أسرة راجاباكسا تعود إلى حكم سريلانكا

أمام خلفية تحديات الداخل والتنافس الصيني الهندي في جنوب آسيا

أسرة راجاباكسا تعود إلى حكم سريلانكا
TT

أسرة راجاباكسا تعود إلى حكم سريلانكا

أسرة راجاباكسا تعود إلى حكم سريلانكا

فاز القائد العسكري الأسبق ووزير الدفاع السابق غوتابايا راجاباكسا في الانتخابات الرئاسية بجمهورية سريلانكا، متغلباً على منافسه ساجيث بريمداسا، مرشح الحزب الوطني المتحد المحافظ، بفارق يزيد على 10 في المائة من مجموع أصوات الناخبين.
راجاباكسا، وهو الشقيق الأصغر للرئيس الأسبق ماهيندا راجاباكسا، كان مرشح حزب «جبهة الشعب السري لانكية»، ولقد اجتذب أصوات الغالبية العرقية الدينية السنهالية في البلاد بجانب تأييد رجال الدين البوذيين الأقوياء. وبعد هذا الفوز أسند الرئيس المنتخب رئاسة الحكومة إلى شقيقه الرئيس الأسبق.
وللعلم، تشكل الأغلبية السنهالية نحو 74.9 في المائة من سكان سريلانكا. في حين تشكل أقلية التاميل - وهم هندوس - أكبر أقليات البلاد من حيث العدد بنحو 11.1 في المائة من تعداد السكان. ويشكل التاميل الهنود طائفة عرقية متميزة بنسبة 4.1 في المائة من سكان سريلانكا. بالإضافة إلى ذلك، تضم الجزيرة نحو 1.97 مليون مواطن من المسلمين، أو ما يمثل نسبة 5 في المائة من تعداد السكان.

حصلت سريلانكا هذا الأسبوع على أول حكومة يديرها شقيقان عندما قرر الرئيس المنتخب - قبل أيام - غوتابايا راجاباكسا تعيين شقيقه الأكبر والرئيس الأسبق للبلاد ماهيندا في منصب رئيس الوزراء البلاد، ما سيعزز قبضة الأسرة على حكم البلاد. كذلك صدرت قرارات رئاسية بتعيين عدد من أفراد الأسرة في مختلف المناصب على رأس المؤسسات الرئيسية في البلاد مثل شركات الطيران الوطنية، والمؤسسات الحكومية. كما جرى تعيين الأقارب الموثوق في ولائهم في المناصب الدبلوماسية الرفيعة في مختلف العواصم الأجنبية.
الاستقطاب السياسي
في الحقيقة، ما كان فوز غوتابايا راجاباكسا الحاسم مفاجئاً، مع أنه شكل صدمة قوية في وجه الليبراليين في العاصمة كولومبو، لكونه يشكل نظام الحكم الأكثر استقطابا من الناحية الإثنية في سريلانكا. ذلك أنه بينما حظي انتخاب الرئيس الجديد بترحاب كبير من جانب الغالبية السنهالية لم تكن الأقليتان التاميلية والمسلمة في حالة مزاجية تسمح لهما بالاحتفال أو الابتهاج. وهنا تقول الكاتبة الصحافية سودها تشانديران موضحة: «ينسجم فوزه الانتخابي مع السرد الشائع إزاء بلدان الجنوب الآسيوي التي تتحول على نحو تدريجي باتجاه الديمقراطية غير الليبرالية».
المعروف على نطاق واسع أن غوتابايا راجاباكسا كان اليد اليمني لشقيقه، منفذا إزاء ما يصفه أنصاره ومؤيدوه بأنها قضايا الحكم الرئيسية التي تعصف بالأوضاع السياسية في البلاد، مثل الإرهاب، والأوضاع الأمنية الداخلية المتفقدة للاستقرار، والمشاكل الاقتصادية المتفاقمة.
ومن جانبها، ترى الصحافية لاكشمي سوبرامانيوم أنه كان «يلعب على أوتار المخاوف التي تؤرق الناس في أعقاب الهجمات الإرهابية المريعة إبان عيد الفصح السابق في أجزاء من العاصمة كولومبو وفي شرق سريلانكا كذلك. ويومذاك قال إن حكومته ستتعامل مع تلك القضايا الأمنية بكل حزم وقوة. وحقاً لقد أطلق عليه أفراد من عائلته وكوادر حزب جبهة الشعب السري لانكية لقب (المدمّر) إثر بدء سريان الحملة الأمنية العدائية. وكانت الحملة تركز بالأساس على الملفات الأمنية، بعدما قامت إحدى الجماعات الإرهابية المدعومة من تنظيم (داعش) الإرهابي بتنفيذ الهجمات الدموية يوم عيد الفصح خلال العام الحالي في سريلانكا».
وتابعت: «لقد يسرت كل هذه الظروف الأوضاع في سريلانكا لإحياء المشاعر السنهالية القومية البوذية القديمة التي طالما لعبت دور الملاذ الآمن الأخير بالنسبة للسواد الأعظم من الطائفة السنهالية في الدولة - الجزيرة على مدار تاريخها، إثر الاستفادة القصوى والذكية من الفشل الاستخباري الذي أسفر عن وقوع هجمات أحد الفصح في البلاد».
أما الصحافي بونسارا أماراسينغي، فرأى في فوز راجاباكسا في الانتخابات الرئاسية مثيلاً عرقياً دينياً شعبوياً لفوز رئيس الوزراء الهندي ناريندرا مودي، الذي حقق زعامته السياسية بفضل تصويت الغالبية الهندوسية له. وأردف: «جاءت فترة الولاية الثانية لرئيس الوزراء الهندي ناريندرا مودي في وقت سابق من العام الحالي نتيجة مباشرة لارتفاع النزعة القومية الهندوسية في أفضل أحوالها. وأسفر التصاعد الأخير للنزعات القومية في جميع أنحاء العالم في الآونة الأخيرة عن إثارة المخاوف الحقيقية مجددا بشأن إعادة الفكرة القديمة بالحكومات السيادية المرتكزة على المشاعر القومية الراسخة».

