آثار تنميط شخصية الأيقونة الصينية بروس لي لم تنته بعد

تاريخ حافل بنهاية ساخرة

من مشهد الصراع الأخير في فيلم «أدخل التنين»
من مشهد الصراع الأخير في فيلم «أدخل التنين»
TT

آثار تنميط شخصية الأيقونة الصينية بروس لي لم تنته بعد

من مشهد الصراع الأخير في فيلم «أدخل التنين»
من مشهد الصراع الأخير في فيلم «أدخل التنين»

بينما كان المخرج كونتن تارنتينو يصوّر في الصيف الماضي، مشاهد فيلمه الأخير «ذات مرة في هوليوود» كانت عقارب الزمن تشهد بمرور 50 سنة على قيام ممثل صغير الحجم، مليء بالطموح، آت من هونغ كونغ بمهارات قتال غير معهودة، باشتراكه في أول فيلم أميركي له.
الممثل هو بروس لي، والفيلم هو «القبعات الخضر» الذي قام جون واين ببطولته والمشاركة في إخراجه بينما قام ابنه مايكل بإنتاجه. وكان مفاد «القبعات الخضر» هو الدفاع عن الحرب الأميركية في فيتنام؛ وذلك في مواجهة عشرات الأفلام التي عارضتها أو استوحت منها مفادات روائية مبطنة بتلك المعارضة.
كان بروس لي قد خاض غمار أكثر من عشرين فيلماً صُنع في هونغ كونغ، لكن دوره في «القبعات الخضر» لم يكن أمام الكاميرا، بل خلفها كونه شارك في تمرين الممثلين على القتال. المعلومة المؤكدة هي أن بروس لي كان له دور في هذا النطاق، ما هو غير مؤكد أن دوره لم يكن شاملاً مشاهد الفيلم التي تصوّر القتال بين الفرقة التي قادها جون واين وبين الڤييتكونغ. في الفترة ذاتها بدأ يظهر أسبوعياً على شاشة التلفزيون الأميركي في مسلسل ناجح بعنوان The Green Hornet.
بعد «القبعات الخضر» بعام واحد، أي قبل خمسين سنة من العام الحالي، ظهر في أول فيلم أميركي له. المخرج بول بوغارت استعان به في مشاهد قليلة من الفيلم الذي صُوّر في مدينة لوس أنجليس من بطولة جيمس غارنر في شخصية التحري فيليب مارلو. عنوان الفيلم: «مارلو»، يشي بالموضوع القائم على حكاية من تلك التي وفّرها المؤلف رايموند تشاندلر لبطله مارلو.
دور بروس لي كان صغيراً كما تقدم، لكنه كان مثيراً: سيهاجم جيمس غارنر بقدراته القتالية الشرقية التي لا يجيد مارلو منها شيئاً متباهياً بتلك القدرات. يحيد مارلو عن طريقه فيفقد الصيني توازنه ويسقط من على الشرفة في الطابق العلوي من تلك البناية.
المشهد لم يكن متوفراً في أي من روايات تشاندلر، بل أضافه بوغارت لتوفير فرصة التمثيل لهذا الخبير بفن الكاراتيه الآتي من هونغ كونغ. والتفعيلة نجحت. بعد عامين كان بروس لي يقود بطولة الفيلم الأول له الذي توجه لعروض عالمية ربطت ما بين مدينة بيروت في لبنان ومدينة باسو في ولاية تكساس الأميركية. الفيلم حمل عنوان «الزعيم الكبير» (The Big Boss) وأخرجه الصيني واي لو، الذي أتى من التمثيل وتحوّل إلى الإخراج ثم استمر منتجاً ولا يزال.
بروس لي كوّن اسمه منذ ذلك الحين ولعدد من السنوات اللاحقة التي شغل فيها بال الناس بحركاته، التي لم تكن معهودة بالنسبة لرواد السينما، وانطلق كثيرون يقلدونها، ويقلدون كذلك تلك الصرخة التي كان يوزعها في بداية كل هجوم يدوي كان يقوم به.
تبعاً لهذا النجاح غير المتوقع قام بروس لي ببطولة وإخراج «طريق التنين» 1972، ومثّل فيلماً آخر لواي لو، هو «قبضة الغضب» (Fist of Fury) في السنة ذاتها. الفيلمان لبّيا بنسبة نجاح عالية ما توقعه جمهور الأفلام التجارية من هذا الصيني الهائج الذي سيواجه كل أتراب وطنه من الأشرار في قتال يدوي لم يسبق لهم أن حظوا بمثله.
