«الواقعية» تنتصر على «الثوريين» في تونس

غالبية هشة و«ترويكا» ضعيفة في البرلمان الجديد

«الواقعية» تنتصر على «الثوريين» في تونس
TT

«الواقعية» تنتصر على «الثوريين» في تونس

«الواقعية» تنتصر على «الثوريين» في تونس

بعد أقل من شهر من تنصيب الرئيس التونسي قيس سعيّد، الذي فاز بثلاثة أرباع الأصوات بعدما رفع شعارات ثورية، عدل البرلمان الكفة في الاتجاه المعاكس، من خلال إعلان تحالف سياسي استراتيجي جديد بين «ثلاثي حاكم» جديد يضم حزب «حركة النهضة» الإسلامي، والمنشقين عن حزب الباجي قائد السبسي «نداء تونس»، وحزب «قلب تونس» بزعامة رجل الأعمال نبيل القروي. وكان القروي وحزبه نافسا بشراسة قيس سعيد في الانتخابات الرئاسية، و«النهضة» بزعامة راشد الغنوشي في الانتخابات البرلمانية، خلال أكتوبر (تشرين الأول) الماضي.
فاجأ هذا المنعرج معظم السياسيين والمراقبين في تونس وخارجها، وتباينت ردود الفعل عليه لأنه سيؤثر في المشهد السياسي المقبل، وسط بوادر تشكيل «ترويكا جديدة» قد تتحكم بتونس خلال السنوات الخمس المقبلة.
كشف فوز زعيم حزب «حركة النهضة» راشد الغنوشي برئاسة البرلمان التونسي، ومعه الناطقة الرسمية باسم حزب «قلب تونس» سميرة الشواشي نائبة أولى للرئيس القيادي السابق في حزب «نداء تونس» طارق الفتيتي نائباً ثانياً له عن «طبخة سياسية» أُعدَّت على نار هادئة بين الحزبين الفائزين بالمرتبتين الأولى والثانية في الانتخابات البرلمانية، والمقربين منهما، من بين رموز النظام السابق، مثلما أوردت المحامية سامية عبو البرلمانية والقيادية في حزب «التيار الديمقراطي» اليساري.
واتهم المحامي هيكل المكي، القيادي في حزب «الشعب العروبي» ورفاقه قيادة «النهضة» بتنظيم «مشاورات سرية مع حزب (قلب تونس) بزعامة نبيل القروي» أسفرت عن التحالف الذي برز فجأة في البرلمان، بينما كانت تنظم مشاورات علنية مع حزبيهما اليساريين والقوميين (الثوريين) تأهباً لتشكيل الحكومة المقبلة.

مفاوضات تحت الطاولة
في السياق نفسه، اتهم الأمين العام لحزب الشعب القومي العربي والنائب في البرلمان الجديد زهير المغزاوي «حركة النهضة» بالمناورة وتنظيم «مفاوضات تحت الطاولة مع نبيل القروي وحزب (قلب تونس)» في الوقت الذي تتفاوض فيه علناً مع حزبه ومع حزب «التيار الديمقراطي»، بزعامة المحاميَيْن محمد عبو وغازي الشواشي، بدعوى «التمهيد لتحالف بين القوى الوفية للثورة».
وأورد المغزاوي أن الوفد المفاوض في «النهضة» طلب من حزبيهما التصويت لرئيسها الغنوشي في ترشحه لرئاسة البرلمان، من دون أن تقديم تنازلات فيما يخص تشكيل الحكومة. وانتقد الأمين العام لحزب الشعب وحلفاؤه في حزب «التيار الديمقراطي»... «عدم تجاوب قيادة (النهضة) مع مطالب الحزبين»، وبينها إسناد حقائب التربية والثقافة والتعليم العالي والداخلية والعدل والوظيفة العمومية لشخصيات ترشحها قيادتهما.
ونفى المغزاوي الاتهامات التي وجهها قياديون في «النهضة»، بينهم رئيس مجلس الشورى الوزير السابق عبد الكريم الهاروني، لحزبي «التيار» و«الشعب» بـ«تعمد التصعيد ومحاولة تعطيل الحوار بخصوص تشكيل الحكومة ورئاسة البرلمان».

