تونس: من يتزعم «الطريق الثالث»؟

استقطاب وصراعات عشية الانتخابات

تونس: من يتزعم «الطريق الثالث»؟
TT

تونس: من يتزعم «الطريق الثالث»؟

تونس: من يتزعم «الطريق الثالث»؟

بدأ العد التنازلي لأول انتخابات تعددية عامة في تونس يجري خلالها انتخاب رئيس الجمهورية مباشرة، إلى جانب انتخاب برلمان تمتد صلاحياته 5 سنوات وستكون من أبرز مهماته اختيار الرئيس القادم الجديد وفريقه اللذين أعطاهما الدستور الجديد نحو 90 في المائة من النفوذ.
ولئن كان الأسبوع الأول من الحملة الانتخابية لانتخابات 26 أكتوبر (تشرين الأول) التشريعية «باردا» و«باهتا»، فإن الأسبوع الثاني انطلق ساخنا جدا.. فتحت خلاله نيران من العيار الثقيل بين أبرز الأطراف السياسية المتنافسة، وخاصة بين جبهة الأحزاب التي خرجت من رحم الحزب الحاكم السابق - حزب الرئيس زين العابدين بن علي، والحركات والأحزاب التي لا تزال تعلن ولاءها للثورة وتصف زعاماتها - وبينها الرئيس المؤقت الحالي المنصف المرزوقي - ب-«الثورية».
والسؤال الكبير اليوم بين المراقبين السياسيين: هل تنجح تونس في تجاوز «مزايدات الثورجيين»، و«عنتريات رموز النظام السابق» الذين يشاركون بقوة في الانتخابات.. وأصبح بعضهم يباهي بولائه للنظام السابق ويصف ساسة «ما بعد الثورة» ب-«الأقزام» على غرار ما فعل حامد القروي رئيس الحكومة السابق ونائب رئيس حزب بن علي - «التجمع الدستوري الديمقراطي» - طوال 15 سنة.

الدكتور عدنان منصر، المؤرخ والوزير مدير الحملة الانتخابية الحالية للرئيس الحالي المنصف المرزوقي، لخص الصراعات السياسية والحزبية الحالية بكونها «معركة بين أنصار 7 نوفمبر1987 -تاريخ وصول بن علي إلى الحكم، والأوفياء لثورة 14 يناير 2011»، وعدّ الرئيس المؤقت المرزوقي يتزعم التيار «الثوري».. وتوقع انتصار «الثوريين» في هذه «المعركة السياسية والانتخابية الحاسمة»..