مزيد من الشعبوية السنهالية

ويساور الكثيرون حالياً القلق من أن راجاباكسا والقوميين السنهاليين، سيعملون من دون كلل أو ملل على تنشيط الحملات الداخلية المعادية للأقلية المسلمة مع زيادة عزلة أقليات التاميل في البلاد. فما الذي يعنيه عودة عائلة راجاباكسا للسلطة في البلاد من زاوية التوترات العرقية المحتدمة والطويلة الأمد في سريلانكا؟
تشير الشخصية القومية السنهالية القوية في حملة غوتابايا راجاباكسا الانتخابية، فضلا عن اعتماده الكامل في الفوز على أصوات الطائفة السنهالية تقريباً دون غيرها، مع سياسات شقيقه الأكبر والرئيس الأسبق في إدارة البلاد إبان السنوات العشر التي أمضاها على رأس السلطة بين عامي 2005 و2015، إلى أن التوترات العرقية والدينية المتفاقمة - والتي تزايدت حدتها كثيرا في أعقاب تفجيرات أحد الفصح الدامية - ستستمر وتتصاعد بصورة خطيرة في ظل حكم الرئيس الجديد.
ويخشى كثيرون أن يجلب المشهد السياسي الجديد في سريلانكا طاقات متجددة للحملة طويلة الأمد المتمثلة في تعزيز خطاب الكراهية المناهض للمسلمين في البلاد، وتصاعد أعمال العنف، والمقاطعات الاقتصادية التي تشرف عليها الميليشيات المسلحة التي تزعم الدفاع عن وحماية الديانة البوذية.
وهنا تجدر الإشارة إلى أن تلك الميليشيات ازدهرت وترعرعت أول الأمر بين عامي 2013 و2014 إبان فترة ماهيندا راجاباكسا، عندما تلقت الدعم الكامل من الشرطة المحلية والمخابرات العسكرية. ثم مرة أخرى حين تولى غوتابايا راجاباكسا حقيبة وزارة الدفاع. وكانت أعمال العنف الدموية الأخيرة، مع شهود العيان ومقاطع الفيديو الوثائقية التي تشير بوضوح إلى ضلوع أفراد من الحزب الحاكم في الهجوم على المساجد والمنازل والمتاجر والشركات الإسلامية في أعقاب تفجيرات عيد الفصح في مايو (أيار) من عام 2019 الحالي. ومع أن الرئيس المنتخب نفى مراراً وتكراراً توفير أي دعم حكومي أو رسمي للميليشيات البوذية المتطرفة، فإنه صرح قائلاً إن المسلمين يناصبونهم العداء على نطاق واسع ويعتبرونهم خطراً داهماً على أوضاعهم الاقتصادية والاجتماعية والمعيشية.

