الصحافة الورقية والانتفاضات العربية... محاولات للتغطية رغم المعوّقات

صحف لبنان تغطي الحدث الآني من الاحتجاجات و«النهار» تنفرد وحدها بتكريس عدد خاص للأحداث
صحف لبنان تغطي الحدث الآني من الاحتجاجات و«النهار» تنفرد وحدها بتكريس عدد خاص للأحداث
TT

الصحافة الورقية والانتفاضات العربية... محاولات للتغطية رغم المعوّقات

صحف لبنان تغطي الحدث الآني من الاحتجاجات و«النهار» تنفرد وحدها بتكريس عدد خاص للأحداث
صحف لبنان تغطي الحدث الآني من الاحتجاجات و«النهار» تنفرد وحدها بتكريس عدد خاص للأحداث

تعاني الصحف الورقية المحلية في كل من العراق ولبنان والجزائر منذ سنوات من شح في الموارد وغياب الإعلانات إلى جانب معوّقات أخرى في كل بلد. إذ اضطرت مطبوعات يومية لبنانية إلى التوقف عن الصدور لغياب التمويل، وأدى التوتر الأمني في العراق إلى تعذر صدور المطبوعات، والأمر لم يكن مختلفاً في الجزائر. وفي ظل الاحتجاجات التي تشهدها تلك الدول الثلاث، حاولت الصحف الورقية إنصاف الحدث والتغطية رغم المعوقات... كل على طريقته الخاصة.