* جبهة «الثورجيين»؟

* وأمام «تضخم» عدد وزراء بن علي وقادة حزبه الذين انخرطوا في السباق الانتخابي الحالي، دعا عدنان منصر «الثوريين» إلى التوحد بقصد عزل رموز «النظام السابق» والدفاع عن «مكاسب الثورة»..
وقد لقي هذا التقييم صدى في صفوف نشطاء سياسيين من تيارات مختلفة ممن يعدون أنفسهم «أوفياء للخط الثوري ولمكاسب الثورة الشبابية التونسية»..
ولم يستبعد قياديون من «اليسار الراديكالي» والإسلاميين «المتشددين» أن تؤدي المواقف «الثورية» الصادرة عن قيادات من حزب المرزوقي وحلفائه إلى تشكيل «جبهة انتخابية موحدة» ضد عودة «رموز النظام السابق»، وخاصة الوزراء والمحافظين والسفراء الذين بقوا في الحكم حتى الساعات الأخيرة من حكم زين العابدين بن علي في يناير 2014.. «رغم استفحال مظاهر الفساد والاستبداد»..
كما أعرب بعض «الثوريي» من داخل المعسكرين الليبرالي واليساري عن رهانهم على سيناريو «تقسيم الإسلاميين» بين «أوفياء» إلى رئيس حركة النهضة الإسلامية راشد الغنوشي الذي يتزعم تيار المصالحة الوطنية مع كل الأطراف، بما في ذلك وزراء بن علي غير المتورطين في الفساد والاستبداد «بحجة تصديقهم على الدستور الجديد وقانون الانتخابات وتبنيهم شعارات الثورة»..
وأصبح هؤلاء يتهمون السيد راشد الغنوشي ب-«التنازل عن ثوابت الثورة» وب-«الذهاب بعيدا في مسار المصالحة مع من كان يصفهم بالجلادين والسراق». وبينما تمسك زعيم حزب النهضة خلال الاجتماعات الشعبية التي أشرف عليها في عدد من كبرى المدن التونسية - مثل سوسة والقيروان والكاف والعاصمة تونس - بخيار «المصالحة الوطنية» واتهم خصومه من «أقصى اليمين وأقصى اليسار» بمحاولة «تقسيم التونسيين في مرحلة تحتاج فيها البلاد إلى وحدة وطنية وإلى تناسي أحقاد الماضي والتفرغ لبناء المستقبل.. أسوة بالرسول محمد عليه الصلاة والسلام الذي أمر المسلمين عند فتح مكة بالصفح عن أعدائه السابقين، بمن فيهم عمه أبو سفيان وزوجته هند ومن تورط معها في قتل المسلمين وتعذيبهم وتشريدهم».. ويمضي الغنوشي قائلا: «لقد خاطب الرسول محمد صلى الله عليه وسلم أعداء الأمس قائلا: اذهبوا فأنتم الطلقاء.. ولو فعل غير ذلك لتواصل مسلسل الاقتتال داخل مكة والجزيرة ولما توحد المسلمون القدامى والجدد ففتحوا أغلب أصقاع الأرض في وقت قياسي.. ولما وصل الإسلام إلى شمال أفريقيا في وقت قياسي».
* معارك مفتوحة بين السبسي والإسلاميين
ولئن كان التوافق بين رئيس الحكومة الأسبق زعيم المعارضة العلمانية الباجي قائد السبسي من جهة وزعيم حزب النهضة راشد الغنوشي من جهة ثانية من أبرز أسباب «التهدئة» ونجاح «الحوار الوطني» العام الماضي - فإن الحملات الإعلامية التي فجرتها الحملة الانتخابية الحالية بين الزعيمين وأنصارهما توشك أن تعيد إلى «نقطة الصفر» المعارك التي سبقت التصديق على «دستور توافقي تقدمي» وعلى «حكومة تكنوقراط» رحبت بها الغالبية الساحقة من قيادات الأحزاب الإسلامية والعلمانية والليبيرالية مقابل انسحاب حزب النهضة الإسلامي من الحكم..
الباجي قائد السبسي شكك خلال برنامج تلفزي في القناة الحكومية في إيمان بعض خصومه بالإسلام، بما في ذلك الرئيس المنصف المرزوقي وقادة حزبه ورئيس البرلمان الانتقالي مصطفى بن جعفر زعيم حزب «التكتل» الاشتراكي.. كما اتهم قائد السبسي خصومه الإسلاميين ب-«التشدد والتطرف والوهابية».
في المقابل، اتهم عدد من القياديين في حركة النهضة، بينهم المستشار السياسي لرئيس الحركة الوزير سابقا لسيد لطفي زيتون، زعماء حزب «المؤتمر» الذي يقوده المرزوقي، وخاصة مدير حملته الانتخابية ومدير مكتبه في رئاسة الجمهورية عدنان منصر، ب-«محاولة تقسيم التونسيين»، فيما حذر الغنوشي في حوارات تلفزية وتجمعات شعبية عامة الباجي قائد السبسي من «غلط تقسيم التونسيين حسب انتماءاتهم العقائدية والسياسية والحزبية عوض السعي إلى توحيدهم خدمة للمصلحة الوطنية العليا»..