الهند والصين وسريلانكا

على صعيد آخر، أدى فوز غوتابايا راجاباكسا في الانتخابات الرئاسية وعودة شقيقه الأكبر الرئيس الأسبق ماهيندا إلى الحلبة ليشغل منصب رئيس الحكومة، إلى دق نواقيس الخطر لدى جانب كبير من محللي السياسات الخارجية في الهند بشأن التداعيات السلبية المحتملة لذلك على العلاقات الثنائية بين الهند وسري لانكا.
إذ تساور كل من الهند واليابان والحكومات الغربية المحتملة المخاوف بشأن احتمالات تعزيز أسرة راجاباكسا الحاكمة علاقاتها الثنائية مع الصين، التي أوضحت خلال الانتخابات الرئاسية الأخيرة تفضيلها للرئيس المنتخب ولحزبه. ولقد تطورت العلاقات الاقتصادية والسياسية ما بين كولومبو وبكين خلال فترة رئاسة شقيقه ماهيندا السابقة. ومن أبرز الأمثلة على ذلك بناء ثم تأجير الصين الميناء الجديد في مدينة هامبانتوتا السري لانكي.
أيضاً، يشعر منافسو الصين بالقلق بشأن إمكانية استغلال الصين للميناء الجديد في خدمة الأغراض العسكرية الصينية في خاتمة المطاف. وحول هذا الأمر يقول جابين جاكوب، أستاذ العلاقات الدولية في جامعة شيف نادار الهندية: «ستتمحور الجولة القادمة حول انخفاض وتيرة اللعب السياسي من جانب الصين، مع استمرار اللعب على كل الأحوال. وأتوقع أن يقوم الرئيس السري لانكي الجديد بزيارة الهند عقب زيارته المرتقبة إلى الصين خلال المائة يوم الأولى من ولايته الجديدة. ولكن من المرجح أن الصين، وليست الهند، هي التي ستنال القدر الأكبر من اهتمام الرئيس السري لانكي الجديد». وأردف البروفسور جاكوب: «ربما تعلمت أسرة راجاباكسا الدرس، وأدركت أن هناك عواقب وتداعيات لازمة لرفع البطاقة الصينية في وجه الهند؛ ولذا ليس من المرجح أن يقوم الرئيس السري لانكي الجديد بتغييرات جذرية عاجلة في السياسات الخارجية في الوقت الذي يسعى فيه لاستئناف العلاقات الودية مع الصين».
وفي ظل هذه الخلفية، كان التساؤل المتشكّك الذي يطرح نفسه هو هل ستتخذ سريلانكا المسار الصيني مرة أخرى، وهل ستفعل ذلك على حساب الهند؟
المحلل الأمني آشوك ميثا الذي قال «بدأت مديونية أسرة راجاباكسا لبكين إبان الحرب الماضية عندما رفضت نيودلهي الموافقة على الطلبات المتكرّرة من حكومة كولومبو بالحصول على المعدات العسكرية لمحاربة جبهة نمور التاميل الانفصالية، وكانت الصين وباكستان قد تدخلتا لإنقاذ الموقف لدى حكومة سريلانكا، ويومذاك تهكمت الحكومة الهندية من تقارب سريلانكا مع الصين وباكستان، بينما كانت نيودلهي على استعداد لتوفير الأسلحة غير الفتاكة لحكومة كولومبو من واقع احترامها للدوافع السياسية لدى قيادة ولاية تاميل نادو الهندية ذات الغالبية التاميلية. وكانت التداعيات الاستراتيجية على التحفظ الحكومي الهندي لا تزال قائمة رغم تلاشي تلك القيود. بيد أن القرار الهندي وقتها لم يرق كثيرا لماهيندا راجاباكسا إبان رئاسته، فاتخذ منه ذريعة سياسية لتحويل دفة السياسات الاقتصادية والأمنية في بلاده صوب بكين، متجاهلا عن عمد الحساسيات الهندية المتنامية. وبالفعل، منحت سلطات كولومبو حينذاك العديد من تعاقدات تطوير البنية التحتية إلى الصين، من شاكلة ميناء هامبانتوتا وميناء مدينة كولومبو، ما شكل تحديات جديدة أمام نيودلهي من زاوية تصاعد الشواغل الأمنية في المحيط الهندي».

