ألكسندرا باخموتوفا... 90 عاماً من الإبداع وتستمر

ألحانها «عابرة للأجيال» رقيقة صادقة تثير الحب في الروح

باخموتوفا 90 عاماً من الإبداع وتستمر
باخموتوفا 90 عاماً من الإبداع وتستمر
TT

ألكسندرا باخموتوفا... 90 عاماً من الإبداع وتستمر

باخموتوفا 90 عاماً من الإبداع وتستمر
باخموتوفا 90 عاماً من الإبداع وتستمر

وقفت على خشبة عروض الصالة التاريخية في مسرح «البولشوي»، وبخطوات رصينة اتجهت نحو البيانو الأبيض، وسط خشبة المسرح، ومثل شابة في مقتبل العمر روحاً وجسداً، افتتحت المؤلفة الموسيقية السوفياتية - الروسية الشهيرة ألكسندرا باخموتوفا، حفلاً بمناسبة عيد ميلادها الـ90.
لم يكن حضور الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، إلى الحفل، كي يوجه لها شخصياً التهنئة بعيد ميلادها، ويعلن عن تقليدها وسام «أندريه بيرفوزفاني»، الأعلى في الدولة الروسية، المشهد الوحيد الذي دلّ على مكانة باخموتوفا في عالم الموسيقى السوفياتي والروسي، إذ شارك في الحفل عدد كبير جداً من كبار المغنين والموسيقيين الذين باتوا اليوم رموزاً فنية عملاقة «عابرة للأجيال» في المجتمع الروسي. وتابعه عبر الشاشات عشرات الملايين من عشاق فنها في روسيا والجمهوريات السوفياتية السابقة.
من لا يعرف باخموتوفا، يمكنه للتعرف عليها، وعلى روحانية إبداعها، العودة إلى أغنية «وداعاً موسكو» التي صدحت بها في الحفل الختامي لدورة الألعاب الأولمبية في الاتحاد السوفياتي صيف عام 1980. وكانت تلك الأغنية واحدةً من مئات الأعمال الفنية «الخالدة» من إبداعات الثنائي باخموتوفا، أي الملحنة الموسيقية ألكسندرا باخموتوفا، وزوجها الشاعر «الغنائي» نيكولاي دوبرونرافوف. حينها كلفتهما السّلطات بداية بوضع كلمات وموسيقى أغنية تكون مقدمتها «وداعاً موسكو... أهلا لوس أنجليس»، في إشارة إلى أنّ الاتحاد السوفياتي يسلّم راية الألعاب الأولمبية للولايات المتحدة، التي ستستضيف دورة الألعاب التالية. إلّا أنّه وبعد مقاطعة الأميركيين أولمبياد موسكو، اختُصرت كلمات المقدمة، وأصبحت «وداعاً موسكو». هكذا ولدت الأغنية التي أبكت الملايين من عشاق الرياضة وغيرهم، أثناء متابعة مشهد الدب الأولمبي يحلّق عالياً مبتعداً عن ساحة الألعاب، على وقع كلمات الأغنية وموسيقاها «الطيبة الحنونة» التي لا تخلو من الشّوق والشّجن، حالها حال معظم ألحان باخموتوفا، التي يصفها نقاد بأنّها «موسيقى صادقة من الروح».
وُلدت باخموتوفا يوم 9 نوفمبر (تشرين الثاني) عام 1929، في قرية نائية تابعة لمدينة فلوغوغراد. وتميزت منذ طفولتها المبكرة بموهبة موسيقية استثنائية. ألّفت أول قطعة موسيقية، وهي في الثالثة من العمر، وفي عامها الخامس وضعت أول مقطوعة للبيانو اسمها «الديوك تغني». أمّا البدايات الرسمية لمسيرتها المهنية نحو «نجومية عابرة للأجيال» فكانت عام 1936، حين التحقت للدراسة بالمدرسة الموسيقية في المدينة، ومن ثمّ تابعت الدراسة منذ عام 1943 في المدرسة المركزية للموسيقى التابعة لـ«معهد تشايكوفسكي» في موسكو، باختصاص بيانو، وبعد خمس سنوات التحقت بمعهد موسكو للموسيقى، وتخرجت منه عام 1953.