- غرب ـ شرق
في العام التالي، 1973، حقّق الأميركي روبرت كلاوز، «أدخل التنين» Enter the Dragon، الذي كان ومن حيث لم يتوقع أحد، آخر فيلم مثله بروس لي، ولو أن أفلاماً عدة لاحقة استخدمت مشاهده من أفلامه الأربعة المتوالية لضمان بعض الاستمرارية والربح.
وكل ذلك من خمسين سنة ونحوها قبل أن يقدّم المخرج الأميركي كونتِن تارنتينو في «ذات مرة في هوليوود»، شخصية بروس لي ضمن نظرته إلى هوليوود أواخر الستينات. جاء بالممثل مايك موه وسلّمه المشهد الذي سيُؤدّي به شخصية بروس لي. حسب النص، سيقوم لي بحركاته أمام الشخصية التي يؤديها برات بيت (اسمها كليف) قبل أن يتحداه. عندما يوافق بيت على التحدي يطلق بروس لي صرخته ويرفع يديه ويهز رأسه عصبياً، ثم يتقدّم صوب الأميركي بيت الذي يحيد عنه ثم يواجهه بلكمة ترميه أرضاً.
يقول المخرج إنه استخدم المشهد لكي يظهر مهارة شخصية كليف التي يؤديها براد بِيت والتي تتبدّى كذلك في الفصل الأخير من الفيلم عندما يواجه أفراداً من عصبة تشارلز ماسون. بكلمة أخرى، أراد تارنتنيو، حسب كلامه، التمهيد لمهارة كليف التي ستتبدّى لاحقاً.
لكن هذا التبرير الصحيح سينمائياً لا يبدو السبب الوحيد لذلك المشهد. بروس لي بدأ كحال ذلك الفارس العربي الذي ينتصب فجأة أمام إنديانا جونز (هاريسون فورد) في «غزاة تابوت العهد المفقود» (1981) ممتشقاً سيفه ومؤدياً تهديداً استعراضياً به. لكن إنديانا جونز ليس لديه الوقت للعب. يسحب مسدسه ويقتل العربي برصاصة: الحديث ضد القديم. الغرب ضد الشرق.
هذه السخرية متكررة في «ذات مرة في الغرب»، لكن مع شخصية تمثل ممثلاً معروفاً (وما زال محبوباً عند ملايين). بالتالي، لا يسخر المشهد من «صينية» الشخصية التي يوفرها المشهد، بل من شخصية بروس لي الحقيقية مصوّراً إياها على نمط كاريكاتوري.
هذا التصوير هو ما دفع بابنة الممثل الراحل شانون لي، لانتقاد الفيلم والطلب من السلطات الصينية إعادة النظر في عرض الفيلم، وهذه سحبت الترخيص مطالبة المخرج بحذف تلك المشاهد؛ الأمر الذي رفضه تارنتينو رغم تدخل شركة التوزيع الأميركية (كولمبيا المملوكة من قِبل الشركة اليابانية سوني) لإقناعه حتى لا يُحرم فيلمها من السوق الصينية الشاسعة.
- أزمة تارنتينو
«أدخل التنين» كان آخر فيلم مثله بروس لي. ففي العام نفسه (1973)، مات عن 32 سنة. الذي حدث، حسب مصادر ذلك الحين، أن الممثل سقط مغشياً عليه خلال تأدية بعض المشاهد. حين نقله إلى المستشفى وجد الأطباء ماءً في نخاعه يصيب بعض الناس في أيام الحر (وكانت هونغ كونغ، حيث جرى التصوير في شهر يوليو (تموز) تمر بدرجة حرارة مرتفعة فاقت معدلاتها السابقة في مثل هذا الشهر).
بعد خروجه من المستشفى أكمل التصوير ثم توجه إلى منزل كاتبة سيناريو فيلمه المقبل بَتي تينغ باي. هناك، شعر بصداع حاد. أعطته حبوباً لعلاج وجع الرأس. توجه إلى السرير ونام ولم يستيقظ بعدها.
«أدخل التنين» هو من بين أنجح أفلام الكاراتيه قاطبة، وبالتالي أنجح فيلم قام بروس لي ببطولته. وشركة «وورنر» التي أنتجته، جمعت له ممثلين أميركيين، هما جون ساكسون وجيم كيلي. الأول (انتهى مؤخراً من تصوير فيلم «أجلب لي رأس لانس هنريكسن») لم تكن لديه أي دراية بلعب الكاراتيه أو بالكونغ فو وطريقة تنفيذ المشاهد التي تصوّره في الحلبة تفضح ذلك.