سياسة نيو دلهي إزاء كولومبو

أخيراً، على مدار العامين الماضيين، واصلت الهند في هدوء مطبق بناء الجسور مع مختلف مكونات موجة الطائفة الشعبية السنهالية في سريلانكا. وتؤكد الاجتماعات المتعددة التي جمعت بين الزعيمين ناريندرا مودي وماهيندا راجاباكسا، وكان آخرها في يونيو (حزيران) من العام الحالي، على عدم اضطرار الهند إلى البدء من المربع الأول. وهنا يقول الدبلوماسي الأسبق آتشال مالهوترا «لا بد أن نأخذ في الاعتبار أيضا التصريحات العلنية التي صرح بها غوتابايا راجاباكسا (الرئيس المنتخب) في أعقاب فوزه بالانتخابات حين أوحى بانطباع مفاده أن سريلانكا ستواصل التزام الخط المحايد في صراع القوى الإقليمية وتحافظ على مسافة واحدة بين الهند والصين. وبعبارة أخرى، إن سريلانكا سوف تتعامل وتتفاعل مع كل من نيو دلهي وبكين. إن الأزمان دائمة التغير، ومن شأن المصالح البراغماتية أن تحدد أنه رغم العلاقات التكافلية، فلا يمكن للهند انتظار أن الجارة الصغيرة تظل تشكل مجالا حصريا لنفوذها في المحيط الهندي. وما ينسحب على سريلانكا ينسحب أيضا على نيبال وعلى جزر المالديف وغيرها من البلدان. ويبقى أن ننتظر لنرى كيف ستتصرف سريلانكا خلال السنوات المقبلة. مع ذلك، يبدو أن هناك فصلا جديدا في العلاقات بين الهند وسري لانكا قد نشأ على خلفية جيدة، والزيارة المرتقبة للرئيس السري لانكي إلى الهند نأمل بأن تعتبر فرصة للتفهم الواضح أن سريلانكا ستواصل احترامها للحساسيات الهندية أثناء تعاملها مع بلدان أخرى في المنطقة».
أخيراً، علق كونستانتينو خافيير، الزميل البارز في «معهد بروكينغز - إنديا» - ومقره في نيودلهي – قائلا: «على الهند تعميق التعاون الأمني مع سريلانكا من دون المزيد من التنافس الجيو استراتيجي في المحيط الهندي. ورغم القدرات العسكرية المستمرة، في جزيرة دييغو غارسيا على سبيل المثال، لا تزال الولايات المتحدة تعتبر قوة كبيرة خارج المنطقة الإقليمية، الأمر الذي ربما يفسر مخاوف نيودلهي من الاتفاق الدفاعي الذي أبرم مؤخراً بين واشنطن وكولومبو.
لكن الفوز بسري لانكا يستلزم من الهند الاستثمار في التعاون الدفاعي والأمني بصورة أكبر مع دول المحيط الهندي والهادي المماثلة، بما في ذلك اليابان وأستراليا وفرنسا والاتحاد الأوروبي. وفي الأثناء ذاتها، يجب على الهند فتح قنوات الاتصال مع الصين للتخفيف من مغريات سريلانكا للتلاعب من وراء الهند ووضع بكين ونيودلهي على مسار التصادم في مواجهة بعضهما».


مقالات ذات صلة

أفريقيا... ساحة تنافس جديد بين الهند والصين

حصاد الأسبوع Chinese Foreign Minister Wang Yi (C) speaks during a press conference with Senegal's Foreign Minister Yassine Fall (L) and Congo Foreign Minister Jean-Claude Gakosso (R) at the Forum on China-Africa Cooperation (FOCAC) in Beijing on September 5, 2024. (Photo by GREG BAKER / AFP)

أفريقيا... ساحة تنافس جديد بين الهند والصين

منذ فترة ولايته الأولى عام 2014، كان رئيس الوزراء الهندي ناريندرا مودي أكبر مناصر للعلاقات بين الهند وأفريقيا.

