«روزاليوسف»... سيرة مُلهمة أبدعت صحافة «الهواء الطلق» في مصر

المؤسسة الرائدة تحتفل بـ«94 سنة حرية»

روزا اليوسف مع ابنيها
روزا اليوسف مع ابنيها
TT

«روزاليوسف»... سيرة مُلهمة أبدعت صحافة «الهواء الطلق» في مصر

روزا اليوسف مع ابنيها
روزا اليوسف مع ابنيها

يصعُب تفادي حضور السيدة فاطمة اليوسف (1897: 1958)، خلال زيارة مبنى المؤسسة، التي حمل كلاهما الاسم نفسه «روزاليوسف» في قلب شارع «قصر العيني» الحيوي بوسط القاهرة. حضور مادي، وأنت تتصفح مجلتها الصادرة بحرارة المطبعة، فيما تنظر إليك بعيون تمثالها الذي يستقرّ في مدخل المبنى، وهو من نحت الفنان زهدي، شيخ الكاريكاتير السياسي المصري، ومشاهدة بورتريهاتها القديمة التي تُزين الجدران، ولوحات كاريكاتيرية تجمعها برؤساء التحرير ورؤساء مجلس الإدارة الذين حملوا لواء المؤسسة على مدار تاريخها إلى الآن. غير أنّ الحضور المعنوي لها يتسرب في عفوية المفردات التي يتداولها صحافيو المؤسسة، كلمات مثل «تقاليد روزاليوسف». «أبناء روزاليوسف». «جينات روزاليوسف». كلمات يتداولونها بانتماء رغم السنوات الطويلة التي تفصلهم عن صاحبتها التي رحلت عن دنيانا في منتصف القرن الماضي.
وتحتفل مجلة «روزاليوسف» هذه الأيام بمرور 94 عاماً على تأسيسها، واختارت له شعار «94 سنة حرية»، وهو حدث يُعيد قراءة سيرة السيدة روز اليوسف، التي لا تنضب من رسائل وذكريات، ولا يمكن وضع حدود فاصلة بين سيرة حياتها المُلهمة، وسيرة التاريخ المُلتهب الذي عاصرته من جهة أخرى، والمعادلة الصحافية التي ترّسخت بين أبناء «مدرسة الهواء الطلق»، حسب تعبير نقيب الصحافيين المصريين الراحل، كامل زهيري.
- نظرة مسرحية
في أوج تألقها على خشبة المسرح وهي تحصد تصفيق الجمهور، لم تكن «فاطمة اليوسف» تعتقد أنّ هذا هو نوع البطولة الذي يُرضي طموحها وهُويتها المتمردة، رغم أنها كانت آنذاك واحدة من أشهر ممثلات المسرح في مصر، إلّا أنّ حدسها وطبيعتها المشاكسة قاداها لخوض صناعة النشر في حضور نسائي مُتفرد على بلاط صاحبة الجلالة في هذا الوقت، وقبلت التحدي بداية من خوض مضمار لا تعرف عنه شيئاً منذ جاءت من وطنها الأول لبنان إلى مصر وهي في العاشرة من عمرها، حتى مناوشاتها الدائمة مع الحكومة، إلى المنافسة الشرسة بين المطبوعات في هذا الوقت، وصار مع الوقت اسمها مرتبطاً باكتشاف نجوم الصحافة، وتحوّلت مجلتها التي صدرت أولى أعدادها في 24 أكتوبر (تشرين الأول) 1925، إلى دار صحافية عريقة تُتوّج اسمها إلى اليوم.
داخل مبنى المؤسسة الحالي، ببنائه المُعاصر، هناك لمفارقة، أن المبنى الذي يحمل اسم «روزاليوسف» لم تدخله صاحبته في حياتها، فهي لم تشهد تأسيس المبنى الجديد الذي انتقلت إليه المؤسسة عام 1960. عقب تأميمها ورحيلها، فظلت تُباشر مجلتها والتوسعات التي أغراها بها نجاح المجلة، فأصدرت بعدها جريدة يومية ثم مجلة «صباح الخير»، وكانوا يصدرون من مقر شقة تتكون من خمس غرف، على بُعد أمتار من المبنى الحالي مُتعدّد الطوابق والعامر بحركة الأجيال الجديدة من الصحافيين.