لكن جيم كيلي، كان ممارساً لتلك الفنون. أفرو - أميركي لديه خبرة مارسها في أكثر من فيلم، وكان بدأ التمثيل سنة 1972 ما يجعل «أدخل التنين» فيلمه الثاني. كلاهما أميركي يقف إلى جانب بروس لي في محاولة فهم ما يدور فوق جزيرة صينية يملكها شرير اسمه هان (كين شيه) المسلح بيد ذات قفاز حديدي تنتهي بمخالب. وهو يقيم حفلاً سنوياً لألعاب الكاراتيه ولديه جيش من المتمرسين في هذا القتال. لكن لي يشترك في الحفل السنوي لا للعب فقط، بل للكشف عن التجارة السرية التي تشكل عصب أعمال الشرير الصيني بعدما دفعت شقيقته حياتها ثمناً وهي تهرب من رجاله. وكما يعرض الفيلم، نجد الكثير من الفتيات سجينات تمهيداً للاتجار بهن. قبل ذلك يبدي لي مهارته ضد لاعبين خطيرين، هما بولو (بولو يونغ) وهو صيني يلعب شخصية سادية لا تمتنع عن القتل حتى خلال التمارين، وأوهارا (الأميركي روبرت وول) الذي يحاول قتل بروس لي بعدما خسر أمامه خلال تلك الألعاب.
العدو الأشرس أمام لي هو مالك الجزيرة هان. والفصل الأخير، فنياً، هو الأفضل والأكثر ابتكاراً. الصراع بين الإثنين يزداد حدة عندما ينتقل إلى غرفة مليئة بالمرايا. بروس لي لن يعرف أين عدوه إذ عكست المرايا نسخاً كثيرة من هان المتربص. بروس لي وقد تعرض لجرح نازف بسبب مخالب هان الحديدية يمشي بحذر بين تلك المرايا. عندما يقفز هان للإجهاز عليه يوجه بروس إليه ضربة تدفعه إلى باب تلك القاعة. في صلب الباب رمح ذي نصل حاد يدخل ظهر هان ويخرج من صدره.
تأثير بروس لي على السينما فاق كثيراً الفترة المحدودة من الظهور في أفلامها. عشرات الأفلام الصينية والكورية والأميركية تداعت صوب هذا النوع من أفلام القتال (معظمها رديء الصنعة؛ ما تسبب في تهاوي النوع بعد سنوات قليلة). إلى ذلك، دخلت فنون القتال الشرقية هوليوود من باب عريض. شاهدنا ديفيد كارادين يقود بطولة مسلسل الوسترن «كونغ فو»، حيث لعب شخصية صيني - أميركي لا يستخدم أكثر من يديه في قتال الأشرار.
في السينما تداعى كثيرون لاحتلال مكانه، بينهم تشاك نوريس (الذي كان له باع تلفزيوني في هذا المجال أيضاً عبر مسلسل «ووكر، تكساس رانجر») وستيفن سيغال، وجيت لي، وجاكي تشان، وجان - كلود ڤان دام، ووسلي سنايبس، وبالطبع جيم كيلي الذي مات شاباً بعد سنوات قليلة من «أدخل التنين». كل واحد من هؤلاء مارس القتال الشرقي الذي تعلمه والذي ليس بالضرورة ما مارسه بروس لي على الشاشة.
أزمة تارنتينو مع بروس لي لم تنته بسحب الصين ترخيصها بعرض «ذات مرة في هوليوود»، فها هو الأوسكار قادم وفي ظل محاولات التصدي للتنميط وتبعاً لشكوى شانون في أجواء نصرة القضايا النسائية، فإنّ ما بدا مؤكداً حتى شهر مضى من وثوب فيلم تارنتينو إلى نيل الأوسكار عنوة عن الأفلام الأخرى التي ستُرشّح، يبدو الآن أمراً تتداخله نسبة ملحوظة من الشكوك. لقد قدّم تارنتينو نسخة كاريكاتورية لشخصية حقيقية. هذه الشخصية حدث أنها ليست بيضاء وليست أميركية. وهناك نسبة عالية من البيض والسود والآسيويين أعضاء في أكاديمية العلوم والفنون السينمائية الذين سينظرون بعين الاعتبار إلى هذا الوضع ويصوّتون بناءً عليه.