* الـ«فيسبوك».. والإنترنت

* وعلى غرار جل المعارك السياسية والانتخابية منذ سنوات في تونس، أصبحت المواقع الاجتماعية، وخاصة «فيسبوك» ومواقع الويب والصحف الإلكترونية، فضاء «ساخنا» للجدل والصراعات السياسية والحزبية والمعارك الانتخابية..
بل إن بعض الخبراء في علوم الاتصال والعلاقات العامة - مثل الباحث الدكتور محمد العربي عزوز - عدوا أن من «أبرز إضافات التغيير في تونس إقبال ملايين التونسيين والتونسيات على الصراعات السياسية والانتخابية، خاصة عبر مواقع (فيسبوك) والصحافة الإلكترونية».. باعتبار تونس تحتل المرتبة الأولى عربيا من حيث نسبة سكانها الذين لديهم مواقع اجتماعية وأدمنوا «الإبحار» في الويب.
لكن «المثير» في هذه المعارك، سواء كانت في الساحات الانتخابية التقليدية أو الإلكترونية - حسب الدكتور عبد اللطيف الحناشي - تورط بعض النخب مبكرا في توظيف الصراعات الحزبية والانتخابية ومظاهر الاستقطاب السياسي لمحاولة التشكيك منذ الآن في مصداقية العملية الانتخابية والإيحاء بأنها «مزيفة»..
وتساءل عبد اللطيف الحناشي قائلا: «من المستفيد من التشكيك في نزاهة عملية انتخابية تاريخية قبل وقوعها؟».
ولماذا التطاول على رئيس الهيئة العليا المستقلة للانتخابات د.شفيق صرصار.. وهو شخصية علمية وحقوقية وسياسية عرفت بنزاهتها واستقلاليتها ومصداقيتها سبق لـ«المعارضة» أن أقامت الدنيا وأقعدتها حتى ينتخب رئيسا للهيئة عوض المحامي المستقل الأستاذ كمال بن مسعود؟
وتساءل الجامعي الفاضل بن محمد: «لماذا توزيع الاتهامات المجانية شرقا وغربا بين بعض الأطراف السياسية التي تتورط دوما في الاستقطاب والصراعات الهامشية.. ومحاولة الإبقاء على البلاد في حالة فوضى (خلاقة) لا يستفيد منها إلا المهربون والإرهابيون وأباطرة الفساد والاستبداد؟».

* الغائب الحاضر

* ويتضح من خلال الأدبيات التي تنشرها الأحزاب والقائمات الانتخابية القريبة من حزب الرئيسين السابقين بورقيبة وبن علي أن معركتها الانتخابية تطورت تدريجيا.. وأن مطالبها لم تعد مجرد الدعوة إلى «المصالحة الوطنية ورفض سياسات الإقصاء والعدالة الانتقامية والانتقائية» التي يتهمون بها حكومات الترويكا السابقة، بل تكشف تصريحات حامد القروي، رئيس حزب الحركة الدستورية رئيس الوزراء في عهد بن علي خلال عقد التسعينات، عن أن «الدستوريين» - نسبة إلى الحزب الدستوري - لم يعودوا في موقع الدفاع عن النفس، بل أصبحوا في موقع «الهجوم».. واتهم القروي ورفاقه خصومهم من المعارضين السابقين لحكم زين العابدين بن علي بـ«الارتجال والفشل ونقص الخبرة».. وشبههم بـ«الأقزام».
«الوسطيون».. و«الطريق الثالث»
في الأثناء، تعالت أصوات من يعدهم بعض المراقبين في تونس «وسطيين» وأنصار الخيار الثالث أو «الطريق الثالث»..
أنصار الحلول «الوسطية» برزوا داخل بعض الأحزاب الكبرى نفسها، بدءا من حزب النهضة الذي تميزت كلماته في التجمعات الانتخابية والشعبية التي أشرف عليها أخيرا وفي المحاضرات - التي ألقاها خلال الأسبوعين الماضيين في الصين ثم في أميركا - بدعواته لـ«الوسطية والحلول التوافقية»، مع تأكيد استعداد حزبه للقبول بنتائج الانتخابات مهما كانت وبتشكيل «حكومة وطنية ائتلافية وتوافقية» إذا فاز حزب النهضة بالمرتبة الأولى في الانتخابات البرلمانية..
كما لم يستبعد الغنوشي المشاركة في حكومة توافق مع بعض وزراء بن علي السابقين «إذا كانوا من بين نظيفي اليدين»..
دعوات مماثلة للتهدئة والتعايش صدرت عن شخصيات قيادية مرشحة لأن تلعب دورا من الحجم الكبير في الانتخابات البرلمانية والرئاسية المقبلة مثل السيد كمال مرجان الوزير السابق للدفاع والخارجية القيادي سابقا في حزب بن علي.. ويتميز كمال مرجان عن غيره من رموز النظام السابق بكون حزبه فاز في انتخابات 2011 بـ5 مقاعد وبتصويته على حكومات الائتلاف السابقة بقيادة حمادي الجبالي وعلي العريض، ثم على حكومة التكنوقراط بقيادة المهدي جمعة..
وبعد أن تعاقبت مظاهر التوتر والتصدع داخل حزب «نداء تونس» بزعامة رئيس الحكومة الأسبق الباجي قائد السبسي وداخل بقية الأحزاب التي خرجت من حزبي بورقيبة وبن علي - ترشح أوساط سياسية كثيرة زعيم حزب المبادرة الدستورية - السيد كمال مرجان - لقيادة الدستوريين والتجمعيين السابقين وبقية الفصائل السياسية المعارضة لتيارات «الإسلام السياسي» التي تتميز بإيمانها «بالتعايش بين كل الأحزاب العلمانية والإسلامية» إذا توافرت مجموعة من الشروط، من بينها نبذ العنف والإرهاب والتطرف والتعهد باحترام «مدنية الدولة»..