- أمٌ عنيدة
في العدد الألف من مجلة روزاليوسف، كتب الأديب الراحل إحسان عبد القدوس، ابن الراحلة روز اليوسف، عام 1947 مقالاً ذيّله بعبارة تُلخص روز اليوسف ككيان ورمز وانحياز يجمع صحافيي المجلة «ليس لجمعية روزاليوسف رئيس، ولكن لهم أم، أم ضحت وهي تُعلم أولادها كيف يُضحون... أم عنيدة وهي تعلم أولادها العناد، وأم انتصرت وهي تُعلم أولادها كيف ينتصرون... هي أمي... وأمهم... وأم كل من له رأي، وله مبدأ، وله فن».
يلتقط الكاتب الصحافي والمتخصص في تراث «روز اليوسف» رشاد كامل، خيوط العناد والتحدي التي يعتبر أنّها العماد الرئيسي في تكوين شخصية «روز اليوسف» الصحافية الراسخة إلى الآن، ويعتبر أنّ هذه المقومات ارتبطت بقصة تأسيس المجلة، يروي في حديثه لـ«الشرق الأوسط» خلال لقاء معه في مقر المؤسسة: «راودت روز اليوسف فكرة وهي تجلس مع عدد من أصدقائها المسرحيين، في وقت كانت المجلات الفنية في هذا الوقت مليئة بالإساءة والنميمة، ففكرت أن تؤسس مجلة فنية تُدافع فيها عن الفن، واستشارت أحد الأصدقاء حول تكلفة إطلاق مثل تلك المجلة، واستخرجت على الفور تصريحاً من وزارة الداخلية لإصدارها، وطلبت من الصحافي الكبير محمد التابعي مساعدتها في تأسيسها، وخرجت أول 10 أعداد من المجلة ما بين مواد تتراوح بين الفن والثقافة والأدب، ولكن لم يلتفت أحد للمجلة».
كان الأمر على ما يبدو بحاجة إلى «ثورة» تلفت الأنظار للمجلة، وعبر معادلة أجاد صنعها التابعي، أدخل الصحافي المتمرس المحتوى السياسي للمجلة، وحققت وقتها نجاحاً كبيراً، لكن الأمر لم يخل، حسب رشاد كامل، من اعتراض المحيطين بصاحبة الفكرة على اسم المجلة، بمن فيهم زوجها آنذاك زكي طليمات، ونصحها بأن تُطلق عليها اسم مجلة (الأدب العالي)، فرفضت، وأصرّت على اسم (روزاليوسف)، لأنّها كانت وقتها أشهر ممثلة في مصر، فلن تحتاج لعمل دعاية لمجلتها، وكانت قد اعتزلت التمثيل قبل تأسيسها المجلة بأشهر قليلة، بعد عملها في أشهر فرق التمثيل منها فرقة رمسيس وصاحبها الفنان يوسف وهبي، وشركة ترقية التمثيل العربي وصاحبها طلعت حرب.
لم يكن الطريق سهلاً بالنسبة للمجلة الواعدة أو مؤسستها، ففي سنة 1934. اختلفت مع محمد التابعي فاستقل عنها، وأخذ معه نجوم مجلة روزاليوسف في هذا الوقت، منهم علي ومصطفى أمين، وجلال الدين الحمامصي، والشاعر سعيد عبده، ورسام الكاريكاتير صاروخان، فاعتقد الناس وقتها أنّ المجلة قد انتهت، غير أنّ ذلك، وفق كامل: «قادها (فاطمة اليوسف) لتحدٍ أكبر، فقررت إطلاق جريدة يومية إلى جانب المجلة لتُثبت للجميع أن روزاليوسف اسم لا يموت، وصدر أول عدد من الجريدة اليومية في 25 مارس (آذار) عام 1935. وطلبت وقتها من الدكتور محمود عزمي أن يترأس تحرير الجريدة، وتشاورت مع عباس محمود العقاد ليكتب بها وحدثت بينهما مناقشة شهيرة اعترض فيها العقاد الذي كان يكتب وقتها في صحيفة «البلاغ» على أن يكتب في جريدة اسم صاحبتها سيدة، ولكنّه وافق بعد ذلك، وبعد مشادة مع محمود عزمي أتت بالمناضل السياسي عبد الرحمن بك فهمي ليكون رئيساً للتحرير، وكان من يكتب في هذا الوقت لديها نجيب محفوظ الذي كان وقتها شاباً في عامه الأول بكلية الآداب، وبنت الشاطئ عائشة عبد الرحمن، ووصل توزيع الجريدة في هذا الوقت إلى 80 ألف نسخة يومياً، وكانت تحوي صفحة يومية للسينما، وأخرى للإذاعة.