مقالات ذات صلة

بطلة «سنو وايت»: الفيلم يُنصف قِصار القامة ويواجه التنمر

يوميات الشرق مريم شريف في لقطة من فيلم «سنو وايت» (الشركة المنتجة)

بطلة «سنو وايت»: الفيلم يُنصف قِصار القامة ويواجه التنمر

رغم وقوفها أمام عدسات السينما ممثلة للمرة الأولى؛ فإن المصرية مريم شريف تفوّقت على ممثلات محترفات شاركن في مسابقة الأفلام الطويلة بـ«مهرجان البحر الأحمر».

انتصار دردير (القاهرة )
يوميات الشرق وجوه من فيلم «السادسة صباحاً» (غيتي)

من طهران إلى كابل... حكايات نساء يتحدّيْن الظلم في «البحر الأحمر»

«السادسة صباحاً» و«أغنية سيما» أكثر من مجرّد فيلمين تنافسيَّيْن؛ هما دعوة إلى التأمُّل في الكفاح المستمرّ للنساء من أجل الحرّية والمساواة.

أسماء الغابري (جدة)
يوميات الشرق جوني ديب لفت الأنظار بحضوره في المهرجان (تصوير: بشير صالح)

اختتام «البحر الأحمر السينمائي» بحفل استثنائي

بحفل استثنائي في قلب جدة التاريخية ، اختم مهرجان «البحر الأحمر السينمائي الدولي» فعاليات دورته الرابعة، حيث أُعلن عن الفائزين بجوائز «اليُسر». وشهد الحفل تكريمَ

أسماء الغابري (جدة)
يوميات الشرق ياسمين عبد العزيز في كواليس أحدث أفلامها «زوجة رجل مش مهم» (إنستغرام)

«زوجة رجل مش مهم» يُعيد ياسمين عبد العزيز إلى السينما

تعود الفنانة المصرية ياسمين عبد العزيز للسينما بعد غياب 6 سنوات عبر الفيلم الكوميدي «زوجة رجل مش مهم».

