«الواقعية» تنتصر على «الثوريين» في تونس

غالبية هشة و«ترويكا» ضعيفة في البرلمان الجديد

«الواقعية» تنتصر على «الثوريين» في تونس
TT

«الواقعية» تنتصر على «الثوريين» في تونس

«الواقعية» تنتصر على «الثوريين» في تونس

بعد أقل من شهر من تنصيب الرئيس التونسي قيس سعيّد، الذي فاز بثلاثة أرباع الأصوات بعدما رفع شعارات ثورية، عدل البرلمان الكفة في الاتجاه المعاكس، من خلال إعلان تحالف سياسي استراتيجي جديد بين «ثلاثي حاكم» جديد يضم حزب «حركة النهضة» الإسلامي، والمنشقين عن حزب الباجي قائد السبسي «نداء تونس»، وحزب «قلب تونس» بزعامة رجل الأعمال نبيل القروي. وكان القروي وحزبه نافسا بشراسة قيس سعيد في الانتخابات الرئاسية، و«النهضة» بزعامة راشد الغنوشي في الانتخابات البرلمانية، خلال أكتوبر (تشرين الأول) الماضي.
فاجأ هذا المنعرج معظم السياسيين والمراقبين في تونس وخارجها، وتباينت ردود الفعل عليه لأنه سيؤثر في المشهد السياسي المقبل، وسط بوادر تشكيل «ترويكا جديدة» قد تتحكم بتونس خلال السنوات الخمس المقبلة.
كشف فوز زعيم حزب «حركة النهضة» راشد الغنوشي برئاسة البرلمان التونسي، ومعه الناطقة الرسمية باسم حزب «قلب تونس» سميرة الشواشي نائبة أولى للرئيس القيادي السابق في حزب «نداء تونس» طارق الفتيتي نائباً ثانياً له عن «طبخة سياسية» أُعدَّت على نار هادئة بين الحزبين الفائزين بالمرتبتين الأولى والثانية في الانتخابات البرلمانية، والمقربين منهما، من بين رموز النظام السابق، مثلما أوردت المحامية سامية عبو البرلمانية والقيادية في حزب «التيار الديمقراطي» اليساري.
واتهم المحامي هيكل المكي، القيادي في حزب «الشعب العروبي» ورفاقه قيادة «النهضة» بتنظيم «مشاورات سرية مع حزب (قلب تونس) بزعامة نبيل القروي» أسفرت عن التحالف الذي برز فجأة في البرلمان، بينما كانت تنظم مشاورات علنية مع حزبيهما اليساريين والقوميين (الثوريين) تأهباً لتشكيل الحكومة المقبلة.

مفاوضات تحت الطاولة
في السياق نفسه، اتهم الأمين العام لحزب الشعب القومي العربي والنائب في البرلمان الجديد زهير المغزاوي «حركة النهضة» بالمناورة وتنظيم «مفاوضات تحت الطاولة مع نبيل القروي وحزب (قلب تونس)» في الوقت الذي تتفاوض فيه علناً مع حزبه ومع حزب «التيار الديمقراطي»، بزعامة المحاميَيْن محمد عبو وغازي الشواشي، بدعوى «التمهيد لتحالف بين القوى الوفية للثورة».
وأورد المغزاوي أن الوفد المفاوض في «النهضة» طلب من حزبيهما التصويت لرئيسها الغنوشي في ترشحه لرئاسة البرلمان، من دون أن تقديم تنازلات فيما يخص تشكيل الحكومة. وانتقد الأمين العام لحزب الشعب وحلفاؤه في حزب «التيار الديمقراطي»... «عدم تجاوب قيادة (النهضة) مع مطالب الحزبين»، وبينها إسناد حقائب التربية والثقافة والتعليم العالي والداخلية والعدل والوظيفة العمومية لشخصيات ترشحها قيادتهما.
ونفى المغزاوي الاتهامات التي وجهها قياديون في «النهضة»، بينهم رئيس مجلس الشورى الوزير السابق عبد الكريم الهاروني، لحزبي «التيار» و«الشعب» بـ«تعمد التصعيد ومحاولة تعطيل الحوار بخصوص تشكيل الحكومة ورئاسة البرلمان».