- يوم السبت
كان لروز اليوسف عبارة شهيرة تقول: «لو كان يوم السبت رجلاً لقتلته»، وهو اليوم الذي يُوافق الصدور الأسبوعي للمجلة، وكانت قد اعتادت في هذا اليوم على تربُص الحكومة بأعداد المجلة بعد وصولها للموزعين لمصادرة الآلاف منها، مما يؤدي لخسارتها الفادحة ما بين تكاليف وطباعة ومُعلنين، يقول المهندس عبد الصادق الشوربجي، رئيس مجلس إدارة «روزاليوسف»، لـ«الشرق الأوسط»: «كان هذا ما يدفعها لتأجير تراخيص مجلات بديلة لتضع بها محتويات (روزاليوسف) التي تمت مصادرتها، فصدرت مرة باسم الصرخة، ومرة باسم الرقيب ومرة باسم مصر الحرة ومرة باسم صدى الحق، كانت تأبى أن تستسلم لضغوط الحكومة آنذاك التي كانت تعارضها في انحياز تام لمبادئ المجلة وانتصارها للشعب والوطن».
ويسجل تاريخ مؤسسة «روزاليوسف»، أنّها في سنة واحدة خلال عهد رئيس الوزراء المصري الأسبق، إسماعيل صدقي باشا، أصدرت 4 مجلات، كانت مجلة «الصرخة» أبرزها، والتي صدرت تباعاً من نوفمبر (تشرين الثاني) 1930 وحتى العدد 17 فبراير (شباط) 1931.
وكتب كامل مقدمة طبعة توثيقية تحمل عنوان «تراث روزاليوسف - الصرخة: مجلة ضد الاستبداد» جاء فيها: «أصدرت مؤسسة المجلة، أكثر من مطبوعة عقب إغلاق وتعطيل الحكومات المستبدة لمجلة روزاليوسف، وكانت المجلة قد عُطلت وصودرت أكثر من مرة ففي السنتين الثالثة والرابعة فقط لها صودر 42 عدداً من إجمالي 104 أعداد، غير ما خضعت له من تحقيقات ومحاكمات، وكانت المجلة في وزارة عبد الخالق ثروت من 25 أبريل (نيسان) 1927 حتى مارس 1928 قد توقفت عن الصدور بسبب مقالات للتابعي ومنها ما كان بعنوان «ملوك وملكات أوروبا تحت جنح الظلام» و«ولي عهد مصر يجري في عروقه دم فرنسي» و«مطلقات خديو مصر السابق عباس حلمي الثاني» وتم القبض على التابعي.
وبذلك كانت مجلة «الصرخة» هي خط الدفاع الثاني عن مجلة «روزاليوسف» بنقدها السياسي اللاذع، يُعلق المهندس عبد الصادق الشوربجي، الذي تُحيط مكتبه صور وتمثال لروز اليوسف، بقوله: «من أبرز المشاريع التي عملنا عليها خلال السنوات الأخيرة هو تحويل الأرشيف الورقي لروزاليوسف إلى أرشيف إلكتروني، وبسبب العدد الكبير من الأعداد التي كانت تُصادر من المجلة لم نستطع استكمال جميع أعداد المجلة إلكترونياً، ومنها أعداد تتزامن مع سنوات مفصلية في الحركة السياسية في مصر».