داليا ماهر (القاهرة )
يوميات الشرق رئيسة «مؤسّسة البحر الأحمر السينمائي» جمانا الراشد فخورة بما يتحقّق (غيتي)

ختام استثنائي لـ«البحر الأحمر»... وفيولا ديفيس وبريانكا شوبرا مُكرَّمتان

يتطلّع مهرجان «البحر الأحمر السينمائي» لمواصلة رحلته في دعم الأصوات الإبداعية وإبراز المملكة وجهةً سينمائيةً عالميةً. بهذا الإصرار، ختم فعالياته.

أسماء الغابري (جدة)

رحيل إيلي شويري عاشق لبنان و«أبو الأناشيد الوطنية»

عرف الراحل إيلي شويري بـ«أبو الأناشيد الوطنية»
عرف الراحل إيلي شويري بـ«أبو الأناشيد الوطنية»
TT

رحيل إيلي شويري عاشق لبنان و«أبو الأناشيد الوطنية»

عرف الراحل إيلي شويري بـ«أبو الأناشيد الوطنية»
عرف الراحل إيلي شويري بـ«أبو الأناشيد الوطنية»

إنه «فضلو» في «بياع الخواتم»، و«أبو الأناشيد الوطنية» في مشواره الفني، وأحد عباقرة لبنان الموسيقيين، الذي رحل أول من أمس (الأربعاء) عن عمر ناهز 84 عاماً.
فبعد تعرضه لأزمة صحية نقل على إثرها إلى المستشفى، ودّع الموسيقي إيلي شويري الحياة. وفي حديث لـ«الشرق الأوسط» أكدت ابنته كارول أنها تفاجأت بانتشار الخبر عبر وسائل التواصل الاجتماعي قبل أن تعلم به عائلته. وتتابع: «كنت في المستشفى معه عندما وافاه الأجل. وتوجهت إلى منزلي في ساعة متأخرة لأبدأ بالتدابير اللازمة ومراسم وداعه. وكان الخبر قد ذاع قبل أن أصدر بياناً رسمياً أعلن فيه وفاته».
آخر تكريم رسمي حظي به شويري كان في عام 2017، حين قلده رئيس الجمهورية يومها ميشال عون وسام الأرز الوطني. وكانت له كلمة بالمناسبة أكد فيها أن حياته وعطاءاته ومواهبه الفنية بأجمعها هي كرمى لهذا الوطن.
ولد إيلي شويري عام 1939 في بيروت، وبالتحديد في أحد أحياء منطقة الأشرفية. والده نقولا كان يحضنه وهو يدندن أغنية لمحمد عبد الوهاب. ووالدته تلبسه ثياب المدرسة على صوت الفونوغراف الذي تنساب منه أغاني أم كلثوم مع بزوغ الفجر. أما أقرباؤه وأبناء الجيران والحي الذي يعيش فيه، فكانوا من متذوقي الفن الأصيل، ولذلك اكتمل المشوار، حتى قبل أن تطأ خطواته أول طريق الفن.
- عاشق لبنان