* «ورقة المستقلين» و«الوسطيين»

* في المقابل، تراهن أوساط حقوقية وسياسية وإعلامية كثيرة على المرشحين المستقلين في الانتخابات البرلمانية والرئاسية وتتوقع أن ينجح هؤلاء في «فك النزاع وبؤر التوتر الحزبية»، خاصة أن من بين المرشحين المستقلين بعض وزراء بن علي السابقين الذين انسحبوا من الحكم منذ نحو 20 سنة؛ أي قبل أن تتطور الأوضاع الداخلية نحو مظاهر من «الاستبداد والفساد»..
ولعل من أبرز هؤلاء المرشحين المستقلين المحافظ السابق للبنك المركزي مصطفى كمال النابلي وزير الشباب والصحة ما بين 1988 و1991، والأمين العام السابق لرابطة حقوق الإنسان الدكتور حمودة بن سلامة، والنقيب السابق للمحامين عبد الرزاق الكيلاني..
ويصطف مع هؤلاء ضمن تيار «الوسطيين» زعيم المعارضة القانونية السابق أحمد نجيب الشابي، وزعيم حزب «التكتل» رئيس البرلمان الانتقالي الحالي الدكتور مصطفى بن جعفر، وعدد من الخبراء الاقتصاديين والقانونيين الذين غامروا بخوض السباق الانتخابي.. وإن أعوزتهم بعض «شروط النجاح» مثل اللوبيات المالية والحزبية والإعلامية المساندة..
لكن نقطة قوة هؤلاء جميعا محاولة بناء «طريق ثالثة» بين الأقطاب السياسية والحزبية الكبرى المتصارعة..

* أزمات جديدة

* في الأثناء، حذر وزير الداخلية التونسي لطفي بن جدو وعدد من نقابات الأمن من «عمليات إرهابية نوعية قد تفسد العرس الانتخابي التونسي»..
كما لا يخفي بعض الساسة الوسطيين انزعاجهم من ظواهر سياسية «مزعجة»، فقد تعاقبت في نظرهم في المدة الأخيرة «عنتريات» بعض رموز النظام السابق داخل تونس وخارجها، وكان من بين مفاجآت الأيام القليلة الماضية بعض التصريحات الغريبة لزعيم حزب نداء تونس الباجي قائد السبسي الذي اتهموه بـ«محاولة تقسيم تونس والتونسيين».
في الوقت نفسه، سجلت سلسلة من عمليات توظيف مواقع حكومية ومؤسسة رئاسة الجمهورية في الحملة الانتخابية السابقة لأوانها للرئيس المؤقت د. المنصف المرزوقي وكانت من أكثرها إثارة توظيف مؤسسة ملف تلفزي في قناة فرنسية – إم 6 - للظهور في مظهر «ثورجي» مع الترويج لمعطيات غير صحيحة عن ملف «استرجاع» مبالغ محدودة من أموال عائلة الرئيس بن علي.. ونسبة «بطولات وهمية» إليه..
وإذ تبدو المبادئ التي استشهد من أجلها مناضلون من كل الأجيال، وبينهم شباب ثورة ديسمبر 2010 - يناير 2011 في خطر بسبب «عنتريات» بعض وزراء الحقبة الأخيرة من عهد بن علي - فإن بعض «الثورجيين» و«اليساريين» أصبحوا يتهمون بكونهم يسبحون ضد التيار «متجاهلين قيمة المستجدات في تونس والمنطقة» بعد فشل الربيع العربي، «وخاصة مكاسب مسار التوافق السياسي الذي أفرزه الحوار الوطني العام الماضي، وأسفر عن دستور تقدمي وعن حكومة تصريف أعمال من المستقلين» كلفت التحضير للعملية الانتخابية الحالية التي يخوضها الشعب التونسي هذه الأيام..