حزب الرئيس؟
في المقابل تابع مسؤولون ونشطاء في «النهضة»، بينهم رئيس المكتب السياسي والبرلماني نور الدين العرباوي، والمستشار رضوان المصمودي والإعلامي نور الدين عويديدي، تبرير تحالف قيادتهم المفاجئ مع حزب «قلب تونس» وزعيمه نبيل القروي، الذي كانوا يتهمونه بالتهريب والفساد وتبييض الأموال والتخابر مع ضابط إسرائيلي سابق وساندوا إحالته على القضاء. واختزلت التبريرات التغيير السريع في موقف قيادة «النهضة» إزاء مَن كانت تتهمهم بالفساد بما وصفوه بـ«مزايدات قيادات حزبي التيار والشعب (وتعمدهما التصعيد والاستفزاز) ومحاولة فرض شروط تعجيزية على الحزب الفائز بالمرتبة الأولى، أي (النهضة)، من بينها منعه من تسلم رئاسة الحكومة ووزارات السيادة».
أيضاً، ذكر قياديون في «النهضة»، بينهم الناطق الرسمي باسمها، البرلماني عماد الخميري، بكون الأطراف «الثورية» التي راهنت «النهضة» على الشراكة معها أول الأمر، واعتبرتها الأقرب إليها «افتعلت أزمات»، وحاولت استبعاد «النهضة» من المواقع المهمة في الدولة، وتشكيل «حكومة الرئيس»، أي حكومة يعين رئيسها وأعضاءها رئيس الجمهورية قيس سعيد... وليس البرلمان.
وكان قد تصدّر الدعاة إلى «حكومة الرئيس» خلال الأسبوعين الماضيين قياديون في حزب «الشعب»،
بينهم الوزير السابق للتربية سالم الأبيض، والأمين العام للحزب زهير المغزاوي. ورد عليهم قياديون ونشطاء في «النهضة» باتهامهم بـ«محاولة الانقلاب على الدستور»، ونشروا صوراً عن لقاءاتهم مع الرئيس السوري بشار الأسد، ووصفوهم بـ«الشبيحة» و«القومجيين».
كذلك أعلن العجمي الوريمي، القيادي في «حركة النهضة» تمسك حركته بـ«دستور 2014» الذي ينصّ بوضوح على تكليف الحزب الفائز بالمرتبة الأولى في الانتخابات البرلمانية تشكيل الحكومة. ولا يتدخل رئيس الجمهورية حسب الدستور إلا بعد شهرين في صورة فشل هذا الحزب في مهمته.

محاربة الفساد.. و«الدواء المرّ»
لكن ماذا عن شعار «محاربة الفساد والفاسدين» الذي برز خلال الحملة الانتخابية الرئاسية والبرلمانية على لسان غالبية الزعماء السياسيين والمرشحين، بمن فيهم الرئيس قيس سعيّد وراشد الغنوشي ورفاقه في قيادة «النهضة»، ومرشحهم للانتخابات الرئاسية المحامي ورئيس البرلمان السابق عبد الفتاح مورو؟ هل سيكون سهلاً تمرير «الدواء المرّ» لعشرات الآلاف من الشباب والطلاب والنشطاء اليساريين والإسلاميين والحقوقيين الذين انخرطوا مجدداً في الشأن العام والعملية الانتخابية، وصدّقوا وجود نية لدى السياسيين لمحاربة الرشوة والفساد ومحاكمة كبار المتهمين بالضلوع فيه، وبينهم زعيم حزب «قلب تونس» نبيل القروي وشقيقه البرلماني ورجل الأعمال غازي القروي؟
المستشار السابق لرئيس «حركة النهضة» والوزير السابق لطفي زيتون، الذي عارض منذ مدة «التوجهات الثورجية والشعبوية» لبعض قيادات حركته، دعا مجدداً إلى «الواقعية» و«البراغماتية»، وطالب تلك القيادات «بمصارحة الشعب وقواعد الحركة بالحقيقة». وعاتب زيتون تلك القيادات، لأنها سايرت سابقاً «الموجة الثورجية»، وانخرطت في معارك سياسية «ليس لها مبرر» و«غير واقعية، ولا تتماشى مع موازين القوى محلياً ودولياً».
واعتبر زيتون أن المنعرج السياسي الذي برز في البرلمان، من خلال تحالف «النهضة» مع «قلب تونس» والمنشقين عن حزب «النداء» وممثلي «النظام القديم»، يجب أن يدفع كل السياسيين التونسيين نحو «الاعتدال والواقعية والتعامل بمصداقية مع قواعدهم».