صحف العراق... بالكاد تواصل صدورها
رغم الضعف العام الذي تعاني منه الصحف الورقية الصادرة في العراق، سواء قبل انطلاق موجة المظاهرات مطلع أكتوبر (تشرين الأول) الماضي، أو بعدها، لأسباب كثيرة لا يتسع المجال هنا لذكرها، فإن التغطيات الخبرية لاحتجاجات العراق، سواء على مستوى الصحافة المكتوبة، أو على مستوى القنوات الفضائية ومواقع التواصل الاجتماعي المختلفة، أصيبت بنكسة حقيقية منذ انطلاق المظاهرات بسبب الإجراءات التعسفية وغير المسبوقة التي مارستها السلطات العراقية ضد حرية التعبير ونقل المعلومات بشكل عام وعبر مختلف الوسائل. إذ عمدت السلطات إلى القطع شبه المنظم لشبكة الإنترنت ومنع غالبية الفضائيات من تغطية الاحتجاجات والاعتداء على بعضها، إلى جانب صعوبة الحركة والتنقل التي تعاني منها الصحافة الورقية في ظل الظروف المتوترة السائدة وصعوبة وصول الصحافيين إلى مكاتبهم نتيجة قطع كثير من الطرق في العاصمة بغداد.
غير أن التحديات والظروف والمصاعب الآنفة لم تمنع الصحف البغدادية إجمالاً من الصدور والقيام بالتغطيات الخبرية الممكنة حول المظاهرات في مختلف المناطق العراقية. وقامت بعض المؤسسات والشخصيات الإعلامية والصحافية بجهود استثنائية لتغطية أخبار المظاهرات. وفي هذا السياق أصدرت مؤسسة المدى للإعلام والثقافة والفنون جريدة يومية توزع مجاناً باسم «الاحتجاج» تتناول قصص المحتجين وتسلط الضوء على الفعاليات التي يقومون بها والأحداث التي يتعرضون لها.
يقول الصحافي في جريدة (المدى) علي حسين، إن «الصحيفة صدرت بعد 3 أيام من انطلاق الاحتجاجات في 25 أكتوبر الماضي، ووزع ملحقها (الاحتجاج) في بغداد ومعظم المحافظات العراقية».
ويضيف حسين في حديث لـ«الشرق الأوسط»، أن «(المدى) تسعى للوصول إلى ساحات الاحتجاج كما افتتحت مكتبة باسم (مكتبة شهداء التحرير) داخل المطعم التركي، أو ما بات يعرف بـ(جبل أحد)».
ويشير إلى أن «المكتبة هي مساهمة بسيطة تقدمها المؤسسة والقائمون عليها إلى المتظاهرين الذين يضحون بأرواحهم من أجل الإصلاح والتغيير وأبوابها مفتوحة لكل المحتجين، وتقوم المكتبة بتقديم الكتب المجانية، إلى جانب توزيع جريدة المدى وملحق الاحتجاج». كذلك أصدر جريدة «الصباح الجديد» ملحقاً، تضمن صور الاحتجاجات مع بعض التعليقات عليها.
إلى جانب الجهود التي قامت بها مؤسسة المدى، أصدرت مجموعة من الصحافيين في ساحة التحرير صحيفة «تُكْتك» تيمناً بسواق عربة «التوك توك» من الشباب الذين كان لهم الدور الأبرز في نقل الجرحى والمصابين إلى المستشفيات القريبة من ساحة التحرير.
وقال الصحافي أحمد الشيخ ماجد أحد المساهمين في إصدار وتحرير الصحيفة في وقت سابق لـ«الشرق الأوسط»، إن «الصحيفة تهدف إلى تغطية وتوثيق كل الفعاليات الاحتجاجية في ساحة التحرير، وفي مقدمتها نشاطات وبطولات شباب التوك توك».
وأضاف أنها «انطلقت من ساحة التحرير وتنتهي بها، بمعنى أنها ستستمر في الصدور لحين انتهاء الاعتصامات والاحتجاجات المحقة وتحقيق أهدافها».
وأصدر الصحافي عبد الرزاق الساعدي مطبوعة أو صحيفة ورقية اسمها «25 أكتوبر» صدرت بمجموعة أعداد بهدف تغطية أخبار الاحتجاجات الشعبية. كذلك صدر مؤخراً مطبوع يحمل عنوان «الانتفاضة» للهدف ذاته المتمثل في تغطية الاحتجاجات وأخبارها.
ونظراً لضعف الإمكانات خصوصاً المادية منها لدى الصحافيين والكتاب الذين أصدروا تلك المطبوعات، بدا واضحاً ومن خلال عمليات الطباعة والتحرير أن بعضها لم يتوفر على القدر الكافي من الرصانة والعمل الاحترافي. كما أسهم الانقطاع شبه التام لشبكة الإنترنت في تراجع مستوى الصحف العراقية بشكل عام لصعوبة أو انعدام الحصول على المعلومات والبيانات الرسمية وشبه الرسمية.
مدير تحرير جريدة «العالم» مصطفى عبادة يقر بصعوبة الظروف التي تواجهها المؤسسات الصحافية والإعلامية بشكل عام، نتيجة أوضاع البلاد المعقدة المرتبطة بالحراك الاحتجاجي وقطع الإنترنت والطرق في أغلب الأحيان.
ويقول عبادة لـ«الشرق الأوسط»: «نواجه ظروفاً صعبة جداً وبالكاد نستطيع أن ننجز متطلبات صدور الصحيفة، ورغم ذلك واصلنا العمل وإصدار الصحيفة بشكل منتظم».
ويشير إلى أن صحيفته «لم تتمكن من إصدار ملاحق خاصة بالاحتجاجات واكتفت بالتغطية الخبرية عبر مطبوع الصحيفة اليومي».