كريستيان ليندنر... الزعيم الليبرالي الذي أسقط عزله الحكومة الألمانية

ليندنر اختلف مع سياسة ميركل المتعلقة بالهجرة وفتحها أبواب ألمانيا أمام مئات آلاف اللاجئين السوريين
ليندنر اختلف مع سياسة ميركل المتعلقة بالهجرة وفتحها أبواب ألمانيا أمام مئات آلاف اللاجئين السوريين
TT

كريستيان ليندنر... الزعيم الليبرالي الذي أسقط عزله الحكومة الألمانية

ليندنر اختلف مع سياسة ميركل المتعلقة بالهجرة وفتحها أبواب ألمانيا أمام مئات آلاف اللاجئين السوريين
ليندنر اختلف مع سياسة ميركل المتعلقة بالهجرة وفتحها أبواب ألمانيا أمام مئات آلاف اللاجئين السوريين

رجل واحد حمله المستشار الألماني أولاف شولتس مسؤولية انهيار حكومته، وما نتج عن ذلك من فوضى سياسية دخلت فيها ألمانيا بينما هي بأمس الحاجة للاستقرار وتهدئة اقتصادها المتدهور. رجل وصفه المستشار بأنه «أناني»، وشن عليه هجوماً شخصياً نادراً ما يصدر عن شولتس المعروف بتحفظه وهدوئه. ذلك الرجل كان وزير ماليته كريستيان ليندنر، زعيم «الحزب الديمقراطي الحر» الذي كان شريكاً في الحكومة الائتلافية الثلاثية منذ عام 2021، برئاسة «الحزب الديمقراطي الاجتماعي» (الاشتراكي)، ومشاركة حزب «الخضر». ولقد طرده شولتس من الحكومة بعد خلافات حول ميزانية سنة 2025، ما تسبب بخروج الوزراء المتبقين من «الحزب الديمقراطي الحر»، ليبقى المستشار يقود حكومة أقلية حتى إجراء الانتخابات المبكرة في 23 فبراير المقبل. ثم إن شولتس تعرض لانتقادات كثيرة لهجومه الشخصي على ليندنر، خاصة من المستشارة السابقة أنجيلا ميركل التي وصفته بأنه كان «خارجاً عن السيطرة». لكن مع ذلك، فإن الصورة التي رسمها المستشار عن وزيره قد تحمل شيئاً من الواقع؛ إذ خرجت انتقادات من أوساط الديمقراطيين الأحرار لليندنر و«تصرفه بشكل أحادي» في دفع المستشار لإقالته. وقبل ذلك طالته انتقادات بعدما أصبح «الوجه الأوحد» لـ«الحزب الديمقراطي الحر» إبان الانتخابات الماضية عام 2021 وقبلها عام 2017. ولعل الحزب تسامح مع تصرفات ليندنر «الأنانية» تلك لنجاحه بإعادة الحزب إلى الخارطة السياسية بعد انهياره تقريباً عام 2013 وفشله بدخول البرلمان للمرة الأولى في تاريخه. إلا أن مستقبل الرجل الذي أعاد حزبه إلى الحياة... هو نفسه في خطر. فهل يستمر ليندنر بالبناء على تاريخه حتى اليوم للنهوض مجدداً؟

قد يكون كريستيان ليندنر أصغر زعيم انتُخب ليرأس حزبه «الديمقراطي الحر»، عن عمر 34 سنة فقط عام 2013، بيد أنه لم يكن ناجحاً على الدوام. وبعكس حياته السياسية وصعوده السريع إلى القمة، فشل ليندنر في مشاريع أعمال أطلقها عندما كانت السياسة ما زالت هواية بالنسبة إليه. واعترف لاحقاً بإخفاقاته تلك، مستعيناً بعبارة «المشاكل هي مجرد فرص شائكة» لكي يدفع نفسه إلى الأمام.

