متحف «قصر السينما» يروي رحلة الفن السابع في مصر

يضمّ مجموعة من أفيشات الأفلام وآلات العرض وأجهزة الصوت

وزيرة الثقافة المصرية أثناء افتتاحها متحف قصر السينما
وزيرة الثقافة المصرية أثناء افتتاحها متحف قصر السينما
TT

متحف «قصر السينما» يروي رحلة الفن السابع في مصر

وزيرة الثقافة المصرية أثناء افتتاحها متحف قصر السينما
وزيرة الثقافة المصرية أثناء افتتاحها متحف قصر السينما

افتتحت الدكتورة إيناس عبد الدايم، وزيرة الثقافة المصرية متحف قصر السينما في حي «جاردن سيتي» وسط القاهرة، مساء أول من أمس، والذي يروي رحلة الفن السابع في مصر عبر عدد من المقتنيات السينمائية النادرة التي تعود إلى خمسينات وستينات القرن الماضي التي استخدمها كبار المخرجين المصريين الراحلين في عمليات تصوير ومونتاج أشهر الأفلام السينمائية المصرية، والتي شارك فيها عدد كبير من نجوم السينما على غرار الفنان إسماعيل يس والفنانة فاتن حمامة وعمر الشريف ونور الشريف وغيرهم.
وعن فكرة إنشاء هذا المتحف السينمائي، يقول الفنان تامر عبد المنعم، مدير قصر السينما، لـ«الشرق الأوسط»: إنّ «القصر يمتلك عدداً مميزاً من المعدات السينمائية القديمة النادرة، وأفيشات أبرز أفلام السينما المصرية على مدار تاريخها العريق، لذا فكرنا في استغلال تلك المعدات على أحسن وجه على غرار الدول المتقدمة التي تحتفل بماضيها وتاريخها السينمائي بشكل مثالي، عبر إبراز الآلات القديمة وعرضها للجمهور، وليس بوضعها في المخازن أو بيعها في (الروبابيكيا)». موضحاً أنّ «قصر السينما إحدى مؤسسات الدولة الثقافية يعمل على الحفاظ على الهوية السينمائية لمصر عبر تنظيم فعاليات فنية متنوعة».
ويضم المتحف كاميرات 35 مللي و16 مللي وأجهزة صوت وجهاز تليسين، وعدسات متنوعة تعود إلى فترة الخمسينات والستينات من القرن الماضي، بجانب كاميرات فوتوغرافية قديمة، وآلات عرض سينمائية نادرة.
كما تزين جدران المتحف أفيشات الأفلام المصرية التي أُنتجت خلال القرن الماضي على غرار «السفيرة عزيزة»، و«نحن لا نزرع الشوك»، و«بائعة الخبز»، و«مسجل خطر» و«العار»، و«ألف ليلة وليلة»، و«الراعي والنساء»، و«الرجل الذي فقد ظله»، و«أولاد الأصول».
ويتيح المتحف لرواده وللدارسين التعرف على فنون هذا الفن العريق وتاريخه، عبر إتاحة الدخول إليه مجاناً طوال أيام عمل الأسبوع.
ويرى عبد المنعم أنّ «العمل في مجال الثقافة والفنون يحتاج إلى خيال وإبداع رغم التقاليد الوظيفية»، مشيداً باستراتيجية وزيرة الثقافة المصرية التي تتيح لرؤساء القطاعات الثقافية ورؤساء المراكز الفنية تقديم أفكار مبتكرة لاجتذاب الجمهور المحب لفنون السينما.
وأعادت وزارة الثقافة المصرية، في نهاية شهر يونيو (حزيران) الماضي، افتتاح قصر السينما، بعد توقف استمر ثلاث سنوات من أجل تطويره وترميمه، وبدأ القصر في استقبال جمهوره، والراغبين في المشاركة في الأنشطة والدورات الدراسية.
ويعدّ قصر السينما المركز الثقافي الحكومي الوحيد المتخصص في تدريب المصورين والمخرجين، وصناعة وعرض الأفلام السينمائية، ويضم قاعات متنوعة مجهزة للتدريب وعرض أحدث الأفلام.
وينظم القصر دورات تدريبية متخصصة في فنون السينما (تصوير - مونتاج - إخراج) ومعرضاً شهرياً للتصوير الفوتوغرافي يضمّ لقطات من أعمال أهم وأشهر المخرجين، ونوادي للسينما العالمية والأفريقية واللاتينية والأوروبية، ونادياً لأفلام التجربة الأولى سواء الروائية أو التسجيلية، وعروضاً لأفلام مقتبسة من أعمال روائية، إلى جانب إنتاج مجموعة من الأفلام التسجيلية، إذ يُنتج القصر كل شهر فيلماً تسجيلياً عن شخصية سينمائية أثرت الحياة الفنية في مصر ضمن برنامج (الحاضر الغائب) لتخليد رموز السينما، إضافة إلى إنتاج أفلام للطلبة المشاركين في البرنامج الدراسي للقصر.
ويتبع قصر السينما الهيئة العامة لقصور الثقافة، وتوقف عن العمل عام 2016 بهدف تطويره وتزويده بوسائل الحماية المدنية، وهي الفترة التي شهدت إغلاق الكثير من القصور والمسارح والمراكز الثقافية لأسباب تتعلق باشتراطات الحماية المدنية، وشملت عملية التطوير وضع منظومة الحماية المدنية، وتحديث أجهزة العرض، وتصل الطاقة الاستيعابية للقصر إلى 244 شخصاً.
ويتطلّع عبد المنعم إلى اجتذاب القصر للجمهور مرة أخرى عبر الأنشطة المتنوعة والمبتكرة، بجانب استضافة نجوم السينما المصريين، قائلاً: «عندما تكون قاعات القصر مليئة بالجمهور فإنّ ذلك سيكون مؤشراً قوياً على نجاحنا».



