نكهة عربية... في سادس أيام مهرجان الفيلم بمراكش

شهد تكريم المغربية منى فتو وعرض أفلام من المغرب والسعودية ومصر وفلسطين

التونسية هند صبري ومنى فتو في حفل تكريم الممثلة المغربية
التونسية هند صبري ومنى فتو في حفل تكريم الممثلة المغربية
TT

نكهة عربية... في سادس أيام مهرجان الفيلم بمراكش

التونسية هند صبري ومنى فتو في حفل تكريم الممثلة المغربية
التونسية هند صبري ومنى فتو في حفل تكريم الممثلة المغربية

جاء اليوم السادس من المهرجان الدّولي للفيلم في مراكش، في دورته الـ18. عربي النكهة، بعد أن شهد دخول فيلمين عربيين، من أصل ثلاثة، دائرة المنافسة على جوائز المهرجان: «آخر زيارة» لمخرجه السعودي عبد المحسن الضبعان، و«سيد المجهول» لمخرجه المغربي علاء الدين الجم. كما تم تكريم الممثلة المغربية منى فتو، التي تسلمت الدرع من يد الممثلة التونسية هند صبري. فيما شهدت ساحة جامع الفنا عرض فيلم «يوم للستات» لكاملة أبو ذكري، في حضور مخرجته إلى جانب بطلته المتألقة إلهام شاهين. وتابع جمهور قاعة «الوزراء»، في قصر المؤتمرات، ضمن فقرة «العروض الخاصة»، فيلم «إن شئت كما في السماء» لمخرجه الفلسطيني إيليا سليمان. كما تميز البرنامج بمواصلة أشغال «ورشات الأطلس»، ومتابعة برنامج فقرة «حوار» مع الممثل والمخرج وكاتب السيناريو الأوكراني سيرجي لوزنيتسا، مع عرض مجموعة من الأفلام في مختلف فقرات الدورة، بينها «تنفس» في حضور مخرجه الممثل الأسترالي سيمون بيكر، و«القصة الحقيقية لعصابة كيلي» لمخرجه جوستين كورزيل، و«طريق الغموض» لمخرجه إيفان سين، ضمن البرنامج الخاص بتكريم السينما الأسترالية، و«كوردون وبادي» لمخرجته السويدية ليندا هامباك، ضمن فقرة «الجمهور الناشئ»، و«كي دورسي» لمخرجه الفرنسي برتراند تافيرنيي، ضمن فقرة «الوصف المسموع»، و«أتلانتيك» لمخرجته الفرنسية ماتي ديوب، ضمن فقرة «القارة 11».
في أمسية تكريمها، مساء أول من أمس، قالت منى فتو، في كلمة بالمناسبة، إنّها لا تجد في قواميس اللغة كلمة تترجم افتخارها بالالتفاتة التي خصها بها المهرجان، وهي التفاتة قالت عنها إنها بقدر ما هي اعتراف وتقدير لعملها، هي، في الأصل، اعتراف بمجهودات كل المهنيين المغاربة في مجال السينما.
واستحضرت الممثلة المغربية، التي شهد حفل تكريمها حضور جمهور كبير، تقدمته النجمة الاسكوتلندية تيلدا سوينتون، رئيسة لجنة تحكيم المسابقة الرسمية لدورة هذه السنة، والممثلة الإيرانية جولشيفته فرحاني، والممثلة المصرية إلهام شاهين، فضلا عن عدد كبير من السينمائيين الأجانب والمغاربة، التحديات التي واجهتها والصداقات التي ربطتها داخل المشهد الفني.
ورأى كثيرون أن تكريم منى فتو مستحق، بالنظر إلى المسار الفني الذي بصمت عليه منذ ما يقرب من ثلاثين عاما، هي التي رأت النور قبل 49 سنة بالرباط، التي تابعت بها تكوينها في الفن الدرامي. واعتبر عدد من الفنانين المغاربة، ممن حضروا حفل تكريم زميلتهم، أن احتفاء دورة هذه السنة من مهرجان مراكش بمنى فتو هو تكريم لجيل جيد من الممثلين المغاربة، اشتغل بجد ليحفر اسمه داخل المشهد الفني.