براكريتي غوبتا (نيودلهي)
حصاد الأسبوع نيتومبو ندايتواه... أول امرأة تترأس ناميبيا

نيتومبو ندايتواه... أول امرأة تترأس ناميبيا

سطرت نيتومبو ناندي ندايتواه، 72 عاماً، اسمها في التاريخ بوصفها أول امرأة تتولى رئاسة ناميبيا منذ استقلال البلاد عام 1990، بعدما حصدت 57 في المائة من الأصوات في

فتحية الدخاخني ( القاهرة)
رياضة سعودية السعودية تستمر في تشكيل خريطة مختلف الرياضات العالمية بتنظيم واستضافات غير مسبوقة (الشرق الأوسط)

السعودية ستُشكل خريطة الرياضة العالمية في 2025

شارف عام حافل بالأحداث الرياضية بما في ذلك الألعاب الأولمبية التي حظيت بإشادة واسعة وأربع بطولات قارية لكرة القدم على الانتهاء ومن المتوقع أن يكون عام 2025 أقل.

«الشرق الأوسط» (لندن)
حصاد الأسبوع فرنسوا بايرو: رجل المصالحة أو الفرصة الأخيرة؟

فرنسوا بايرو: رجل المصالحة أو الفرصة الأخيرة؟

بعد 9 أيام من سقوط الحكومة الفرنسية بقيادة ميشال بارنييه في اقتراع لحجب الثقة، عيّن الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون، فرنسوا بايرو، زعيم رئيس حزب الوسط (الموديم)،

أنيسة مخالدي (باريس)
حصاد الأسبوع خافيير ميلي (أ.ب)

خافيير ميلي... شعبية «المخرّب الأكبر» لا تعرف التراجع

في المشهد الشعبوي واليميني المتطرف، المتنامي منذ سنوات، يشكّل الصعود الصاعق لخافيير ميلي إلى سدّة الرئاسة في الأرجنتين، حالة مميّزة، لا بل فريدة، من حيث الأفكار

شوقي الريّس (مدريد)

يون سوك ــ يول... رئيس كوريا الجنوبية أثار زوبعة دعت لعزله في تصويت برلماني

تحت ضغط الفضائح والخلافات انخفضت شعبية يون، وقبل أقل من شهر أظهر استطلاع للرأي أن شعبيته انخفضت إلى 19 % فقط
تحت ضغط الفضائح والخلافات انخفضت شعبية يون، وقبل أقل من شهر أظهر استطلاع للرأي أن شعبيته انخفضت إلى 19 % فقط
TT

يون سوك ــ يول... رئيس كوريا الجنوبية أثار زوبعة دعت لعزله في تصويت برلماني

تحت ضغط الفضائح والخلافات انخفضت شعبية يون، وقبل أقل من شهر أظهر استطلاع للرأي أن شعبيته انخفضت إلى 19 % فقط
تحت ضغط الفضائح والخلافات انخفضت شعبية يون، وقبل أقل من شهر أظهر استطلاع للرأي أن شعبيته انخفضت إلى 19 % فقط

تشهد كوريا الجنوبية، منذ نحو أسبوعين، تطورات متلاحقة لا تلوح لها نهاية حقيقية، شهدت اهتزاز موقع رئيس الجمهورية يون سوك - يول بعد إعلانه في بيان تلفزيوني فرض الأحكام العرفية، وتعليق الحكم المدني، وإرساله قوة عسكرية مدعومة بالهيلوكوبترات إلى البرلمان. ثم اضطراره للتراجع عن قراره في وجه معارضة عارمة. بيد أن تراجع الرئيس خلال ساعات قليلة من هذه المغامرة لم يزد المعارضة إلا إصراراً على إطاحته، في أزمة سياسية غير مسبوقة منذ التحوّل الديمقراطي في البلاد عام 1980 بعد فترة من الحكم التسلطي. ولقد تطوّرت الأوضاع خلال الأيام والساعات الأخيرة من الاحتجاجات في الشوارع إلى تصويت برلماني على عزل يون. وبعدما أقر البرلمان عزل الرئيس ردّ الأخير بتأكيد عزمه على المقاومة والبقاء... في أزمة مفتوحة لا تخلو من خطورة على تجربة البلاد الديمقراطية الطريّة العود.