وبين عامَي 1997 و2001 أسس شركات خاصة مع أصدقاء له، انتهت بالفشل آخرها شركة «موماكس» التي انهارت وأفلست بعد أقل من سنة على إطلاقها.

هذه «الإخفاقات» التي طبعت مغامراته التجارية وهو في مطلع العشرينات قد تكون دفعته للتوجه إلى السياسة بجدية أكبر. وبالفعل، نجح عام 2001 بدخول البرلمان المحلي في ولايته شمال الراين-وستفاليا وهو ابن 21 سنة ليغدو أصغر نائب يدخل برلمان الولاية. ولصغر سنه وقسمات وجهه الخجولة كسب ليندنر آنذاك لقب «بامبي» بين أعضاء الحزب نسبة للغزال الصغير عند «ديزني».

«بامبي» في «البوندستاغ»

في عام 2009، فاز ليندنر بمقعد في البرلمان الفيدرالي (البوندستاغ) ليعود عام 2012 إلى ولايته أميناً عاماً للحزب في الولاية ونائباً محلياً مرة أخرى.

وبعدها ساعدت إخفاقات الديمقراطيين الأحرار في الانتخابات العامة عام 2013 بتسليط الضوء على ليندنر، الشاب الكاريزماتي الطموح الذي وجد فرصة سانحة أمامه للصعود داخل الحزب. ويومذاك فشل الحزب بتخطي عتبة الـ5 في المائة من أصوات الناخبين التي يحددها القانون شرطاً لدخول «البوندتساغ». وعقد أعضاؤه اجتماعاً خاصاً لمناقشة النتائج الكارثية التي لم يسبق للحزب أن سجلها في تاريخه، وانتخب ليندنر، وهو في سن الـ34، زعيماً للحزب مكلفاً بتأهيله وإعادته للحياة... وبذلك بات أصغر زعيم ينتخب لـ«الحزب الديمقراطي الحر».

شاب أنيق وجذّاب

شكّل سن ليندنر وأناقته وشخصيته عاملاً جاذباً للناخبين الشباب خاصة. وقاد حملة مبنية على أساس جذب الشباب ونفض صورة الحزب القديم التقليدي عنه، كما ساعده حضوره على وسائل التواصل الاجتماعي في التواصل مع مستخدميها من الشباب وتقريبهم إلى الحزب.

وغالباً ما نُشرت له صور من حياته الشخصية على «إنستغرام»، منها صورة لإجازة مع فرانكا ليهفيلدت، زوجته الصحافية التي كانت تعمل في قناة «دي فيلت»، ولقد عقدا قرانهما وهو في الحكومة عام 2022 في حفل ضخم وباذخ بجزيرة سيلت حضره عدد كبير من السياسيين. وينتظر الزوجان مولودهما الأول في الربيع المقبل.

للعلم، كان ليندر متزوجاً قبل ذلك من صحافية أخرى كانت نائبة رئيس تحرير «دي فيلت» أيضاً، هي داغمار روزنفلت، التي تكبره سناً ولم ينجبا أطفالاً معاً. لكنهما ظلا متزوجين من 2011 وحتى 2018 عندما أعلن طلاقهما وكشف عن علاقته مع ليهفيلدت.

أيضاً، لا يخفي ليندنر حبه للسيارات السريعة، وكان قال غير مرة قبل دخوله الحكومة مع حزب «الخضر» بأنه يهوى السيارات القديمة ويملك سيارة بورشه قديمة ومعها يملك رخصة للسباقات. وبجانب هذه الهواية يحب اليخوت ويملك رخصة للإبحار الرياضي وأخرى للصيد.

