نعومة السيستاني وقبضة خامنئي في وجه مظاهرات العراق وإيران

متظاهرون عراقيون يطالبون بإنهاء النفوذ الإيراني في بلدهم (أ.ب)
متظاهرون عراقيون يطالبون بإنهاء النفوذ الإيراني في بلدهم (أ.ب)
TT

نعومة السيستاني وقبضة خامنئي في وجه مظاهرات العراق وإيران

متظاهرون عراقيون يطالبون بإنهاء النفوذ الإيراني في بلدهم (أ.ب)
متظاهرون عراقيون يطالبون بإنهاء النفوذ الإيراني في بلدهم (أ.ب)

مع هيمنة أنباء المظاهرات الأخيرة التي اجتاحت مختلف أرجاء إيران، والتي تعد الثانية من نوعها في غضون أقل عن عام، على عناوين الأخبار، كانت هناك تطورات مهمة أخرى ربما لم تحظَ بالاهتمام الذي تستحقه. من بين هذه التطورات وقوف مؤسسة رجال الدين الشيعة في مواجهة ما يمكن اعتباره التحدي الأكبر الذي يجابهها منذ تشكيلها في القرن الـ16.
ونظراً لأن كثيراً من أعضاء النخبة الحاكمة في إيران يرتدون ملابس دينية، غالباً ما يفترض المراقبون من الخارج أن رجال الدين الشيعة كمؤسسة يحكمون إيران. إلا أنه عند إلقاء نظرة تفحص عن قرب أكبر يتضح أن هذا الاعتقاد لا يعدو كونه خداعاً بصرياً، وليس حقيقة.
طبقاً لأعلى التقديرات المتاحة، فإن إيران والهند والعراق التي تضم معاً قرابة 80 في المائة من شيعة العالم، يوجد بها نحو 400 ألف رجل دين، معظمهم إيرانيون أو يتباهون بخلفية إيرانية ما. ومع هذا، نجد أن نسبة ضئيلة للغاية منهم تتعاون مع طهران. وتشير الأرقام إلى أن إيران توظف نحو 25 ألف رجل دين في إيران، وتمول 10 آلاف رجل دين آخرين في العراق ولبنان وسوريا وأفغانستان والهند وباكستان وعدد من الدول الأفريقية والآسيوية الأخرى. في إيران، أكبر فئة من الملالي موجودة على قائمة الأجور الحكومية، تتمثل في أئمة صلاة الجمعة الذين يتولى تعيينهم جميعاً «المرشد الأعلى» آية الله خامنئي.
أيضاً، يتولى خامنئي تعيين وتمويل أعضاء «مجلس الفتوى»، البالغ عددهم تسعة أعضاء، ويوجد في قم، ويضم شخصيات بارزة، مثل آية الله ناصر مكارم شيرازي. بجانب ذلك، تسيطر الجمهورية الإسلامية على «الحوزة العلمية» في قم، التي يترأسها آية الله محمد يزدي، وتتولى تمويلها.
ومع هذا، تمكنت النسبة الأكبر من المؤسسة الدينية في إيران من الاحتفاظ بقدر كبير من استقلاليتها التقليدية عن السلطة السياسية.
وتبعاً لتقديرات أعلنها حسن خلخالي، وهو باحث بارز في الشؤون المرتبطة برجال الدين، فإنه فيما يخص أعداد التابعين (المقلدين)، فإن أعداد رجال الدين المعينين من قبل الدولة لا يشكل أكثر من 10 في المائة من إجمالي عددهم. كما أن ما يزيد على 90 في المائة من الإيرانيين الذين ما يزالون يدفعون «الخمس» أو «سهم الإمام»، وهي ضريبة غير رسمية تدفع لرجال الدين، يوجهون أموالهم إلى ملالي بعيدين عن الدولة بأكبر قدر ممكن، في ظل الظروف الحالية في البلاد.