خلال عقود طويلة من مسيرتها الإبداعية، ألّفت باخموتوفا مقطوعات موسيقية من مختلف «الأنواع»، إلا أنّ موسيقاها للأغاني تحتل مكانة خاصة في إرثها الفني، ومنحتها شهرة واسعة في المجتمع السوفياتي؛ في الحقبة السوفياتية كانت أغانيها تُبثّ يومياً عبر الراديو والتلفاز، ويكرّرها المواطنون في مناسباتهم واحتفالاتهم، ولا تزال تلك الأغاني حية تتناقلها الأجيال، ولم تفقد مكانتها المميزة حتى الآن، على الرّغم من الكم الهائل من الأغاني الحديثة. وتبقى باخموتوفا في الصدارة، مع تلك المجموعة الكبيرة من الأغاني، بأداء الصف الأول من المغنيين الذين يتربعون على رأس قائمة نخبة الأصوات في الاتحاد السوفياتي وروسيا. إلى جانب ألحان الأغاني وضعت المؤلفة الموسيقية باخموتوفا مجموعة ألحان لعدد من أفضل اللوحات الفنية السينمائية والتلفزيونية، وألحان أغاني تلك الأفلام. فضلاً عن ذلك قدّمت أعمالاً لأوركسترا السيمفونية، وألّفت على سبيل المثال «حفل موسيقى للبوق والأوركسترا»، والافتتاحية الموسيقية «الشباب»، وغيرها من مقطوعات الموسيقى الكلاسيكية، التي يمكن سماعها غالباً بأداء فرق الأوركسترا السيمفونية الروسية والأجنبية. وكذلك الأمر بالنسبة لمقطوعات موسيقية ألفتها ضمن عروض الباليه، وأخرى تصدح ضمن عروض الأوبرا في «البولشوي» والمسارح العالمية.
الحفل الذي قامت باخموتوفا شخصياً بتنظيمه وتقديمه والمشاركة فيه عزفاً وغناءً، وتنوعت عروضه بين أغانيها وموسيقاها، إلى جانب مقطوعات من الموسيقى الكلاسيكية لكبار الموسيقيين، كان حفلاً «عالمياً» بامتياز، عزفت ألحان فقراته فرقة أوركسترا مسرح «البولشوي» السيمفونية، التي تناوب على قيادتها قادة أوركسترا عالميون، مثل ميخائيل بليتيونوف، ويوري باشميت، وألكسندر سولوفيوف وغيرهم. وشارك في تقديم أغاني باخموتوفا الخالدة عدد من كبار المغنين السوفيات - الروس، بينهم ليف ليشينكو، فضلاً عن مغنين شباب مثل أوليغ غازمانوف والممثل المسرحي - المغني والراوي سيرغي بيزروكوف، وغيرهم. وعكست عبارات الحضور مدى تقديرهم لعطاء باخموتوفا، إذ شكرها بيزركوف على «الأغاني المذهلة، المفعمة بالكثير من الحنان والرّقة، والأهم من ذلك أنّها لن تسمح لقلوبنا بالتأهرم». وقال لها المغني بيكولاي باسكوف: «شكراً جزيلاً على تربيتك للنقاء والطيبة والصدق في قلوبنا، والحب للوطن». وتكرّرت عبارات شكر وتقدير تحمل معاني مماثلة وجهها الحضور للموسيقية الكبيرة ألكسندرا باخموتوفا، التي لم تتوقف عن العطاء والإبداع، وهي تدخل العام الأول من عقدها العاشر.