100 عامٍ من عاصي الرحباني

عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)
عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)
TT

100 عامٍ من عاصي الرحباني

عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)
عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)

في الرابع من شهر الخِصب وبراعم اللوز والورد، وُلد عاصي الرحباني. كانت البلادُ فكرةً فَتيّة لم تبلغ بعد عامها الثالث. وكانت أنطلياس، مسقط الرأس، قريةً لبنانيةً ساحليّة تتعطّر بزهر الليمون، وتَطربُ لارتطام الموج بصخور شاطئها.
لو قُدّر له أن يبلغ عامه المائة اليوم، لأَبصر عاصي التحوّلات التي أصابت البلاد وقُراها. تلاشت الأحلام، لكنّ «الرحباني الكبير» ثابتٌ كحقيقةٍ مُطلَقة وعَصي على الغياب؛ مقيمٌ في الأمس، متجذّر في الحاضر وممتدّةٌ جذوره إلى كل الآتي من الزمان.


عاصي الرحباني خلال جلسة تمرين ويبدو شقيقه الياس على البيانو (أرشيف Rahbani Productions)

«مهما قلنا عن عاصي قليل، ومهما فعلت الدولة لتكريمه قليل، وهذا يشمل كذلك منصور وفيروز»، يقول المؤلّف والمنتج الموسيقي أسامة الرحباني لـ«الشرق الأوسط» بمناسبة مئويّة عمّه. أما الصحافي والباحث محمود الزيباوي، الذي تعمّق كثيراً في إرث الرحابنة، فيرى أن التكريم الحقيقي يكون بتأليف لجنة تصنّف ما لم يُنشر من لوحاته الغنائية الموجودة في إذاعتَي دمشق ولبنان، وتعمل على نشره.
يقرّ أسامة الرحباني بتقصير العائلة تجاه «الريبرتوار الرحباني الضخم الذي يحتاج إلى تضافر جهود من أجل جَمعه»، متأسفاً على «الأعمال الكثيرة التي راحت في إذاعة الشرق الأدنى». غير أنّ ما انتشر من أغانٍ ومسرحيات وأفلام، على مدى أربعة عقود من عمل الثلاثي الرحباني عاصي ومنصور وفيروز، أصبح ذخيرةً للقرون المقبلة، وليس للقرن الرحباني الأول فحسب.