حزب الرئيس؟
في المقابل تابع مسؤولون ونشطاء في «النهضة»، بينهم رئيس المكتب السياسي والبرلماني نور الدين العرباوي، والمستشار رضوان المصمودي والإعلامي نور الدين عويديدي، تبرير تحالف قيادتهم المفاجئ مع حزب «قلب تونس» وزعيمه نبيل القروي، الذي كانوا يتهمونه بالتهريب والفساد وتبييض الأموال والتخابر مع ضابط إسرائيلي سابق وساندوا إحالته على القضاء. واختزلت التبريرات التغيير السريع في موقف قيادة «النهضة» إزاء مَن كانت تتهمهم بالفساد بما وصفوه بـ«مزايدات قيادات حزبي التيار والشعب (وتعمدهما التصعيد والاستفزاز) ومحاولة فرض شروط تعجيزية على الحزب الفائز بالمرتبة الأولى، أي (النهضة)، من بينها منعه من تسلم رئاسة الحكومة ووزارات السيادة».
أيضاً، ذكر قياديون في «النهضة»، بينهم الناطق الرسمي باسمها، البرلماني عماد الخميري، بكون الأطراف «الثورية» التي راهنت «النهضة» على الشراكة معها أول الأمر، واعتبرتها الأقرب إليها «افتعلت أزمات»، وحاولت استبعاد «النهضة» من المواقع المهمة في الدولة، وتشكيل «حكومة الرئيس»، أي حكومة يعين رئيسها وأعضاءها رئيس الجمهورية قيس سعيد... وليس البرلمان.
وكان قد تصدّر الدعاة إلى «حكومة الرئيس» خلال الأسبوعين الماضيين قياديون في حزب «الشعب»،
بينهم الوزير السابق للتربية سالم الأبيض، والأمين العام للحزب زهير المغزاوي. ورد عليهم قياديون ونشطاء في «النهضة» باتهامهم بـ«محاولة الانقلاب على الدستور»، ونشروا صوراً عن لقاءاتهم مع الرئيس السوري بشار الأسد، ووصفوهم بـ«الشبيحة» و«القومجيين».
كذلك أعلن العجمي الوريمي، القيادي في «حركة النهضة» تمسك حركته بـ«دستور 2014» الذي ينصّ بوضوح على تكليف الحزب الفائز بالمرتبة الأولى في الانتخابات البرلمانية تشكيل الحكومة. ولا يتدخل رئيس الجمهورية حسب الدستور إلا بعد شهرين في صورة فشل هذا الحزب في مهمته.

محاربة الفساد.. و«الدواء المرّ»
لكن ماذا عن شعار «محاربة الفساد والفاسدين» الذي برز خلال الحملة الانتخابية الرئاسية والبرلمانية على لسان غالبية الزعماء السياسيين والمرشحين، بمن فيهم الرئيس قيس سعيّد وراشد الغنوشي ورفاقه في قيادة «النهضة»، ومرشحهم للانتخابات الرئاسية المحامي ورئيس البرلمان السابق عبد الفتاح مورو؟ هل سيكون سهلاً تمرير «الدواء المرّ» لعشرات الآلاف من الشباب والطلاب والنشطاء اليساريين والإسلاميين والحقوقيين الذين انخرطوا مجدداً في الشأن العام والعملية الانتخابية، وصدّقوا وجود نية لدى السياسيين لمحاربة الرشوة والفساد ومحاكمة كبار المتهمين بالضلوع فيه، وبينهم زعيم حزب «قلب تونس» نبيل القروي وشقيقه البرلماني ورجل الأعمال غازي القروي؟
المستشار السابق لرئيس «حركة النهضة» والوزير السابق لطفي زيتون، الذي عارض منذ مدة «التوجهات الثورجية والشعبوية» لبعض قيادات حركته، دعا مجدداً إلى «الواقعية» و«البراغماتية»، وطالب تلك القيادات «بمصارحة الشعب وقواعد الحركة بالحقيقة». وعاتب زيتون تلك القيادات، لأنها سايرت سابقاً «الموجة الثورجية»، وانخرطت في معارك سياسية «ليس لها مبرر» و«غير واقعية، ولا تتماشى مع موازين القوى محلياً ودولياً».
واعتبر زيتون أن المنعرج السياسي الذي برز في البرلمان، من خلال تحالف «النهضة» مع «قلب تونس» والمنشقين عن حزب «النداء» وممثلي «النظام القديم»، يجب أن يدفع كل السياسيين التونسيين نحو «الاعتدال والواقعية والتعامل بمصداقية مع قواعدهم».