رحيل إيلي شويري عاشق لبنان و«أبو الأناشيد الوطنية»

عرف الراحل إيلي شويري بـ«أبو الأناشيد الوطنية»
عرف الراحل إيلي شويري بـ«أبو الأناشيد الوطنية»
TT

رحيل إيلي شويري عاشق لبنان و«أبو الأناشيد الوطنية»

عرف الراحل إيلي شويري بـ«أبو الأناشيد الوطنية»
عرف الراحل إيلي شويري بـ«أبو الأناشيد الوطنية»

إنه «فضلو» في «بياع الخواتم»، و«أبو الأناشيد الوطنية» في مشواره الفني، وأحد عباقرة لبنان الموسيقيين، الذي رحل أول من أمس (الأربعاء) عن عمر ناهز 84 عاماً.
فبعد تعرضه لأزمة صحية نقل على إثرها إلى المستشفى، ودّع الموسيقي إيلي شويري الحياة. وفي حديث لـ«الشرق الأوسط» أكدت ابنته كارول أنها تفاجأت بانتشار الخبر عبر وسائل التواصل الاجتماعي قبل أن تعلم به عائلته. وتتابع: «كنت في المستشفى معه عندما وافاه الأجل. وتوجهت إلى منزلي في ساعة متأخرة لأبدأ بالتدابير اللازمة ومراسم وداعه. وكان الخبر قد ذاع قبل أن أصدر بياناً رسمياً أعلن فيه وفاته».
آخر تكريم رسمي حظي به شويري كان في عام 2017، حين قلده رئيس الجمهورية يومها ميشال عون وسام الأرز الوطني. وكانت له كلمة بالمناسبة أكد فيها أن حياته وعطاءاته ومواهبه الفنية بأجمعها هي كرمى لهذا الوطن.
ولد إيلي شويري عام 1939 في بيروت، وبالتحديد في أحد أحياء منطقة الأشرفية. والده نقولا كان يحضنه وهو يدندن أغنية لمحمد عبد الوهاب. ووالدته تلبسه ثياب المدرسة على صوت الفونوغراف الذي تنساب منه أغاني أم كلثوم مع بزوغ الفجر. أما أقرباؤه وأبناء الجيران والحي الذي يعيش فيه، فكانوا من متذوقي الفن الأصيل، ولذلك اكتمل المشوار، حتى قبل أن تطأ خطواته أول طريق الفن.
- عاشق لبنان
غرق إيلي شويري منذ نعومة أظافره في حبه لوطنه وترجم عشقه لأرضه بأناشيد وطنية نثرها على جبين لبنان، ونبتت في نفوس مواطنيه الذين رددوها في كل زمان ومكان، فصارت لسان حالهم في أيام الحرب والسلم. «بكتب اسمك يا بلادي»، و«صف العسكر» و«تعلا وتتعمر يا دار» و«يا أهل الأرض»... جميعها أغنيات شكلت علامة فارقة في مسيرة شويري الفنية، فميزته عن سواه من أبناء جيله، وذاع صيته في لبنان والعالم العربي وصار مرجعاً معتمداً في قاموس الأغاني الوطنية. اختاره ملك المغرب وأمير قطر ورئيس جمهورية تونس وغيرهم من مختلف أقطار العالم العربي ليضع لهم أجمل معاني الوطن في قالب ملحن لا مثيل له. فإيلي شويري الذي عُرف بـ«أبي الأناشيد الوطنية» كان الفن بالنسبة إليه منذ صغره هَوَساً يعيشه وإحساساً يتلمسه في شكل غير مباشر.
عمل شويري مع الرحابنة لفترة من الزمن حصد منها صداقة وطيدة مع الراحل منصور الرحباني. فكان يسميه «أستاذي» ويستشيره في أي عمل يرغب في القيام به كي يدله على الصح من الخطأ.
حبه للوطن استحوذ على مجمل كتاباته الشعرية حتى لو تناول فيها العشق، «حتى لو رغبت في الكتابة عن أعز الناس عندي، أنطلق من وطني لبنان»، هكذا كان يقول. وإلى هذا الحد كان إيلي شويري عاشقاً للبنان، وهو الذي اعتبر حسه الوطني «قدري وجبلة التراب التي امتزج بها دمي منذ ولادتي».
تعاون مع إيلي شويري أهم نجوم الفن في لبنان، بدءاً بفيروز وسميرة توفيق والراحلين وديع الصافي وصباح، وصولاً إلى ماجدة الرومي. فكان يعدّها من الفنانين اللبنانيين القلائل الملتزمين بالفن الحقيقي. فكتب ولحن لها 9 أغنيات، من بينها «مين إلنا غيرك» و«قوم تحدى» و«كل يغني على ليلاه» و«سقط القناع» و«أنت وأنا» وغيرها. كما غنى له كل من نجوى كرم وراغب علامة وداليدا رحمة.
مشواره مع الأخوين الرحباني بدأ في عام 1962 في مهرجانات بعلبك. وكانت أول أدواره معهم صامتة بحيث يجلس على الدرج ولا ينطق إلا بكلمة واحدة. بعدها انتسب إلى كورس «إذاعة الشرق الأدنى» و«الإذاعة اللبنانية» وتعرّف إلى إلياس الرحباني الذي كان يعمل في الإذاعة، فعرّفه على أخوَيه عاصي ومنصور.

