ورود غزة لم تعد تُزهر كالسابق... والسبب سوء الأوضاع

بعد أن كانت من أهم صادراتها إلى العالم

ورود في إحدى المزارع بمدينة رفح (الشرق الأوسط)
ورود في إحدى المزارع بمدينة رفح (الشرق الأوسط)
TT

ورود غزة لم تعد تُزهر كالسابق... والسبب سوء الأوضاع

ورود في إحدى المزارع بمدينة رفح (الشرق الأوسط)
ورود في إحدى المزارع بمدينة رفح (الشرق الأوسط)

يشدّ المزارع زهير حجازي خرطوم المياه مسرعاً. ينادي على أخيه في آخر المزرعة بصوتٍ عالٍ: «خلينا نلحق نسقي الورد قبل ما يروح الوقت». يمسح عرق جبينه ويتأمل زوايا «حمامه الزراعي» وهو الأخير في قطاع غزة الذي يهتم بإنتاج الزهور، وبات الآن على مقربة من الانهيار، ويتأفف من الوضع.
يقول في حديث لـ«الشرق الأوسط»: «سابقاً كنا نزيد من مساحات زراعة الورود؛ لكننا اليوم نحاول تقليصها قدر الإمكان؛ لأن الخسارة أضحت كبيرة ولا يمكن تحملها البتة»، منوهاً إلى أن الدونم الزراعي الواحد كان يحقق في الأيام الخالية ربحاً يزيد عن ثلاثة آلاف دولار، وصار اليوم يخسر أكثر منها إذا ما تمت عملية زراعته.
قبل نحو ثلاثين عاماً، بدأ والد الشاب زهير العمل بزراعة الزهور في قطاع غزة، بهدف تصديرها للدول الأوروبية، وبعد سنوات ورَّث المهنة لأبنائه، الذين شقوا طريقهم فيها بقوة، ووسعوا الأرض لتصل لمئات الدونمات؛ لكنهم ما لبثوا إلا وتعرضوا لانتكاسة الحصار التي أودت بمجهوداتهم ودمرت ما بنوه بعرق جبينهم.
بنبرة الحسرة التي بدت واضحة على وجهه، يسرد الشاب لـ«الشرق الأوسط» أنهم اضطروا خلال أعوام ماضية لاستخدام الورود كطعام للماشية، بعدما فشلوا في تصديرها أو حتى توريدها للسوق المحلية، لافتاً إلى أن أهالي القطاع لا يمكن أن يدفعوا نقوداً حتى لو كانت رمزية مقابل سلعة تعتبر «تكميلية»، في حين لا يجد كثير منهم قوتهم اليومي.
2013 كان هو العام الفارق في حياة زهير وإخوانه، الذين قرروا أخيراً الاتجاه نحو زراعة الخضراوات مكان الزهور: «لأن الخسائر فاقت الحد المعقول»، ويلفت إلى أن المزرعة في السابق كانت تستوعب أكثر من 25 عاملاً، جلهم من أصحاب الأسر، مبيناً أن كثيراً منهم أصبحوا اليوم بلا عمل، بعدما تأثر العمل بتلك الزراعة.