«فوتي احفظي، قومي سجّلي»
«كان بركاناً يغلي بالعمل... يكتب بسرعة ولا يتوقف عند هاجس صناعة ما هو أجمل، بل يترك السرد يمشي كي لا ينقطع الدفق»، هكذا يتذكّر أسامة عمّه عاصي. وفي بال الزيباوي كذلك، «عاصي هو تجسيدٌ للشغف وللإنسان المهووس بعمله». لم يكن مستغرباً أن يرنّ الهاتف عند أحد أصدقائه الساعة الثالثة فجراً، ليخرج صوت عاصي من السمّاعة قارئاً له ما كتب أو آخذاً رأيه في لحنٍ أنهاه للتوّ.
ووفق ما سمعه الزيباوي، فإن «بعض تمارين السيدة فيروز وتسجيلاتها كان من الممكن أن يمتدّ لـ40 ساعة متواصلة. يعيد التسجيل إذا لم يعجبه تفصيل، وهذا كان يرهقها»، رغم أنه الزوج وأب الأولاد الأربعة، إلا أن «عاصي بقي الأستاذ الذي تزوّج تلميذته»، على حدّ وصف الزيباوي. ومن أكثر الجمل التي تتذكّرها التلميذة عن أستاذها: «فوتي احفظي، قومي سَجّلي». أضنى الأمر فيروز وغالباً ما اعترفت به في الحوارات معها قبل أن تُطلقَ تنهيدةً صامتة: «كان ديكتاتوراً ومتطلّباً وقاسياً ومش سهل الرِضا أبداً... كان صعب كتير بالفن. لمّا يقرر شي يمشي فيه، ما يهمّه مواقفي».


عاصي وفيروز (تويتر)
نعم، كان عاصي الرحباني ديكتاتوراً في الفن وفق كل مَن عاصروه وعملوا معه. «كل العباقرة ديكتاتوريين، وهذا ضروري في الفن»، يقول أسامة الرحباني. ثم إن تلك القسوة لم تأتِ من عدم، فعاصي ومنصور ابنا الوَعر والحرمان.
أثقلت كتفَي عاصي منذ الصغر همومٌ أكبر من سنّه، فتحمّلَ وأخوه مسؤولية العائلة بعد وفاة الوالد. كان السند المعنوي والمادّي لأهل بيته. كمعطفٍ ردّ البردَ عنهم، كما في تلك الليلة العاصفة التي استقل فيها دراجة هوائية وقادها تحت حبال المطر من أنطلياس إلى الدورة، بحثاً عن منصور الذي تأخّر بالعودة من الوظيفة في بيروت. يروي أسامة الرحباني أنها «كانت لحظة مؤثرة جداً بين الأخوين، أبصرا خلالها وضعهما المادي المُذري... لم ينسيا ذلك المشهد أبداً، ومن مواقفَ كتلك استمدّا قوّتهما».
وكما في الصِبا كذلك في الطفولة، عندما كانت تمطر فتدخل المياه إلى المدرسة، كان يظنّ منصور أن الطوفان المذكور في الكتاب المقدّس قد بدأ. يُصاب بالهلَع ويصرخ مطالباً المدرّسين بالذهاب إلى أخيه، فيلاقيه عاصي ويحتضنه مهدّئاً من رَوعه.

«سهرة حبّ»... بالدَين
تعاقبت مواسم العزّ على سنوات عاصي الرحباني. فبعد بدايةٍ متعثّرة وحربٍ شرسة ضد أسلوبه الموسيقي الثائر على القديم، سلك دروب المجد. متسلّحاً بخياله المطرّز بحكايا جدّته غيتا و«عنتريّات» الوالد حنّا عاصي، اخترع قصصاً خفتت بفعلِ سحرِها الأصواتُ المُعترضة. أما لحناً، فابتدعَ نغمات غير مطابقة للنظريات السائدة، و«أوجد تركيبة جديدة لتوزيع الموسيقى العربية»، على ما يشرح أسامة الرحباني.