تقاطع مصالح
في هذا السياق العام، هل يمكن وقف دوران السياسيين في حلقة مفرغة بعد انتخابات رفعوا فيها أمام الشعب سقف تعهداتهم، وعلى رأسها معالجة معضلات الفقر والبطالة وتدهور الخدمات في القطاع العام؟ وكيف الخروج من المأزق السياسي في مرحلة تراكمت فيها الصعوبات المالية للدولة والأزمات الاقتصادية والاجتماعية الهيكلية للبلاد؟
المنسّق العام لحزب «قلب تونس» البرلماني حاتم المليكي، وعدد من قادة «النهضة» مثل البرلمانية يمينة الزغلامي، اعتبروا أن «التجاذبات السياسية السابقة بين قيادات (النهضة) و(قلب تونس) كانت جزءاً من الحملة الانتخابية، وقد طُوِيت هذه الصفحة اليوم، إذ أصبحت الأولوية تعطى لتقاطع المصالح وليس للشعارات». كما أورد البرلماني السابق العجمي الوريمي أن «أغلب نواب حزب (قلب تونس) كانوا أعضاء في حزب (نداء تونس)، بزعامة الرئيس الراحل الباجي قائد السبسي، وبالتالي فإن منطق تقاطع المصالح يبرر الشراكة بينهم وبين قيادات حزب (النهضة) وحلفائهم».
وقد ذهب راشد الغنوشي زعيم «النهضة» ورئيس البرلمان الجديد بعيداً عندما رد على منتقديه في أول تصريح له بعد انتخابه قائلاً: «الأغبياء وحدهم لا يتطوّرون».
وتجاهل الغنوشي الحملة التي استهدفته وقيادة «النهضة» في المواقع الاجتماعية، والاتهامات التي وُجّهت إليه، وبينها «التصالح مجدداً مع النظام القديم»، من خلال تحالفه مع حزب القروي، على غرار ما فعل في 2014 مع حزب قائد السبسي.

غالبية هشة
من جانب آخر، ثمة مَن يتساءل: إلى أي حد يمكن أن تصمد الأغلبية البرلمانية النسبية التي صوتت لراشد الغنوشي رئيساً للبرلمان وللقيادية في حزب «قلب تونس» سميرة الشواشي وللقيادي السابق في حزب «نداء تونس» طارق الفتيتي نائبين للرئيس؟
حسب نتائج التصويت، تبدو هذه الأغلبية هشة نسبياً. إذ فاز الغنوشي بـ123 صوتاً من بين 217 نائباً، وفازت الشواشي بـ109 أصوات فقط. وتعذر حسم ملف النائب الثاني للرئيس بسهولة فوقع اللجوء إلى تأجيل التصويت 24 ساعة، ثم إلى تنظيم دورتي اقتراع.
وبدا واضحاً أن الغنوشي حصل على أصوات نواب حركته الـ52 ونواب «قلب تونس» الـ38، ثم أصوات 21 نائباً إسلامياً ليسوا أعضاء في «النهضة» ترشحوا ضمن قائمة «ائتلاف الكرامة» التي يتزعمها المحامي الشاب سيف الدين مخلوف. أيضاً صوّت لفائدته مستقلون ومنشقون آخرون عن حزب «نداء تونس» بعضهم من بين أنصار رئيس الحكومة المتخلية يوسف الشاهد والأمين العام لحزب «مشروع تونس» حسونة الناصفي. وفي المقابل، لم يصوت قسم ممن صوتوا للغنوشي لمرشحة حزب القروي، ولا للفتيتي، ويرجح أن يكونوا أساساً نواب «ائتلاف الكرامة» الـ21.