- مدرسة ونجوم
وبسبب طبيعتها الشابة والمتمردة، استهوت المجلة النجوم الجدد في ساحة الصحافة، وكانوا وقتها لا يزالون في بداياتهم الأولى عندما لمحت فيهم روز اليوسف مُبكراً لمعة التفوق الصحافي، ومنهم الأخوان علي ومصطفى أمين، الذين عينتهم روز اليوسف براتب ثمانية جنيهات، ومحمد حسنين هيكل الذي عينته بـ15 جنيهاً شهرياً، وإحسان عبد القدوس الذي عمل مُحرراً بالمجلة إلى أن صار رئيساً لتحريرها.
وتمثل قصة اكتشاف موهبة الراحل أحمد بهاء الدين، حكاية بذاتها، إذ كان يُرسل مقالاته للمجلة بواسطة بواب العمارة التي يقع فيها مقر المجلة، ويوجهه لعناية إحسان عبد القدوس، واحتفى عبد القدوس بأول مقال له بعنوان «أموال مصر»، رغم عدم معرفته بشخص بهاء الدين، وبعد أكثر من مقال ناجح كان يُسلمه بنفس الطريقة لبواب العمارة، وطلب إحسان عبد القدوس من البواب أن يُخبره بطلبه أن يصعد للمجلة، وهو حدث مفصلي غيّر بهاء الدين ووثقه في إحدى مقالاته كاتباً عن مكتشفه: «أخذني من يدي وعرفني على السيدة روز اليوسف، واستمررت في الكتابة، وعرضوا علي أن أشتغل في روزاليوسف لكنّي رفضت، فقد كنت وقتها أعمل في مجلس الدولة ومرشح للسفر إلى فرنسا لدراسة الدكتوراه التي سجلت موضوعها في جامعة السوربون بباريس، عن مرحلة من تاريخ مصر السياسي، لكن جعلتني السيدة روز اليوسف أترك كل شيء، وأعطي حياتي كلّها للفكر والصحافة والكتابة، فقد جرفني التيار إلى مجرى الصحافة بغير رجعة».
وكان هذا اللقاء بداية صعوده داخل «روزاليوسف»، إلى أن صار رئيساً لتحرير مجلة «صباح الخير»، وكان وقتها أصغر رئيس للتحرير، ومنها إلى مضمار الصحافة المصرية والعربية، ويذكر أنّه صاغ شعار مجلة «صباح الخير» الشهير، وهو «للقلوب الشابة والعقول المتحررة».
وقد استطاعت روز اليوسف احتضان نجوم الصحافة العربية، منهم الصحافي اللبناني الراحل سليم اللوزي الذي كانت «روزاليوسف» محطة رئيسية له في القاهرة، قبل أن يؤسس جريدته الشهيرة «الحوادث» في بيروت.
- مصنع الكاريكاتير
ارتبط اسم «روزاليوسف» المجلة، بفن الكاريكاتير ومبدعيه الذين وجدوا على صفحاتها متنفساً ومساحة رحبة لإطلاق ألوانهم ورسومهم، من هؤلاء رسّام الكاريكاتير الأرمني الأصل صاروخان، ويشرح الكاتب رشاد كامل، أنّ «روز اليوسف» تعتبر مدرسة الكاريكاتير الأولى، فقد كانت مجلة (المُصور) في هذا الوقت متفوقة في الصور الفوتوغرافية، فقرّرت «روزاليوسف» المنافسة برسم الكاريكاتير، وكان الرسم في هذا الوقت أرخص من الصور الفوتوغرافية، فاستعانت في البداية برسّام الكاريكاتير خوان سانتيز الذي جاء وقتها إلى مصر هرباً من الحرب الأهلية في إسبانيا، ورسم أيضاً بالمجلة رسام تركي وهو علي رفقي، وحاز صاروخان الأرمني على شهرة واسعة، وكانت من أبرز شخصياته شخصية «المصري أفندي)، الذي عُد من أشهر شخصيات الكاريكاتير في الصحافة المصرية، وشارك بالعمل الفنان الهولندي بروفيسكي، وقد جلب ذلك قضايا عدة لاحقت المجلة.



