 2024 (رويترز)

يشكّل تحديث العقيدة النووية لروسيا الذي أعلنه الرئيس الروسي فلاديمير بوتين مؤخراً، تحذيراً للغرب، وفتحاً ﻟ«نافذة استراتيجية» قبل دخول الرئيس الأميركي المنتخب دونالد ترمب البيت الأبيض، وفق تحليل لصحيفة «لوفيغارو» الفرنسية.

«إن تحديث العقيدة النووية الروسية يستبعد احتمال تعرّض الجيش الروسي للهزيمة في ساحة المعركة»، بيان صادر عن رئيس الاستخبارات الخارجية الروسية، سيرغي ناريتشكين، لا يمكن أن يكون بياناً عادياً، حسب «لوفيغارو». فمن الواضح، حسب هذا التصريح الموجه إلى الغربيين، أنه من غير المجدي محاولة هزيمة الجيش الروسي على الأرض، لأن الخيار النووي واقعي. هذه هي الرسالة الرئيسة التي بعث بها فلاديمير بوتين، الثلاثاء، عندما وقّع مرسوم تحديث العقيدة النووية الروسية المعتمد في عام 2020.

ويدرك الاستراتيجيون الجيوسياسيون الحقيقة الآتية جيداً: الردع هو مسألة غموض (فيما يتعلّق باندلاع حريق نووي) ومسألة تواصل. «وفي موسكو، يمكننا أن نرى بوضوح الذعر العالمي الذي يحدث في كل مرة يتم فيها نطق كلمة نووي. ولا يتردد فلاديمير بوتين في ذكر ذلك بانتظام، وفي كل مرة بالنتيجة المتوقعة»، حسب الصحيفة. ومرة أخرى يوم الثلاثاء، وبعد توقيع المرسوم الرئاسي، انتشرت موجة الصدمة من قمة مجموعة العشرين في كييف إلى بكين؛ حيث حثّت الحكومة الصينية التي كانت دائماً شديدة الحساسية تجاه مبادرات جيرانها في ما يتصل بالمسائل النووية، على «الهدوء» وضبط النفس. فالتأثير الخارق الذي تسعى روسيا إلى تحقيقه لا يرتبط بالجوهر، إذ إن العقيدة النووية الروسية الجديدة ليست ثورية مقارنة بالمبدأ السابق، بقدر ارتباطها بالتوقيت الذي اختارته موسكو لهذا الإعلان.

صورة نشرتها وزارة الدفاع الروسية في الأول من مارس 2024 اختبار إطلاق صاروخ باليستي عابر للقارات تابع لقوات الردع النووي في البلاد (أ.ف.ب)

العقيدة النووية الروسية

في سبتمبر (أيلول) الماضي، وفي حين شنّت قوات كييف في أغسطس (آب) توغلاً غير مسبوق في منطقة كورسك في الأراضي الروسية، رد فلاديمير بوتين بتحديد أنه يمكن استخدام الأسلحة النووية ضد دولة غير نووية تتلقى دعماً من دولة نووية، في إشارة واضحة إلى أوكرانيا والولايات المتحدة. لكن في نسخة 2020 من الميثاق النووي الروسي، احتفظت موسكو بإمكانية استخدام الأسلحة الذرية أولاً، لا سيما في حالة «العدوان الذي تم تنفيذه ضد روسيا بأسلحة تقليدية ذات طبيعة تهدّد وجود الدولة ذاته».

وجاء التعديل الثاني في العقيدة النووية الروسية، الثلاثاء الماضي، عندما سمحت واشنطن لكييف باستخدام الصواريخ بعيدة المدى: رئيس الكرملين يضع ختمه على العقيدة النووية الجديدة التي تنص على أن روسيا ستكون الآن قادرة على استخدام الأسلحة النووية «إذا تلقت معلومات موثوقة عن بدء هجوم جوي واسع النطاق عبر الحدود، عن طريق الطيران الاستراتيجي والتكتيكي وصواريخ كروز والطائرات من دون طيار والأسلحة التي تفوق سرعتها سرعة الصوت». وحسب المتخصصة في قضايا الردع في المعهد الفرنسي للعلاقات الدولية (إيفري)، هيلواز فايت، فإن هذا يعني توسيع شروط استخدام السلاح النووي الروسي.

الرئيس الروسي فلاديمير بوتين يصافح الرئيس الأميركي المنتخب دونالد ترمب خلال اجتماع على هامش قمة مجموعة العشرين في أوساكا باليابان 28 يونيو 2019 (رويترز)

انتظار عودة ترمب

لفترة طويلة، لاحظ صقور الاستراتيجية الجيوستراتيجية الروسية أن الردع الروسي تلاشى. وبالنسبة إليهم، فقد حان الوقت لموسكو لإعادة تأكيد خطوطها الحمراء من خلال «إعادة ترسيخ الخوف» من الأسلحة النووية، على حد تعبير سيرغي كاراجانوف، الخبير الذي يحظى باهتمام فلاديمير بوتين. ةمن هذا المنظار أيضاً، يرى هؤلاء المختصون اندلاع الحرب في أوكرانيا، في 24 فبراير (شباط) 2022، متحدثين عن «عدوان» من الغرب لم تكن الترسانة النووية الروسية قادرة على ردعه. بالنسبة إلى هؤلاء المتعصبين النوويين، ينبغي عدم حظر التصعيد، بل على العكس تماماً. ومن الناحية الرسمية، فإن العقيدة الروسية ليست واضحة في هذا الصدد. لا تزال نسخة 2020 من العقيدة النووية الروسية تستحضر «تصعيداً لخفض التصعيد» غامضاً، بما في ذلك استخدام الوسائل غير النووية.

وحسب قناة «رايبار» المقربة من الجيش الروسي على «تلغرام»، فإنه كان من الضروري إجراء تحديث لهذه العقيدة؛ لأن «التحذيرات الروسية الأخيرة لم تُؤخذ على محمل الجد».

ومن خلال محاولته إعادة ترسيخ الغموض في الردع، فإن فلاديمير بوتين سيسعى بالتالي إلى تثبيط الجهود الغربية لدعم أوكرانيا. وفي ظل حملة عسكرية مكلفة للغاية على الأرض، يرغب رئيس «الكرملين» في الاستفادة من الفترة الاستراتيجية الفاصلة بين نهاية إدارة الرئيس الأميركي جو بايدن ووصول الرئيس المنتخب دونالد ترمب إلى البيت الأبيض، الذي يتوقع منه بوتين مبادرات سلام محتملة لإنهاء الحرب.

يسعى بوتين، وفق الباحثة في مؤسسة «كارنيغي»، تاتيانا ستانوفايا، لوضع الغرب أمام خيارين جذريين: «إذا كنت تريد حرباً نووية، فستحصل عليها»، أو «دعونا ننهي هذه الحرب بشروط روسيا».