البيض ليس في سلة واحدة
في الوقت نفسه، أفرزت انتخابات رئيس البرلمان ونائبيه واقع ابتعاد «النهضة» و«قلب تونس» وحلفائهما من رموز المنظومة القديمة عن الرهان على طرف واحد، وتبين أنهم لا يريدون وضع كل بيضهم في سلة واحدة، فلقد حوّل عدد من نوابهم أصواتهم عند انتخاب النائب الثاني للرئيس إلى مرشح «ائتلاف الكرامة» الإسلامي، بينما صوّت «حلفاؤهم» لمرشح «النظام القديم»، ويضم منشقين عن حزب «نداء تونس» وعن حزب يوسف الشاهد؛ فهل يمكن بمثل هذه الفسيفساء تشكيل حكومة قوية تدعمها على الأقل 3 أحزاب سياسية في البرلمان؟
المؤشرات، لتاريخه، غير مطمئنة. وقد تتضح الصورة، ويتشكل المشهد السياسي الجديد، بعد مشاورات الكواليس الجديدة حول رئيس الحكومة الذي اقترحته «حركة النهضة» على رئيس الجمهورية قيس سعيّد بعد مشاوراتها مع حلفائها داخل البرلمان.

كتلة برلمانية «ثورية» تنافس {النهضة}
> فشل البرلماني يسري الدالي مرشح كتلة «ائتلاف الكرامة» ذات الميول الإسلامية في الفوز بمنصب النائب الثاني لرئيس البرلمان أمام مرشح «العائلة الوسطى»، طارق الفتيتي، القيادي في الحزب الحاكم السابق «نداء تونس»، بزعامة الرئيس الراحل الباجي قائد السبسي. وكان يسري الدالي قد تولى سابقاً مسؤوليات في وزارة الداخلية بصفته مختصاً في علم النفس وعلم الاجتماع. ولقد برز منذ خروجه للتقاعد من وظيفته بقربه من الإسلاميين المستقلين، وعدد من المنشقين عن «النهضة»، بزعامة المحامي الشاب سيف الدين مخلوف، والكاتب والشاعر الشاب عبد اللطيف العلوي. وكان من بين مفاجآت الانتخابات البرلمانية الجديدة فوز قائمة «ائتلاف الكرامة» بـ21 مقعداً في البرلمان الجديد، رغم عدم وجود أي حزب يدعمها. وبحكم فوز هذا الائتلاف «المستقل» بالمرتبة الرابعة في الانتخابات، ترجح أطراف كثيرة في تونس أن يتطور إلى حزب سياسي إسلامي منافس لـ«حركة النهضة».
وللعلم، يتميز هذا الائتلاف بحدة انتقاداته للمنظومة القديمة التي حكمت تونس منذ 1956، بزعامة الرئيسين الحبيب بورقيبة وزين العابدين بن علي، ثم المنظومة التي تحكم البلاد منذ «ثورة يناير 2011» بمكوّناتها اليسارية والإسلامية والليبيرالية. كذلك، تميّز خلال الحملة الانتخابية بانتقاداته لفرنسا والعواصم الغربية ولإسرائيل وللاتفاقيات التي أبرمها الزعيم بورقيبة معها قبل الاستقلال.
وخلافاً لبقية السياسيين، برزت قيادة الائتلاف بنقدها الواضح والعنيف للقيادات النقابية التي اتهمتها بالتسبب في أزمة البلاد الاقتصادية بسبب آلاف الإضرابات التي نظمتها منذ الإطاحة بحكم زين العابدين بن علي. لكن بعض البرلمانيين، الذين نجحوا في الانتخابات ضمن هذا الائتلاف يُحسبون على التيار السلفي، وبينهم خطباء جوامع خبرتهم محدودة بالملفات الاقتصادية والمالية، ممن سبق لهم توجيه انتقادات عنيفة للسياسيين العلمانيين وللزعماء النقابيين.
غير أن قيادة «النهضة» أبدت حرصها على بناء جسور مع هذا «الائتلاف الإسلامي»، وعقد رئيسها راشد الغنوشي لقاءات مطوّلة مع عدد من زعمائه قبل الانتخابات، وبعدها للتنسيق معها. لكن مؤشرات جديدة توحي باحتمال هجرة قطاع من الغاضبين إليها رداً على مصالحة قيادة «النهضة» مجدداً مع رموز «النظام القديم»، وهو ما اعتبروه «ابتعاداً عن شعارات الثورة».