ستيف بركات لـ«الشرق الأوسط»: أصولي اللبنانية تتردّد أبداً في صدى موسيقاي

عازف البيانو ستيف بركات ينسج موسيقاه من جذوره اللبنانية     -   ستيف بركات يؤمن بالموسيقى لغة عالمية توحّد الشعوب (الشرق الأوسط)
عازف البيانو ستيف بركات ينسج موسيقاه من جذوره اللبنانية - ستيف بركات يؤمن بالموسيقى لغة عالمية توحّد الشعوب (الشرق الأوسط)
TT

ستيف بركات لـ«الشرق الأوسط»: أصولي اللبنانية تتردّد أبداً في صدى موسيقاي

عازف البيانو ستيف بركات ينسج موسيقاه من جذوره اللبنانية     -   ستيف بركات يؤمن بالموسيقى لغة عالمية توحّد الشعوب (الشرق الأوسط)
عازف البيانو ستيف بركات ينسج موسيقاه من جذوره اللبنانية - ستيف بركات يؤمن بالموسيقى لغة عالمية توحّد الشعوب (الشرق الأوسط)

ستيف بركات عازف بيانو كندي من أصل لبناني، ينتج ويغنّي ويلحّن. لفحه حنين للجذور جرّه إلى إصدار مقطوعة «أرض الأجداد» (Motherland) أخيراً. فهو اكتشف لبنان في وقت لاحق من حياته، وينسب حبّه له إلى «خيارات مدروسة وواعية» متجذرة في رحلته. من اكتسابه فهماً متيناً لهويته وتعبيره عن الامتنان لما منحه إياه الإرث من عمق يتردّد صداه كل يوم، تحاوره «الشرق الأوسط» في أصله الإنساني المنساب على النوتة، وما أضفاه إحساسه الدفين بالصلة مع أسلافه من فرادة فنية.
غرست عائلته في داخله مجموعة قيم غنية استقتها من جذورها، رغم أنه مولود في كندا: «شكلت هذه القيم جزءاً من حياتي منذ الطفولة، ولو لم أدركها بوعي في سنّ مبكرة. خلال زيارتي الأولى إلى لبنان في عام 2008. شعرتُ بلهفة الانتماء وبمدى ارتباطي بجذوري. عندها أدركتُ تماماً أنّ جوانب عدة من شخصيتي تأثرت بأصولي اللبنانية».
بين كوبنهاغن وسيول وبلغراد، وصولاً إلى قاعة «كارنيغي» الشهيرة في نيويورك التي قدّم فيها حفلاً للمرة الأولى، يخوض ستيف بركات جولة عالمية طوال العام الحالي، تشمل أيضاً إسبانيا والصين والبرتغال وكوريا الجنوبية واليابان... يتحدث عن «طبيعة الأداء الفردي (Solo) التي تتيح حرية التكيّف مع كل حفل موسيقي وتشكيله بخصوصية. فالجولات تفسح المجال للتواصل مع أشخاص من ثقافات متنوعة والغوص في حضارة البلدان المضيفة وتعلّم إدراك جوهرها، مما يؤثر في المقاربة الموسيقية والفلسفية لكل أمسية».
يتوقف عند ما يمثله العزف على آلات البيانو المختلفة في قاعات العالم من تحدٍ مثير: «أكرّس اهتماماً كبيراً لأن تلائم طريقة عزفي ضمانَ أفضل تجربة فنية ممكنة للجمهور. للقدرة على التكيّف والاستجابة ضمن البيئات المتنوّعة دور حيوي في إنشاء تجربة موسيقية خاصة لا تُنسى. إنني ممتنّ لخيار الجمهور حضور حفلاتي، وهذا امتياز حقيقي لكل فنان. فهم يمنحونني بعضاً من وقتهم الثمين رغم تعدّد ملاهي الحياة».