وطبقاً لما أفادت به مصادر في قم، فإن آية الله العظمى علي محمد السيستاني، رجل الدين الإيراني البارز الذي يعيش في النجف، ويعترف به اليوم بصفته «مرجع التقليد» الحالي، يحصل على أكثر من نصف جميع «التبرعات» التي يقدمها الإيرانيون. وفي المقابل، يعيد تدويرها عبر ما يزيد على 150 مؤسسة تجارية ومنظمة خيرية.
ويعني ذلك كله أن حلم آية الله الراحل الخميني بدمج الدين والدولة في إيران لم يتحقق، ذلك أن الجمهورية الإسلامية التي أسسها سرعان ما عادت إلى النموذج الأصلي الذي لعبت خلاله مؤسسة رجال الدين الشيعية دوراً بارزاً، بينما ظلت السلطة السياسية الأولى في يد الحاكم. وفي ظل قيادة الخميني وخامنئي، يضطلع بدور الحاكم رجل دين، والذي رغم ذلك يبقى عاجزاً عن ادعاء التفوق في الشؤون الدينية. ونظراً لكونه واحداً من أكبر 20 رجل دين في عصره، كان الخميني «مرجع التقليد» لكثير من المؤمنين في أجزاء من إيران، لكنه لم يبلغ قط المكانة الكبرى التي بلغها رجال دين آخرون من حاملي لقب آية الله العظمى، مثل عبد الحسن أصفهاني أو محمد حسين البروجردي في المناطق التي كانوا فيها. واليوم، تبدو مكانة خامنئي التي يتظاهر في إطارها بكونه «مرجعية» محط شكوك أكبر.
وتبعاً لما أوضحه كاظم أسار، الخبير البارز في الشأن الديني الشيعي، فإن «المرجع» ينبغي أن تتوافر فيه خمسة شروط.
أولها أنه ينبغي أن يكون من نسل فاطمة ابنة النبي (صلى الله عليه وسلم). والشرط الثاني أن يكون من خلفية إيرانية، ويحمل الجنسية الإيرانية. والثالث أن يكون قادراً على التحدث بالفارسية والعربية بطلاقة. ورابعاً: ينبغي لمن يصبح «مرجعاً» أن يكون قد نشر «رسالة» تشهد على علمه. وأخيراً، ينبغي أن يكون مشهوداً له من قبل عدد من آيات الله العظمى بأنه الأول بين نظراء.
وفيما يخص خامنئي، نجد أنه تتوافر فيه الشروط الثلاثة الأولى، لكنه بعيد للغاية عن الاثنين الأخيرين. كانت الدائرة المقربة منه قد روجت إشاعات، مفادها أنه وضع اللمسات الأخيرة على «الرسالة» التي سيقدمها قريباً. وقال أفراد مقربون من دائرة خامنئي إن الرسالة «جاهزة»، لكنه يخشى تعرضه لانتقادات محتملة، ما يدفعه نحو الإرجاء المستمر لنشرها كاملة.
وقد منعه الخوف نفسه من نشر مجموعات من أشعاره التي نظمها على مدار ما يزيد على نصف قرن، لكنها غير معروفة سوى لحفنة من المقربين منه. ويتلقى خامنئي رسائل إشادة من آيات الله يدفع لهم أموالاً في قم وغيرها، لكن لم يشهد له قط باعتباره «الأول بين نظراء».
وقد سببت له هذه النقطة الأخيرة عدداً من المشكلات. على سبيل المثال، ليس بإمكان خامنئي السفر إلى النجف في العراق، أقدس المدن لدى الشيعة، لأنه لو ذهب هناك سيكون مضطراً لمقابلة السيستاني واثنين أو ثلاثة آخرين هناك يحملون لقب آية الله العظمى. إلا أنه من غير المحتمل أن يتوجه السيستاني وربما آيات الله العظمى الآخرون إلى مقر إقامة خامنئي لأن هذا يعني اعترافاً منهم بأنه أعلى مرتبة عنهم.