يون سوك ــ يول... رئيس كوريا الجنوبية أثار زوبعة دعت لعزله في تصويت برلماني

تحت ضغط الفضائح والخلافات انخفضت شعبية يون، وقبل أقل من شهر أظهر استطلاع للرأي أن شعبيته انخفضت إلى 19 % فقط
تحت ضغط الفضائح والخلافات انخفضت شعبية يون، وقبل أقل من شهر أظهر استطلاع للرأي أن شعبيته انخفضت إلى 19 % فقط
TT

يون سوك ــ يول... رئيس كوريا الجنوبية أثار زوبعة دعت لعزله في تصويت برلماني

تحت ضغط الفضائح والخلافات انخفضت شعبية يون، وقبل أقل من شهر أظهر استطلاع للرأي أن شعبيته انخفضت إلى 19 % فقط
تحت ضغط الفضائح والخلافات انخفضت شعبية يون، وقبل أقل من شهر أظهر استطلاع للرأي أن شعبيته انخفضت إلى 19 % فقط

تشهد كوريا الجنوبية، منذ نحو أسبوعين، تطورات متلاحقة لا تلوح لها نهاية حقيقية، شهدت اهتزاز موقع رئيس الجمهورية يون سوك - يول بعد إعلانه في بيان تلفزيوني فرض الأحكام العرفية، وتعليق الحكم المدني، وإرساله قوة عسكرية مدعومة بالهيلوكوبترات إلى البرلمان. ثم اضطراره للتراجع عن قراره في وجه معارضة عارمة. بيد أن تراجع الرئيس خلال ساعات قليلة من هذه المغامرة لم يزد المعارضة إلا إصراراً على إطاحته، في أزمة سياسية غير مسبوقة منذ التحوّل الديمقراطي في البلاد عام 1980 بعد فترة من الحكم التسلطي. ولقد تطوّرت الأوضاع خلال الأيام والساعات الأخيرة من الاحتجاجات في الشوارع إلى تصويت برلماني على عزل يون. وبعدما أقر البرلمان عزل الرئيس ردّ الأخير بتأكيد عزمه على المقاومة والبقاء... في أزمة مفتوحة لا تخلو من خطورة على تجربة البلاد الديمقراطية الطريّة العود.

دبلوماسي مخضرم خدم في كوريا الجنوبية قال، قبل بضعة أيام، معلقاً على الأزمة المتصاعدة: «إذا تم تمرير اقتراح العزل، يمكن وقف (الرئيس) يون (سوك - يول) عن مباشرة مهام منصبه لمدة تصل إلى 180 يوماً، بينما تنظر المحكمة الدستورية في القضية. وفي هذا (السيناريو)، يتولى رئيس الوزراء هان دوك سو منصب الرئيس المؤقت، وتُجرى انتخابات جديدة في غضون 60 يوماً».