غرق إيلي شويري منذ نعومة أظافره في حبه لوطنه وترجم عشقه لأرضه بأناشيد وطنية نثرها على جبين لبنان، ونبتت في نفوس مواطنيه الذين رددوها في كل زمان ومكان، فصارت لسان حالهم في أيام الحرب والسلم. «بكتب اسمك يا بلادي»، و«صف العسكر» و«تعلا وتتعمر يا دار» و«يا أهل الأرض»... جميعها أغنيات شكلت علامة فارقة في مسيرة شويري الفنية، فميزته عن سواه من أبناء جيله، وذاع صيته في لبنان والعالم العربي وصار مرجعاً معتمداً في قاموس الأغاني الوطنية. اختاره ملك المغرب وأمير قطر ورئيس جمهورية تونس وغيرهم من مختلف أقطار العالم العربي ليضع لهم أجمل معاني الوطن في قالب ملحن لا مثيل له. فإيلي شويري الذي عُرف بـ«أبي الأناشيد الوطنية» كان الفن بالنسبة إليه منذ صغره هَوَساً يعيشه وإحساساً يتلمسه في شكل غير مباشر.
عمل شويري مع الرحابنة لفترة من الزمن حصد منها صداقة وطيدة مع الراحل منصور الرحباني. فكان يسميه «أستاذي» ويستشيره في أي عمل يرغب في القيام به كي يدله على الصح من الخطأ.
حبه للوطن استحوذ على مجمل كتاباته الشعرية حتى لو تناول فيها العشق، «حتى لو رغبت في الكتابة عن أعز الناس عندي، أنطلق من وطني لبنان»، هكذا كان يقول. وإلى هذا الحد كان إيلي شويري عاشقاً للبنان، وهو الذي اعتبر حسه الوطني «قدري وجبلة التراب التي امتزج بها دمي منذ ولادتي».
تعاون مع إيلي شويري أهم نجوم الفن في لبنان، بدءاً بفيروز وسميرة توفيق والراحلين وديع الصافي وصباح، وصولاً إلى ماجدة الرومي. فكان يعدّها من الفنانين اللبنانيين القلائل الملتزمين بالفن الحقيقي. فكتب ولحن لها 9 أغنيات، من بينها «مين إلنا غيرك» و«قوم تحدى» و«كل يغني على ليلاه» و«سقط القناع» و«أنت وأنا» وغيرها. كما غنى له كل من نجوى كرم وراغب علامة وداليدا رحمة.
مشواره مع الأخوين الرحباني بدأ في عام 1962 في مهرجانات بعلبك. وكانت أول أدواره معهم صامتة بحيث يجلس على الدرج ولا ينطق إلا بكلمة واحدة. بعدها انتسب إلى كورس «إذاعة الشرق الأدنى» و«الإذاعة اللبنانية» وتعرّف إلى إلياس الرحباني الذي كان يعمل في الإذاعة، فعرّفه على أخوَيه عاصي ومنصور.

