دور العرض المصرية تستعيد مكانتها.. والعيد كان عاملا مساعدا

«واحد صعيدي» و«عمر وسلوى» و«الجزيرة 2» تكتسح الإيرادات

أعضاء متطوعون من مبادرة «شفت تحرش» التي تقاوم الظاهرة خلال وجودهم أمام إحدى دور العرض السينمائي وسط القاهرة
أعضاء متطوعون من مبادرة «شفت تحرش» التي تقاوم الظاهرة خلال وجودهم أمام إحدى دور العرض السينمائي وسط القاهرة
TT

دور العرض المصرية تستعيد مكانتها.. والعيد كان عاملا مساعدا

أعضاء متطوعون من مبادرة «شفت تحرش» التي تقاوم الظاهرة خلال وجودهم أمام إحدى دور العرض السينمائي وسط القاهرة
أعضاء متطوعون من مبادرة «شفت تحرش» التي تقاوم الظاهرة خلال وجودهم أمام إحدى دور العرض السينمائي وسط القاهرة

تربعت دور السينما في مصر على عرش أماكن التنزه المصرية في عيد الأضحى، واستعادت دور العرض مشهدا طالما افتقدته طيلة السنوات الماضية، وهو مشهد «الصحبة» أو المشاهدة الجماعية للأفلام، سواء من قبل الأسرة الواحدة أو بمصاحبة أسر أخرى من الأهل والأصدقاء.
ومنذ ثورة 25 يناير (كانون الثاني)، تراجع دور السينما كثيرا كأحد أبرز المقاصد في الأعياد، سواء بسبب غياب الأمن أو تفاقم التحرش، أو المستوى الباهت للأفلام المعروضة في واحدة من أهم المناسبات الرائجة التي كان يستغلها صناع السينما لعرض بضائعهم، لدرجة أن العاملين بهذا المجال أطلقوا على تلك الأيام المعدودة «موسم العيد».
وفي هذا الموسم، انتزعت أفلام عيد الأضحى الأسرة المصرية من همومها وضغوطها الاجتماعية، بعد سنوات اكتوت فيها بنيران السياسة. ساعد على ذلك جزئيا طبيعة الأفلام المعروضة، فرغم أنها لا تتجاوز أصابع الكف الواحدة، فإنها قدمت موضوعات إنسانية ثرية وشيقة، اتسمت بالجرأة أحيانا في معالجتها دراميا، ولم تلجأ إلى الاستعارة أو «التمصير»، وقلب قماشة أفلام شهيرة أجنبية بروح مصرية، كما حدث مرارا في تاريخ السينما المصرية.
جسدت أفلام العيد مجموعة من القضايا المجتمعية الملحة تدخل في نطاق المعايشة اليومية للواقع المصري الراهن، فلعب فيلم «الجزيرة 2» للنجم أحمد السقا الذي احتل المركز الأول في سباق أفلام العيد بعد أن اكتسح إيرادات شباك التذاكر محققا 6.5 مليون جنيه في ثالث أيام عيد الأضحى، على معالجة قضايا العنف والإرهاب من خلال قصة حب شديدة الرومانسية بين بطل الفيلم والبطلة، متخذا من بيئة صعيد مصر مسرحا لصراع سياسي اجتماعي عاطفي، وهي بيئة خشنة تعد من حواضن الإرهاب في مصر.
بينما لعب فيلم «واحد صعيدي» للفنان محمد رمضان، الذي احتل المركز الثاني بإيرادات 4.2 مليون جنيه، على فكرة الشخصية الصعيدية من خلال تناول كوميدي، كاشفا عن مناطق السلب والإضافة في فضائها الإنساني.. ولفت الفيلم إلى مساحة التهميش والنسيان التي تعاني منه الشخصية الصعيدية في كل أنماط الحياة في مصر، خاصة على الصعيد الرسمي للدولة.
واحتل فيلم «عمر وسلوى» المركز الثالث بإيرادات 3 ملايين جنيه بعدما كان متوقعًا له أن يحتل المركز الأول كعادة الأفلام التي يقوم بصناعتها المنتج المعروف «محمد السبكي» في الأعياد، مما شكل مفاجأة كبيرة، خصوصا أن بطله كريم نجل الممثل الشهير محمود عبد العزيز في بداية مشواره في أدوار البطولات المطلقة.. والفيلم عبارة عن خلطة سينمائية، تجمع بين الرقص والغناء الشعبي، وهو ما بزر معه دور الراقصة الأرمينية صافيناز، ولكنتها المصرية التي أضحكت الجمهور. لكن صافيناز الراقصة الشابة، لم تستطع أن تجاريها في اللعب بالجسد الفنانة المخضرمة ميرفت أمين التي تعود للشاشة في دور الحماة في فيلم «حماتي بتحبني» للفنان حمادة هلال، بمشاركة الفنان الكوميدي سمير غانم، وإيمان العاصي. وجاء الفيلم في المركز الرابع بإيرادات بلغت مليون و20 ألف جنيه، وفي المركز الخامس جاء فيلم «حديد» للفنان عمرو سعد، بإيرادات بلغت 830 ألف جنيه.
وبنفس الخلطة مضافا إليها أجواء من العشوائيات وقضايا البلطجة، وإيقاع الحب السريع العابر، المحاصر بالتعقيدات الاجتماعية احتل فيلم «النبطشي» المركز السادس بإيرادات 393 ألف جنيه، بينما جاء فيلم «وش سجون» في المركز السابع بإيرادات بلغت 265 ألف جنيه، واحتل فيلم «المواطن برص» المركز الثامن والأخير بإيرادات بلغت 130 ألف جنيه حتى الآن.
ومن أبرز الأفلام المستمرة في العرض حاليا منذ عرضها الأول في عيد الفطر فيلم «الفيل الأزرق»، وهو مأخوذ عن رواية بالعنوان نفسه للكاتب أحمد مراد، ومن إخراج مروان حامد. وحققت الرواية أعلى مبيعات في سوق النشر العام الماضي. ولعب بطولة الفيلم كريم عبد العزيز وخالد الصاوي ودارين حداد ونيللي كريم.
وعد الكثير من النقاد هذا الفيلم بمثابة مصالحة بين السينما والرواية، حيث حافظ الفيلم على روح الصراع الموجود في النص الروائي، كما أشادوا ببراعة أبطال الفيلم في تقديم أدوارهم، لافتين إلى أن المخرج نجح في تقديم صورة جديدة تشابه الأفلام الأميركية، وهو ما يعكس تقدم صناعة السينما في مصر، على حد قولهم.