وبالفعل، دعا هان دونغ - هون، زعيم حزب «قوة الشعب»، الحاكم، إلى تعليق سريع لسلطات الرئيس مستنداً - كما قال - إلى توافر «أدلة موثوقة» على أن يون سعى إلى اعتقال القادة السياسيين بعد إعلانه الأحكام العرفية الذي لم يدُم طويلاً. ومما أورده هان - الذي كان في وقت سابق معارضاً للمساعي الرامية إلى عزل يون - إن «الحقائق الناشئة حديثاً قلبت الموازين ضد يون، بالتالي، ومن أجل حماية كوريا الجنوبية وشعبنا، أعتقد أنه من الضروري منع الرئيس يون من ممارسة سلطاته رئيساً للجمهورية على الفور». وتابع زعيم الحزب الحاكم أن الرئيس لم يعترف بأن إعلانه فرض الأحكام العرفية إجراء غير قانوني وخاطئ، وكان ثمة «خطر كبير» من إمكانية اتخاذ قرار متطرف مماثل مرة أخرى إذا ظل في منصبه.

بالتوازي، ذكرت تقارير إعلامية كورية أن يون يخضع حالياً للتحقيق بتهمة الخيانة إلى جانب وزير الدفاع المستقيل كيم يونغ - هيون، (الذي ذُكر أنه حاول الانتحار)، ورئيس أركان الجيش الجنرال بارك آن - سو، ووزير الداخلية لي سانغ - مين. وحقاً، تمثل الدعوة التي وجهها هان، وهو وزير العدل وأحد أبرز منافسي يون في حزب «قوة الشعب»، تحولاً حاسماً في استجابة الحزب الحاكم للأزمة.

خلفية الأزمة

تولى يون سوك - يول منصبه كرجل دولة جديد على السلطة، واعداً بنهج عصري مختلف في حكم البلاد. إلا أنه في منتصف فترة ولايته الرئاسية الوحيدة التي تمتد لخمس سنوات، شهد حكمه احتكاكات شبه دائمة مع البرلمان الذي تسيطر عليه المعارضة، وتهديدات «بالإبادة» من كوريا الشمالية، ناهيك من سلسلة من الفضائح التي اتهم وعائلته بالتورّط فيها.

وعندما حاول يون في خطابه التلفزيوني تبرير فرض الأحكام العرفية، قال: «أنا أعلن حالة الطوارئ من أجل حماية النظام الدستوري القائم على الحرية، وللقضاء على الجماعات المشينة المناصرة لنظام كوريا الشمالية، التي تسرق الحرية والسعادة من شعبنا»، في إشارة واضحة إلى الحزب الديمقراطي المعارض، مع أنه لم يقدم أي دليل على ادعائه.

إلا أن محللين سياسيين رأوا في الأيام الأخيرة أن الرئيس خطّط على الأرجح لإصدار مرسوم «الأحكام العرفية الخرقاء» أملاً بحرف انتباه الرأي العام بعيداً عن الفضائح المختلفة والإخفاق في معالجة العديد من القضايا المحلية. ولذا اعتبروا أن عليه ألا يطيل أمد حكمه الفاقد الشعبية، بل يبادر من تلقاء نفسه إلى الاستقالة من دون انتظار إجراءات العزل، ومن ثم، السماح للبلاد بانتخاب رئيس جديد.