صورة تجمع عاصي ومنصور الرحباني وفيروز بالموسيقار محمد عبد الوهاب وفريد الأطرش، بحضور بديعة مصابني وفيلمون وهبي ونجيب حنكش (أرشيف Rahbani Productions)
كان عاصي مستعداً للخسارة المادية من أجل الربح الفني. يحكي محمود الزيباوي أنه، ولشدّة مثاليته، «سجّل مسرحية (سهرة حب) مرتَين ولم تعجبه النتيجة، فاقترض مبلغاً من المال ليسجّلها مرة ثالثة». ويضيف أن «أساطير كثيرة نُسجت حول الرحابنة، لكن الأسطورة الحقيقية الوحيدة هي جمال عملهم».
ما كانت لتكتمل أسطورة عاصي، لولا صوت تلك الصبية التي دخلت قفصَه الذهبي نهاد حدّاد، وطارت منه «فيروز».
«أدهشته»، يؤكّد الزيباوي؛ ويستطرد: «لكنّ أحداً منهما لم يعرف كيف يميّز بين نهاد حداد وفيروز»... «هي طبعاً المُلهِمة»، يقول أسامة الرحباني؛ «لمح فيها الشخصية التي لطالما أراد رسمَها، ورأى امرأةً تتجاوب مع تلك الشخصية»، ويضيف أن «عاصي دفع بصوت فيروز إلى الأعلى، فهو في الفن كان عنيفاً ويؤمن بالعصَب. كان يكره الارتخاء الموسيقي ويربط النجاح بالطبع الفني القوي، وهذا موجود عند فيروز».


زفاف عاصي الرحباني ونهاد حداد (فيروز) عام 1955 (تويتر)

دماغٌ بحجم وطن
من عزّ المجد، سرقت جلطة دماغيّة عاصي الرحباني عام 1972. «أكثر ما يثير الحزن أن عاصي مرض وهو في ذروة عطائه وإبداعه، وقد زادت الحرب اللبنانية من مرضه وصعّبت العمل كثيراً»، وفق الزيباوي. لم يكن القلق من الغد الغامض غريباً عليه. فهو ومنذ أودى انفجارٌ في إحدى الكسّارات بحياة زوج خالته يوسف الزيناتي، الذي كان يعتبره صياداً خارقاً واستوحى منه شخصيات لمسرحه، سكنته الأسئلة الحائرة حول الموت وما بعدَه.
الدماغ الذي وصفه الطبيب الفرنسي المعالج بأنه من أكبر ما رأى، عاد ليضيء كقمرٍ ليالي الحصّادين والعاشقين والوطن المشلّع. نهض عاصي ورجع إلى البزُق الذي ورثه عن والده، وإلى نُبله وكرمه الذي يسرد أسامة الرحباني عنهما الكثير.
بعد المرض، لانت قسوة عاصي في العمل وتَضاعفَ كرَمُه المعهود. يقول أسامة الرحباني إن «أقصى لحظات فرحه كانت لحظة العطاء». أعطى من ماله ومن فِكرِه، وعُرف بيدِه الموضوعة دائماً في جيبِه استعداداً لتوزيع النقود على المحتاجين في الشارع. أما داخل البيت، فتجسّد الكرَم عاداتٍ لطيفة وطريفة، كأن يشتري 20 كنزة متشابهة ويوزّعها على رجال العائلة وشبّانها.
خلال سنواته الأخيرة ومع احتدام الحرب، زاد قلق عاصي الرحباني على أفراد العائلة. ما كان يوفّر مزحة أو حكاية ليهدّئ بها خوف الأطفال، كما في ذلك اليوم من صيف 1975 الذي استُهدفت فيه بلدة بكفيا، مصيَف العائلة. يذكر أسامة الرحباني كيف دخل عاصي إلى الغرفة التي تجمّع فيها أولاد العائلة مرتعدين، فبدأ يقلّد الممثلين الأميركيين وهم يُطلقون النار في الأفلام الإيطالية، ليُنسيَهم ما في الخارج من أزيز رصاص حقيقي. وسط الدمار، بنى لهم وطناً من خيالٍ جميل، تماماً كما فعل وما زال يفعل في عامِه المائة، مع اللبنانيين.


عاصي الرحباني (غيتي)