وإذا ذهب خامنئي إلى السيستاني، مثلاً، فإن هذا يعني تخليه عن ادعائه بأنه زعيم الشيعة، أو مثلما ينص دستور جمهوريته: زعيم «الأمة الإسلامية» ككل.
وقد حالت اعتبارات لقاء السيستاني من سفر خامنئي إلى العراق. جدير بالذكر أنه قبل استيلاء الخميني على السلطة عام 1979، اعتاد السيستاني على السفر لإيران كل عام للحج إلى قم، ومسقط رأسه مشهد. إلا أنه اضطر لإنهاء هذا التقليد لأنه إذا سافر لإيران، سيضطر لزيارة الخميني أو خامنئي الآن، وبالتالي سيأتي هذا بمثابة اعتراف بأنهما أعلى مكانة منه. وفي الوقت ذاته، إذا تجاهلهما، ولم يأتيا لزيارته، سيكون هذا مؤشراً على وجود صدع خطير في مؤسسة رجال الدين الشيعة.
وفي تلك الأثناء، يظهر جيل جديد من رجال الدين في قم والنجف، الذين إذا ما استمر الدين كعامل محوري في المجتمع، من المحتمل أن يسعوا لخلق أكبر مسافة ممكنة بينهم وبين الرؤية العالمية لخامنئي. على سبيل المثال، نجد أن آية الله العظمى محمد جواد علوي البروجردي الذي رغم احتفاظه بعلاقات طيبة مع خامنئي، يرسم ببطء مساراً مختلفاً تماماً للمجتمع الشيعي.
وبذلك، يتضح أن تأسيس الجمهورية الإسلامية كان بدعة مصيرها الرفض الحتمي من جانب التقاليد الدينية الشيعية. لقد كانت محاولة لدمج السلطات السياسية والدينية أمراً يعد ممقوتاً لدى النموذج الصفوي الأصلي. وعلى مدار العقود الأربعة الماضية، تسببت هذه الجمهورية في تقسيم الشيعة بين عالمين: أحدهما ديني والآخر سياسي، يحاولان التعايش معاً، لكن بصعوبة.
ويشير الواقع السياسي اليوم إلى أن المذهب الشيعي يقوده خامنئي الذي يسيطر على بلد كبير، وكذلك موارد مالية واقتصادية كبيرة، رغم المشكلات الراهنة في تدفق السيولة.
وداخل كثير من المراكز، من الممكن أن يسهم هذا الواقع السياسي في شراء التأييد، بجانب خلق وتمويل جيوش موازية وجماعات مرتزقة في العراق ولبنان وسوريا واليمن وغزة وغيرها. ومع هذا، ليس بإمكان هذا الواقع السياسي الفوز بسلطة حقيقية على الصعيد الديني. حتى داخل لبنان الذي أنفقت الجمهورية الإسلامية فيه أكثر من 20 مليار دولار على مدار العقود الماضية، ما تزال الغالبية الكاسحة من الشيعة تتطلع نحو النجف وقم، وليس طهران، كمصدر للإرشاد الديني.
ويسلط رد فعل السيستاني وخامنئي تجاه الفوضى السياسية الحالية في العراق وإيران الضوء على حالة الفصام السياسي - الديني التي تضرب الشيعة اليوم، فقد انحاز السيستاني إلى صف المتظاهرين، ونصح السلطات بالتعامل معهم بما يمكن وصفه بـ«قفاز التعامل مع الأطفال»، أي برفق ولين، ذلك أن هدفه يكمن في الإبقاء على صلاته بالمجتمع. أما خامنئي، فيوجه باتباع سياسة القبضة الحديدية لأنه يرغب في إطالة أمد الوضع السياسي الراهن.