كيف يستعد ستيف بركات لحفلاته؟ هل يقسو عليه القلق ويصيبه التوتر بإرباك؟ يجيب: «أولويتي هي أن يشعر الحاضر باحتضان دافئ ضمن العالم الموسيقي الذي أقدّمه. أسعى إلى خلق جو تفاعلي بحيث لا يكون مجرد متفرج بل ضيف عزيز. بالإضافة إلى الجانب الموسيقي، أعمل بحرص على تنمية الشعور بالصداقة الحميمة بين الفنان والمتلقي. يستحق الناس أن يلمسوا إحساساً حقيقياً بالضيافة والاستقبال». ويعلّق أهمية على إدارة مستويات التوتّر لديه وضمان الحصول على قسط كافٍ من الراحة: «أراعي ضرورة أن أكون مستعداً تماماً ولائقاً بدنياً من أجل المسرح. في النهاية، الحفلات الموسيقية هي تجارب تتطلب مجهوداً جسدياً وعاطفياً لا تكتمل من دونه».
عزف أناشيد نالت مكانة، منها نشيد «اليونيسف» الذي أُطلق من محطة الفضاء الدولية عام 2009 ونال جائزة. ولأنه ملحّن، يتمسّك بالقوة الهائلة للموسيقى لغة عالمية تنقل الرسائل والقيم. لذا حظيت مسيرته بفرص إنشاء مشروعات موسيقية لعلامات تجارية ومؤسسات ومدن؛ ومعاينة تأثير الموسيقى في محاكاة الجمهور على مستوى عاطفي عميق. يصف تأليف نشيد «اليونيسف» بـ«النقطة البارزة في رحلتي»، ويتابع: «التجربة عزّزت رغبتي في التفاني والاستفادة من الموسيقى وسيلة للتواصل ومتابعة الطريق».
تبلغ شراكته مع «يونيفرسال ميوزيك مينا» أوجها بنجاحات وأرقام مشاهدة عالية. هل يؤمن بركات بأن النجاح وليد تربة صالحة مكوّنة من جميع عناصرها، وأنّ الفنان لا يحلّق وحده؟ برأيه: «يمتد جوهر الموسيقى إلى ما وراء الألحان والتناغم، ليكمن في القدرة على تكوين روابط. فالنغمات تمتلك طاقة مذهلة تقرّب الثقافات وتوحّد البشر». ويدرك أيضاً أنّ تنفيذ المشاريع والمشاركة فيها قد يكونان بمثابة وسيلة قوية لتعزيز الروابط السلمية بين الأفراد والدول: «فالثقة والاهتمام الحقيقي بمصالح الآخرين يشكلان أسس العلاقات الدائمة، كما يوفر الانخراط في مشاريع تعاونية خطوات نحو عالم أفضل يسود فيه الانسجام والتفاهم».
بحماسة أطفال عشية الأعياد، يكشف عن حضوره إلى المنطقة العربية خلال نوفمبر (تشرين الثاني) المقبل: «يسعدني الوجود في منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا كجزء من جولة (Néoréalité) العالمية. إنني في مرحلة وضع اللمسات الأخيرة على التفاصيل والتواريخ لنعلن عنها قريباً. تملؤني غبطة تقديم موسيقاي في هذا الحيّز النابض بالحياة والغني ثقافياً، وأتحرّق شوقاً لمشاركة شغفي وفني مع ناسه وإقامة روابط قوامها لغة الموسيقى العالمية».
منذ إطلاق ألبومه «أرض الأجداد»، وهو يراقب جمهوراً متنوعاً من الشرق الأوسط يتفاعل مع فنه. ومن ملاحظته تزايُد الاهتمام العربي بالبيانو وتعلّق المواهب به في رحلاتهم الموسيقية، يُراكم بركات إلهاماً يقوده نحو الامتنان لـ«إتاحة الفرصة لي للمساهمة في المشهد الموسيقي المزدهر في الشرق الأوسط وخارجه».
تشغله هالة الثقافات والتجارب، وهو يجلس أمام 88 مفتاحاً بالأبيض والأسود على المسارح: «إنها تولّد إحساساً بالعودة إلى الوطن، مما يوفر ألفة مريحة تسمح لي بتكثيف مشاعري والتواصل بعمق مع الموسيقى التي أهديها إلى العالم».