تقاطع مصالح
في هذا السياق العام، هل يمكن وقف دوران السياسيين في حلقة مفرغة بعد انتخابات رفعوا فيها أمام الشعب سقف تعهداتهم، وعلى رأسها معالجة معضلات الفقر والبطالة وتدهور الخدمات في القطاع العام؟ وكيف الخروج من المأزق السياسي في مرحلة تراكمت فيها الصعوبات المالية للدولة والأزمات الاقتصادية والاجتماعية الهيكلية للبلاد؟
المنسّق العام لحزب «قلب تونس» البرلماني حاتم المليكي، وعدد من قادة «النهضة» مثل البرلمانية يمينة الزغلامي، اعتبروا أن «التجاذبات السياسية السابقة بين قيادات (النهضة) و(قلب تونس) كانت جزءاً من الحملة الانتخابية، وقد طُوِيت هذه الصفحة اليوم، إذ أصبحت الأولوية تعطى لتقاطع المصالح وليس للشعارات». كما أورد البرلماني السابق العجمي الوريمي أن «أغلب نواب حزب (قلب تونس) كانوا أعضاء في حزب (نداء تونس)، بزعامة الرئيس الراحل الباجي قائد السبسي، وبالتالي فإن منطق تقاطع المصالح يبرر الشراكة بينهم وبين قيادات حزب (النهضة) وحلفائهم».
وقد ذهب راشد الغنوشي زعيم «النهضة» ورئيس البرلمان الجديد بعيداً عندما رد على منتقديه في أول تصريح له بعد انتخابه قائلاً: «الأغبياء وحدهم لا يتطوّرون».
وتجاهل الغنوشي الحملة التي استهدفته وقيادة «النهضة» في المواقع الاجتماعية، والاتهامات التي وُجّهت إليه، وبينها «التصالح مجدداً مع النظام القديم»، من خلال تحالفه مع حزب القروي، على غرار ما فعل في 2014 مع حزب قائد السبسي.

غالبية هشة
من جانب آخر، ثمة مَن يتساءل: إلى أي حد يمكن أن تصمد الأغلبية البرلمانية النسبية التي صوتت لراشد الغنوشي رئيساً للبرلمان وللقيادية في حزب «قلب تونس» سميرة الشواشي وللقيادي السابق في حزب «نداء تونس» طارق الفتيتي نائبين للرئيس؟
حسب نتائج التصويت، تبدو هذه الأغلبية هشة نسبياً. إذ فاز الغنوشي بـ123 صوتاً من بين 217 نائباً، وفازت الشواشي بـ109 أصوات فقط. وتعذر حسم ملف النائب الثاني للرئيس بسهولة فوقع اللجوء إلى تأجيل التصويت 24 ساعة، ثم إلى تنظيم دورتي اقتراع.
وبدا واضحاً أن الغنوشي حصل على أصوات نواب حركته الـ52 ونواب «قلب تونس» الـ38، ثم أصوات 21 نائباً إسلامياً ليسوا أعضاء في «النهضة» ترشحوا ضمن قائمة «ائتلاف الكرامة» التي يتزعمها المحامي الشاب سيف الدين مخلوف. أيضاً صوّت لفائدته مستقلون ومنشقون آخرون عن حزب «نداء تونس» بعضهم من بين أنصار رئيس الحكومة المتخلية يوسف الشاهد والأمين العام لحزب «مشروع تونس» حسونة الناصفي. وفي المقابل، لم يصوت قسم ممن صوتوا للغنوشي لمرشحة حزب القروي، ولا للفتيتي، ويرجح أن يكونوا أساساً نواب «ائتلاف الكرامة» الـ21.

البيض ليس في سلة واحدة
في الوقت نفسه، أفرزت انتخابات رئيس البرلمان ونائبيه واقع ابتعاد «النهضة» و«قلب تونس» وحلفائهما من رموز المنظومة القديمة عن الرهان على طرف واحد، وتبين أنهم لا يريدون وضع كل بيضهم في سلة واحدة، فلقد حوّل عدد من نوابهم أصواتهم عند انتخاب النائب الثاني للرئيس إلى مرشح «ائتلاف الكرامة» الإسلامي، بينما صوّت «حلفاؤهم» لمرشح «النظام القديم»، ويضم منشقين عن حزب «نداء تونس» وعن حزب يوسف الشاهد؛ فهل يمكن بمثل هذه الفسيفساء تشكيل حكومة قوية تدعمها على الأقل 3 أحزاب سياسية في البرلمان؟
المؤشرات، لتاريخه، غير مطمئنة. وقد تتضح الصورة، ويتشكل المشهد السياسي الجديد، بعد مشاورات الكواليس الجديدة حول رئيس الحكومة الذي اقترحته «حركة النهضة» على رئيس الجمهورية قيس سعيّد بعد مشاوراتها مع حلفائها داخل البرلمان.