صورة شبابية عصرية

هذه الصورة التي رسمها ليندنر لنفسه، صورة الرجل الأنيق الذي يهتم بمظهره (لدرجة أنه خضع لزرع شعر) ويمارس هوايات عصرية، ساعدته على اجتذاب ناخبين من الشباب خاصة، وجعلته ينجح بإعادة حزبه إلى البرلمان عام 2017 بحصوله على نسبة أصوات قاربت 11 في المائة.

في حينه دخل في مفاوضات لتشكيل حكومة ائتلافية مع المستشارة أنجيلا ميركل التي فاز حزبها بالانتخابات، وكانت تبحث عن شركاء للحكم إثر حصولها على 33 في المائة من الأصوات. وفعلاً، بدأت ميركل مفاوضات مع الديمقراطيين الأحرار و«الخضر»، لكن ليندنر انسحب فجأة من المفاوضات بعد 4 أسابيع، ليعلن: «أفضل عدم الحكم من الحكم بشكل خاطئ».

ليندنر كان يختلف آنذاك مع سياسة ميركل المتعلقة بالهجرة وفتحها أبواب ألمانيا أمام مئات آلاف اللاجئين السوريين قبل سنتين. ويومها واجه الانتقاد لتفويته على حزبه فرصة الحكم، وهي فرصة خشي بعض الحزبيين ألا تُتاح مُجدداً.

ائتلاف مع اليسار

غير أن الفرصة أتيحت مرة أخرى في الانتخابات التالية عام 2021 عندما حقق «الحزب الديمقراطي الحر» نتائج أفضل من الانتخابات السابقة، حاصلاً على نسبة 11.5 في المائة من الأصوات. ومع أن «الحزب الديمقراطي الحر» حزب وسطي ليبرالي يؤيد الحريات الاقتصادية، ويعدّ شريكاً طبيعياً لحزب «الاتحاد الديمقراطي المسيحي» (يمين معتدل)، قرر ليندنر عام 2021 الدخول في ائتلاف حاكم مع الاشتراكيين و«الخضر»؛ ذلك أن الأخير يعتبر نقيضاً فكرياً للديمقراطيين الأحرار الذين يرون سياساته البيئية مكلفة وكابحة للتقدم الاقتصادي.

وهكذا تسلم ليندنر إحدى أهم الوزرات؛ إذ عُيّن وزيراً للمالية وثاني نائب للمستشار. وحقق بذلك حلمه الذي غالباً ما كرره خلال الحملات الانتخابية بأنه يريد أن يصبح وزيراً للمالية، وحتى إنه عرّف نفسه في إحدى الحملات ممازحاً: «تعرّفوا على وزير ماليتكم المقبل!».

خلفيته العلمية والفكرية

اهتمام ليندنر بالسياسة الاقتصادية ينبع من اهتماماته منذ تخرّجه من الجامعة؛ حيث درس العلوم السياسية ثم القانون والفلسفة في جامعة بون المرموقة (واسمها الرسمي جامعة راينيشه فريدريش - فيلهامز).

ثم إنه لم ينضم فور مغادرته المدرسة للخدمة العسكرية التي كانت إجبارية آنذاك، وأجّلها للدراسة وإكمال مغامراته التجارية، لكنه عاد لاحقاً وانضم إلى جنود الاحتياط ووصل لرتبة رائد. ورغم فشل مغامراته التجارية، بقيت اهتماماته السياسية منصبّة على الجانب المالي، ومن هنا جاء طموحه بأن يصبح وزيراً للمالية في الحكومة الفيدرالية.

وفكرياً، يؤمن ليندنر وحزبه بتقليص الإنفاق العام وخفض الضرائب وفتح الأسواق أمام الشركات الخاصة. ودائماً عارض خططاً عدّها متطرفة يدعمها «الخضر» لاستثمارات أكبر في الطاقة النظيفة بحجة تكلفتها العالية وتأثيرها على الشركات والأعمال. وكانت المفارقة أنه تسلّم حكومة كانت مسؤولة عن تطبيق سياسات تروّج للطاقة البديلة وتزيد من النفقات الاجتماعية وترفع من الضرائب.