ويتفق المتتبعون، ومعهم عموم الجمهور المغربي، على أنّ الولادة الحقيقية لهذه الفنانة كانت مع نزول فيلم «حب في الدار البيضاء»(1992) لمخرجه عبد القادر لقطع إلى القاعات السينمائية، وهو الفيلم الذي شكل انطلاقة مهمة لمشوارها المهني كممثلة، بعد أن حصد النجاح والإشادة، لـ«جرأة الخطاب» برأي البعض، و«جرأة الصورة» برأي آخرين.
واختصر الصحافي والسيناريست محمد العروسي ما تتمتع به منى فتو من موهبة فنية وخفة ظل، فضلا عن قيمتها كـ«فنانة شاملة متعددة المواهب»، وقدرتها على الجمع بين «التواضع والبساطة» و«الحزم في احترافيتها»، حين كتب في تقديمها ضمن الكتيب الخاص بالمهرجان: «جميع الأدوار التي جسدتها شدت إليها الانتباه من قبل الجمهور، أو لجان التحكيم الوطنية والدولية التي منحتها العديد من الجوائز. من منّا لا يتذكر، على سبيل المثال، تشخيصها اللافت للزوجة الرابعة الشابة الجميلة للمزواج الحاج بن موسى في فيلم «البحث عن زوج امرأتي» لمحمد عبد الرحمان التازي؟ لقد كان هذا الفيلم الرائع بمثابة تأكيد للموهبة الفذة التي تتمتع بها فتو على جميع المستويات، فأصبحت حينها الممثلة المحبوبة للمغاربة، ولعلها لا تزال كذلك إلى اليوم. منذ ذلك الحين، لم تتوقف فتو عن التألق من خلال مشاركاتها المتعددة في العديد من الأعمال السينمائية والتلفزيونية، وحتى المسرحية بنسبة أقل».
وفضلا عن فيلمي «حب في الدار البيضاء»، و«البحث عن زوج امرأتي»، أدت فتو دور البطولة في عدد كبير من الأعمال السينمائية، من قبيل «عبروا في صمت» لحكيم نوري، و«نساء ونساء» و«عطش» و«جوهرة» لسعد الشرايبي، و«طريق لعيالات» لفريدة بورقية، و«هنا ولهيه» و«أولاد البلاد» لمحمد إسماعيل، و«جوق العميين» لمحمد مفتكر، و«وليلي» لفوزي بنسعيدي، و«الرحيل عبر البحر» لكايل موريل. كما تميزت في التلفزيون، من خلال عدد آخر من الأعمال الفنية التي زادت من شهرتها بين المغاربة، بينها «جنان الكرمة»، و«ريحيمو»، وسلسلة «ياك حنا جيران»، و«الممثلة»، و«لوزين»، و«الدنيا دوارة».
تابع جمهور ساحة جامع الفنا، الفيلم المصري «يوم للستات»، الذي تدور أحداثه حول افتتاح حمام سباحة جديد بالقرب من إحدى المناطق الشعبية، وذلك في حضور مخرجته كاملة أبو ذكرى وبطلته إلهام شاهين، التي حرصت على أن تلتقي الجمهور المراكشي وهي تختال في قفطان مغربي.
وكان لافتا للانتباه أنّ فقرة «أفلام جامع الفنا»، من خلال الفيلم المصري، قد حافظت على مستوى الحضور الكبير الذي يحرص على متابعة عروضها منذ دورات، مستثمرة، في سبيل ذلك، ما يميز هذه الساحة الشهيرة من قدرة على استقطاب المراكشيين وسياح المدينة الحمراء، الذين يجمعون سحر المكان بمتعة الفن السابع.
واستمتع جمهور قاعة «الوزراء» بمتابعة فيلم «إن شئت كما في السماء»، في حضور مخرجه، الذي يشارك أيضا، ضمن فقرة الحوارات، إلى جانب 11 شخصية سينمائية من مختلف مناطق العالم.



