رغم أن رئيس الحكومة الانتقالية في إسرائيل، بنيامين نتنياهو، لم يستسلم لقرار المستشار القضائي بتقديمه إلى المحاكمة، وأعلن على الملأ أنه يختار طريق الحرب حتى آخر «نقطة دم»، فإن عهد نتنياهو بدأ مسيرة النهاية. وإسرائيل باتت تستعد لعهد جديد، يمكن القول عنه إنه «الجمهورية الثالثة». والمعركة الحقيقية اليوم ستكون حول هوية هذه الجمهورية، وإن كانت ستواصل أو توقف مسلسل الأخطاء والخطايا، وتعرف كيف تنتهز أو لا تنتهز الفرص الكثيرة المتوفرة أمامها.
والقضية ليست قضية فساد فقط، فالتاريخ الإسرائيلي حافل بفضائح فساد كثيرة، وبمعارك كثيرة لمحاربته. إنما القضية كيف تكون الدولة العبرية، وأين سيكون مكانها بين دول الجوار، وفي إقليم الشرق الأوسط، وكذلك بين الأمم.
الجمهورية الأولى في إسرائيل كانت بقيادة طبقة الأشكنازية الغربيين، الذين أداروا إسرائيل كواحدة من دول الغرب، التي كانت تتميز بالديمقراطية والليبرالية لشعوبها، وبالاستعمار للشعوب الأخرى وبلدانها ومقدراتها وخيراتها. وقد ترافق قيام إسرائيل مع قصص فساد مرعبة. ولكن، ولأن ضحية هذا الفساد كانوا فلسطينيين، لم يحاكم أحد على نهب البيوت المهجورة، ولم يحاسب أحد على نهب الأراضي عبر وثائق بيع مزورة، ولم يدفع أحد ثمن الموبقات الشخصية التي ترافقت مع الاحتلال. ولم يقتصر الاستغلال والقمع والتمييز على المواطنين العرب سكان إسرائيل، بل نشأت طبقة من اليهود الشرقيين ضحايا القمع والاضطهاد، الذين نمت فيهم كراهية وأحقاد شديدة على النظام.
سلطة الحكم آنذاك نجحت في إشغال هؤلاء اليهود الشرقيين بكراهية العرب. واليمين المعارض آنذاك نجح في استقطاب اليهود الشرقيين، بإقناعهم أنه المدافع عنهم وعن كراماتهم الشخصية والوطنية.
وفي سنة 1977، فاز اليمين وأقام «جمهورية إسرائيل الثانية»، وهي المستمرة حتى يومنا هذا. لم يدر اليمين سياسة مختلفة مع الشرقيين. فقد واصل سياسة التمييز كما هي، وحافظ على حكم الأشكنازية كما هو، فجميع رؤساء حكومات اليمين كانوا أشكنازيتين: من مناحم بيغن وإسحق شمير عبر أرئيل شارون وإيهود أولمرت، وحتى بنيامين نتنياهو. إلا أن ما يميز اليمين أنه اتبع نهجاً سياسياً عاطفياً يحاكي مفاهيم الشرقيين (بمن في ذلك الإثيوبيون والروس وبقية القادمين من أوروبا الشرقية)، ويدغدغ مشاعرهم، ويمنحهم حيزاً أكبر في المجتمع.
على سبيل المثال، فإنه مستمر في الحكم منذ 42 سنة، ومع ذلك يؤلب الجمهور على مؤسسات الحكم كما لو أنه في المعارضة. ويحرض الجمهور على هذه المؤسسات، ويوجههم إلى العدو الخارجي: في البداية على العرب. وعندما طرح العرب عليهم مبادرة سلام شامل، أداروا ظهورهم، وتحولوا إلى العداء للإرهاب ولإيران. ونتنياهو، الفنان في الخطابة وسياسة الشعارات، تحول إلى إمبراطور في نظر هذا الجمهور. واليوم، يحاول إقناعهم بأن قادة الجمهورية الأولى يمنعونه من تعزيز أركان الجمهورية الثانية التي تعترف بهم، وتحاول إعطاءهم مكانتهم فيها.
لكن عهد نتنياهو انتهى. فكل ما يفعله لن ينقذه شخصياً من السجن، إلا إذا أبرم صفقة مع النيابة تفضي إلى حصوله على عفو رئاسي عام مقابل اعتزاله السياسي. فلائحة الاتهام ضده قوية متماسكة طافحة بالأدلة الثابتة والشهود الملكيين. وهو يعرف جيداً أنه حتى في حال خوضه الانتخابات، وفوزه من جديد، فإنه يفعل ذلك فقط لكي يرفع سعره في تلك الصفقة. والسؤال هو إن كانت القيادة القادمة لإسرائيل ستعرف كيف تستوعب جمهور المستضعفين والمظلومين، وتقيم لهم جمهورية ثالثة، تستطيع فيها حل مشكلاتهم المحرقة. ففي إسرائيل، تبلغ نسبة الفقر 40 في المائة (بين العرب 60 في المائة)، والجهاز الصحي ينهار بسبب النواقص الكبيرة في الأطباء والممرضات، والأسرة وجهاز التعليم يعاني من نواقص خطيرة، وهناك أزمة سكن شديدة. ورغم الوضع الاقتصادي الجيد، فإن هناك هوة تتسع باستمرار بين الأغنياء والفقراء، والمواطنون يعيشون في حالة حرب دائمة مليئة بالأخطار الخارجية والداخلية، والحكومات تعدهم بالمزيد من الحروب.
لذلك، فإنها تحتاج إلى قيادة جديدة تحدث منعطفاً حاداً في حياة الناس، وتحسن وضع إسرائيل بشكل حقيقي، وتمنح الشعور للمغلوبين في المجتمع بأنها تقيم دولة لهم أيضاً. والمشكلة أن منافسي نتنياهو، من حزب الجنرالات، لم يثبتوا لهذا الجمهور أنهم جاءوا فعلاً من أجله، وأنهم يطرحون بديلاً حقيقياً لواقعهم. صحيح أنه حصل على أعلى عدد من الأصوات، لكنه لم يحرز النتيجة التي تجعله حاكماً بعد.
عهد نتنياهو و«جمهورية إسرائيل الثالثة»
عهد نتنياهو و«جمهورية إسرائيل الثالثة»
لم تشترك بعد
انشئ حساباً خاصاً بك لتحصل على أخبار مخصصة لك ولتتمتع بخاصية حفظ المقالات وتتلقى نشراتنا البريدية المتنوعة