كتلة برلمانية «ثورية» تنافس {النهضة}
> فشل البرلماني يسري الدالي مرشح كتلة «ائتلاف الكرامة» ذات الميول الإسلامية في الفوز بمنصب النائب الثاني لرئيس البرلمان أمام مرشح «العائلة الوسطى»، طارق الفتيتي، القيادي في الحزب الحاكم السابق «نداء تونس»، بزعامة الرئيس الراحل الباجي قائد السبسي. وكان يسري الدالي قد تولى سابقاً مسؤوليات في وزارة الداخلية بصفته مختصاً في علم النفس وعلم الاجتماع. ولقد برز منذ خروجه للتقاعد من وظيفته بقربه من الإسلاميين المستقلين، وعدد من المنشقين عن «النهضة»، بزعامة المحامي الشاب سيف الدين مخلوف، والكاتب والشاعر الشاب عبد اللطيف العلوي. وكان من بين مفاجآت الانتخابات البرلمانية الجديدة فوز قائمة «ائتلاف الكرامة» بـ21 مقعداً في البرلمان الجديد، رغم عدم وجود أي حزب يدعمها. وبحكم فوز هذا الائتلاف «المستقل» بالمرتبة الرابعة في الانتخابات، ترجح أطراف كثيرة في تونس أن يتطور إلى حزب سياسي إسلامي منافس لـ«حركة النهضة».
وللعلم، يتميز هذا الائتلاف بحدة انتقاداته للمنظومة القديمة التي حكمت تونس منذ 1956، بزعامة الرئيسين الحبيب بورقيبة وزين العابدين بن علي، ثم المنظومة التي تحكم البلاد منذ «ثورة يناير 2011» بمكوّناتها اليسارية والإسلامية والليبيرالية. كذلك، تميّز خلال الحملة الانتخابية بانتقاداته لفرنسا والعواصم الغربية ولإسرائيل وللاتفاقيات التي أبرمها الزعيم بورقيبة معها قبل الاستقلال.
وخلافاً لبقية السياسيين، برزت قيادة الائتلاف بنقدها الواضح والعنيف للقيادات النقابية التي اتهمتها بالتسبب في أزمة البلاد الاقتصادية بسبب آلاف الإضرابات التي نظمتها منذ الإطاحة بحكم زين العابدين بن علي. لكن بعض البرلمانيين، الذين نجحوا في الانتخابات ضمن هذا الائتلاف يُحسبون على التيار السلفي، وبينهم خطباء جوامع خبرتهم محدودة بالملفات الاقتصادية والمالية، ممن سبق لهم توجيه انتقادات عنيفة للسياسيين العلمانيين وللزعماء النقابيين.
غير أن قيادة «النهضة» أبدت حرصها على بناء جسور مع هذا «الائتلاف الإسلامي»، وعقد رئيسها راشد الغنوشي لقاءات مطوّلة مع عدد من زعمائه قبل الانتخابات، وبعدها للتنسيق معها. لكن مؤشرات جديدة توحي باحتمال هجرة قطاع من الغاضبين إليها رداً على مصالحة قيادة «النهضة» مجدداً مع رموز «النظام القديم»، وهو ما اعتبروه «ابتعاداً عن شعارات الثورة».



لبنان يواجه تحدّيات مصيرية في زمن التحوّلات

جريمة اغتيال رفيق الحريري (غيتي)
جريمة اغتيال رفيق الحريري (غيتي)
TT

لبنان يواجه تحدّيات مصيرية في زمن التحوّلات

جريمة اغتيال رفيق الحريري (غيتي)
جريمة اغتيال رفيق الحريري (غيتي)

يواجه لبنان جملة من التحديات السياسية والعسكرية والأمنية والاقتصادية، خصوصاً في مرحلة التحوّلات الكبرى التي تشهدها المنطقة وترخي بثقلها على واقعه الصعب والمعقّد. ولا شك أن أهم هذه التحوّلات سقوط نظام بشّار الأسد في سوريا، وتراجع النفوذ الإيراني الذي كان له الأثر المباشر في الأزمات التي عاشها لبنان خلال السنوات الأخيرة، وهذا فضلاً عن تداعيات الحرب الإسرائيلية وآثارها التدميرية الناشئة عن «جبهة إسناد» لم تخفف من مأساة غزّة والشعب الفلسطيني من جهة، ولم تجنّب لبنان ويلات الخراب من جهة ثانية.