الصحف الورقية اللبنانية تواكب... كل على طريقتها
خلال الاحتجاجات الشعبية القائمة في لبنان منذ أكثر من 20 يوماً، حصدت وسائل الإعلام المرئية الحصة الكبرى من نسب التغطية لها. فلقد تابع اللبنانيون عبر شاشاتهم الصغيرة جميع مراحلها منذ انطلاقتها ولغاية اليوم لحظة بلحظة. ولعب مراسلو محطات التلفزة الموزعون على مختلف المناطق التي احتضنت «لبنان ينتفض» دوراً أساسياً في عملية تغطيتها. وانشغل متتبعو أخبار هذه الانتفاضة من ناحية ثانية بقراءة أخبار المواقع الإلكترونية والتعليقات والتغريدات الواردة عبر وسائل التواصل الاجتماعي، فشكلت مشهدية تكتمل معها صورة الثورة إلكترونياً وتلفزيونياً.
وفي مقابل كل الضجيج الذي أثارته الوسائل المذكورة في تغطيتها للمظاهرات في البلاد، غطت الصحافة الورقية، كل على طريقتها. ففي حين اكتفى البعض بتغطية أخبار المظاهرات ضمن إطار تركيبة صفحاتها العامة لتتوزع بين مقالات وتحليلات وأخبار وصور، أخذت صحف أخرى على عاتقها تخصيص غالبية صفحاتها للتحدث عنها. وفي المقابل صحيفة واحدة لبنانية شذّت عن القاعدة وأصدرت ملحقاً خاصاً بالثورة، بعد أن توجّهت به إلى النساء، وذلك للإضاءة على الدور الاستثنائي الذي تلعبه فيها.
وفي خضم أخبار الصحافة الورقية وكيفية تعاطيها مع الحراك المدني الذي تشهده معظم المناطق اللبنانية، فإن انتفاضات داخلية من نوع آخر عمّت جريدة «الأخبار» مثلاً التي شهدت استقالات محررين «نتيجة تراكم أسباب آخرها أداء الجريدة في تغطية انتفاضة 17 أكتوبر (تشرين الأول)»، كما أوضحت محررة في تغريدات وتعليقات لها عبر وسائل التواصل الاجتماعي.
فثورة «لبنان ينتفض» لم تترك أثرها فقط على المواطن اللبناني، بل طالت أيضاً أبناء البيت الواحد في مؤسسات إعلامية ورقية ومرئية خرج بعض منها إلى العلن وانتشرت بين اللبنانيين.
وإذا استعرضنا كيفية تعاطي الصحف اللبنانية مع حركة الاحتجاجات التي تشهدها البلاد، فنلاحظ أن جريدة «النهار» كانت الوحيدة التي أصدرت في 31 أكتوبر (تشرين الأول) الماضي عدداً خاصاً بالثورة تضمن ملحقاً خاصاً عنونته «نهارك»، توجهت به إلى العنصر النسائي المشارك في «لبنان ينتفض» بعد أن لعب دوراً بارزاً فيها. وتصدرت صور نساء ثائرات من مختلف الأعمار يحملن العلم اللبناني الصفحات الـ8 التي يتألف منها هذا الملحق. وكتبت على الصفحة الأولى منه تحت عنوان «نهارك» مقطعاً من النشيد الوطني اللبناني. وتميز بإدخال تعديل بسيط على النسخة الأصلية منه التي تتضمن مقطع «سهلنا والجبل منبت للرجال» ولتصبح «سهلنا والجبل منبت للنساء والرجال»، في إشارة من الصحيفة إلى أهمية دور المرأة في بناء الوطن، ولونتها بالأحمر في نص كتب بالأسود على خلفية بيضاء، ليأخذ حيزاً كبيراً عبر تعليقات الناشطين على وسائل التواصل الاجتماعي بعد أن أثنوا عليها.
أما جريدة «نداء الوطن» فقد خصصت لأخبار الثورة في مختلف المناطق اللبنانية أعداداً كاملة منذ انطلاقة الشرارة الأولى لثورة «لبنان ينتفض» وعلى مدى 15 يوماً متتالياً منها. ويؤكد رئيس تحريرها بشارة شربل في حديث لـ«الشرق الأوسط» أن الصحيفة وضعت جميع كادراتها في سبيل تغطية الثورة على المستوى المطلوب. وغابت الملاحق الخاصة بالثورة عن الصحف الأخرى نظراً لتردي أحوالها الاقتصادية، كما ذكر بعضها لـ«الشرق الأوسط» من ناحية، أو لموقف سياسي مضاد من الثورة يضعها في المقلب الآخر منها.
«الفكرة لم ترد من أساسها في صحيفة (الجمهورية)، لأننا كنا نغطي أخبار الثورة يومياً بشكل شامل لتحتل نحو 12 صفحة من أصل 32 تتألف منها صحيفتنا المعروفة صفحاتها بحجم (تابلويد)، أي أصغر من تلك السائدة في صحف محلية أخرى»، يقول طارق ترشيشي مدير تحرير صحيفة «الجمهورية».
وكما «اللواء» و«الشرق» وغيرهما، كذلك جريدة «الديار» غاب عنها تخصيص ملحق يحكي فقط عن الثورة اللبنانية طيلة أيامها منذ انطلاقها وحتى الساعة.