100 عامٍ من عاصي الرحباني

عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)
عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)
TT

100 عامٍ من عاصي الرحباني

عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)
عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)

في الرابع من شهر الخِصب وبراعم اللوز والورد، وُلد عاصي الرحباني. كانت البلادُ فكرةً فَتيّة لم تبلغ بعد عامها الثالث. وكانت أنطلياس، مسقط الرأس، قريةً لبنانيةً ساحليّة تتعطّر بزهر الليمون، وتَطربُ لارتطام الموج بصخور شاطئها.
لو قُدّر له أن يبلغ عامه المائة اليوم، لأَبصر عاصي التحوّلات التي أصابت البلاد وقُراها. تلاشت الأحلام، لكنّ «الرحباني الكبير» ثابتٌ كحقيقةٍ مُطلَقة وعَصي على الغياب؛ مقيمٌ في الأمس، متجذّر في الحاضر وممتدّةٌ جذوره إلى كل الآتي من الزمان.


عاصي الرحباني خلال جلسة تمرين ويبدو شقيقه الياس على البيانو (أرشيف Rahbani Productions)

«مهما قلنا عن عاصي قليل، ومهما فعلت الدولة لتكريمه قليل، وهذا يشمل كذلك منصور وفيروز»، يقول المؤلّف والمنتج الموسيقي أسامة الرحباني لـ«الشرق الأوسط» بمناسبة مئويّة عمّه. أما الصحافي والباحث محمود الزيباوي، الذي تعمّق كثيراً في إرث الرحابنة، فيرى أن التكريم الحقيقي يكون بتأليف لجنة تصنّف ما لم يُنشر من لوحاته الغنائية الموجودة في إذاعتَي دمشق ولبنان، وتعمل على نشره.
يقرّ أسامة الرحباني بتقصير العائلة تجاه «الريبرتوار الرحباني الضخم الذي يحتاج إلى تضافر جهود من أجل جَمعه»، متأسفاً على «الأعمال الكثيرة التي راحت في إذاعة الشرق الأدنى». غير أنّ ما انتشر من أغانٍ ومسرحيات وأفلام، على مدى أربعة عقود من عمل الثلاثي الرحباني عاصي ومنصور وفيروز، أصبح ذخيرةً للقرون المقبلة، وليس للقرن الرحباني الأول فحسب.

«فوتي احفظي، قومي سجّلي»
«كان بركاناً يغلي بالعمل... يكتب بسرعة ولا يتوقف عند هاجس صناعة ما هو أجمل، بل يترك السرد يمشي كي لا ينقطع الدفق»، هكذا يتذكّر أسامة عمّه عاصي. وفي بال الزيباوي كذلك، «عاصي هو تجسيدٌ للشغف وللإنسان المهووس بعمله». لم يكن مستغرباً أن يرنّ الهاتف عند أحد أصدقائه الساعة الثالثة فجراً، ليخرج صوت عاصي من السمّاعة قارئاً له ما كتب أو آخذاً رأيه في لحنٍ أنهاه للتوّ.
ووفق ما سمعه الزيباوي، فإن «بعض تمارين السيدة فيروز وتسجيلاتها كان من الممكن أن يمتدّ لـ40 ساعة متواصلة. يعيد التسجيل إذا لم يعجبه تفصيل، وهذا كان يرهقها»، رغم أنه الزوج وأب الأولاد الأربعة، إلا أن «عاصي بقي الأستاذ الذي تزوّج تلميذته»، على حدّ وصف الزيباوي. ومن أكثر الجمل التي تتذكّرها التلميذة عن أستاذها: «فوتي احفظي، قومي سَجّلي». أضنى الأمر فيروز وغالباً ما اعترفت به في الحوارات معها قبل أن تُطلقَ تنهيدةً صامتة: «كان ديكتاتوراً ومتطلّباً وقاسياً ومش سهل الرِضا أبداً... كان صعب كتير بالفن. لمّا يقرر شي يمشي فيه، ما يهمّه مواقفي».


عاصي وفيروز (تويتر)
نعم، كان عاصي الرحباني ديكتاتوراً في الفن وفق كل مَن عاصروه وعملوا معه. «كل العباقرة ديكتاتوريين، وهذا ضروري في الفن»، يقول أسامة الرحباني. ثم إن تلك القسوة لم تأتِ من عدم، فعاصي ومنصور ابنا الوَعر والحرمان.
أثقلت كتفَي عاصي منذ الصغر همومٌ أكبر من سنّه، فتحمّلَ وأخوه مسؤولية العائلة بعد وفاة الوالد. كان السند المعنوي والمادّي لأهل بيته. كمعطفٍ ردّ البردَ عنهم، كما في تلك الليلة العاصفة التي استقل فيها دراجة هوائية وقادها تحت حبال المطر من أنطلياس إلى الدورة، بحثاً عن منصور الذي تأخّر بالعودة من الوظيفة في بيروت. يروي أسامة الرحباني أنها «كانت لحظة مؤثرة جداً بين الأخوين، أبصرا خلالها وضعهما المادي المُذري... لم ينسيا ذلك المشهد أبداً، ومن مواقفَ كتلك استمدّا قوّتهما».
وكما في الصِبا كذلك في الطفولة، عندما كانت تمطر فتدخل المياه إلى المدرسة، كان يظنّ منصور أن الطوفان المذكور في الكتاب المقدّس قد بدأ. يُصاب بالهلَع ويصرخ مطالباً المدرّسين بالذهاب إلى أخيه، فيلاقيه عاصي ويحتضنه مهدّئاً من رَوعه.