هذا الأمر كان صعباً عليه تقبّله. ورغم وجود اتفاق حكومي حدّدت الأحزاب الثلاثة على أساسه العمل خلال السنوات الأربع من عمرها، عانى عمل الحكومات من الخلافات منذ اليوم الأول. وطبعاً لم تساعد الحكومة الأزمات المتتالية التي اضطرت لمواجهتها وكانت لها تأثيرات مباشرة على الاقتصاد، بدءاً بجائحة كوفيد-19 إلى الحرب الأوكرانية.

ولذا كان شولتس غالباً ما يعقد خلوات مع ليندنر وزعيم «الخضر»، روبرت هابيك، ويطول النقاش لساعات بأمل التوصل لحلول وسط يمكن للحكومة أن تكمل فيها عملها. وفي النهاية، كان من أبرز نقاط الخلاف التي رفض ليندنر المساومة فيها هي ما يُعرف في ألمانيا بـ«مكابح الدَّين العام»؛ إذ يرفض الدستور الألماني الاستدانة إلا في حالات الطوارئ، ولقد استخدمت الحكومة كوفيد-19 كطارئ للتخلي عن «مكابح الدَّين العام»، وبالتالي، الاستدانة والإنفاق للمساعدة عجلة الاقتصاد.

وأراد شولتس تمديد العمل بحالة الطوارئ كي تتمكن حكومته من الاستدانة وتمويل الحرب في أوكرانيا من دون الاقتطاع من الخدمات العامة، لكن ليندنر رفض مقترحاً تخفيض الإنفاق العام في المقابل، الأمر الذي اعتبره شولتس «خطاً أحمر».

تهم وشكوك

وحقاً، اتُّهم ليندنر بعد طرده بأنه كان يخطط للانسحاب من الحكومة منذ فترة، وبأنه وضع خطة لذلك بعدما وجد أن حزبه منهار في استطلاعات الرأي وأن نسبة تأييده عادت لتنخفض إلى ما دون عتبة الـ5 في المائة.

أيضاً، كُشف بعد انهيار الحكومة عن «وثيقة داخلية» أعدّها ليندنر وتداولها مع نفر من المقرّبين منه داخل الحزب، تحضّر للانسحاب من الحكومة بانتظار الفرصة المناسبة. وقيل إنه بدأ يخشى البقاء في حكومة فقدت الكثير من شعبيتها بسبب المشاكل الاقتصادية وارتفاع التضخّم خلال السنوات الثلاث الماضية، ما أثر على القدرة الشرائية للألمان. وبناءً عليه، خطّط ليندنر للخروج منها قبل موعد الانتخابات واستخدام ذلك انتخابياً لإعادة رفع حظوظ حزبه الذي يبدو الأكثر تأثراً من الأحزاب المشاركة في الحكومة، بخسارة الأصوات. وطرحت «الوثيقة» التي كُشف عنها مشكلة أخرى بالنسبة لليندنر - داخل حزبه هذه المرة - فواجه اتهامات بالتفرّد بالقرارات وحتى دعوات لإقالته.

طامح لمواصلة القيادة

حتى الآن، يبدو كريستيان ليندنر مصراً على قيادة حزبه في انتخابات فبراير (شباط)، وما زال لم يفقد الأمل العودة حتى إلى الحكومة المقبلة وزيراً للمالية في حكومة يقودها زعيم الديمقراطيين المسيحيين، فريدريش ميرتز، الذي يتقدّم حزبه في استطلاعات الرأي ومن المرجح أن يتولى المستشارية. وللعلم، ميرتز نفسه أبدى انفتاحاً على ضم ليندنر إلى حكومته المحتملة، وشوهد الرجلان بعد أيام من إقالة ليندنر يتهامسان بتفاهم ظاهر داخل «البوندستاغ».

ولكن عودة ليندنر للحكومة ستتطلب منه بدايةً تخطي عقبتين: الأولى أن يبقى على رأس حزبه لقيادته للانتخابات. والثانية أن ينجح بإقناع الناخبين بمنح الحزب أصواتاً كافية لتخطي عتبة الـ5 في المائة الضرورية لدخول البرلمان.