الإعلام والحراك في الجزائر من التمجيد إلى التجاهل
في بداية الحراك الشعبي في الجزائر، 22 فبراير (شباط) 2019، صوبت وسائل الإعلام الحكومية والخاصة كامل مادتها لـ«الحدث التاريخي»، فكان النقل المباشر للمظاهرات بالفضائيات والمواقع الإلكترونية الإخبارية، وخصصت الجرائد غالبية صفحاتها له. وانخرط الإعلام بشكل كامل في الاحتجاجات، بل أصبح جزءاً منها حينما نظم صحافيو التلفزيون العمومي مظاهرة بمقره للاحتجاج على التكميم والغلق الذي طاله خلال 20 سنة من حكم الرئيس عبد العزيز بوتفليقة.
وشعر الصحافيون بنشور الحرية لأول مرة منذ الانفتاح السياسي والإعلامي، الذي أتاحه «دستور التعددية» الذي أصدره الرئيس الراحل الشاذلي بن جديد عام 1989. وأصيبت حرية الإعلام في مقتل مع بداية الإرهاب الذي اغتال أكثر من 100 صحافي وعامل في المؤسسات الإعلامية. واستمر القهر مع وصول بوتفليقة إلى الحكم عام 1999 وإعلانه صراحة أن الصحافيين هم أحد خصومه. وتم تشغيل الأجهزة الأمنية بكل طاقتها لتطويع الإعلام لسياسات الرئيس، وبالخصوص مشاريع السلم والوئام التي اعتمدها، لإسكات لغة السلاح.
وعرفت وسائل الإعلام في بداية الحراك، تنافساً على نقل جوانبه الاستثنائية، وسارعت القنوات الإذاعية والتلفزيونية الحكومية، لاستضافة معارضين كانوا ممنوعين من الظهور بسبب معارضتهم بوتفيلقة، وأشهرهم وزير الإعلام سابقاً عبد العزيز رحابي، ورئيس حزب «جيل جديد» سفيان جيلالي، والباحث الكبير في الاجتماع ناصر جابي. وتم إطلاق برامج حوارية في الفضائيات الخاصة، وكانت تدار بنبرة حرية غير عادية. واعتقد الكثيرون أن التضييق على الإعلام ولّى إلى غير رجعة.
وواكب الإعلام بشكل لافت المتابعات القضائية التي طالت وجهاء النظام في عهد بوتفليقة، بما فيها شقيقه وكبير مستشاريه. فبعضهم سجن بتهم الفساد، والبعض الآخر بتهم التآمر على الجيش. واللافت أن غالبية وسائل الإعلام لم تبدِ اهتماماً بالبحث عن الأدلة التي بنى عليها القضاة التهم الموجهة لهؤلاء، ولا بالوقائع التي على أساسها قامت التهم، وذلك لعلمهم أن ملفات المتابعة يقف وراءها الجيش، وبالتالي يصبح الخوض فيها مجازفة قد تجر الصحافي إلى التعرض لتهمة «إفشاء أسرار التحقيق».
وظن الجيش أن الحراك الشعبي سيتوقف بعد سجن رموز بوتفليقة، فما وقع بعد مرور الأشهر الأولى من الأحداث، أن المتظاهرين تطورت مطالبهم إلى إحداث تغيير شامل للنظام برحيل قائد الجيش قايد صالح والرئيس الانتقالي عبد القادر بن صالح ورئيس الوزراء نور الدين بدوي. وتغير تعامل قائد الجيش مع المتظاهرين، فاتهمهم بـ«التنكر له»، بحجة أنهم «ما كانوا يحلمون برحيل العصابة عن الحكم»، التي يعود له الفضل، حسبه، في إبعادها عن السلطة.
وأمام استمرار الهجومات المتتالية الحادة لقايد صالح ضد الحراك، بدأ اهتمام الإعلام بالمظاهرات يتراجع وغاب النقل المباشر للموجات البشرية وهي تجوب شوارع العاصمة والمدن الكبيرة، يوم الجمعة بالنسبة للحراك، ويوم الثلاثاء الذي تجري فيه مظاهرات طلاب الجامعات، إلى أن اختفت التغطية نهائياً.
وتلقت كبرى الصحف والفضائيات ضغوطاً شديدة من السلطة لدفعها إلى «العدول عن تمجيد الحراك»، وقد أذعنت لها بسبب ظروفها المالية الصعبة، في حين يقول مراقبون إن غالبية الصحافيين اليوم لم يسبق لهم النضال من أجل حرية الصحافة، ولذلك استسلموا للخوف بسهولة، حسبهم.
وبسبب نقص اهتمام الإعلام بالحراك، أصبح الصحافيون هدفاً للمتظاهرين الذين منعوا بعضهم من تغطية الاحتجاجات الأسبوعية، ووصفوهم بأنهم «جزء من العصابة».