إذا كانت الحرب الإسرائيلية على لبنان قد انتهت إلى اتفاق لوقف إطلاق النار برعاية دولية، وإشراف أميركي ـ فرنسي على تطبيق القرار 1701، فإن مشهد ما بعد رحيل الأسد وحلول سلطة بديلة لم يتكوّن بعد.

وربما سيحتاج الأمر إلى بضعة أشهر لتلمُّس التحدّيات الكبرى، التي تبدأ بالتحدّيات السياسية والتي من المفترض أن تشكّل أولوية لدى أي سلطة جديدة في لبنان. وهنا يرى النائب السابق فارس سُعَيد، رئيس «لقاء سيّدة الجبل»، أنه «مع انهيار الوضعية الإيرانية في لبنان وتراجع وظيفة (حزب الله) الإقليمية والسقوط المدوّي لحكم البعث في دمشق، وهذا إضافة إلى الشغور في رئاسة الجمهورية، يبقى التحدّي الأول في لبنان هو ملء ثغرات الدولة من أجل استقامة المؤسسات الدستورية».

وأردف سُعَيد، في تصريح لـ«الشرق الأوسط»، إلى أنه «بعكس الحال في سوريا، يوجد في لبنان نصّ مرجعي اسمه الدستور اللبناني ووثيقة الوفاق الوطني، وهذا الدستور يجب أن يحترم بما يؤمّن بناء الدولة والانتقال من مرحلة إلى أخرى».

الدستور أولاً

الواقع أنه لا يمكن لمعطيات علاقة متداخلة بين لبنان وسوريا طالت لأكثر من 5 عقود، و«وصاية دمشق» على بيروت ما بين عامَي 1976 و2005 - وصفها بعض معارضي سوريا بـ«الاحتلال» - أن تتبدّل بين ليلة وضحايا على غرار التبدّل المفاجئ والصادم في دمشق. ثم إن حلفاء نظام دمشق الراحل في لبنان ما زالوا يملكون أوراق قوّة، بينها تعطيل الانتخابات الرئاسية منذ 26 شهراً وتقويض كل محاولات بناء الدولة وفتح ورشة الإصلاح.

غير أن المتغيّرات في سوريا، وفي المنطقة، لا بدّ أن تؤسس لواقع لبناني جديد. ووفق النائب السابق سُعَيد: «إذا كان شعارنا في عام 2005 لبنان أولاً، يجب أن يكون العنوان في عام 2024 هو الدستور أولاً»، لافتاً إلى أن «الفارق بين سوريا ولبنان هو أن سوريا لا تملك دستوراً وهي خاضعة فقط للقرار الدولي 2254. في حين بالتجربة اللبنانية يبقى الدستور اللبناني ووثيقة الوفاق الوطني المرجعَين الصالحَين لبناء الدولة، وهذا هو التحدي الأكبر في لبنان».

وشدّد، من ثم، على ضرورة «استكمال بناء المؤسسات الدستورية، خصوصاً في المرحلة الانتقالية التي تمرّ بها سوريا»، وتابع: «وفي حال دخلت سوريا، لا سمح الله، في مرحلة من الفوضى... فنحن لا نريد أن تنتقل هذه الفوضى إلى لبنان».

العودة للحضن العربي

من جهة ثانية، يحتاج لبنان في المرحلة المقبلة إلى مقاربة جديدة عمّا كان الوضع عليه في العقود السابقة. ولا يُخفي السياسي اللبناني الدكتور خلدون الشريف، في تصريح لـ«الشرق الأوسط»، أن لبنان «سيتأثّر بالتحوّلات الكبرى التي تشهدها المنطقة، وحتميّة انعكاس ما حصل في سوريا على لبنان». ويلفت إلى أن «ما حصل في سوريا أدّى إلى تغيير حقيقي في جيوبوليتيك المنطقة، وسيكون له انعكاسات حتمية، ليس على لبنان فحسب، بل على المشرق العربي والشرق الأوسط برمته أيضاً».

