ما أن أعلن رئيس الوزراء العراقي عادل عبد المهدي عزمه تقديم استقالته انسجاماً مع طلب المرجع الشيعي الأعلى آية الله علي السيستاني، حتى بدأت حرب تسريبات الأسماء البديلة لتولي المنصب.
عبد المهدي الذي جاءت به الكتل السياسية العراقية منقذاً لنظام سياسي يواجه انسداداً غير مسبوق، ذبحته الكتل نفسها من الوريد إلى الوريد وحوّلته من رجل الفرصة الأخيرة إلى كبش فداء لبقائها وهي تواجه مصدومة شارعاً غاضباً، لم يعد يقبل بأنصاف الحلول التي اعتادت عليها هذه الطبقة السياسية منذ عام 2003 بعد تأسيس النظام السياسي الحالي إثر إسقاط نظام صدام حسين.
غير أن الاستقالة تختبر أيضاً المسار الذي اتخذته الكتل والأحزاب والقوى والزعامات، وهو المحاصصة العرقية والطائفية التي انتهت إلى نوع من تقاسم المغانم والنفوذ من دون اهتمام بالمجتمع، ولا سيما الأجيال الجديدة، سواء على مستوى فرص العمل أو جودة التعليم أو الضمان الصحي والاجتماعي.
ومع أن الطبقة السياسية العراقية واجهت على مدى 16 عاماً صدمات عدة، لكنها تمكنت من استيعابها أو توظيفها بشكل أو بآخر لصالحها، من صدمة تفجير مرقدي سامراء عام 2006 والتي نتجت عنها حرب أهلية محدودة بين 2006 و2008. وصدمة المظاهرات بدءاً من عام 2011 إلى 2018، وصولاً إلى صدمة احتلال تنظيم «داعش» ثلث الأراضي العراقية عام 2014.
خلال الحرب الأهلية كان الجيش الأميركي لا يزال موجوداً في العراق، وبالتالي تمكن من ضبط زمام الأمور بشكل أو بآخر عبر مجموعة آليات، بينها تشكيل قوات الصحوات من أبناء المناطق الغربية، ولا سيما الأنبار، والتي تولت طرد تنظيم «القاعدة» وقتل أبرز قادته، وفي مقدمتهم أبو مصعب الزرقاوي (2006) وأبو عمر البغدادي وأبو حمزة المهاجر (2010).
أما المظاهرات فتمكنت الطبقة السياسية من استيعابها، سواء عبر القيام بإصلاحات وإن بدت ترقيعية أو محاولة تفهم طريقة تفكير الخصوم حين يحركون الشارع. ليس هذا فقط، بل تباهت الحكومات العراقية بأنها الوحيدة بين دول المنطقة التي تتمتع بسقف عالٍ من الديمقراطية وحرية التعبير عبر مظاهرات كبيرة؛ خصوصاً في 2015 حين اقتحمت المنطقة الخضراء التي كانت شديدة التحصين مرتين.
أما صدمة «داعش» فقد كانت تهديداً حقيقياً أول الأمر لمجمل النظام السياسي؛ خصوصاً أن هذا التنظيم تمكن من احتلال نحو ثلث مساحة العراق عبر محافظات عدة (نينوى وصلاح الدين والأنبار) وأجزاء من ديالى وكركوك. وفي وقت تحول سكان المحافظات الغربية السنة إلى نازحين، فإن تنظيم «داعش» عبر شعاراته بدأ يمثل تهديداً للمدن والمقدسات الشيعية. لكن العراق تمكن من هزيمة التنظيم عسكرياً أواخر عام 2017.
غير أن صدمة اليوم الأول من أكتوبر (تشرين الأول) الماضي فاقت هذا كله، فهو لم يكن يوماً عادياً في مسيرة الطبقة السياسية العراقية برئاساتها وأحزابها وكتلها وزعاماتها التي أدمنت استيعاب الصدمات، إما بمهدئات ومسكنات داخلية وإما برعاية حتى بتدخل خارجي أميركي أو إيراني، وبالذات عند تشكيل الحكومات.