«حرب الإعلام» التضليلية... الهاجس الجديد للاتحاد الأوروبي

مقر المفوضية الأوروبية في بروكسل (غيتي)
مقر المفوضية الأوروبية في بروكسل (غيتي)
TT

«حرب الإعلام» التضليلية... الهاجس الجديد للاتحاد الأوروبي

مقر المفوضية الأوروبية في بروكسل (غيتي)
مقر المفوضية الأوروبية في بروكسل (غيتي)

«المعارضة الحقيقية هي وسائل الإعلام، ومواجهتها تقتضي إغراقها بالمعلومات المفبركة والمضللة».

هذا ما قاله ستيف بانون، كبير منظّري اليمين المتطرف في الولايات المتحدة عندما كان مشرفاً على استراتيجية البيت الأبيض في بداية ولاية دونالد ترمب الأولى عام 2018.

يومذاك حدّد بانون المسار الذي سلكه ترمب للعودة إلى الرئاسة بعد حملة قادها المشرف الجديد على استراتيجيته، الملياردير إيلون ماسك، صاحب أكبر ثروة في العالم، الذي يقول لأتباعه على منصة «إكس» «X» (تويتر سابقاً): «أنتم اليوم الصحافة».

رصد نشاط بانون

في أوروبا ترصد مؤسسات الاتحاد وأجهزته منذ سنوات نشاط بانون ومراكز «البحوث» التي أنشأها في إيطاليا وبلجيكا والمجر، ودورها في صعود الأحزاب اليمينية المتطرفة في غالبية الدول الأعضاء، والذي بلغ ذروته في انتخابات البرلمان الأوروبي مطلع الصيف الماضي.

وتفيد تقارير متداولة بين المسؤولين الأوروبيين بأن هذه المراكز تنشط بشكل خاص على منصات التواصل الاجتماعي، وأن إيلون ماسك دخل أخيراً على خط تمويلها وتوجيه أنشطتها، وأن ثمة مخاوف من وجود صلات لهذه المراكز مع السلطات الروسية.

درع ضد التضليل

أمام هذه المخاوف تنشط المفوضية الأوروبية منذ أسابيع لوضع اللمسات الأخيرة على ما أسمته «الدرع ضد التضليل الإعلامي» الذي يضمّ حزمة من الأدوات، أبرزها شبكة من أجهزة التدقيق والتحقق الإلكترونية التي تعمل بجميع لغات الدول الأعضاء في الاتحاد، إلى جانب وحدات الإعلام والأجهزة الرقمية الاستراتيجية الموجودة، ومنها منصة «إي يو فس ديسانفو» EUvsDisinfo المتخصّصة التي انطلقت في أعقاب الغزو الروسي لشبه جزيرة القرم وضمّها عام 2014. و«هي باتت عاجزة عن مواجهة الطوفان التضليلي» في أوروبا... على حد قول مسؤول رفيع في المفوضية.

الخبراء، في بروكسل، يقولون إن الاتحاد الأوروبي يواجه اليوم «موجة غير مسبوقة من التضليل الإعلامي» بلغت ذروتها إبان جائحة «كوفيد 19» عام 2020، ثم مع نشوب الحرب الروسية الواسعة النطاق ضد أوكرانيا في فبراير (شباط) 2022.

وإلى جانب الحملات الإعلامية المُضلِّلة، التي تشّنها منذ سنوات بعض الأحزاب والقوى السياسية داخلياً، تعرّضت الساحة الأوروبية لحملة شرسة ومتطورة جداً من أطراف خارجية، في طليعتها روسيا.

ومع أن استخدام التضليل الإعلامي سلاحاً في الحرب الهجينة ليس مُستجدّاً، فإن التطوّر المذهل الذي شهدته المنصّات الرقمية خلال السنوات الأخيرة وسّع دائرة نشاطه، وضاعف تداعياته على الصعيدين: الاجتماعي والسياسي.