وفي العادة يبدأ قطف الزهور في بداية شهر ديسمبر (كانون الأول)، ويستمر حتى نهاية يونيو (حزيران)، وبهذه الفترة تزيد أعداد العاملين، وفقاً لحديث حجازي، الذي يتأسف كثيراً على وقتٍ طويل ظن فيه أن زراعتهم ستنمو، ليتحقق حلم والده الذي كان يرى المستقبل من كل وردة تزهر في الأراضي.
وسط الحمام الزراعي الصغير، تحدث زهير لمراسل «الشرق الأوسط»، راوياً: «يكاد هذا المكان أن يكون الأخير في غزة الذي لا يزال يزرع الورود الطبيعية، وهو يستهدف السوق المحلية فقط، ولا يتم بأي شكل التصدير منه للخارج»، مشيراً إلى أن الاستمرار في زراعة الزهور حتى لو كانت بشكل قليل، يحمل رسالة حب وفرح من كل سكان القطاع للعالم.
من جانبه يقول شريف الشاعر، وهو مشرف سابق على عدد من المشروعات السابقة ذات العلاقة بالورد، لـ«الشرق الأوسط»: إن «مساحات الزراعة تقلصت من نحو 1000 دونم في عام 2000 إلى أقل من 10 دونمات في الأعوام القليلة الماضية»، مشيراً إلى أن تكاليف الإنتاج مرتفعة جداً، ولا يمكن للمزارعين تحمّل الخسارات المتتالية، فزراعة الدونم الواحد تحتاج لمبلغ يتفاوت بين 6 و10 آلاف دولار، حسب نوعية الزهور وحجم العناية التي تحتاجها.
وتعود أسباب تراجع الإنتاج والتصدير بشكل أساسي لسياسيات الاحتلال الإسرائيلي، بعد الانتفاضة الفلسطينية الثانية عام 2000، كما ينبه الشاعر؛ حيث إنه جرف معظم الأراضي ودمر الممتلكات الزراعية، وفي وقت لاحق عمل على التحكم في المياه الجوفية واستنزفها بكثيرٍ من المناطق، وبعد ذلك فرض الحصار على قطاع غزة عام 2006، الأمر الذي يؤثر على حركة المعابر والحدود.
بدورها تذكر المهندسة ياسمين أبو زيد لـ«الشرق الأوسط»، أن أنواع الزهور التي يشتهر القطاع بإنتاجها هي: «الكالا»، و«الجوري»، و«كف مريم»، و«القرنفل» بنوعيه الأميركي والعادي، و«اللوندا»، و«الألمنيوم»، و«اللوعري»، و«الخرسيوت»، وغيرها، متابعة: «في الأيام المنصرمة كانت القائمة تتعدى هذه الأصناف وتصل لأخرى نادرة جداً، أما حالياً فبالكاد ينتج نصف الأنواع المذكورة، فالقطاع لا يستوعب يومياً أكثر من 1000 وردة».
وكان محصول الزهور في غزة خلال السنوات الماضية يعتبر رافداً جيداً للدخل القومي الفلسطيني؛ حيث تجاوزت قيمة إيراداته في وقت ما 25 مليون دولار، وساهم كذلك في تشغيل أكثر من 4500 عامل، وكان القطاع يصدر نحو 60 مليون زهرة بشكل سنوي إلى الدول الأوروبية، وذلك وفقاً للمعلومات الواردة في مركز المعلومات الفلسطيني.