دبلوماسي مخضرم خدم في كوريا الجنوبية قال، قبل بضعة أيام، معلقاً على الأزمة المتصاعدة: «إذا تم تمرير اقتراح العزل، يمكن وقف (الرئيس) يون (سوك - يول) عن مباشرة مهام منصبه لمدة تصل إلى 180 يوماً، بينما تنظر المحكمة الدستورية في القضية. وفي هذا (السيناريو)، يتولى رئيس الوزراء هان دوك سو منصب الرئيس المؤقت، وتُجرى انتخابات جديدة في غضون 60 يوماً».

وبالفعل، دعا هان دونغ - هون، زعيم حزب «قوة الشعب»، الحاكم، إلى تعليق سريع لسلطات الرئيس مستنداً - كما قال - إلى توافر «أدلة موثوقة» على أن يون سعى إلى اعتقال القادة السياسيين بعد إعلانه الأحكام العرفية الذي لم يدُم طويلاً. ومما أورده هان - الذي كان في وقت سابق معارضاً للمساعي الرامية إلى عزل يون - إن «الحقائق الناشئة حديثاً قلبت الموازين ضد يون، بالتالي، ومن أجل حماية كوريا الجنوبية وشعبنا، أعتقد أنه من الضروري منع الرئيس يون من ممارسة سلطاته رئيساً للجمهورية على الفور». وتابع زعيم الحزب الحاكم أن الرئيس لم يعترف بأن إعلانه فرض الأحكام العرفية إجراء غير قانوني وخاطئ، وكان ثمة «خطر كبير» من إمكانية اتخاذ قرار متطرف مماثل مرة أخرى إذا ظل في منصبه.

بالتوازي، ذكرت تقارير إعلامية كورية أن يون يخضع حالياً للتحقيق بتهمة الخيانة إلى جانب وزير الدفاع المستقيل كيم يونغ - هيون، (الذي ذُكر أنه حاول الانتحار)، ورئيس أركان الجيش الجنرال بارك آن - سو، ووزير الداخلية لي سانغ - مين. وحقاً، تمثل الدعوة التي وجهها هان، وهو وزير العدل وأحد أبرز منافسي يون في حزب «قوة الشعب»، تحولاً حاسماً في استجابة الحزب الحاكم للأزمة.

خلفية الأزمة

تولى يون سوك - يول منصبه كرجل دولة جديد على السلطة، واعداً بنهج عصري مختلف في حكم البلاد. إلا أنه في منتصف فترة ولايته الرئاسية الوحيدة التي تمتد لخمس سنوات، شهد حكمه احتكاكات شبه دائمة مع البرلمان الذي تسيطر عليه المعارضة، وتهديدات «بالإبادة» من كوريا الشمالية، ناهيك من سلسلة من الفضائح التي اتهم وعائلته بالتورّط فيها.

وعندما حاول يون في خطابه التلفزيوني تبرير فرض الأحكام العرفية، قال: «أنا أعلن حالة الطوارئ من أجل حماية النظام الدستوري القائم على الحرية، وللقضاء على الجماعات المشينة المناصرة لنظام كوريا الشمالية، التي تسرق الحرية والسعادة من شعبنا»، في إشارة واضحة إلى الحزب الديمقراطي المعارض، مع أنه لم يقدم أي دليل على ادعائه.

إلا أن محللين سياسيين رأوا في الأيام الأخيرة أن الرئيس خطّط على الأرجح لإصدار مرسوم «الأحكام العرفية الخرقاء» أملاً بحرف انتباه الرأي العام بعيداً عن الفضائح المختلفة والإخفاق في معالجة العديد من القضايا المحلية. ولذا اعتبروا أن عليه ألا يطيل أمد حكمه الفاقد الشعبية، بل يبادر من تلقاء نفسه إلى الاستقالة من دون انتظار إجراءات العزل، ومن ثم، السماح للبلاد بانتخاب رئيس جديد.