الهدف تعميق الاستقطاب

وراهناً، تحذّر تقارير عدة وضعتها مؤسسات أوروبية من ازدياد الأنشطة التضليلية بهدف تعميق الاستقطاب وزعزعة الاستقرار في مجتمعات البلدان الأعضاء. وتركّز هذه الأنشطة، بشكل خاص، على إنكار وجود أزمة مناخية، والتحريض ضد المهاجرين والأقليات العرقية أو الدينية، وتحميلها زوراً العديد من المشاكل الأمنية.

وتلاحظ هذه التقارير أيضاً ارتفاعاً في كمية المعلومات المُضخَّمة بشأن أوكرانيا وعضويتها في حلف شمال الأطلسي «ناتو» أو انضمامها إلى الاتحاد الأوروبي، فضلاً عن معلومات مضخمة حول مولدافيا والاستفتاء الذي أجري فيها حول الانضمام إلى الاتحاد، وشهد تدخلاً واسعاً من جانب روسيا والقوى الموالية لها.

ستيف بانون (آ ب)

التوسّع عالمياً

كذلك، تفيد مصادر الخبراء الأوروبيين بأن المعلومات المُضلِّلة لا تنتشر فحسب عبر وسائط التواصل الاجتماعي داخل الدول الأعضاء، بل باتت تصل إلى دائرة أوسع بكثير، وتشمل أميركا اللاتينية وأفريقيا، حيث تنفق الصين وروسيا موارد ضخمة خدمة لمصالحها وترسيخ نفوذها.

كلام فون دير لاين

وفي الكلمة التي ألقتها أخيراً أورسولا فون در لاين، رئيسة المفوضية الأوروبية، بمناسبة الإعلان عن مشروع «الدرع» الذي ينتظر أن يستلهم نموذج وكالة «فيجينوم» الفرنسية ورديفتها السويدية «وكالة الدفاع النفسي»، قالت فون دير لاين: «إن النظام الديمقراطي الأوروبي ومؤسساته يتعرّضون لهجوم غير مسبوق يقتضي منّا حشد الموارد اللازمة لتحصينه ودرء المخاطر التي تهدّده».

وكانت الوكالتان الفرنسية والسويدية قد رصدتا، في العام الماضي، حملات تضليلية شنتها روسيا بهدف تضخيم ظهور علامات مناهضة للسامية أو حرق نسخ من القرآن الكريم. ويقول مسؤول أوروبي يشرف على قسم مكافحة التضليل الإعلامي إن ثمة وعياً متزايداً حول خطورة هذا التضليل على الاستقرار الاجتماعي والسياسي، «لكنه ليس كافياً توفير أدوات الدفاع السيبراني لمواجهته، بل يجب أن تضمن الأجهزة والمؤسسات وجود إطار موثوق ودقيق لنشر المعلومات والتحقق من صحتها».

إيلون ماسك (رويترز)

حصيلة استطلاعات مقلقة

في هذه الأثناء، تفيد الاستطلاعات بأن ثلث السكان الأوروبيين «غالباً» ما يتعرضون لحملات تضليلية، خاصة في بلدان مثل اليونان والمجر وبلغاريا وإسبانيا وبولندا ورومانيا، عبر وسائل التواصل الاجتماعي والتلفزيون. لكن المفوضية تركّز نشاطها حالياً على الحملات والتهديدات الخارجية، على اعتبار أن أجهزة الدول الأعضاء هي المعنية بمكافحة الأخطار الداخلية والسهر على ضمان استقلالية وسائل الإعلام، والكشف عن الجهات المالكة لها، منعاً لاستخدامها من أجل تحقيق أغراض سياسية.

وللعلم، كانت المفوضية الأوروبية قد نجحت، العام الماضي، في إقرار قانون يلزم المنصات الرقمية بسحب المضامين التي تشكّل تهديداً للأمن الوطني، مثل الإرهاب أو الابتزاز عن طريق نشر معلومات مضلِّلة. لكن المسؤولين في المفوضية الأوروبية يعترفون بأنهم يواجهون صعوبات في هذا المضمار؛ إذ يصعب وضع حدودٍ واضحة بين الرأي والمعلومات وحرية التعبير، وبالتالي، يضطرون للاتجاه نحو تشكيل لجان من الخبراء أو وضع برامج تتيح للجمهور والمستخدمين تبيان المعلومات المزوَّرة أو المضلِّلة.