مع أفراد عائلته عند تقلده وسام الأرز الوطني عام 2017

ويروي عن هذه المرحلة: «الدخول على عاصي ومنصور الرحباني يختلف عن كلّ الاختبارات التي يمكن أن تعيشها في حياتك. أذكر أن منصور جلس خلف البيانو وسألني ماذا تحفظ. فغنيت موالاً بيزنطياً. قال لي عاصي حينها؛ من اليوم ممنوع عليك الخروج من هنا. وهكذا كان».
أسندا إليه دور «فضلو» في مسرحية «بياع الخواتم» عام 1964. وفي الشريط السينمائي الذي وقّعه يوسف شاهين في العام التالي. وكرّت السبحة، فعمل في كلّ المسرحيات التي وقعها الرحابنة، من «دواليب الهوا» إلى «أيام فخر الدين»، و«هالة والملك»، و«الشخص»، وصولاً إلى «ميس الريم».
أغنية «بكتب اسمك يا بلادي» التي ألفها ولحنها تعد أنشودة الأناشيد الوطنية. ويقول شويري إنه كتب هذه الأغنية عندما كان في رحلة سفر مع الراحل نصري شمس الدين. «كانت الساعة تقارب الخامسة والنصف بعد الظهر فلفتني منظر الشمس التي بقيت ساطعة في عز وقت الغروب. وعرفت أن الشمس لا تغيب في السماء ولكننا نعتقد ذلك نحن الذين نراها على الأرض. فولدت كلمات الأغنية (بكتب اسمك يا بلادي عالشمس الما بتغيب)».
- مع جوزيف عازار
غنى «بكتب اسمك يا بلادي» المطرب المخضرم جوزيف عازار. ويخبر «الشرق الأوسط» عنها: «ولدت هذه الأغنية في عام 1974 وعند انتهائنا من تسجيلها توجهت وإيلي إلى وزارة الدفاع، وسلمناها كأمانة لمكتب التوجيه والتعاون»، وتابع: «وفوراً اتصلوا بنا من قناة 11 في تلفزيون لبنان، وتولى هذا الاتصال الراحل رياض شرارة، وسلمناه شريط الأغنية فحضروا لها كليباً مصوراً عن الجيش ومعداته، وعرضت في مناسبة عيد الاستقلال من العام نفسه».
يؤكد عازار أنه لا يستطيع اختصار سيرة حياة إيلي شويري ومشواره الفني معه بكلمات قليلة. ويتابع لـ«الشرق الأوسط»: «لقد خسر لبنان برحيله مبدعاً من بلادي كان رفيق درب وعمر بالنسبة لي. أتذكره بشوشاً وطريفاً ومحباً للناس وشفافاً، صادقاً إلى أبعد حدود. آخر مرة التقيته كان في حفل تكريم عبد الحليم كركلا في الجامعة العربية، بعدها انقطعنا عن الاتصال، إذ تدهورت صحته، وأجرى عملية قلب مفتوح. كما فقد نعمة البصر في إحدى عينيه من جراء ضربة تلقاها بالغلط من أحد أحفاده. فضعف نظره وتراجعت صحته، وما عاد يمارس عمله بالشكل الديناميكي المعروف به».
ويتذكر عازار الشهرة الواسعة التي حققتها أغنية «بكتب اسمك يا بلادي»: «كنت أقفل معها أي حفل أنظّمه في لبنان وخارجه. ذاع صيت هذه الأغنية، في بقاع الأرض، وترجمها البرازيليون إلى البرتغالية تحت عنوان (أومينا تيرا)، وأحتفظ بنصّها هذا عندي في المنزل».
- مع غسان صليبا
مع الفنان غسان صليبا أبدع شويري مرة جديدة على الساحة الفنية العربية. وكانت «يا أهل الأرض» واحدة من الأغاني الوطنية التي لا تزال تردد حتى الساعة. ويروي صليبا لـ«الشرق الأوسط»: «كان يعد هذه الأغنية لتصبح شارة لمسلسل فأصررت عليه أن آخذها. وهكذا صار، وحققت نجاحاً منقطع النظير. تعاونت معه في أكثر من عمل. من بينها (كل شيء تغير) و(من يوم ما حبيتك)». ويختم صليبا: «العمالقة كإيلي شويري يغادرونا فقط بالجسد. ولكن بصمتهم الفنية تبقى أبداً ودائماً. لقد كانت تجتمع عنده مواهب مختلفة كملحن وكاتب ومغنٍ وممثل. نادراً ما نشاهدها تحضر عند شخص واحد. مع رحيله خسر لبنان واحداً من عمالقة الفن ومبدعيه. إننا نخسرهم على التوالي، ولكننا واثقون من وجودهم بيننا بأعمالهم الفذة».
لكل أغنية كتبها ولحنها إيلي شويري قصة، إذ كان يستمد موضوعاتها من مواقف ومشاهد حقيقية يعيشها كما كان يردد. لاقت أعماله الانتقادية التي برزت في مسرحية «قاووش الأفراح» و«سهرة شرعية» وغيرهما نجاحاً كبيراً. وفي المقابل، كان يعدها من الأعمال التي ينفذها بقلق. «كنت أخاف أن تخدش الذوق العام بشكل أو بآخر. فكنت ألجأ إلى أستاذي ومعلمي منصور الرحباني كي يرشدني إلى الصح والخطأ فيها».
أما حلم شويري فكان تمنيه أن تحمل له السنوات الباقية من عمره الفرح. فهو كما كان يقول أمضى القسم الأول منها مليئة بالأحزان والدموع. «وبالقليل الذي تبقى لي من سنوات عمري أتمنى أن تحمل لي الابتسامة».