الاستحقاق الرئاسي

في سياق موازٍ، قبل 3 أسابيع من موعد جلسة انتخاب الرئيس التي دعا إليها رئيس مجلس النواب نبيه برّي في التاسع من يناير (كانون الثاني) المقبل، لم تتفق الكتل النيابية حتى الآن على اسم مرشّح واحد يحظى بأكثرية توصله إلى قصر بعبدا.

وهنا، يرى الشريف أنه بقدر أهمية عودة لبنان إلى موقعه الطبيعي في العالم العربي، ثمّة حاجة ماسّة لعودة العرب إلى لبنان، قائلاً: «إعادة لبنان إلى العرب مسألة مهمّة للغاية، شرط ألّا يعادي أي دولة إقليمية عربية... فلدى لبنان والعرب عدوّ واحد هو إسرائيل التي تعتدي على البشر والحجر». وبغض النظر عن حتميّة بناء علاقات سياسية صحيحة ومتكافئة مع سوريا الجديدة، يلفت الشريف إلى أهمية «الدفع للتعاطي معها بإيجابية وانفتاح وفتح حوار مباشر حول موضوع النازحين والشراكة الاقتصادية وتفعيل المصالح المشتركة... ويمكن للبلدين، إذا ما حَسُنت النيّات، أن يشكلّا نموذجاً مميزاً للتعاون والتنافس تحت سقف الشراكة».

يحتاج لبنان في المرحلة المقبلة إلى مقاربة جديدة

النهوض الاقتصادي

وحقاً، يمثّل الملفّ الاقتصادي عنواناً رئيساً للبنان الجديد؛ إذ إن بناء الاقتصاد القوي يبقى المعيار الأساس لبناء الدولة واستقرارها، وعودتها إلى دورها الطبيعي. وفي لقاء مع «الشرق الأوسط»، قال الوزير السابق محمد شقير، رئيس الهيئات الاقتصادية في لبنان، إن «النهوض الاقتصادي يتطلّب إقرار مجموعة من القوانين والتشريعات التي تستجلب الاستثمارات وتشجّع على استقطاب رؤوس الأموال، على أن يتصدّر الورشة التشريعية قانون الجمارك وقانون ضرائب عصري وقانون الضمان الاجتماعي».

شقير يشدّد على أهمية «إعادة هيكلة القطاع المصرفي؛ إذ لا اقتصاد من دون قطاع مصرفي». ويشير إلى أهمية «ضبط التهريب على كل طول الحدود البحرية والبرّية، علماً بأن هذا الأمر بات أسهل مع سقوط النظام السوري، الذي طالما شكّل عائقاً رئيساً أمام كل محاولات إغلاق المعابر غير الشرعية ووقف التهريب، الذي تسبب بخسائر هائلة في ميزانية الدولة، بالإضافة إلى وضع حدّ للمؤسسات غير الشرعية التي تنافس المؤسسات الشرعية وتؤثر عليها».

نقطة جمارك المصنع اللبنانية على الحدود مع سوريا (آ ف ب)

لبنان ودول الخليج

يُذكر أن الفوضى في الأسواق اللبنانية أدت إلى تراجع قدرات الدولة، ما كان سبباً في الانهيار الاقتصادي والمالي، ولذا يجدد شقير دعوته إلى «وضع حدّ للقطاع الاقتصادي السوري الذي ينشط في لبنان بخلاف الأنظمة والقوانين، والذي أثّر سلباً على النمو، ولا مانع من قوننة ليعمل بطريقة شرعية ووفق القوانين اللبنانية المرعية الإجراء». لكنه يعبّر عن تفاؤله بمستقبل لبنان السياسي والاقتصادي، قائلاً: «لا يمكن للبنان أن ينهض من دون علاقات طيّبة وسليمة مع العالم العربي، خصوصاً دول الخليج... ويجب أن تكون المهمّة الأولى للحكومة الجديدة ترسيخ العلاقات الجيّدة مع دول الخليج العربي، ولا سيما المملكة العربية السعودية التي طالما أمّنت للبنان الدعم السياسي والاقتصادي والمالي».