الغزّيون ملّوا الحروب ويحلمون بحياة تشبه الحياة

سيدة فلسطينية تبحث عن ابنها المفقود عبر صورته على هاتفها في مخيم جباليا (رويترز)
سيدة فلسطينية تبحث عن ابنها المفقود عبر صورته على هاتفها في مخيم جباليا (رويترز)
TT

الغزّيون ملّوا الحروب ويحلمون بحياة تشبه الحياة

سيدة فلسطينية تبحث عن ابنها المفقود عبر صورته على هاتفها في مخيم جباليا (رويترز)
سيدة فلسطينية تبحث عن ابنها المفقود عبر صورته على هاتفها في مخيم جباليا (رويترز)

بخلاف الناس في البلدان الأخرى وحتى تلك التي تشهد حروباً، لا يملك أهالي قطاع غزة بعد عام على الحرب الإسرائيلية المجنونة عليهم، ترف الحزن على أحبائهم وبيوتهم وذكرياتهم. لقد فقدوا البلد، كل البلد بكل ما فيها: البيوت، والحارات، والشوارع، والناس، والمساجد، والكنائس، والمحال، والمستشفيات، والمدارس والجامعات... كل شيء أصبح كأنه مجرد ذكرى من حياة سابقة، وهم نفدت طاقتهم على الحزن.

لا يعرف الغزيون اليوم ماذا ينتظرهم، لكن بخبرة العارفين بالحروب، يدركون جيداً أن بؤس الحرب لا ينتهي مع وقف إطلاق النار. إنه بؤس ممتد، تغلّفه أسئلة كثيرة: مَن يعيد الأحبَّة والبلاد؟ مَن يبني البيوت؟ كم سنعيش في الخيام؟ من أين وإلى متى وكيف سنؤمّن قوت من بقي حيّاً من أبنائنا؟ والحال أن كثيرين لا تشغلهم هذه الأسئلة لأنهم مرهقون بأسئلة أصعب، أين يجدون جثامين أحبائهم؟ ومتى قد يلتقون أحباء مفقودين؟ وكم سيصمدون على قيد الحياة أصلاً؟

إنها أسئلة الحرب المدمّرة التي تدخل عامها الثاني، وهي حرب غيَّرت إلى حد كبير تفكير الغزيين حول كل شيء.

«الشرق الأوسط» جالت على مَن بقي ورصدت ماذا غيَّرت الحرب في فكر سكان القطاع وعقولهم وقلوبهم.

ليس الكثير فيما يتعلق بحب البلد والعداء لإسرائيل، لكن الكثير والكثير فيما يتعلق بمستقبلهم، ومَن يحكمهم، وإذا كانت الهجرة أفضل أم البقاء.

أطفال فلسطينيون هاربون من قصف إسرائيلي استهدف مكان نزوحهم في رفح (أ.ف.ب)

حلم الهجرة والأمان

يلخص تفكير أيسر عقيلان، وهو خريج كلية التجارة من الجامعة الإسلامية في غزة، ونازح من مخيم الشاطئ غرب المدينة إلى خان يونس جنوب القطاع، ما يجول في عقل كثيرين من الشبان مثله.

قال عقيلان (27 عاماً) لـ«الشرق الأوسط» إنه يخطط لمغادرة القطاع في أي لحظة. وحاول عقيلان كثيراً الحصول على مبلغ 6 آلاف دولار، لتأمين سبيل سفر عبر معبر رفح، إلى مصر ثم البحث عن حياة جديدة، لكنه لم ينجح.

وقال الشاب: «في أول فرصة سأغادر. لم أكن قادراً على العمل قبل الحرب، والآن لا أعتقد أن ذلك سيكون ممكناً أبداً. لا توجد أعمال. لا يوجد بلد أصلاً. لقد دمَّروا كل شيء». وحسب الإحصائيات التي تصدر عن جهات حكومية وأهلية مختصة، فإنه حتى قبل الحرب، كان أكثر من 64 في المائة من سكان قطاع غزة يعانون البطالة وانعدام فرص العمل، واليوم يعتقد أن هذه النسبة باتت شبه كاملة. ورغم صعوبة الحياة قبل الحرب لم يفكر عقيلان في الهجرة، لكن «وجهة نظره في الحياة» تغيرت في أثناء الحرب، كما قال.