100 عامٍ من عاصي الرحباني

عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)
عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)
TT

100 عامٍ من عاصي الرحباني

عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)
عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)

في الرابع من شهر الخِصب وبراعم اللوز والورد، وُلد عاصي الرحباني. كانت البلادُ فكرةً فَتيّة لم تبلغ بعد عامها الثالث. وكانت أنطلياس، مسقط الرأس، قريةً لبنانيةً ساحليّة تتعطّر بزهر الليمون، وتَطربُ لارتطام الموج بصخور شاطئها.
لو قُدّر له أن يبلغ عامه المائة اليوم، لأَبصر عاصي التحوّلات التي أصابت البلاد وقُراها. تلاشت الأحلام، لكنّ «الرحباني الكبير» ثابتٌ كحقيقةٍ مُطلَقة وعَصي على الغياب؛ مقيمٌ في الأمس، متجذّر في الحاضر وممتدّةٌ جذوره إلى كل الآتي من الزمان.


عاصي الرحباني خلال جلسة تمرين ويبدو شقيقه الياس على البيانو (أرشيف Rahbani Productions)

«مهما قلنا عن عاصي قليل، ومهما فعلت الدولة لتكريمه قليل، وهذا يشمل كذلك منصور وفيروز»، يقول المؤلّف والمنتج الموسيقي أسامة الرحباني لـ«الشرق الأوسط» بمناسبة مئويّة عمّه. أما الصحافي والباحث محمود الزيباوي، الذي تعمّق كثيراً في إرث الرحابنة، فيرى أن التكريم الحقيقي يكون بتأليف لجنة تصنّف ما لم يُنشر من لوحاته الغنائية الموجودة في إذاعتَي دمشق ولبنان، وتعمل على نشره.
يقرّ أسامة الرحباني بتقصير العائلة تجاه «الريبرتوار الرحباني الضخم الذي يحتاج إلى تضافر جهود من أجل جَمعه»، متأسفاً على «الأعمال الكثيرة التي راحت في إذاعة الشرق الأدنى». غير أنّ ما انتشر من أغانٍ ومسرحيات وأفلام، على مدى أربعة عقود من عمل الثلاثي الرحباني عاصي ومنصور وفيروز، أصبح ذخيرةً للقرون المقبلة، وليس للقرن الرحباني الأول فحسب.