ضبط السلاح

على صعيد آخر، تشكّل الملفات الأمنية والعسكرية سمة المرحلة المقبلة، بخاصةٍ بعد التزام لبنان فرض سلطة الدولة على كامل أراضيها تطبيقاً للدستور والقرارات الدولية. ويعتبر الخبير العسكري والأمني العميد الركن فادي داوود، في تصريح لـ«الشرق الأوسط»، أن «تنفيذ القرار 1701 ومراقبة تعاطيها مع مكوّنات المجتمع اللبناني التي تحمل السلاح، هو التحدّي الأكبر أمام المؤسسات العسكرية والأمنية». ويوضح أن «ضبط الحدود والمعابر البرية مع سوريا وإسرائيل مسألة بالغة الدقة، سيما في ظل المستجدات التي تشهدها سوريا، وعدم معرفة القوة التي ستمسك بالأمن على الجانب السوري».

مكافحة المخدِّرات

وبأهمية ضبط الحدود ومنع الاختراق الأمني عبرها، يظل الوضع الداخلي تحت المجهر في ظلّ انتشار السلاح لدى معظم الأحزاب والفئات والمناطق اللبنانية، وهنا يوضح داوود أن «تفلّت السلاح في الداخل يتطلّب خطة أمنية ينفّذها الجيش والأجهزة الأمنية كافة». ويشرح أن «وضع المخيمات الفلسطينية يجب أن يبقى تحت رقابة الدولة ومنع تسرّب السلاح خارجها، إلى حين الحلّ النهائي والدائم لانتشار السلاح والمسلحين في جميع المخيمات»، منبهاً إلى «معضلة أمنية أساسية تتمثّل بمكافحة المخدرات تصنيعاً وترويجاً وتصديراً، سيما وأن هناك مناطق معروفة كانت أشبه بمحميات أمنية لعصابات المخدرات».