بطاقة هوية

ولد يون سوك - يول، البالغ من العمر 64 سنة، عام 1960 في العاصمة سيول لعائلة من الأكاديميين اللامعين. إذ كان أبوه يون كي - جونغ أستاذاً للاقتصاد في جامعة يونساي، وأمه تشوي سيونغ - جا محاضرة في جامعة إيوها للنساء قبل زواجها. وحصل يون على شهادته الثانوية عام 1979، وكان يريد في الأصل أن يدرس الاقتصاد ليغدو أستاذاً، كأبيه، ولكن بناءً على نصيحة الأخير درس الحقوق، وحصل على شهادتي الإجازة ثم الماجستير في الحقوق من جامعة سيول الوطنية - التي هي إحدى «جامعات النخبة الثلاث» في كوريا مع جامعتي يونساي وكوريا - وأصبح مدّعياً عاماً بارزاً قاد حملة ناجحة لمكافحة الفساد لمدة 27 سنة.

ووفق وسائل الإعلام الكورية، كانت إحدى محطات حياته عندما كان طالب حقوق عندما لعب دور القاضي في محاكمة صورية للديكتاتور (آنذاك) تشون دو - هوان، الذي نفذ انقلاباً عسكرياً وحُكم عليه بالسجن مدى الحياة. وفي أعقاب ذلك، اضطر يون إلى الفرار إلى الريف مع تمديد جيش تشون الأحكام العرفية ونشر القوات والمدرّعات في الجامعة.

بعدها، عاد يون إلى العاصمة، وصار في نهاية المطاف مدعياً عاماً، وواصل ترقيه الوظيفي ما يقرب من ثلاثة عقود، بانياً صورة له بأنه حازم وصارم لا يتسامح ولا يقدّم تنازلات.

مسيرته القانونية... ثم الرئاسة

قبل تولي يون سوك - يول رئاسة الجمهورية، كان رئيس مكتب الادعاء العام في المنطقة المركزية في سيول، وأتاح له ذلك محاكمة أسلافه من الرؤساء. إذ لعب دوراً فعالاً في إدانة الرئيسة السابقة بارك غيون - هاي التي أُدينت بسوء استخدام السلطة، وعُزلت وأودعت السجن عام 2016. كذلك، وجه الاتهام إلى مون جاي - إن، أحد كبار مساعدي خليفة الرئيسة بارك، في قضية احتيال ورشوة.

أما على الصعيد السياسي، فقد انخرط يون في السياسة الحزبية قبل سنة واحدة فقط من فوزه بالرئاسة، وذلك عندما كان حزب «قوة الشعب» المحافظ - وكان حزب المعارضة يومذاك - معجباً بما رأوه منه كمدّعٍ عام حاكم كبار الشخصيات، وأقنع يون، من ثم، ليصبح مرشح الحزب لمنصب رئاسة الجمهورية.

وفي الانتخابات الرئاسية عام 2022 تغلّب يون على منافسه الليبرالي لي جاي - ميونغ، مرشح الحزب الديمقراطي، بفارق ضئيل بلغ 0.76 في المائة... وهو أدنى فارق على الإطلاق في تاريخ الانتخابات في البلاد.

الواقع أن الحملة الانتخابية لعام 2022 كانت واحدةً من الحملات الانتخابية القاسية في تاريخ البلاد الحديث. إذ شبّه يون غريمه لي بـ«هتلر» و«موسوليني». ووصف حلفاء لي الديمقراطيون، يون، بأنه «وحش» و«ديكتاتور»، وسخروا من جراحة التجميل المزعومة لزوجته.

إضافة إلى ذلك، شنّ يون حملته الانتخابية بناء على إلغاء القيود المالية والموقف المناهض للمرأة. لكنه عندما وصل إلى السلطة، ألغى وزارة المساواة بين الجنسين والأسرة، قائلاً إنها «مجرد مقولة قديمة بأن النساء يُعاملن بشكل غير متساوٍ والرجال يُعاملون بشكل أفضل». وللعلم، تعد الفجوة في الأجور بين الجنسين في كوريا الجنوبية الأسوأ حالياً في أي بلد عضو في «منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية».

أيضاً، أدى استخدام يون «الفيتو» تكراراً إلى ركود في العمل الحكومي، بينما أدت تهم الفساد الموجهة إلى زوجته لتفاقم السخط العام ضد حكومته.