بطاقة هوية

ولد يون سوك - يول، البالغ من العمر 64 سنة، عام 1960 في العاصمة سيول لعائلة من الأكاديميين اللامعين. إذ كان أبوه يون كي - جونغ أستاذاً للاقتصاد في جامعة يونساي، وأمه تشوي سيونغ - جا محاضرة في جامعة إيوها للنساء قبل زواجها. وحصل يون على شهادته الثانوية عام 1979، وكان يريد في الأصل أن يدرس الاقتصاد ليغدو أستاذاً، كأبيه، ولكن بناءً على نصيحة الأخير درس الحقوق، وحصل على شهادتي الإجازة ثم الماجستير في الحقوق من جامعة سيول الوطنية - التي هي إحدى «جامعات النخبة الثلاث» في كوريا مع جامعتي يونساي وكوريا - وأصبح مدّعياً عاماً بارزاً قاد حملة ناجحة لمكافحة الفساد لمدة 27 سنة.

ووفق وسائل الإعلام الكورية، كانت إحدى محطات حياته عندما كان طالب حقوق عندما لعب دور القاضي في محاكمة صورية للديكتاتور (آنذاك) تشون دو - هوان، الذي نفذ انقلاباً عسكرياً وحُكم عليه بالسجن مدى الحياة. وفي أعقاب ذلك، اضطر يون إلى الفرار إلى الريف مع تمديد جيش تشون الأحكام العرفية ونشر القوات والمدرّعات في الجامعة.

بعدها، عاد يون إلى العاصمة، وصار في نهاية المطاف مدعياً عاماً، وواصل ترقيه الوظيفي ما يقرب من ثلاثة عقود، بانياً صورة له بأنه حازم وصارم لا يتسامح ولا يقدّم تنازلات.

مسيرته القانونية... ثم الرئاسة

قبل تولي يون سوك - يول رئاسة الجمهورية، كان رئيس مكتب الادعاء العام في المنطقة المركزية في سيول، وأتاح له ذلك محاكمة أسلافه من الرؤساء. إذ لعب دوراً فعالاً في إدانة الرئيسة السابقة بارك غيون - هاي التي أُدينت بسوء استخدام السلطة، وعُزلت وأودعت السجن عام 2016. كذلك، وجه الاتهام إلى مون جاي - إن، أحد كبار مساعدي خليفة الرئيسة بارك، في قضية احتيال ورشوة.

أما على الصعيد السياسي، فقد انخرط يون في السياسة الحزبية قبل سنة واحدة فقط من فوزه بالرئاسة، وذلك عندما كان حزب «قوة الشعب» المحافظ - وكان حزب المعارضة يومذاك - معجباً بما رأوه منه كمدّعٍ عام حاكم كبار الشخصيات، وأقنع يون، من ثم، ليصبح مرشح الحزب لمنصب رئاسة الجمهورية.

وفي الانتخابات الرئاسية عام 2022 تغلّب يون على منافسه الليبرالي لي جاي - ميونغ، مرشح الحزب الديمقراطي، بفارق ضئيل بلغ 0.76 في المائة... وهو أدنى فارق على الإطلاق في تاريخ الانتخابات في البلاد.

الواقع أن الحملة الانتخابية لعام 2022 كانت واحدةً من الحملات الانتخابية القاسية في تاريخ البلاد الحديث. إذ شبّه يون غريمه لي بـ«هتلر» و«موسوليني». ووصف حلفاء لي الديمقراطيون، يون، بأنه «وحش» و«ديكتاتور»، وسخروا من جراحة التجميل المزعومة لزوجته.

إضافة إلى ذلك، شنّ يون حملته الانتخابية بناء على إلغاء القيود المالية والموقف المناهض للمرأة. لكنه عندما وصل إلى السلطة، ألغى وزارة المساواة بين الجنسين والأسرة، قائلاً إنها «مجرد مقولة قديمة بأن النساء يُعاملن بشكل غير متساوٍ والرجال يُعاملون بشكل أفضل». وللعلم، تعد الفجوة في الأجور بين الجنسين في كوريا الجنوبية الأسوأ حالياً في أي بلد عضو في «منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية».