مع أفراد عائلته عند تقلده وسام الأرز الوطني عام 2017

ويروي عن هذه المرحلة: «الدخول على عاصي ومنصور الرحباني يختلف عن كلّ الاختبارات التي يمكن أن تعيشها في حياتك. أذكر أن منصور جلس خلف البيانو وسألني ماذا تحفظ. فغنيت موالاً بيزنطياً. قال لي عاصي حينها؛ من اليوم ممنوع عليك الخروج من هنا. وهكذا كان».
أسندا إليه دور «فضلو» في مسرحية «بياع الخواتم» عام 1964. وفي الشريط السينمائي الذي وقّعه يوسف شاهين في العام التالي. وكرّت السبحة، فعمل في كلّ المسرحيات التي وقعها الرحابنة، من «دواليب الهوا» إلى «أيام فخر الدين»، و«هالة والملك»، و«الشخص»، وصولاً إلى «ميس الريم».
أغنية «بكتب اسمك يا بلادي» التي ألفها ولحنها تعد أنشودة الأناشيد الوطنية. ويقول شويري إنه كتب هذه الأغنية عندما كان في رحلة سفر مع الراحل نصري شمس الدين. «كانت الساعة تقارب الخامسة والنصف بعد الظهر فلفتني منظر الشمس التي بقيت ساطعة في عز وقت الغروب. وعرفت أن الشمس لا تغيب في السماء ولكننا نعتقد ذلك نحن الذين نراها على الأرض. فولدت كلمات الأغنية (بكتب اسمك يا بلادي عالشمس الما بتغيب)».
- مع جوزيف عازار
غنى «بكتب اسمك يا بلادي» المطرب المخضرم جوزيف عازار. ويخبر «الشرق الأوسط» عنها: «ولدت هذه الأغنية في عام 1974 وعند انتهائنا من تسجيلها توجهت وإيلي إلى وزارة الدفاع، وسلمناها كأمانة لمكتب التوجيه والتعاون»، وتابع: «وفوراً اتصلوا بنا من قناة 11 في تلفزيون لبنان، وتولى هذا الاتصال الراحل رياض شرارة، وسلمناه شريط الأغنية فحضروا لها كليباً مصوراً عن الجيش ومعداته، وعرضت في مناسبة عيد الاستقلال من العام نفسه».
يؤكد عازار أنه لا يستطيع اختصار سيرة حياة إيلي شويري ومشواره الفني معه بكلمات قليلة. ويتابع لـ«الشرق الأوسط»: «لقد خسر لبنان برحيله مبدعاً من بلادي كان رفيق درب وعمر بالنسبة لي. أتذكره بشوشاً وطريفاً ومحباً للناس وشفافاً، صادقاً إلى أبعد حدود. آخر مرة التقيته كان في حفل تكريم عبد الحليم كركلا في الجامعة العربية، بعدها انقطعنا عن الاتصال، إذ تدهورت صحته، وأجرى عملية قلب مفتوح. كما فقد نعمة البصر في إحدى عينيه من جراء ضربة تلقاها بالغلط من أحد أحفاده. فضعف نظره وتراجعت صحته، وما عاد يمارس عمله بالشكل الديناميكي المعروف به».
ويتذكر عازار الشهرة الواسعة التي حققتها أغنية «بكتب اسمك يا بلادي»: «كنت أقفل معها أي حفل أنظّمه في لبنان وخارجه. ذاع صيت هذه الأغنية، في بقاع الأرض، وترجمها البرازيليون إلى البرتغالية تحت عنوان (أومينا تيرا)، وأحتفظ بنصّها هذا عندي في المنزل».
- مع غسان صليبا
مع الفنان غسان صليبا أبدع شويري مرة جديدة على الساحة الفنية العربية. وكانت «يا أهل الأرض» واحدة من الأغاني الوطنية التي لا تزال تردد حتى الساعة. ويروي صليبا لـ«الشرق الأوسط»: «كان يعد هذه الأغنية لتصبح شارة لمسلسل فأصررت عليه أن آخذها. وهكذا صار، وحققت نجاحاً منقطع النظير. تعاونت معه في أكثر من عمل. من بينها (كل شيء تغير) و(من يوم ما حبيتك)». ويختم صليبا: «العمالقة كإيلي شويري يغادرونا فقط بالجسد. ولكن بصمتهم الفنية تبقى أبداً ودائماً. لقد كانت تجتمع عنده مواهب مختلفة كملحن وكاتب ومغنٍ وممثل. نادراً ما نشاهدها تحضر عند شخص واحد. مع رحيله خسر لبنان واحداً من عمالقة الفن ومبدعيه. إننا نخسرهم على التوالي، ولكننا واثقون من وجودهم بيننا بأعمالهم الفذة».
لكل أغنية كتبها ولحنها إيلي شويري قصة، إذ كان يستمد موضوعاتها من مواقف ومشاهد حقيقية يعيشها كما كان يردد. لاقت أعماله الانتقادية التي برزت في مسرحية «قاووش الأفراح» و«سهرة شرعية» وغيرهما نجاحاً كبيراً. وفي المقابل، كان يعدها من الأعمال التي ينفذها بقلق. «كنت أخاف أن تخدش الذوق العام بشكل أو بآخر. فكنت ألجأ إلى أستاذي ومعلمي منصور الرحباني كي يرشدني إلى الصح والخطأ فيها».
أما حلم شويري فكان تمنيه أن تحمل له السنوات الباقية من عمره الفرح. فهو كما كان يقول أمضى القسم الأول منها مليئة بالأحزان والدموع. «وبالقليل الذي تبقى لي من سنوات عمري أتمنى أن تحمل لي الابتسامة».