تراجع شعبيته

بالتالي، تحت ضغط الفضائح والخلافات، انخفضت شعبية يون، وقبل أقل من شهر أظهر استطلاع للرأي أجرته مؤسسة «غالوب كوريا» أن شعبيته انخفضت إلى 19 في المائة فقط. وتعد «كارثة» الأحكام العرفية الحلقة الأخيرة في سلسلة من الممارسات التي حددت رئاسة يون وأخطائها.

إذ ألقي باللوم على إدارة يون في التضخم الغذائي، وتباطؤ الاقتصاد، والتضييق المتزايد على حرية التعبير. وفي أواخر 2022، بعدما أسفر تدافع حشود في احتفال «الهالوين» (البربارة) في سيول عن سقوط 159 قتيلاً، تعرضت طريقة تعامل الحكومة مع المأساة لانتقادات واسعة.

زوجته في قلب مشاكله!

من جهة ثانية، كانت كيم كيون - هي، زوجة الرئيس منذ عام 2012، سبباً آخر للسخط والانتقادات في وسائل الإعلام الكورية الجنوبية. فقد اتهمت «السيدة الأولى» بالتهرب الضريبي، والحصول على عمولات لاستضافة معارض فنية عن طريق عملها. كذلك واجهت اتهامات بالانتحال الأدبي في أطروحتها لنيل درجة الدكتوراه وغيرها من الأعمال الأكاديمية.

لكن أكبر فضيحة على الإطلاق تورّطت فيها كيم، كانت قبولها عام 2023 هدية هي حقيبة يد بقيمة 1800 جنيه إسترليني سراً من قسيس، الأمر الذي أدى إلى مزاعم بالتصرف غير اللائق وإثارة الغضب العام، لكون الثمن تجاوز الحد الأقصى لما يمكن أن يقبله الساسة في كوريا الجنوبية وشركاؤهم قانونياً لهدية. لكن الرئيس يون ومؤيديه رفضوا هذه المزاعم وعدوها جزءاً من حملة تشويه سياسية.

أيضاً أثيرت تساؤلات حول العديد من القطع الثمينة من المجوهرات التي تملكها «السيدة الأولى»، والتي لم يعلَن عنها كجزء من الأصول الرئاسية الخاصة. وبالمناسبة، عندما فُتح التحقيق في الأمر قبل ست سنوات، كان زوجها رئيس النيابة العامة. أما عن حماته، تشوي يون - سون، فإنها أمضت بالفعل حكماً بالسجن لمدة سنة إثر إدانتها بتزوير وثائق مالية في صفقة عقارية.

يُضاف إلى كل ما سبق، تعرّض الرئيس يون لانتقادات تتعلق باستخدام «الفيتو» الرئاسي في قضايا منها رفض مشروع قانون يمهد الطريق لتحقيق خاص في التلاعب المزعوم بالأسهم من قبل زوجته كيم كيون - هي لصالح شركة «دويتشه موتورز». وأيضاً استخدام «الفيتو» ضد مشروع قانون يفوّض مستشاراً خاصاً بالتحقيق في مزاعم بأن مسؤولين عسكريين ومكتب الرئاسة قد تدخلوا في تحقيق داخلي يتعلق بوفاة جندي بمشاة البحرية الكورية عام 2023.

وهكذا، بعد سنتين ونصف السنة من أداء يون اليمين الدستورية عام 2022، وعلى أثر انتخابات رئاسية مثيرة للانقسام الشديد، انقلبت الأمور ضد الرئيس. وفي خضم ارتباك الأحداث السياسية وتزايد المخاوف الدولية يرزح اقتصاد كوريا الجنوبية تحت ضغوط مقلقة.

أمام هذا المشهد الغامض، تعيش «الحالة الديمقراطية» في كوريا الجنوبية أحد أهم التحديات التي تهددها منذ ظهورها في أواخر القرن العشرين.