رحيل إيلي شويري عاشق لبنان و«أبو الأناشيد الوطنية»

عرف الراحل إيلي شويري بـ«أبو الأناشيد الوطنية»
عرف الراحل إيلي شويري بـ«أبو الأناشيد الوطنية»
TT

رحيل إيلي شويري عاشق لبنان و«أبو الأناشيد الوطنية»

عرف الراحل إيلي شويري بـ«أبو الأناشيد الوطنية»
عرف الراحل إيلي شويري بـ«أبو الأناشيد الوطنية»

إنه «فضلو» في «بياع الخواتم»، و«أبو الأناشيد الوطنية» في مشواره الفني، وأحد عباقرة لبنان الموسيقيين، الذي رحل أول من أمس (الأربعاء) عن عمر ناهز 84 عاماً.
فبعد تعرضه لأزمة صحية نقل على إثرها إلى المستشفى، ودّع الموسيقي إيلي شويري الحياة. وفي حديث لـ«الشرق الأوسط» أكدت ابنته كارول أنها تفاجأت بانتشار الخبر عبر وسائل التواصل الاجتماعي قبل أن تعلم به عائلته. وتتابع: «كنت في المستشفى معه عندما وافاه الأجل. وتوجهت إلى منزلي في ساعة متأخرة لأبدأ بالتدابير اللازمة ومراسم وداعه. وكان الخبر قد ذاع قبل أن أصدر بياناً رسمياً أعلن فيه وفاته».
آخر تكريم رسمي حظي به شويري كان في عام 2017، حين قلده رئيس الجمهورية يومها ميشال عون وسام الأرز الوطني. وكانت له كلمة بالمناسبة أكد فيها أن حياته وعطاءاته ومواهبه الفنية بأجمعها هي كرمى لهذا الوطن.
ولد إيلي شويري عام 1939 في بيروت، وبالتحديد في أحد أحياء منطقة الأشرفية. والده نقولا كان يحضنه وهو يدندن أغنية لمحمد عبد الوهاب. ووالدته تلبسه ثياب المدرسة على صوت الفونوغراف الذي تنساب منه أغاني أم كلثوم مع بزوغ الفجر. أما أقرباؤه وأبناء الجيران والحي الذي يعيش فيه، فكانوا من متذوقي الفن الأصيل، ولذلك اكتمل المشوار، حتى قبل أن تطأ خطواته أول طريق الفن.
- عاشق لبنان
غرق إيلي شويري منذ نعومة أظافره في حبه لوطنه وترجم عشقه لأرضه بأناشيد وطنية نثرها على جبين لبنان، ونبتت في نفوس مواطنيه الذين رددوها في كل زمان ومكان، فصارت لسان حالهم في أيام الحرب والسلم. «بكتب اسمك يا بلادي»، و«صف العسكر» و«تعلا وتتعمر يا دار» و«يا أهل الأرض»... جميعها أغنيات شكلت علامة فارقة في مسيرة شويري الفنية، فميزته عن سواه من أبناء جيله، وذاع صيته في لبنان والعالم العربي وصار مرجعاً معتمداً في قاموس الأغاني الوطنية. اختاره ملك المغرب وأمير قطر ورئيس جمهورية تونس وغيرهم من مختلف أقطار العالم العربي ليضع لهم أجمل معاني الوطن في قالب ملحن لا مثيل له. فإيلي شويري الذي عُرف بـ«أبي الأناشيد الوطنية» كان الفن بالنسبة إليه منذ صغره هَوَساً يعيشه وإحساساً يتلمسه في شكل غير مباشر.
عمل شويري مع الرحابنة لفترة من الزمن حصد منها صداقة وطيدة مع الراحل منصور الرحباني. فكان يسميه «أستاذي» ويستشيره في أي عمل يرغب في القيام به كي يدله على الصح من الخطأ.
حبه للوطن استحوذ على مجمل كتاباته الشعرية حتى لو تناول فيها العشق، «حتى لو رغبت في الكتابة عن أعز الناس عندي، أنطلق من وطني لبنان»، هكذا كان يقول. وإلى هذا الحد كان إيلي شويري عاشقاً للبنان، وهو الذي اعتبر حسه الوطني «قدري وجبلة التراب التي امتزج بها دمي منذ ولادتي».
تعاون مع إيلي شويري أهم نجوم الفن في لبنان، بدءاً بفيروز وسميرة توفيق والراحلين وديع الصافي وصباح، وصولاً إلى ماجدة الرومي. فكان يعدّها من الفنانين اللبنانيين القلائل الملتزمين بالفن الحقيقي. فكتب ولحن لها 9 أغنيات، من بينها «مين إلنا غيرك» و«قوم تحدى» و«كل يغني على ليلاه» و«سقط القناع» و«أنت وأنا» وغيرها. كما غنى له كل من نجوى كرم وراغب علامة وداليدا رحمة.
مشواره مع الأخوين الرحباني بدأ في عام 1962 في مهرجانات بعلبك. وكانت أول أدواره معهم صامتة بحيث يجلس على الدرج ولا ينطق إلا بكلمة واحدة. بعدها انتسب إلى كورس «إذاعة الشرق الأدنى» و«الإذاعة اللبنانية» وتعرّف إلى إلياس الرحباني الذي كان يعمل في الإذاعة، فعرّفه على أخوَيه عاصي ومنصور.