ومن يتحدث لأهالي غزة لا يفوته أن غالبية الجيل الشاب ترغب في الهجرة، والبحث عن مستقبل جديد، غير آبهين بما سيصبح عليه الحال في القطاع. وقال باسل سالم (31 عاماً)، الذي حالفه الحظ بالخروج من غزة مع زوجته وطفلته الوحيدة: «لم يبقَ أمامي أي خيارات أخرى. كل ما فكرت فيه هو إنقاذ زوجتي وابنتي من جحيم الحرب».

كان سالم قد فقد شقته السكنية التي امتلكها قبل الحرب بقليل وهو سبب آخر دفعه للهجرة، موضحاً لـ«الشرق الأوسط»: «لم يعد هناك بيت يؤويني، تشردنا وتعبنا ومرضنا وشعرت أني وسط كابوس لعين». ونجح الآلاف من الغزيين خصوصاً الغزيين، ممن يحملون جنسيات مزدوجة، في السفر قبيل سيطرة إسرائيل على معبر رفح، ووصلوا إلى بلدان مختلفة، في حين استقر آخرون لا يملكون جنسيات أخرى، داخل مصر، وبعضهم في تركيا. ويعمل سالم في مجال التصميم والغرافيك؛ الأمر الذي سهَّل سفره إلى الخارج من أجل الحصول على فرصة عمل تتيح له الاستمرار بحياة أفضل. ولا يجد سالم كلمات تصف «الأمان» الذي يشعر به مع عائلته: «هذا أهم ما في الحياة».

وفي وقت تغيب الإحصاءات الدقيقة لمن هاجروا إبان الحرب وخلالها، يذهب بعض التقديرات الأهلية إلى أن العدد الإجمالي يزيد على 220 ألفاً.

ومثل سالم لا تخطط إيمان ساقلا (59 عاماً) التي كانت في رحلة علاج خارجية مع بدء الحرب على غزة، للعودة، بل نجحت في التنسيق لإنقاذ أفراد أسرتها وإحضارهم إليها في مصر لكونها تحمل الجنسية المصرية، لكن أيضاً بعد دفع مبالغ طائلة. وقالت ساقلا: «لم يعد لنا في غزة مستقبل. ربما نعود إليها بعد أعوام، لكن الآن لا يوجد سوى الموت والدمار والخراب».

وبينما يرى سالم وساقلا أنهما قد نجوا بنفسيهما وأسرتيهما من جحيم الحرب، يعيش مئات الآلاف من الغزيين، خصوصاً الشبان، في ظروف صعبة ويمنّون النفس بالمغادرة. لكن ليست هذه حال كل الغزيين بالطبع.

سمير النجار (52 عاماً) من سكان بلدة خزاعة، شرقي شرق خان يونس، والذي فقد منزله بعد تجريفه من آليات إسرائيلية، وبات مشرداً ونازحاً في خيمة أقامها غرب المدينة، قال إنه يفضل البقاء في القطاع، وينتظر انتهاء الحرب كي يستصلح أرضاً كان يزرعها.

رجل فلسطيني يسقي نباتاته في جباليا (رويترز)

وقال النجار: «أفهم الذين ينوون الرحيل من هنا. لكن أنا أفضّل الموت هنا. لا أعتقد أن لديّ فرصة لتأسيس حياة جديدة خارج القطاع. كل ما أريده من الحياة هو إعادة بناء واستصلاح أرضي... ولا شيء أكثر».