أيضاً، أدى استخدام يون «الفيتو» تكراراً إلى ركود في العمل الحكومي، بينما أدت تهم الفساد الموجهة إلى زوجته لتفاقم السخط العام ضد حكومته.

تراجع شعبيته

بالتالي، تحت ضغط الفضائح والخلافات، انخفضت شعبية يون، وقبل أقل من شهر أظهر استطلاع للرأي أجرته مؤسسة «غالوب كوريا» أن شعبيته انخفضت إلى 19 في المائة فقط. وتعد «كارثة» الأحكام العرفية الحلقة الأخيرة في سلسلة من الممارسات التي حددت رئاسة يون وأخطائها.

إذ ألقي باللوم على إدارة يون في التضخم الغذائي، وتباطؤ الاقتصاد، والتضييق المتزايد على حرية التعبير. وفي أواخر 2022، بعدما أسفر تدافع حشود في احتفال «الهالوين» (البربارة) في سيول عن سقوط 159 قتيلاً، تعرضت طريقة تعامل الحكومة مع المأساة لانتقادات واسعة.

زوجته في قلب مشاكله!

من جهة ثانية، كانت كيم كيون - هي، زوجة الرئيس منذ عام 2012، سبباً آخر للسخط والانتقادات في وسائل الإعلام الكورية الجنوبية. فقد اتهمت «السيدة الأولى» بالتهرب الضريبي، والحصول على عمولات لاستضافة معارض فنية عن طريق عملها. كذلك واجهت اتهامات بالانتحال الأدبي في أطروحتها لنيل درجة الدكتوراه وغيرها من الأعمال الأكاديمية.

لكن أكبر فضيحة على الإطلاق تورّطت فيها كيم، كانت قبولها عام 2023 هدية هي حقيبة يد بقيمة 1800 جنيه إسترليني سراً من قسيس، الأمر الذي أدى إلى مزاعم بالتصرف غير اللائق وإثارة الغضب العام، لكون الثمن تجاوز الحد الأقصى لما يمكن أن يقبله الساسة في كوريا الجنوبية وشركاؤهم قانونياً لهدية. لكن الرئيس يون ومؤيديه رفضوا هذه المزاعم وعدوها جزءاً من حملة تشويه سياسية.

أيضاً أثيرت تساؤلات حول العديد من القطع الثمينة من المجوهرات التي تملكها «السيدة الأولى»، والتي لم يعلَن عنها كجزء من الأصول الرئاسية الخاصة. وبالمناسبة، عندما فُتح التحقيق في الأمر قبل ست سنوات، كان زوجها رئيس النيابة العامة. أما عن حماته، تشوي يون - سون، فإنها أمضت بالفعل حكماً بالسجن لمدة سنة إثر إدانتها بتزوير وثائق مالية في صفقة عقارية.

يُضاف إلى كل ما سبق، تعرّض الرئيس يون لانتقادات تتعلق باستخدام «الفيتو» الرئاسي في قضايا منها رفض مشروع قانون يمهد الطريق لتحقيق خاص في التلاعب المزعوم بالأسهم من قبل زوجته كيم كيون - هي لصالح شركة «دويتشه موتورز». وأيضاً استخدام «الفيتو» ضد مشروع قانون يفوّض مستشاراً خاصاً بالتحقيق في مزاعم بأن مسؤولين عسكريين ومكتب الرئاسة قد تدخلوا في تحقيق داخلي يتعلق بوفاة جندي بمشاة البحرية الكورية عام 2023.

وهكذا، بعد سنتين ونصف السنة من أداء يون اليمين الدستورية عام 2022، وعلى أثر انتخابات رئاسية مثيرة للانقسام الشديد، انقلبت الأمور ضد الرئيس. وفي خضم ارتباك الأحداث السياسية وتزايد المخاوف الدولية يرزح اقتصاد كوريا الجنوبية تحت ضغوط مقلقة.

أمام هذا المشهد الغامض، تعيش «الحالة الديمقراطية» في كوريا الجنوبية أحد أهم التحديات التي تهددها منذ ظهورها في أواخر القرن العشرين.