مع أفراد عائلته عند تقلده وسام الأرز الوطني عام 2017

ويروي عن هذه المرحلة: «الدخول على عاصي ومنصور الرحباني يختلف عن كلّ الاختبارات التي يمكن أن تعيشها في حياتك. أذكر أن منصور جلس خلف البيانو وسألني ماذا تحفظ. فغنيت موالاً بيزنطياً. قال لي عاصي حينها؛ من اليوم ممنوع عليك الخروج من هنا. وهكذا كان».
أسندا إليه دور «فضلو» في مسرحية «بياع الخواتم» عام 1964. وفي الشريط السينمائي الذي وقّعه يوسف شاهين في العام التالي. وكرّت السبحة، فعمل في كلّ المسرحيات التي وقعها الرحابنة، من «دواليب الهوا» إلى «أيام فخر الدين»، و«هالة والملك»، و«الشخص»، وصولاً إلى «ميس الريم».
أغنية «بكتب اسمك يا بلادي» التي ألفها ولحنها تعد أنشودة الأناشيد الوطنية. ويقول شويري إنه كتب هذه الأغنية عندما كان في رحلة سفر مع الراحل نصري شمس الدين. «كانت الساعة تقارب الخامسة والنصف بعد الظهر فلفتني منظر الشمس التي بقيت ساطعة في عز وقت الغروب. وعرفت أن الشمس لا تغيب في السماء ولكننا نعتقد ذلك نحن الذين نراها على الأرض. فولدت كلمات الأغنية (بكتب اسمك يا بلادي عالشمس الما بتغيب)».
- مع جوزيف عازار
غنى «بكتب اسمك يا بلادي» المطرب المخضرم جوزيف عازار. ويخبر «الشرق الأوسط» عنها: «ولدت هذه الأغنية في عام 1974 وعند انتهائنا من تسجيلها توجهت وإيلي إلى وزارة الدفاع، وسلمناها كأمانة لمكتب التوجيه والتعاون»، وتابع: «وفوراً اتصلوا بنا من قناة 11 في تلفزيون لبنان، وتولى هذا الاتصال الراحل رياض شرارة، وسلمناه شريط الأغنية فحضروا لها كليباً مصوراً عن الجيش ومعداته، وعرضت في مناسبة عيد الاستقلال من العام نفسه».
يؤكد عازار أنه لا يستطيع اختصار سيرة حياة إيلي شويري ومشواره الفني معه بكلمات قليلة. ويتابع لـ«الشرق الأوسط»: «لقد خسر لبنان برحيله مبدعاً من بلادي كان رفيق درب وعمر بالنسبة لي. أتذكره بشوشاً وطريفاً ومحباً للناس وشفافاً، صادقاً إلى أبعد حدود. آخر مرة التقيته كان في حفل تكريم عبد الحليم كركلا في الجامعة العربية، بعدها انقطعنا عن الاتصال، إذ تدهورت صحته، وأجرى عملية قلب مفتوح. كما فقد نعمة البصر في إحدى عينيه من جراء ضربة تلقاها بالغلط من أحد أحفاده. فضعف نظره وتراجعت صحته، وما عاد يمارس عمله بالشكل الديناميكي المعروف به».
ويتذكر عازار الشهرة الواسعة التي حققتها أغنية «بكتب اسمك يا بلادي»: «كنت أقفل معها أي حفل أنظّمه في لبنان وخارجه. ذاع صيت هذه الأغنية، في بقاع الأرض، وترجمها البرازيليون إلى البرتغالية تحت عنوان (أومينا تيرا)، وأحتفظ بنصّها هذا عندي في المنزل».
- مع غسان صليبا
مع الفنان غسان صليبا أبدع شويري مرة جديدة على الساحة الفنية العربية. وكانت «يا أهل الأرض» واحدة من الأغاني الوطنية التي لا تزال تردد حتى الساعة. ويروي صليبا لـ«الشرق الأوسط»: «كان يعد هذه الأغنية لتصبح شارة لمسلسل فأصررت عليه أن آخذها. وهكذا صار، وحققت نجاحاً منقطع النظير. تعاونت معه في أكثر من عمل. من بينها (كل شيء تغير) و(من يوم ما حبيتك)». ويختم صليبا: «العمالقة كإيلي شويري يغادرونا فقط بالجسد. ولكن بصمتهم الفنية تبقى أبداً ودائماً. لقد كانت تجتمع عنده مواهب مختلفة كملحن وكاتب ومغنٍ وممثل. نادراً ما نشاهدها تحضر عند شخص واحد. مع رحيله خسر لبنان واحداً من عمالقة الفن ومبدعيه. إننا نخسرهم على التوالي، ولكننا واثقون من وجودهم بيننا بأعمالهم الفذة».
لكل أغنية كتبها ولحنها إيلي شويري قصة، إذ كان يستمد موضوعاتها من مواقف ومشاهد حقيقية يعيشها كما كان يردد. لاقت أعماله الانتقادية التي برزت في مسرحية «قاووش الأفراح» و«سهرة شرعية» وغيرهما نجاحاً كبيراً. وفي المقابل، كان يعدها من الأعمال التي ينفذها بقلق. «كنت أخاف أن تخدش الذوق العام بشكل أو بآخر. فكنت ألجأ إلى أستاذي ومعلمي منصور الرحباني كي يرشدني إلى الصح والخطأ فيها».
أما حلم شويري فكان تمنيه أن تحمل له السنوات الباقية من عمره الفرح. فهو كما كان يقول أمضى القسم الأول منها مليئة بالأحزان والدموع. «وبالقليل الذي تبقى لي من سنوات عمري أتمنى أن تحمل لي الابتسامة».