«فوتي احفظي، قومي سجّلي»
«كان بركاناً يغلي بالعمل... يكتب بسرعة ولا يتوقف عند هاجس صناعة ما هو أجمل، بل يترك السرد يمشي كي لا ينقطع الدفق»، هكذا يتذكّر أسامة عمّه عاصي. وفي بال الزيباوي كذلك، «عاصي هو تجسيدٌ للشغف وللإنسان المهووس بعمله». لم يكن مستغرباً أن يرنّ الهاتف عند أحد أصدقائه الساعة الثالثة فجراً، ليخرج صوت عاصي من السمّاعة قارئاً له ما كتب أو آخذاً رأيه في لحنٍ أنهاه للتوّ.
ووفق ما سمعه الزيباوي، فإن «بعض تمارين السيدة فيروز وتسجيلاتها كان من الممكن أن يمتدّ لـ40 ساعة متواصلة. يعيد التسجيل إذا لم يعجبه تفصيل، وهذا كان يرهقها»، رغم أنه الزوج وأب الأولاد الأربعة، إلا أن «عاصي بقي الأستاذ الذي تزوّج تلميذته»، على حدّ وصف الزيباوي. ومن أكثر الجمل التي تتذكّرها التلميذة عن أستاذها: «فوتي احفظي، قومي سَجّلي». أضنى الأمر فيروز وغالباً ما اعترفت به في الحوارات معها قبل أن تُطلقَ تنهيدةً صامتة: «كان ديكتاتوراً ومتطلّباً وقاسياً ومش سهل الرِضا أبداً... كان صعب كتير بالفن. لمّا يقرر شي يمشي فيه، ما يهمّه مواقفي».


عاصي وفيروز (تويتر)
نعم، كان عاصي الرحباني ديكتاتوراً في الفن وفق كل مَن عاصروه وعملوا معه. «كل العباقرة ديكتاتوريين، وهذا ضروري في الفن»، يقول أسامة الرحباني. ثم إن تلك القسوة لم تأتِ من عدم، فعاصي ومنصور ابنا الوَعر والحرمان.
أثقلت كتفَي عاصي منذ الصغر همومٌ أكبر من سنّه، فتحمّلَ وأخوه مسؤولية العائلة بعد وفاة الوالد. كان السند المعنوي والمادّي لأهل بيته. كمعطفٍ ردّ البردَ عنهم، كما في تلك الليلة العاصفة التي استقل فيها دراجة هوائية وقادها تحت حبال المطر من أنطلياس إلى الدورة، بحثاً عن منصور الذي تأخّر بالعودة من الوظيفة في بيروت. يروي أسامة الرحباني أنها «كانت لحظة مؤثرة جداً بين الأخوين، أبصرا خلالها وضعهما المادي المُذري... لم ينسيا ذلك المشهد أبداً، ومن مواقفَ كتلك استمدّا قوّتهما».
وكما في الصِبا كذلك في الطفولة، عندما كانت تمطر فتدخل المياه إلى المدرسة، كان يظنّ منصور أن الطوفان المذكور في الكتاب المقدّس قد بدأ. يُصاب بالهلَع ويصرخ مطالباً المدرّسين بالذهاب إلى أخيه، فيلاقيه عاصي ويحتضنه مهدّئاً من رَوعه.

«سهرة حبّ»... بالدَين
تعاقبت مواسم العزّ على سنوات عاصي الرحباني. فبعد بدايةٍ متعثّرة وحربٍ شرسة ضد أسلوبه الموسيقي الثائر على القديم، سلك دروب المجد. متسلّحاً بخياله المطرّز بحكايا جدّته غيتا و«عنتريّات» الوالد حنّا عاصي، اخترع قصصاً خفتت بفعلِ سحرِها الأصواتُ المُعترضة. أما لحناً، فابتدعَ نغمات غير مطابقة للنظريات السائدة، و«أوجد تركيبة جديدة لتوزيع الموسيقى العربية»، على ما يشرح أسامة الرحباني.