حقائق

علاقات لبنان مع سوريا... نصف قرن من الهيمنة

شهدت العلاقات اللبنانية - السورية العديد من المحطات والاستحقاقات، صبّت بمعظمها في مصلحة النظام السوري ومكّنته من إحكام قبضته على كلّ شاردة وواردة. وإذا كان نفوذ دمشق تصاعد منذ دخول جيشها لبنان في عام 1976، فإن جريمة اغتيال الرئيس اللبناني المنتخب رينيه معوض في 22 نوفمبر (تشرين الثاني) 1989 - أي يوم عيد الاستقلال - شكّلت رسالة. واستهدفت الجريمة ليس فقط الرئيس الذي أطلق مرحلة الشروع في تطبيق «اتفاق الطائف»، وبسط سلطة الدولة على كامل أراضيها وحلّ كل الميليشيات المسلّحة وتسليم سلاحها للدولة، بل أيضاً كلّ من كان يحلم ببناء دولة ذات سيادة متحررة من الوصاية. ولكنْ ما إن وُضع «اتفاق الطائف» موضع التنفيذ، بدءاً بوحدانية قرار الدولة، أصرّ حافظ الأسد على استثناء سلاح «حزب الله» والتنظيمات الفلسطينية الموالية لدمشق، بوصفه «سلاح المقاومة لتحرير الأراضي اللبنانية المحتلّة» ولإبقائه عامل توتر يستخدمه عند الضرورة. ثم نسف الأسد «الأب» قرار مجلس الوزراء لعام 1996 القاضي بنشر الجيش اللبناني على الحدود مع إسرائيل، بذريعة رفضه «تحويل الجيش حارساً للحدود الإسرائيلية».بعدها استثمر نظام دمشق انسحاب الجيش الإسرائيلي من المناطق التي كان يحتلها في جنوب لبنان خلال مايو (أيار) 2000، و«جيّرها» لنفسه ليعزّز هيمنته على لبنان. غير أنه فوجئ ببيان مدوٍّ للمطارنة الموارنة برئاسة البطريرك الراحل نصر الله بطرس صفير في سبتمبر (أيلول) 2000، طالب فيه الجيش السوري بالانسحاب من لبنان؛ لأن «دوره انتفى مع جيش الاحتلال الإسرائيلي من جنوب لبنان».مع هذا، قبل شهر من انتهاء ولاية الرئيس إميل لحود، أعلن نظام بشار الأسد رغبته بالتمديد للحود ثلاث سنوات (نصف ولاية جديدة)، ورغم المعارضة النيابية الشديدة التي قادها رئيس الوزراء الراحل رفيق الحريري، مُدِّد للحود بالقوة على وقع تهديد الأسد «الابن» للحريري ووليد جنبلاط «بتحطيم لبنان فوق رأسيهما». وهذه المرة، صُدِم الأسد «الابن» بصدور القرار 1559 عن مجلس الأمن الدولي، الذي يقضي بانتخاب رئيس جديد للبنان، وانسحاب الجيش السوري فوراً، وحلّ كل الميليشيات وتسليم سلاحها للدولة اللبنانية. ولذا، عمل لإقصاء الحريري وقوى المعارضة اللبنانية عن السلطة، وتوِّج هذا الإقصاء بمحاولة اغتيال الوزير مروان حمادة في أكتوبر (تشرين الأول) 2004، ثمّ باغتيال رفيق الحريري يوم 14 فبراير (شباط) 2005، ما فجّر «ثورة الأرز» التي أدت إلى انسحاب الجيش السوري من لبنان يوم 26 أبريل (نيسان)، وتبع ذلك انتخابات نيابية خسرها حلفاء النظام السوري فريق «14 آذار» المناوئ لدمشق.تراجع نفوذ دمشق في لبنان استمر بعد انسحاب جيشها بضغط أميركي مباشر. وتجلّى ذلك في «الحوار الوطني اللبناني»، الذي أفضى إلى اتخاذ قرارات بينها «ترسيم الحدود» اللبنانية السورية، وبناء علاقات دبلوماسية مع سوريا وتبادل السفراء، الأمر الذي قبله بشار الأسد على مضض. وأكمل المسار بقرار إنشاء محكمة دولية لمحاكمة قتلة الحريري وتنظيم السلاح الفلسطيني خارج المخيمات - وطال أساساً التنظيمات المتحالفة مع دمشق وعلى رأسها «الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين - القيادة العامة» - وتحرير المعتقلين اللبنانيين في السجون السورية. حرب 6002مع هذا، بعد الحرب الإسرائيلية على لبنان في يوليو (تموز) 2006، التي أعلن «حزب الله» بعدها «الانتصار على إسرائيل»، استعاد النظام السوري بعض نفوذه. وتعزز ذلك بسلسلة اغتيالات طالت خصومه في لبنان من ساسة ومفكّرين وإعلاميين وأمنيين - جميعهم من فريق «14 آذار» - وتوّج بالانقلاب العسكري الذي نفذه «حزب الله» يوم 7 مايو 2008 محتلاً بيروت ومهاجماً الجبل. وأدى هذا التطور إلى «اتفاق الدوحة» الذي منح الحزب وحلفاء دمشق «الثلث المعطِّل» في الحكومة اللبنانية، فمكّنهم من الإمساك بالسلطة.يوم 25 مايو 2008 انتخب قائد الجيش اللبناني ميشال سليمان رئيساً للجمهورية، وفي 13 أغسطس (آب) من العام نفسه عُقدت قمة لبنانية ـ سورية في دمشق، وصدر عنها بيان مشترك، تضمّن بنوداً عدّة أهمها: «بحث مصير المفقودين اللبنانيين في سوريا، وترسيم الحدود، ومراجعة الاتفاقات وإنشاء علاقات دبلوماسية، وتبنّي المبادرة العربية للسلام». ولكن لم يتحقق من مضمون البيان، ومن «الحوار الوطني اللبناني» سوى إقامة سفارات وتبادل السفراء فقط.ختاماً، لم يقتنع النظام السوري في يوم من الأيام بالتعامل مع لبنان كدولة مستقلّة. وحتى في ذروة الحرب السورية، لم يكف عن تعقّب المعارضين السوريين الذي فرّوا إلى لبنان، فجنّد عصابات عملت على خطف العشرات منهم ونقلهم إلى سوريا. كذلك سخّر القضاء اللبناني (خصوصاً المحكمة العسكرية) للتشدد في محاكمة السوريين الذين كانوا في عداد «الجيش السوري الحرّ» والتعامل معهم كإرهابيين.أيضاً، كان للنظام السوري - عبر حلفائه اللبنانيين - الدور البارز في تعطيل الاستحقاقات الدستورية، لا سيما الانتخابات الرئاسية والنيابية وتشكيل الحكومات، بمجرد اكتشاف أن النتائج لن تكون لصالحهم. وعليه، قد يكون انتخاب الرئيس اللبناني في 9 يناير (كانون الثاني) المقبل، الاستحقاق الأول الذي يشهده لبنان من خارج تأثير نظام آل الأسد منذ نصف قرن.