فالسفيران الأميركي والإيراني يكونان الأكثر نشاطاً، بل صراعاً، على صعيد إكمال الطبخة التي كثيراً ما تأتي بطريقة توافقية حتى مع تباين أحجام الكتل البرلمانية الداعمة لرئيس الوزراء المرشح أو المصادق عليه أو الرافضة له. لكن الأمر بالنسبة لعادل عبد المهدي اختلف تماماً. ففي الوقت الذي لم يتمكن التحالفان الكبيران اللذان أنتجتهما انتخابات 2018 وهما «الإصلاح» و«البناء» من حسم «الكتلة الأكبر» التي ترشح رئيس الوزراء، فإنهما أوكلا مهمة المجيء برئيس وزراء توافقي إلى كتلة «سائرون». اتفقت الكتلتان على المجيء بعبد المهدي بوصفه مرشحاً توافقياً، لكن عبر توافق هش اعترف بهشاشته الجميع. وحين شكل حكومته بشق الأنفس والتي بقيت «ناقصة» لسنة كاملة، أطلق عليها حكومة «الفرصة الأخيرة».
وبعد خروج مظاهرات ضخمة سرعان ما تحولت إلى احتجاجات وانتفاضة راح ضحيتها حتى الآن أكثر من 400 قتيل وأكثر من 15 ألف جريح، وتقديم عبد المهدي استقالته وفقاً لما طالبت به المرجعية الدينية، لا وفقاً لاختياره، فإن الكتل السياسية بدا أنها تدفع ثمن عدم قدرتها على الحفاظ على «الفرصة الأخيرة»، ما يعزز سؤال الساعة عمن لديه القدرة على استعادة زمام الأمور في مواجهة انطلاق مظاهرات غير مسبوقة تريد تغييراً كاملاً للمعادلة السياسية في البلاد.
وتبدو الإجابة على مثل هذا السؤال صعبة، ولا سيما مع بدء تداول أسماء بدلاء عبد المهدي. وحيال هذه المسألة بالذات تبدو الهوة شاسعة بين الطبقة السياسية والمتظاهرين. ففيما يريد المتظاهرون تغييراً كاملاً للمعادلة لا يقتصر على استقالة رئيس الوزراء، بل حلّ البرلمان والذهاب إلى انتخابات مبكرة، فإن الطبقة السياسية بدأت تسرب الأسماء البديلة.
حتى حرب التسريبات مقصودة تماماً، ففي وقت يجري تسريب أسماء لغرض حرقها أمام الشارع المنتفض، يجري تسريب أسماء أخرى لغرض معرفة ردود فعل الشارع المنتفض حيالها. بعض من وردت أسماؤهم استبقوا ذلك بإعلان براءتهم من أي ترشيح، خشية حرق أسمائهم، بينما سكت آخرون، لعل وعسى أن يجدوا فرصة لقبولهم في الشارع.
والشارع من جهته قال كلمته الرافضة للجميع، وهو أمر سيعقد المشهد تماماً. عبد المهدي ذهب بنفسه إلى ميدان الذبح ممتثلاً لأمر المرجع، بينما بقيت الكتل السياسية حائرة حيال من هو المرشح القادم المقبول في ظل ظروف صعبة وشديدة التعقيد، يعبر عنها مثل عراقي عامي مشهور، وهو «الشق كبير والرقعة صغيرة».
الكتل السياسية العراقية تدفع ثمن فقدان «الفرصة الأخيرة»
الكتل السياسية العراقية تدفع ثمن فقدان «الفرصة الأخيرة»
لم تشترك بعد
انشئ حساباً خاصاً بك لتحصل على أخبار مخصصة لك ولتتمتع بخاصية حفظ المقالات وتتلقى نشراتنا البريدية المتنوعة