صورة تجمع عاصي ومنصور الرحباني وفيروز بالموسيقار محمد عبد الوهاب وفريد الأطرش، بحضور بديعة مصابني وفيلمون وهبي ونجيب حنكش (أرشيف Rahbani Productions)
كان عاصي مستعداً للخسارة المادية من أجل الربح الفني. يحكي محمود الزيباوي أنه، ولشدّة مثاليته، «سجّل مسرحية (سهرة حب) مرتَين ولم تعجبه النتيجة، فاقترض مبلغاً من المال ليسجّلها مرة ثالثة». ويضيف أن «أساطير كثيرة نُسجت حول الرحابنة، لكن الأسطورة الحقيقية الوحيدة هي جمال عملهم».
ما كانت لتكتمل أسطورة عاصي، لولا صوت تلك الصبية التي دخلت قفصَه الذهبي نهاد حدّاد، وطارت منه «فيروز».
«أدهشته»، يؤكّد الزيباوي؛ ويستطرد: «لكنّ أحداً منهما لم يعرف كيف يميّز بين نهاد حداد وفيروز»... «هي طبعاً المُلهِمة»، يقول أسامة الرحباني؛ «لمح فيها الشخصية التي لطالما أراد رسمَها، ورأى امرأةً تتجاوب مع تلك الشخصية»، ويضيف أن «عاصي دفع بصوت فيروز إلى الأعلى، فهو في الفن كان عنيفاً ويؤمن بالعصَب. كان يكره الارتخاء الموسيقي ويربط النجاح بالطبع الفني القوي، وهذا موجود عند فيروز».


زفاف عاصي الرحباني ونهاد حداد (فيروز) عام 1955 (تويتر)

دماغٌ بحجم وطن
من عزّ المجد، سرقت جلطة دماغيّة عاصي الرحباني عام 1972. «أكثر ما يثير الحزن أن عاصي مرض وهو في ذروة عطائه وإبداعه، وقد زادت الحرب اللبنانية من مرضه وصعّبت العمل كثيراً»، وفق الزيباوي. لم يكن القلق من الغد الغامض غريباً عليه. فهو ومنذ أودى انفجارٌ في إحدى الكسّارات بحياة زوج خالته يوسف الزيناتي، الذي كان يعتبره صياداً خارقاً واستوحى منه شخصيات لمسرحه، سكنته الأسئلة الحائرة حول الموت وما بعدَه.
الدماغ الذي وصفه الطبيب الفرنسي المعالج بأنه من أكبر ما رأى، عاد ليضيء كقمرٍ ليالي الحصّادين والعاشقين والوطن المشلّع. نهض عاصي ورجع إلى البزُق الذي ورثه عن والده، وإلى نُبله وكرمه الذي يسرد أسامة الرحباني عنهما الكثير.
بعد المرض، لانت قسوة عاصي في العمل وتَضاعفَ كرَمُه المعهود. يقول أسامة الرحباني إن «أقصى لحظات فرحه كانت لحظة العطاء». أعطى من ماله ومن فِكرِه، وعُرف بيدِه الموضوعة دائماً في جيبِه استعداداً لتوزيع النقود على المحتاجين في الشارع. أما داخل البيت، فتجسّد الكرَم عاداتٍ لطيفة وطريفة، كأن يشتري 20 كنزة متشابهة ويوزّعها على رجال العائلة وشبّانها.
خلال سنواته الأخيرة ومع احتدام الحرب، زاد قلق عاصي الرحباني على أفراد العائلة. ما كان يوفّر مزحة أو حكاية ليهدّئ بها خوف الأطفال، كما في ذلك اليوم من صيف 1975 الذي استُهدفت فيه بلدة بكفيا، مصيَف العائلة. يذكر أسامة الرحباني كيف دخل عاصي إلى الغرفة التي تجمّع فيها أولاد العائلة مرتعدين، فبدأ يقلّد الممثلين الأميركيين وهم يُطلقون النار في الأفلام الإيطالية، ليُنسيَهم ما في الخارج من أزيز رصاص حقيقي. وسط الدمار، بنى لهم وطناً من خيالٍ جميل، تماماً كما فعل وما زال يفعل في عامِه المائة، مع اللبنانيين.


عاصي الرحباني (غيتي)