والنجار واحد من مئات الآلاف الذين فقدوا منازلهم في غزة. ووفقاً لتقديرات أممية حتى شهر أغسطس (آب) الماضي، فإن نحو ثلثي المباني في قطاع غزة تضررت أو دُمرت منذ بدء الحرب، وأن القطاع يحتاج إلى أكثر من 15 عاماً حتى يتم إعادة إعماره. ويتطلع النجار لإعادة الإعمار، ويعتقد أن أي جهة قادرة على إعادة الإعمار هي التي يجب أن تحكم غزة.

وأضاف: «بعد كل هذه الحروب. نريد أن نعيش. بصراحة لم أعد أكترث بالحرب ولا السياسة ولا من يحكمني. أنا أريد العيش فقط. العيش بعيداً عن الحروب والقتل والدمار».

وتتفق نجوى الدماغ (47 عاماً) مع النجار ولا تفكر بمغادرة القطاع، لكنها تمنّي النفس بحياة أفضل.

وقالت الدماغ لـ«الشرق الأوسط» إنها تفضّل البقاء في غزة، لكنها تريد السلام والأمن. وأضافت: «تعبنا من الحروب. أعتقد ما ظل فينا نَفَس. صار وقت نعيش بسلام».

ولا تهتم الدماغ بمن يحكمها، «المهم أن نعيش مثل بقية البشر». وهذا شعور انتقل تلقائياً لابنتها إيمان (22 عاماً) التي خرجت من هذه الحرب وهي لا تثق بأي فصيل فلسطيني سياسي.

وقالت إيمان: «كلهم (الفصائل) يبحثون عن مصالحهم الشخصية ولديهم أجندات. لا أحد يفكر أو يهتم للناس». وبخلاف والدتها، تسعى إيمان للهجرة وبناء حياة جديدة في الخارج «بعيداً من تجار الحروب والدم»، كما قالت.

دمار بمقرّ المجلس التشريعي الفلسطيني في مدينة غزة (أ.ف.ب)

وبينما يعيش مئات آلاف من الغزيين في مخيمات نزوح موزعة في كل قطاع غزة، تعيش الأغلبية الباقية في منازل شبه مدمَّرة أو نازحين عند أقاربهم، ويعانون مجاعة حقيقية وغلاء أسعار فاحشاً، والكثير من الفوضى التي عمقت شكل المأساة في القطاع. وقال كثير من الغزيين الذي سألتهم «الشرق الأوسط» عن مستقبلهم إنهم لا يفضلون الفصائل ويتطلعون إلى «حكومة مسؤولة»، وفق تعبيرهم.

وشرح الكاتب والمحلل السياسي مصطفى إبراهيم، ذلك بالقول إن الغزيين لم يعودوا يهتمون بما تتبناه الفصائل وحتى السلطة الفلسطينية من شعارات «ليس لها من الواقع نصيب». وأضاف: «هم يفضّلون جهة تحكمهم قادرة على وقف نزيف الدم وأن تعيد بناء منازلهم وتوفر لهم فرص عمل يستعيدون بها حياتهم». ورأى إبراهيم أن «الأفق السياسي لليوم التالي للحرب ما زال غامضاً ولا يمكن التنبؤ به؛ مما شكّل حالة من اليأس لدى السكان ودفعهم لعدم الاهتمام بمن يحكمهم بقدر اهتمامهم بمصيرهم ومستقبل حياتهم في اللحظة التي تتوقف فيها الحرب».

طفل فلسطيني يسير أمام أنقاض المباني في مدينة غزة (أ.ف.ب)

ويرى إبراهيم أن السكان في غزة ملّوا من الصراع مع إسرائيل والحرب التي تتكرر كل بضعة أعوام، واليوم أصبحوا أكثر من أي وقت مضى يفكرون بالهجرة في حال أُتيحت لهم فرصة حقيقية. وأضاف: «الكلام الذي لا يقوله أهل غزة على الملأ هو: لماذا نحن؟ القضية الفلسطينية والقدس والأقصى ليست قضيتنا وحدنا... فلماذا وحدنا نموت؟».