«سهرة حبّ»... بالدَين
تعاقبت مواسم العزّ على سنوات عاصي الرحباني. فبعد بدايةٍ متعثّرة وحربٍ شرسة ضد أسلوبه الموسيقي الثائر على القديم، سلك دروب المجد. متسلّحاً بخياله المطرّز بحكايا جدّته غيتا و«عنتريّات» الوالد حنّا عاصي، اخترع قصصاً خفتت بفعلِ سحرِها الأصواتُ المُعترضة. أما لحناً، فابتدعَ نغمات غير مطابقة للنظريات السائدة، و«أوجد تركيبة جديدة لتوزيع الموسيقى العربية»، على ما يشرح أسامة الرحباني.


صورة تجمع عاصي ومنصور الرحباني وفيروز بالموسيقار محمد عبد الوهاب وفريد الأطرش، بحضور بديعة مصابني وفيلمون وهبي ونجيب حنكش (أرشيف Rahbani Productions)
كان عاصي مستعداً للخسارة المادية من أجل الربح الفني. يحكي محمود الزيباوي أنه، ولشدّة مثاليته، «سجّل مسرحية (سهرة حب) مرتَين ولم تعجبه النتيجة، فاقترض مبلغاً من المال ليسجّلها مرة ثالثة». ويضيف أن «أساطير كثيرة نُسجت حول الرحابنة، لكن الأسطورة الحقيقية الوحيدة هي جمال عملهم».
ما كانت لتكتمل أسطورة عاصي، لولا صوت تلك الصبية التي دخلت قفصَه الذهبي نهاد حدّاد، وطارت منه «فيروز».
«أدهشته»، يؤكّد الزيباوي؛ ويستطرد: «لكنّ أحداً منهما لم يعرف كيف يميّز بين نهاد حداد وفيروز»... «هي طبعاً المُلهِمة»، يقول أسامة الرحباني؛ «لمح فيها الشخصية التي لطالما أراد رسمَها، ورأى امرأةً تتجاوب مع تلك الشخصية»، ويضيف أن «عاصي دفع بصوت فيروز إلى الأعلى، فهو في الفن كان عنيفاً ويؤمن بالعصَب. كان يكره الارتخاء الموسيقي ويربط النجاح بالطبع الفني القوي، وهذا موجود عند فيروز».


زفاف عاصي الرحباني ونهاد حداد (فيروز) عام 1955 (تويتر)

دماغٌ بحجم وطن
من عزّ المجد، سرقت جلطة دماغيّة عاصي الرحباني عام 1972. «أكثر ما يثير الحزن أن عاصي مرض وهو في ذروة عطائه وإبداعه، وقد زادت الحرب اللبنانية من مرضه وصعّبت العمل كثيراً»، وفق الزيباوي. لم يكن القلق من الغد الغامض غريباً عليه. فهو ومنذ أودى انفجارٌ في إحدى الكسّارات بحياة زوج خالته يوسف الزيناتي، الذي كان يعتبره صياداً خارقاً واستوحى منه شخصيات لمسرحه، سكنته الأسئلة الحائرة حول الموت وما بعدَه.
الدماغ الذي وصفه الطبيب الفرنسي المعالج بأنه من أكبر ما رأى، عاد ليضيء كقمرٍ ليالي الحصّادين والعاشقين والوطن المشلّع. نهض عاصي ورجع إلى البزُق الذي ورثه عن والده، وإلى نُبله وكرمه الذي يسرد أسامة الرحباني عنهما الكثير.
بعد المرض، لانت قسوة عاصي في العمل وتَضاعفَ كرَمُه المعهود. يقول أسامة الرحباني إن «أقصى لحظات فرحه كانت لحظة العطاء». أعطى من ماله ومن فِكرِه، وعُرف بيدِه الموضوعة دائماً في جيبِه استعداداً لتوزيع النقود على المحتاجين في الشارع. أما داخل البيت، فتجسّد الكرَم عاداتٍ لطيفة وطريفة، كأن يشتري 20 كنزة متشابهة ويوزّعها على رجال العائلة وشبّانها.
خلال سنواته الأخيرة ومع احتدام الحرب، زاد قلق عاصي الرحباني على أفراد العائلة. ما كان يوفّر مزحة أو حكاية ليهدّئ بها خوف الأطفال، كما في ذلك اليوم من صيف 1975 الذي استُهدفت فيه بلدة بكفيا، مصيَف العائلة. يذكر أسامة الرحباني كيف دخل عاصي إلى الغرفة التي تجمّع فيها أولاد العائلة مرتعدين، فبدأ يقلّد الممثلين الأميركيين وهم يُطلقون النار في الأفلام الإيطالية، ليُنسيَهم ما في الخارج من أزيز رصاص حقيقي. وسط الدمار، بنى لهم وطناً من خيالٍ جميل، تماماً كما فعل وما زال يفعل في عامِه المائة، مع اللبنانيين.


عاصي الرحباني (غيتي)